مسيرة الوجع العراقي
في رواية “قسمت” لحوراء النداوي
د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
حين تتقدم روايةَ حوراء النداوي “قسمت”- منشورات الجمل، بيروت، 2018- ملاحظةٌ تشير إلى أن “الرواية من وحي الخيال”، فإنها، في هذا، لا تخرج عن أي رواية أخرى، كما لا تعني الكثير للقارئ، عادياً كان أم ناقداً، ولكنّ تكملةّ الملاحظة بـالقول: “لكنها تعتمد حقائق ووقائق تأريخية”، تسجل إحالة لا يمكن لهذا القارئ أن يتجاوزها وهو يقرأ تفاصيل مجريات الرواية. وفي هذا السياق تأتي الآية القرآنية “الذين أُخرجو من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله”، لتكون الإحالة بها أكثر تخصيصاً، بمعنى أن الملاحظة مدعمة بالآية القرآنية تعني أن الرواية ستكون عن أناس، على أرض الواقع، أُخرجوا من ديارهم. ولا يخرج، عن هذا الدلالات أو الانقيادات، قولُ ميخائيل نُعيمة التالي “فكأن بعضي مات بموتها، وكأن بعضها ما يزال حياً في حياتي، فكلانا ميت وكلانا حي”، فكأن هذا القول، مدعماً بالآية الكريمة، يربط ذلك الذي تحيلنا إليه الملاحظة بالمؤلفة. هي إذن عتبات مهمة، حتى وإن لم نكن مجبرين على تلقّيها، كما تشاء المؤلفة، إذ تنوّه بشكل شبه مباشر بطبيعة ما ستكون عليه الرواية موضوعاً ومعالجة ومواقف. ولعل عناوين أقسام الرواية الثلاثة، وهي عتبات داخلية أخرى بالطبع، تؤكد ذلك أو بعضه، وهي: القسم الأول الأحداث من 1950 إلى 1970، القسم الثاني الأحداث بين 1980-2009، القسم الثالث 2004 و1950.
بالانتقال إلى متن الرواية، تنفتح علينا بداية قوية وصادمة بلغة جميلة وقوية ومعبّرة، تشد القارئ إلى المضمون القادم وسير الأحداث: “حكى رواد المقهى، الذي يقع على ناصية الشارع الكبير المحاذي للنهر، أنهم رأوا قِسمتْ حين قدمتْ في تلك الليلة ماشية على عجالة، وبصحبتها طفلة في الثانية من عمرها، وطفل رضيع. قالوا إنهم تبيّنوا خيالها حين وقفتْ عند النهر ثم خلعتْ نعليها ومن ثم عباءتها لتكشف عن بطنها الحامل المنفوخ خلف دشداشتها البازة، ما جعل بعض زبائن المقهى ينفِضون عنهم آثار السهر لينتبهوا إليها. غير أنها لم تمهلهم كثيراً ليستفهموا، فبادرت ببساطة وسرعة إلى إلقاء الرضيع في النهر ثم، قبل أن يفيق السهارى من المفاجأة أو يفكر أحد منهم في أن يهرع نحوها، كانت قد ألقت بالطفلة ثم بنفسها.”- الرواية، ص13.
( 2 )
وإذا كانت الكاتبة، بهذه البداية القوية، قد هيأت لنفسها أن تمضي بإثارة وتصاعد هو أول ما تتوقعه القراءة والذائقة مما يتناسب مع تلك البداية، فإن المفارقة غير المفهومة أنها لم تفعل هذا، فلم تستثمر هذا المشهد وما يهيّئه والذي كان من الممكن أن يكون منطلق الرواية ومسارها ومآلها. تتواصل الرواية، بدلاً من ذلك، دون معرفة سبب انتحار (قسمت) مع أولادها، بل إن حادث الانتحار لا يشكل شيئاً في مسار حدثي طويل لا ينكشف خلاله ولو تلميحاً سر انتحارها، بل إن الرواية لا تعود إلى (قسمت) إلا بعد أكثر من مئة صفحة، وتحديداً حين يُصاب عمّها (رضا)، وهو ليس شخصية رئيسة، بهوس مفاجئ بابنة أخيه المنتحرة هذه، ولكن لتعود الرواية فتتركه دون تسبيب لانتحاره هو الآخر. ويقترب من هذا ولا يكون مفهوماً ظهور شبح (قسمت) لجميع الشخصيات تقريباً، بدءاً من الجيل الأول- الآباء- في بيت الدهانة، ومروراً بالجيل الثاني- الأبناء- وانتهاءً بالجيل الثالث- الأحفاد- ولاسيما (لؤي) الذي يظهر شبحها له وهو في معسكر اللاجئين. وكل ذلك أو جلّه غير مبرر وغير ذي أبعاد دلالية مفهومة، مما يُفقد ظهور شبح المنتحرة بل انتحارها مبرراتهما. فلو كان قد ترتّب على انتحار (قسمت) أو على ظهور شبحهها أي شيء لمعنى الرواية أو لمسارها أو لتطور أحداثها أو حتى لشخصياتها وتحوّلاتها وسلوكياتها، لفُهم حضور هذه الشخصية شبحاً واقتنعنا بها شخصية فاعلة في الرواية أو دالّة، وفُهم انتحارها. لكن شيئاً من هذا لم يتحقق.
ولكن لكي لا يذهب الظن إلى غير ما نريد، يجب أن نقول إن هذا لم يُخلّ بالرواية، بل فوّت عليها أن تحقق ما هو أبعد مما حققته. يبقى تعلّقاً بهذا، وباستعادة العتبة أو العتبات التي ابتدأنا بها وقفتنا هذه، نذهب، تأويلاً، إلى أرجاع هذا الذي قدمته الروائية في مفتتحها وبما تلاه إلى الحس بالمأساة والآلام الذي ينصهر فيه الخاص، نعني ذات الروائية، والعام ونعني أولئك الذين من الواضح أنها تمثّلت مأساتهم، وهو موضوع أو قصة الرواية، وكما ستعبر عنه كل صفحة من صفحاتها، وهو بعضٌ من المآسي العراقية على أرض الواقع التي لم تفتر يوماً إلا لتعود في أيام تالية لتُوجع العراقيين جميعاً غالباً، وفئات منهم أحياناً، والأخير تتمثله حوراء في روايتها من خلال آلام الكرد الفيليين.
ويكون دخول حوراء النداوي إلى إحدى مآسي العراقيين التي لا دخل لهم فيها، بأي درجة كانت، وهي، كما أشرنا، مأساة الكرد الفيليين العراقيين الذين كادوا يضيعون بين دولتين هما العراق وإيران وابتداءً بما واجهوه على يد الشاه بهلوي أولاً وأيدي غيره فيما بعد، من محاولات طمس هويتهم، خصوصاً بعد توزّعهم بين البلدين، في أعقاب ظهور دولتيهما. تمثّلت الكاتبة هذه الفئة من الناس في عائلة، ومن ورائها عوائل مرئية وغير مرئية، وفي كل الأحوال هي، عندنا، تمثل كل المهجّرين أو المسفّرين من طوائف مختلفة طيلة تأريخ العراق الحديث. ترجع أصول هذه العائلة الفيلية النموذج في الرواية إلى (بست كوه) الموزعة ما بين العراق وإيران، والعائلة في الحاضر هي بيت الأب (الملاّ غلام علي)، الذي سيصير الجد، في الدهانة.
( 3 )
مما تحققه الروائية، من خلال مأساة العائلة التي هي مأساة فئة بشرية، الجمال الفني، وكأن الحزن والمأساة والمعاناة كلها هي وراء الجمال الذي يميّز الكتابة الإبداية ويمنحها العذوبة. أن رواية “قسمت” تحقق الجمال وتصير أسلوباً أجمل بكثير، في قسمها الثاني، وابتداءً مع حداثة التسفير وما تلاها من معاناة العائلة في الغربة والتشرد في الجانب الآخر من الحدود، وتحديداً في قرية (إيلام) الإيرانية، وانتهاءً بكارثة تهجير مَن سُمّوا بالتبعية الإيرانية، وبينهم كرد فيليون، كما هو حال عائلة (مجيد) ابن (الحاج حسين كاكا زاده) القادم من المنطقة التي ستصير مدينة مهران في إيران.
ومن جميل ما تحققه الروائية، وهي تقوم على هذا الموضوع الذي تقدمه أحداث الرواية المأساوية، أنها تنجح في التملص مما لم يستطع الكثير من الروائيين العراقيين، الذين تناولوا هذا الموضوع وأشباهه التملّص منه، خصوصاً ما يتعلق منه بقمع النظام السابق وبمعاناة من عانى منه، وتحديداً حين ينتقل التحامل المشروع على أرض الواقع، إلى تحامل غير مناسب لموضوعية الرواية وتعدّديتها وللجمال عموماً وتعاطف رومانسي يضعف الرواية وشخصياتها. فالروائية، ورغم كل القسوة التي عُومل بها المسفّرون المهجّرون ذوو التبعية الإيرانية، لا تلغي ما يمكن أن يبقى في دواخل الشخصيات، وكما نعتقد أنه في دواخل الروائية نفسها، ضمن الحنين إلى الوطن، من إيمان بالطيبة العراقية، فترى شخصياتها هذه الطيبة موجودة حتى في بعض أولئك الذين نفّذوا، وغالباً مجبرين بالطبع، قرار التسفير، وكل ذلك حتى حين يكون الوطن قاسياً على أهله، وطارداً لهم:
“كان آخر عهدنا بالتعامل الجيد نسبياً هو ذلك الضابط الذي خلّفناه في بيتنا ليصادره بعد أن طردنا منه. لكنه برغم ما جاء لينفّذه فينا، سيُستذكر دائماً بيننا بدعوةٍ من أمي على مساعدته إياها في تهريب شيء ولو بسيط من ثروتها. أما في ذلك المكان الكئيب الذي كان محطّتنا الأولى في التهجير، فكان يجتمع فيه ضباط أجلاف وقوات الأمن القساة الذين كان أبسط ما قد يفعلونه هو أن يرفقوا سيلاً من الشتائم ولاسيما العنصرية بكلامهم الموجّه إلينا.”- الرواية، ص151.
الواقع أن هذا يحيلنا إلى بعض أهم ما تميزت به حوراء، مرة أخرى، عن الكثير من الروائيين، وهو الصدق الفني. وهي أحد أكثر الروائيين صدقاً ودقّة في التعبير عن الكثير من القضايا، بل المسائل الشائكة، ومن ذلك حين تتمثّل بعض عراقيي الخارج الذين غادروا الوطن وذهبوا، مختارين أحياناً ومجبرين غالباً، إلى الغرب لتصير بلدانه أوطاناً بديلة لهم، بحيث لا يعودون يطيقون الوطن الأم/ العراق حتى وإنْ تحسّنت ظروفه، بل قد لا يتحملون حتى زيارته مدداً قصيرة، إلا إذا كانت مثل هذه الزيارة لأغراض ومصالح ذاتية بحتة، من استعادة حقوق وأموال ورواتب يستحقونها أو لا يستحقونها، مشروعة أو غير مشروعة. وهذا ما عبّرت عنه الرواية، في أكثر من موقع ومناسبة:
“كان ينظر إلى الأرض التي حُرّمت عليه لسنوات بشيء من الاستخفاف، فبعد الذي انقضى من عمره لم تعد لها ذات الأثر في نفسه، وقد غدتْ مجرد حلم تحقّق مباشرةً بعد فقدان بريقه وبهائه، بل إنه لم يكن قد مضى سوى وقت قصير جداً وبينما السيارة كانت ما تزال تنهب به الطريق حتى شعر لؤي بالوحشة والضيق يتسلّلان إلى صدره، وفكّر بالوقت الذي سيعود فيه إلى ستوكهولم بسرعة لم يكن ليتخيّلها هو نفسه.”- ص270.
وإذا كانت حوراء النداوي، في ذلك، قد انطلقت من تجربة ومعرفة على أرض الواقع بما عبرت عنه جمالياً، فإنها قد حكّمت أمرين لتكون صادقةً فنياً، الأول إحساسها بالأشياء وعدم التسليم بالمشاهدة والتجربة وحدهما، والثاني تحييد العاطفية، حتى ونحن نحسها موجودة فيها، في الفن الذي تتعامل معه، فنجحت، حتى وإنْ أخذنا عليها ما لا مجال للتوقف عنده، في تقديم رواية جميلة ومؤثرة.
شاهد أيضاً
دراسة عن دروب وحشية
تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …