*جريدة الاتجاه
حزيران 2015
سيف الدين كاطع
*كتاباتك القصصية سبقت عملك في مجال الصحافة وأنت في مرحلة الدراسة الجامعية؟
– الكتابة بدأت من خلال دفاتر الإنشاء منذ أيام الثانوية، ولكن الجامعة هي المرحلة الأهم في حياتي، ومعظم غناها جاء من غنى تلك المرحلة الذهبية التي مر بها الوطن العربي، والعراق بشكل خاص، فقد شهد الوطن في بداية السبعينيات انفتاح الأجواء السياسية والثقافية بشكل قلّ فيه التشنج والممنوع، كما وازدادت المرونة والتنوع وتقبل الآخر لفترة ليست طويلة. في تلك المرحلة كان الطلاب اليساريون في الجامعة ينشرون الثقافة فيما حولهم. وقد كان وجودهم يزيد فضولي إلى مجال جديد لم أعهده من قبل، وبطبيعتي كنت ولا أزال أهوى الجديد والحديث، ولا أحبس نفسي في قالب قديم اعتاد عليه الآخرون، خصوصاً فيما يتعلق بالثقافة. صار هؤلاء الطلبة يخلقون تلك الأجواء التي تغلغلت فينا نحن الذين معهم أو حولهم من خلال تعرّفنا على الكتب الأدبية والسياسية وجريدة (طريق الشعب) التي لم تكن يفوتهم شراؤها يوماً واحداً، ومع أنني كنت مستقلة، ولم أنتم في حياتي الى حزب من الاحزاب، ألا إنني لطالما أُعجبت كثيراً بالاهتمام الذي كانوا يولونه للثقافة وبالطريقة التقدمية والحضارية التي يفكرون بها. في ظل تلك الأجواء قرأت كثيراً في السياسة وفي الأدب كما بدأت المحالوات الأولى للكتابة الأدبية في تلك الفترة.
– من الذي رعى البدايات الأولى؟
* السيدة الصحفية المعروفة سلام خياط كانت جارتنا في حي اليرموك، وهي صديقة مقربة للعائلة ولوالدتي رحمها الله، وكنت أناديها بخالتي وأحبها كثيراً لشخصيتها ذات الحضور والجاذبية. ولأن سلام خياط كانت تتوسم بي الموهبة وتشجعني على تطويرها بالقراءة والكتابة، فقد كانت تأخذني معها لحضور بعض الفعاليات الثقافية التي كانت تحضرها بصفتها اسماً معروفاً في الوسط الثقافي، وتكتب بشكل متواصل في جريدة الجمهورية ومجلة ألف باء في السبعينيات. أذكر هنا أنها أخذتني يوماً إلى المسرح القومي في كرادة مريم لحضور مسرحية لقاسم محمد، وفي الاستراحة جاء الشاعر صادق الصائغ ليسلم عليها فانبهرتُ جداً بالموقف. وفي مناسبة أخرى أخذتني إلى نادي نقابة المعلمين في المنصور حيث كان الحزب الشيوعي يقيم احتفالية بمناسبة عيد تأسيسه، فجاءها الفنان الكبير يوسف العاني وتحدث معها، فانبهرت بذلك أيضاً. كنت شغوفة بكل أجواء الأدب والمسرح والفن التشكيلي، وفي نهاية السبعينات كانت السيدة سلام خياط تشرف على مجلة الأجيال التي تصدرها نقابة المعلمين، وفيها كتبت أول عمود اسبوعي وكنت لا أزال طالبة في الجامعة. ثم بعد ذلك بدأت أكتب القصص القصيرة ونشرت أول قصة لي في جريدة العراق، عندما كان الشاعر عيسى الياسري مسؤولاً لصفحتها الثقافية، ثم نشرت قصة أخرى في مجلة الطليعة الأدبية، ثم توالت القصص التي جمعتها في مجموعتي الأولى الشخص الثالث عام 1984، وكان لها صدى طيب بين النقاد وأشرت البداية الحقيقية لمسيرتي.
* كثيرة هي الروايات والقصص التي كتبتها ميسلون هادي لكن روايتك (العالم ناقص واحد) و(العيون السود) ارتبطت باسمك اكثر مالسبب برأيك؟
* رواية العيون السود تقدم بانوراما للحياة العراقية في زمن الحصار، إنها تصور عدة بيوت في زقاق بغدادي.. ففي بيت يمامة هناك يمامة وخالتها، وفي بيت جنان هناك ثلاثة بنات مع الجدة، وفي بيت هنوة لا يوجد أطفال، كما نجد الصراخ ينطلق من بيت كاظم البغدادي بسبب عراكه المستمر مع زوجته فائقة، والزمان الذي دارت فيه أحداث الرواية هو التسعينات. وقد قدمته من خلال قصة حب جميلة تعتريها الكثير من المطبات والمفاجآت. فيمامة الرسامة تقع في حب رجل جعله الحصار ينقلب من انسان ملتزم الى (إبن سوق). ومن خلال هذه الثيمة تقدم الرواية عقداً كاملاً من حياة زقاق بغدادي تسكنه الكثير من العوائل. البطلة تتعاطف مع (عبد الكريم قاسم) وترسمه في لوحتها مع كل رموز العصر الأخرى من عبد الحليم حافظ وعبد السلام النابلسي إلى جمال عبد الناصر والملكة أليزابث بالإضافة طبعاً إلى عبد الكريم قاسم أول زعيم عراقي بعد الثورة على الملكية. هذا التعاطف كان خطاً أحمر أيام النظام السابق لأن التاريخ كان يعاد كتابته من وجهة نظر أخرى مغايرة وهذا مشكلة أخرى من مشاكل العقل العربي الذي يعشق (القطع) وإلغاء ماسبق. مع هذا مرت الرواية بسلام مع العلم إن الناقد السوري نبيل سليمان نوّه بها واصفاً أياها برواية من أدب الرفض في صحيفة الحياة اللندنية.. أما (العالم ناقصاً واحد)، فهي عن تجربة وجدانية سكبت فيها مشاعر جياشة عن فقدان الأعزاء في الحرب.
* الانفتاح الكبير على وسائل الاتصال أفرز ظاهرة عزوف الشباب عن القراءة، بالنسبة للكاتب هل الانترنت اصبح محفزاً على الكتابة وهل يساهم في انتشار الاديب؟
– بالتأكيد تراجعت مكانة الأدب قليلاً بسبب استغناء الشباب عن القراءة لصالح وسائل التواصل الاجتماعي حتى أصبحت البوستات أو المنشورات ذات تأثير أكبر على العقول، ومن خلالها يمكن إيصال رسائل معينة إلى الجمهور قد تكون مهمة، ولكن من جهة أخرى فقد ساهم الانترنت في زيادة انتشار الكاتب والإقبال على القراءة بشكل عام، وهذا ما نراه من خلال كروبات الحوار ونوادي القراءة والمواقع التي تعلن عن الكتب وتروج لها بطرق جذابة تصل أحياناً إلى خدمة التوصيل للمنازل.
* كيف ترين المشهد الثقافي العراقي الان ؟ وهل تشعرين بأن الاديب العراقي قد اخفق في ظل الظروف التي يمر بها البلد ؟
– تعلمين أن العراق عاد إلى نقطة الصفر بعد الحرب الامريكية وكان هذا الصفر مناسبة جيدة للبناء.. والالتفاف حول الهوية الوطنية من جديد، ولكن الذي حدث أن السياسيين تمترسوا بالطائفية وأكدوها بدلاً من تبديدها.. أما بالنسبة للرواية في العراق فقد انعطفت نوعياً إلى حالة من الابتعاد عن الإيدولوجيا والاقتراب من الحقيقة النسبية والتمرن على العالمية من خلال المحلية. يعجبني في المشهد الثقافي تماسكه إزاء عصبية السياسيين وقبليتهم وفرقتهم الطائفية.. لايزال المشهد الثقافي حيوياً وفي حالة وئام وطني وهدوء نسبي.. وحتى إن تحرك بأتجاه طائفي فهذ تداعيات ستنتهي مع مرور الوقت.. لا أقصد إن الطائفية قد وصلت للأدب، فهو الحصن الأخير للهوية الوطنية، وقضية الهوية الوطنية هي أكثر مايشغلني.. والحمد لله يمكن القول إن الثقافة قد نجت عندنا من فخ الطائفية ولكني أحزن عندما أرى صحفاً أو فضائيات أو مؤسسات قائمة على أساس طائفي. هذا سيعمق الفرقة ولا يمحوها.
*هل هناك اسماء تشدك في الرواية العراقية؟
– كثيرة هي الأسماء المهمة في الرواية العراقية أذكر منها فؤاد التكرلي وعبد الخالق الركابي ولطفية الدليمي وهدية حسين وابتسام عبد الله وعلي بدر ونجم والي وانعام كججي وسنان انطون وسعد محمد رحيم.
*روايتك حفيد البي بي سي جاءت بأسلوب جديد وضفت فيها السخرية وهي رواية ضاحكة بعيدا عن الحزن الذي يعيش فيه البلد حدثينا عن هذه التجربة؟
– شعرت أن القارئ قد مل من النكد والقهر وأنا أيضاً مللت معه من كل هذا الحزن، فكتبت رواية ساخرة من عنوانها وحتى سطرها الاخير هي (حفيد الي بي سي) أردت من خلالها أن أنقل الصورة القاتمة عن طريق الضحك والسخرية، لما لهما من قدرة على تفكيك الأحقاد والعقد والكراهية. كانت العجوز المرحة شهرزاد، ذات اللسان السليط، تتهكم على أولادها وأحفادها وأزواج بناتها، وواحد من أولئك الأحفاد هو بطل الرواية عبد الحليم، الذي يعمل رقيباً للمطبوعات، ويحمل سيفاً بتاراً يفرق به بين الصح والخطأ، فتخيلي كيف يمكن من انرسم حده الصارم بين الحق والباطل على جدار ايديولوجيته التي تربى عليها ولا يعرف سواها، كيف يمكن أن يكون حكمه في المنع أو السماح صادقاً أو عادلاً أو حقيقياً؟ هنا توجب التهكم على هذه الشخصية الدوغماتية المنغلقة على نفسها، وتطويقها من قبل المحيطين بها، ولكنها ستدافع عن نفسها ومعتقداتها في فصل من فصول الرواية.. لقد وجدت في هذا التهكم خروجاً من مأزق غياب الحقيقة، أو نسبيتها، واختلافها من شخص لآخر.. فكيف لي أن أقترب منها بجدية دون أن أن أتهكم عليها لكي لا أنحاز لطرف دون آخر.. فالمرأة المحجبة مثلاً قد تنظر لي على أنني انسانة مختلفة من عالم آخر.. وأنا أيضاً قد أنظر إلى إمرأة ترتدي فستاناً بدون أكمام على أنها إمرأة مختلفة من عالم آخر، فهل من حق واحدة منا أن تحكم بالسوء على الأخرى. بالإضافة إلى ذلك فإن الخروج بنتيجة حاسمة حول هذا ليس ممكناً أو عادلاً.. يقول شابنهاور (كل أمة تسخر من الأمم الأخرى وكلهم على حق)..
*في الآونة الاخيرة لاحظنا اندفاع اغلب الادباء العرب والعراقيين لكتابة الرواية ماهو تقييمك لذلك؟
– في الماضي البعيد كان الشعر هو سيد الموقف، وكانت هناك المعلقات السبع، وهي جائزة مشابهه للبوكر، ولكن في مجال الشعر العربي، حيث كانت هناك سبع أو عشر قصائد تعلق على الكعبة للتدليل على تميزها. أما في الوقت الحاضر فاستحوذت الرواية على اهتمام الناشر والقارئ، وخصصت لها الكثير من الجوائز العربية والعالمية، على العكس من القصة القصيرة التي لم يُحتفى بها بأي من الطريقتين، و تراجعت مكانتها أيضاً مثلما تراجعت مكانة الشعر لصالح الرواية، لأن المزاج العام للقراءة يتغير بين فترة وأخرى، وليس بالضرورة أن تكون هناك أسباب محددة، وإن كنت أعتقد أن سبب تغير مزاج القارئ هو كون الرواية هي الأقرب إلى تقديم عوالم عجائبية معاصرة قد تنافس تقنيات السينما التي تستحوذ على اهتمامات الشباب.
* هل هناك رواية جديدة في العراق؟ ماهي ملامحها وماهو مستقبلها ؟
– ثمة قواسم مشتركة بين الكتاب في العراق وهو النزوع إلى التأنق في اختيار المفردات وتوظيف الفلسفة والتاريخ داخل أعمالهم السردية. كما انهم يتمرنون الآن على نهاية الإيدلوجيات، و يحاولون نبذ التحزب لأية فكرة معينة حتى وإن كانت علمانية أو ليبرالية.. لأن التطرف قد يكون علمانياً أحياناً وليس دينياً فقط…. ولهذا على الكاتب ان لا ينتمي لأية ايديولوجيا معينة لأنه سيضطر الى الدفاع عنها، ويفقد بذلك أهم صفات الكتاب وهي الحياد والنزاهة والموضوعية. والإعلامي وحده هو الذي ينحاز إلى تيار معين ضد تيار آخر ويعتبره مضاداً له، أما الكاتب الشاعر أو الروائي فهو ليس ضد أحد، وله العيون العالية التي ترى من بعيد، وتنظر بمزيد من العطف إلى كل المخلوقات سواء الطيبة منها أو المضطرة أحياناً إلى اختيار طريق السوء .. أهم ما يميز الروائي الآن وفي كل زمان هو أنه لا يكون أداة أو ضرساً في آلة السلطة، وأن يحرص على هذا النأي عن التحزب، والحذر من النظرة الجاهزة أو المعلبة إلى الآخر باعتباره العدو أو المناوئ دون أخذ المقدمات بنظر الاعتبار.
*ماذا ننتظر منك في القادم من الايام هل هناك مشروع قيد الانجاز ؟
– في الأعوام الأخيرة أصبحت أصدر رواية جديدة كل عام تقريباً، وقبل أيام دفعت رواية جديدة للنشر، كما أراجع مجموعتي القصصية العاشرة (سيارة مكشوفة في يوم مشمس).