خطة خمسية للفرح

خطة خمسية للفرح

ميسلون هادي
لا أتخيل أنه يمكن لي أو لأي عراقي الآن أن يحتمل رؤية أي مسلسل عراقي فيه خطف وقتل وتفجيرات تحاكي ما مررنا به من مآس ومحن ونكبات. وعلى مايبدو أننا بلغنا حد الإشباع من الحزن وجلد الذات، بل مللنا الإحساس بإننا بلد الموت والنكد وأن الحياة ليست موجودة عندنا ولا تريد أن تقيم بين ظهرانينا، إنما هي موجودة، كما يقول ميلان كونديرا، في مكان آخر.
إن العراقي، الذي عانى ما عانى من الويلات والقهر، لم يعد قلبه يحتمل كل هذه المآسي التي فاقت فظاعاتها المستوى الطبيعي للاحتمال وأصبحت تحتاج إلى خطة خمسية تضعها الحكومة لتصنيع برامج وطنية للفرح والمرح والتفاؤل تحوطنا من جميع الجهات. وأن لا يقتصر الأمر في ذلك على المسلسلات والقصص والروايات، ولكن على معظم الناس الذين أدمنوا السواد والنواح والشكوى، وأصبحوا مثيرين للشفقة بالمعنى الذليل للكلمة، إذ ما أن يظهر أحدهم على شاشة التلفزيون حتى يولول ويعرض علينا عاهته، بحيث أصبح من النادر العثور على أحد منهم يحدثنا بنعمة أصابها أو راتب جيد يتقاضاه. ويبدو أن الشكوى أو التفاخر بالعوق في العراق تحول إلى شحاذة للحصول على مايسد الرمق مع غياب المراكز التأهيلية التي تعلّم ذوي الاحتياجات الخاصة كيفية الاعتماد على النفس وتدبر أمور الحياة كما هو حاصل في الغرب حيث يعتبر المعوق نفسه إنساناً مساوياً للآخرين، بل يجد من المعيب أن يطلب المساعدة من أحد لأن أهله ومجتمعه لم يتباكوا عليه من الصغر ولم يعلموه فن الانكسار والمذلة.
أذكر هنا طفلاً إنكليزياً مصاباً بالتوحد كانت عائلته لا تعامله على إنه شخص مريض على الإطلاق، ولا تهدر عليه عاطفة فائضة عن الحاجة قد تفسده وتفسد مستقبله، بل تجعله يتصرف على سجيته ويتغلب على توحده بالضحك واللعب والحوار لا بالنواح والتوسل والتذلل… فيلطخ ثيابه بالألوان دون أن ينهره أحد ويرسم بتلك الألوان ما يطيب علته ويقوي روحه المعنوية، فإذا ما توسخ الكاربت، لا يصرخ به أحد. كانت الكلمات تتحول بين يديه إلى قصائد عفوية تتلون مع كثرة أقلامه وتصاميمه وألغازه.. أصعب مافي تلك الالغاز أنها لا تصمد كثيراً مع ذكائه طويلاً فتشترى له جدته المزيد منها.. تشتريها خصيصاً لصاحب التوحد الذي كان يضحك مع كل لغز يحله فتقوى ثقته بنفسه ويتغلب على مرضه بالضحك لا بالشكوى والبكاء، ولكنه لو كان مولوداً في عائلة عربية لدمرته بالشفقة، وحولته إلى إنسان يستجديها بدوره.
لقد ثبت علمياً أن الأوعية الدموية تكون بأفضل حالاتها بعد رؤية عرض كوميدي، لأننا عندما نضحك يدمر الضحك الفيروسات ويجعل الجسم يفرز البروتينات التي تحارب العدوى ومعها يفرز الخلايا الهامة لجهاز المناعة الذي يعمل على محاربة الأمراض. فهل سيأتي يوم نشبع فيه من الفرح الذي يقوي العضلات ويرفع اللياقة وويجدد الطاقة، بل ويساعد على التئام الجروح بشكل أسرع.
جريدة الناس 2011

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

الأحلام لا تتقاعد

لو أنَّ حدّاداً تعب وهجر مهنته أو نجّاراً شاخ فتوقف عن العمل أو محاسباً بارعاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *