ميسلون هادي :
الكاتب الخجول قد يتحول إلى جريء عندما يكتب
حوار أجرته زهراء حسن
£سارت الأديبة العراقية ميسلون هادي في طريق الكتابة بهدوء خطوة اثر خطوة .. وكانت من خيرة من فهم فن القصة القصيرة التي كانت محط عنايتها الأولى إلى جانب كتابة العمود الصحفي والثقافي ، قبل أن تدخل في السنوات الأخيرة عالم الرواية السحري ، وهي من أكثر الكتّاب العراقيين تنوعّاً في مجال القصة القصيرة والرواية والعمود الصحفي والتحقيق والمقالة . نشرت ميسلون هادي ، قبل كتباً عدة منها : المجاميع القصصية ” الشخص الثالث ” ، و ” الفراشة ” ، و ” ورجل خلف الباب ” ” ولا تنظر إلى الساعة ” – والأخيرة فازت بالجائزة الذهبية لمنتدى المرأة الثقافي في العراق – ورواية ” العالم ناقصاً واحد ” ؛ إلى جانب كتب مترجمة وأخرى في أدب الأطفال . و صدر لها مؤخراً عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق مجموعة قصصية تحت عنوان ” رومانس ” ، وعن دار الشروق في عمّان روايتان هما : ” يواقيت الأرض ” ، و ” العيون السود “، كما سيصدر لها قريباً رواية أخرى تحت عنوان ” الحدود البرية “.كان لنا مع الأديبة ميسلون هادي هذا الحوار.
£للكاتبة ميسلون هادي أسلوب شفاف خاص ينتمي بها إلى ميسلون الإنسانة . هل باعتقادك أن الأسلوب يعكس روحية ونفسية الكاتب ؟
– نعم هناك علاقة بين الكتابة وطبيعة الكاتب،بل حتى أخلاقه وطبائعه وصفاته الوراثية ؛ فإذا كان ساخراً مثلاً في الحياة انعكس ذلك على كتاباته فاتسمت بحس الفكاهة ، وإذا كان حزيناً طبع الحزن كتاباته بطابع الحزن ، أو إذا كان متأنياً نجد كتاباته تمشي مشياُ بطيئاً ، أو إذا كان جريئاً في الحياة نجده جريئاً في الكتابة . وأحياناً يحدث العكس، أي أنْ يكون الكاتب خجولاً في الحياة، ثم عندما يكتب يتحول إلى إنسان آخر جريء، وهنا فإن الكتابة تعوّض الكاتب أو ترممه أو تكمله.
£كيف يمكن الحديث عن تأثيرات الحصار في حركة الثقافة والمثقف العراقي ؟
– ترتيب الأوليات تغيّرَ أمام أعراض الحصار ومضاعفاته . نحن الآن نواجه سيلاً عارماً يريد تدميرنا ، والأولوية هي للنجاة من هذا السيل العارم . ولكن الثقافة أيضاً هي دفاع عن وجود، وهي ما يتبقى بعد نسيان كل شيء.. قد يمحو الحصار بعض الكماليات أو المظهريات. أما الملح فثابت في الأرض، وهو الذي يعطيها طعمها الرائب الأزلي. أثر الحصار في الثقافة خاطف وزائل بزوال هذه الظروف، ولكن أثره النفسي والصحي في الناس هو ما يجب الحديث عنه، لأن انتشار الأمراض والموت المبكر هو أظلم جوانب الحصار، وهو أبشع جريمة ارتُكبت بحق شعب من الشعوب. إن آكلة لحوم البشر هم ملائكة قياساً بما فعلته الوحوش الأمريكية ( التي تحركها الصهيونية) بحق الشعب العراقي.
£قصة كومبارس تحمل عدة وجوه . هل عبقرية الكاتب تكمن في أنه يعطي قصته بعدة وجوه ..وهل يقصدها الكاتب أثناء الكتابة أم أن القصة تأتي هكذا بوجوه عدة ؟
– قبل ذلك يجب أن نسأل: وما هي الكتابة ؟ وفي محاولة للجواب على ذلك السؤال أقول إنها أفكار مثل الأحلام تنبثق من أعماق اللاوعي .. والفرق بينها وبين الأحلام أن الأولى لا تخضع للرقابة ، والثانية تقع تحت رحمة مقص الرقيب الذي هو الوعي ، فيشذب ويهذب و(يمنتج) هذه الأفكار لتظهر على شكل قصيدة أو قصة أو رواية . وفي النهاية الكاتب نفسه أحياناَ يفاجَأ بطرافة هذه الأفكار أو عبقريتها – كما أسميتها – لأنه فعلاً يراها تتحمل عدة تأويلات أو أنها تقود إلى نتائج ومفاجآت لم يقصدها عند بدء الكتابة .
£الكتابة تقود إلى الألم . ألا يجوز اكتشاف الفرح من خلالها ؟
– يحدث الفرح بعد إنجاز عمل معين ..أما الكتابة نفسها فأعتقد أنها معاناة وقلق وخوف.. فأنا وإنْ كنت أحب الكتابة جداً، ولا أشعر بمرور الوقت عندما انقطع إلى الكتابة، أشعر بالخوف منها..ولا أتجرأ على نشر عمل كتبته إلاّ بعد مضي فترة طويلة على كتابته . الكتابة مسؤولية مرعبة .. والكاتب الذي يأخذ عمله بجدية يخاف دائماً أن يطلق أفكاره بالهواء الطلق ويعريها دون أن يؤدي ذلك إلى شيء ذي معنى .. إن عليه أن لا ينقاد وراء عواطفه ، وهو في الوقت ذاته أكثر الناس عاطفية ، وعليه أنْ يخلّد اللحظة والحدث والواقعة ، وهو الذي يستخف بكل متاع الدنيا ويزهد به .. فيا لها من إشكالية ! خلود مع زهد ..فرح مع ألم .. عاطفة مع فكر . ربما من صراع هذه النقائص تولد الكتابة الناجحة ..لأن الكاتب لا يستقر على حال أبداً .
£لقد كتبتِ للأطفال ، وإذ يقال إن الكتابة للأطفال هي أصعب أنواع الكتابة أراها أنا أنها الأسهل . فهل توافقينني في ذلك ؟
– هي الأسهل والأصعب في الوقت نفسه .فهي الأسهل من حيث بساطة اللغة التي تكتب بها قصة الطفل ومن حيث اعتمادها على جمل قصيرة ومألوفة وخالية من أي تعقيد فني أو لغوي ، ولكنها أصعب من حيث الفكرة ..الفكرة التي تصلح لأن تُحوَّل إلى قصة أو قصيدة للطفل يجب أن تكون طريفة وذكية جداً ، وأن تكون مشتملة على مفارقة أو فكاهة أو شيء فنطازي . فالطفل لا تُرضيه فكرة ليس فيها تشويق وخوف وفكاهة وغرابة . لهذا، على الكاتب الذي يكتب للأطفال أن لا يكون جاداً، أو على الأقل أن لا يبالغ في الجدية حتى عندما يريد أن ينقل إلى الطفل رسالة جدية، بل عليه أن يفعل ذلك عن طريق المزاح أو الخيال.
£هل تعتقدين أن الكتابة عبارة عن تحقيق مستحيل للأحلام على الورق، أم أنها صرخة في وجه مجتمع لا يريد أن يسمع ؟
– الكتابة هي يستاني .. وأجد نفسي أوصلها عند كل الشكوك والمصاعب والتساؤلات.. أحاول قدر الإمكان أن أقصر المسافة بين الواقعة والخرافة .. وبينهما أطير .. والطيران في الكتابة ممكن ولو كان في أضيق المسافات.
£إشارةً إلى روايتك الأولى ” العالم ناقصاً واحد “، ماذا تفعلين لو أصبح العالم زائداً واحداً ؟
– العالم لا يزيد يا زهراء، ولكنه ينقص على الدوام..وليس ذلك بسبب الحروب وحدها ولكن أيضاً بسبب هذه التكنولوجيا الظالمة والمسماة ثورة الاتصالات، والتي اقتحمت على الإنسان خلوته وعزلته، وسحبته من نفسه إلى عالم الضجيج والمبالغات. يقولون إن هذا إنما يكون لكي يصبح العالم قرية صغيرة، وأنا أسأل ولماذا يجب أن يصبح العالم قرية صغيرة ؟؟ ثم أية قرية صغيرة هذه التي يريدونها ؟.. إنها قرية باتجاه واحد.. منهم إلينا ، وليس منّا إليهم .. إنها قريتهم وليست قريتنا . وبما أنهم غرب بلا روحانيات، فإن الآداب المتعارف عليها ستسقط في النهاية، وربما سيأتي يوم يخجل فيه المرء من أن يغير ملابسه أمام المرآة، خشية أن تنقل صورته إلى الفضاء فيلتقطها قمر صناعي يدور في السماء.
£مجموعتك الجديدة ( رومانس ) صدرت . هل تجد ميسلون هادي في هذه التجربة تطوراً لمسيرتها ؟ وهل لك أن تحدثينا عن تجربتك هذه ؟
– أصبحتُ واقعية أكثر، أتفاعل مع أحداث السنوات الأخيرة التي مر بها العراق وأُوليها عناية بالغة. الواقع أن الكاتب في قصصه أو مجاميعه الأولى يتحدث إلى نفسه كثيرا ..ثم يمتلك الحكمة مع تقدم العمر ، فيبدأ بالتحدث إلى الآخرين .
£كاتبة قصة وتحقيق وعمود ومقالة .. هو تنوع في الكتابة بالطبع، فأيٍّ من هذه الأنواع يمثلّك أكثر من غيره ؟
– كل جانب من هذه الجوانب له مزاج خاص .. الصحافة تتطلب حماسة الشباب ، والقصة تتطلب حكمة الشيوخ ، وأدب الأطفال يتطلب لَهْوَ الطفولة . ولكلِّ هذه الأمزجة تشتاق نفسي، وكلها تمثّلني وأنا أحبها.
£عملتِ لفترة طويلة في مجلة ( ألف باء ) الأسبوعية . ماذا أعطتك هذه المجلة ؟ وماذا أخذتْ منك ؟
– الصحافة أعطتني الكثير . إنها مهنة جميلة .. إنها تمنحك إحساساً دائماً بالفرح والانشغال ، وهي أسرع من الكتابة في إيصالك للناس ، ويكفي أن ماركيز مثلاً وصف الكتابة بأنها زوجته والصحافة بكونها حبيبته . أما بالنسبة لألف باء على وجه الخصوص فإنها منحتني فرصة للتماس بشكل أكبر مع الثقافة العراقية ، لأني عملت محررة في قسمها الثقافي ، كذلك منحتني فرصة معرفة الكثير من الأدباء العراقيين ممن توطدت صداقتي بهم فيما بعد.
£صدرت لك مؤخراً عن دار الشروق في عمّان روايتان هما “يواقيت الأرض “، و ” والعيون السود “. حدّثينا عنها .
– ” يواقيت الأرض ” تؤكد على ارتباط الإنسان العربي بهويته من خلال طرح النقيض الذي يمثله بطل الرواية – ناجي عبد السلام – الذي يريد الهرب من كل إطار ومن كل دور ومن كل مسؤولية خاصة كانت أم عامة .. أي أنه يريد النجاة بذاته وبحلمه بعبداً عن كل المتغيرات التي تعصف بواقعنا العربي ، وذلك من خلال الهجرة إلى أبعد نقطة موجودة في العالم ، ولكن المصير الذي ينتظره يحدثنا بأنه لا يمكن فصل الخاص عن العام قدر تعلق الأمر بالإنسان العربي الذي هو جزء من قضية كبرى وجزء من حضارة عريقة هي الشغل الشاغل الآن للعالم بأجمعه .. ولهذا فهو في أي بقعة من العالم يكون ستلاحقه هويته ( حتى وإن هرب منها وانتمى إلى هوية أخرى ) ، وستضعه هذه الهوية في تحديات لم يحست لها حساباً .. مثلما حدث مثلاً في انهيارات البنتاغون ومباني التجارة العالمية في نيويورك ، فهي إذ حدثت في أمريكا فإنها قد عصفت بالعرب والمسلمين في كل مكان .. والآن ومن وجهة النظر الأمريكية فإن مجرد كونك عربياً أو مسلماً يعني أنك مشبوه.
£و”العيون السود” ؟
– ” العيون السود ” تدور أحداثها في سنة واحدة من سنوات الحصار على العراق ، هي 1998، وهي السنة التي زار فيها كوفي عنان بغداد . إنها تقدم شخصيات تحولت من حال إلى حال ولا زالت قابلة للتحول بدليل أنها تتساءل عن أسباب هذا التغيير الذي حصل ، والمفروض أن لا يصح إلاّ الصحيح في النهاية ، إلا أنه في ” العيون السود ” تحاول أن لا تطرح الحق بشكل تعسفي ، إنما تترك للقارئ أن يكتب وجهة نظره ، وهو الذي سيقول إن كان مثنى – بطل الرواية – شخصية شريرة أو أنه شخصية معاصرة أصبحت موجودة في كل مكان .
£ولكن ، هل سيكون بمقدوره ذلك ؟ نترك الإجابة له .