حوار الزمان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
*كيف يتم اختيار موضوع القصص والروايات؟
– يقال أن ستين ألف فكرة تمر برأس الإنسان في اليوم الواحد وبالتأكيد أن الكاتب يأخذ منها ما يتساقط من الشجرة إلى أعلى أو إلى الأرض. ثم تتلبسه تلك الفكرة مثل صوت يتردد في الرأس ولايستطيع منه فراراً..عندئذ تلعب تلك المصادفات الخفية التي تحدث لكل البشر دوراً في إنضاج الفكرة فينتبه لها الكاتب(أي لتلك المصادفات) لأنها تخص عمله وليس لأنه أكثر ذكاء من باقي البشر..الفكرة قد تبدأ ببخار يتصاعد من قدح شاي أو حدث صغير في بيت مسكون أو مهجور ..وقد تكون الحادثة ذاتية أو غيرية لاعلاقة لها بالكاتب ثم يبدأ الكاتب بالنسج حولها وأمامها الى أن تصل الى ماأسميها نقطة الوداع أو المغادرة . هنا تبدأ الشخصيات تملي مساراتها على الكاتب وتجعله يغير مصائرها كما تريد وكأنها أصوات أخرى تريد الخروج من رأس الكاتب .الموضوعات مطروحة على قارعة الرصيف كما يقول الجاحظ..وليست ثمة مشكلة في التقاطها..ولكن البعض منها يفاجئني وأنا أراه فلايمكن أن أدعه يذهب سدى أو يمحى من الذاكرة..بشكل عام أنا أنطلق من حدث بسيط يستوقفني في الحياة ..ولاأستطيع الهروب منه..سأضرب لك مثلاً بقصة(أقصى الحديقة) التي ستنشر مع هذا الحوار…كنت عائدة إلى البيت فرأيت طفلاً منغولياً يخرج رأسه من نافذة السيارة ويبدو في غاية السعادة..فقلت لنفسي ترى بماذا يفكر وهو يرى العالم ..لعله أسعد خلق الله ولايستحق الإشفاق عليه بل نحن الذين نستحق الشفقة .. لاحقاً عندما انكتبت تلك القصة اتخذت مساراً آخر من خلال الأم الغائبة التي تتحدث إليه..ودون أن أقصد دخلت ثيمة الحرب على الخط..فبدا ثمة خلل في التواصل بسبب حادث ما..وهنا أتوقف عند مسارات القصة التي تفرض نفسها إلى الكاتب…إنها عجيبة وتعمل مثل الحلم ولاأملك لها تفسيراً علمياً دقيقاُ.
*هل تحقق هذا الاختيار في مجمل أعمالك وكيف؟
– تؤثر بعض الظروف الذاتية على تلك الاختيارات..فكتبت (يواقيت الأرض) من واقع سفري خارج العراق..وكتبت (الحدود البرية) في حالة استرجاع رحلة شاقة في حافلة على طريق بري..أحياناً أخرى تكون التجربة الخبرية لاتخصني وإنما تخص شخصاً آخر ولكني لن استطيع كتابتها إذا لم تتطابق مع تجربة وجدانية تخصني وهذا ماحدث في (العالم ناقصا واحد) إذ مزجت تجربتي الوجدانية مع تجربة خبرية تراجيدية سمعتها من أصحاب الحادث.أولاً وأخيراً يكون الإختيار جزءً من قضية الكاتب ..ومن طبيعته أيضاً..يجب على الكاتب أن يبحث عن نفسه ليعرفها جيداً وحالما يعرفها سينطلق منها إلى استكشاف الموضوع بما يعيد اكتشاف الذات مرة أخرى..رامبو يقول إن الشاعر يجعل من نفسه رائياً عبر اختلال مدروس طويل هائل لكل الحواس..لكل أشكال الحب والألم والجنون.يبحث بنفسه، يستنفذ كل السموم في نفسه ولايحتفظ منها إلا بالجوهر..إذن، الإنسانية كلها في عهدته.
* أيهما أكثر بروزاً المشترك أم الإختلاف في أعمالك؟كيف؟
– المشترك هو الأكثر بروزاً من خلال حضور البيت العراقي بكل تفاصيله وحكاياته وتراثه الشفاهي..أعتبر البيت بطلاً لكل ماكتبت من قصص وروايات وهو المكان الذي سكبت فيه كل عواطفي وأحاسيسي ..حزن وفرح وألم وتفاعل مع كل عناصره من جهات مختلفة ..ودائماً المرأة حاضرة وتداً لهذا البيت.. وقد لاحظت ودون أن أقصد ذلك أن الكثير من رواياتي تنتهي بكلمة البيت..في حلم وردي فاتح اللون يقول ياسر السجين في نهاية الرواية “أريد ان أرجع إلى البيت”..وفي نبوءة فرعون تقول شاكرين نصف المنغولية لزوجة أبيها بلقيس (أم يحيا الذي فقد في الحرب) “هيا نعود إلى البيت”..لربما العيون السود أيضاً تجعل من يمامة تنظر إلى رجال الزقاق وهي واقفة في نافذة الطابق العلوي من البيت..وليس البيت هنا بمعناه الجغرافي فقط ولكن أيضاً بمعناه الروحي العميق. وجبرا ابراهيم جبرا يسمي هذه الثيمة التي تطغى على أعمال الكاتب بالجوهر المتكرر. البيت العراقي كان البطل في كل ماكتبته من أعمال وحتى عندما يريد أحد ما مغادرته والتسربل بتجارب جديدة فإن جوهره يجب أن لايضيع في حضن آخر غير أرضه الأولى.
*هل تطمحين من خلال الرواية تجاوز أعمال معينة وكيف؟
– إذا كان العمل جيداً سيحرضني على الكتابة وإذا كان فاشلاً سأعرف أسرار فشله ..فكل صنعة فيها أسرار إلا الرواية فهي كتاب مفتوح تتعلم منه خصائص الفشل والنجاح …لهذا فأني على الأكثرلااستطيع ان أبدأ بقراءة رواية دون أن أتمها حتى وإن كانت غير متميزة. أما التجاوز فلا يأتي بقرار من الكاتب ولكن بتمكنه من أسباب الخبرة والقراءة وسعة المعلومات والتمرد على حالة السكون والثبات..
* أين أنت من الأدب النسوي في العراق؟
– أنا أكتب كإمرأة وأفكر كإمرأة ولكني أتظاهر بأني غير مهتمة بهذا التصنيف… لاأعتبره سلبياً بالتأكيد ولكنه أصبح متوارياً خلف التواقيع …لم يعد الأدب النسوي يعني إنضواء جميع الكاتبات تحت هذا المصطلح النقدي ولكنه يعني إنه منحى في الكتابة.. يمكن أن نقول إن المرأة تملأ الفراغات المهمة التي يتركها الرجل، فهي تعتبرها أكثر أهمية من المتن..متن الغرور والعطش إلى القوة والسلطة والمال، لهذا عندما تكتب المرأة فإنها تعنى بالمشاعر وتنتبه للتفاصيل التي يصعب على الرجل الاحتفاظ بها في ذاكرته بل يضيق بها ويعتبرها (شغل نسوان)… والآن يشهد العالم العربي ثورة غير مسبوقة في مجال الأدب الروائي الذي تكتبه المرأة وعندما يرى ويكتب ويروي هذا الكائن الذي أُغلقت دونه كل النوافذ فيما مضى سيجعلنا نرى العالم مرة جديدة من إتجاه آخر هو إتجاه القلب ، وقد يتضايق بعض الرجال من هيمنة هذه الثورة ويبخسها حقها، دون أن يدرك هذا البعض أن قمعه للمرأة هو الذي جعل منها كائناً ثانوياً. والآن عندما يتحدث هذا الكائن(الثانوي) يتشوق الجميع لمعرفة ماذا يقول او يكتب وكيف يصف العالم من جهة أخرى. بهذا المعنى فإن لطفية الدليمي تكتب من هذه الجهة الثورية المنحازة للإنثوية كقوة إنسانية عظمى..بينما تكتب عالية ممدوح من جهة أخرى إنثوية أيضاً و(عالية) جداً ولكن في إتجاه قوة فردية تنحاز أكثر إلى تشكيل الذات غير المنكسرة…
*كيف تتعاملين مع نتاجات الآخرين خلال لحظة الكتابة..هل تستحضرين أو تتجنبين نتاجات معينة؟
– أستحضر عطور الحديقة الأولى وصمت الهواء الأول….ولاأريد أن أكون سوى قطرة ماء تتبخر بعيداً عن البحيرة الراكدة..عذوبة الحياة البدائية تستوقفني كثيراً ..وتجعلني أشعر بالسعادة..وكل عمل أدبي يترك في نفسي أثراً كأثر رائحة الطين المحفور أحبه..وبالتاكيد أن تلك الأعمال محفوظة في أعماق اللاوعي مثل بقايا طفولة جميلة ستجعل حياتك مختلفة……في روايتي الاخيرة (شاي العروس) وضعت نفسي بين قوسين من الصمت وحاولت رؤية العالم كما يراه أعمى يبصر للمرة الأولى. تحديت نفسي في ذلك وكتبت الرواية وأنا أتخذ من حاسة النظر العزلاء سلاحاً للدخول إلى تلك المعركة.اوكتافيو باث يقول أنه في الابداع يطفو الجزء الأخفى من ذواتنا على سطح الوعي .الإبداع يعني أن نخلق بعض الكلمات التي يتعذر انفصالها عن كياننا .إنها قائمة بذاتها ولاشئ سواها.
*أيهما أكثر تأثيراً؟النقاد أم قراءة أعمال لآخرين؟
-القراءات أكثر تأثيراً أثناء الكتابة..وبما أني أقرأ باستمرار فإن تلك القراءات تضيف لي تنوعاً في الأفكار والمفردات وفي سياقات أخرى كثيرة..الكتابة أرقى مستويات الوعي وتجد عصارة هذا الوعي متمثلة بروائع الكتابات.. وقد أتاح عصر الإنترنت التواصل المباشر مع تلك الكتابات وأحيانا المعلومات التفصيلية، فأصبحت أثناء كتابة القصة او المقالة أو الرواية أستطيع الخروج من الفايل والذهاب إلى الانترنت مباشرة للتأكد من معلومة ما أو الحصول على أخرى جديدة..لاأعتقد هناك مهنة خدمها الأنترنت مثل الكتابة..لأنها تهضم وتتمثل وتتناص وتتفاعل وتستنتج..وقبل عصر الانترنت استدعتني كتابة (نبوءة فرعون) سنتين من البحث الشاق عن بعض المصادر في كتب الأطفال والميثولوجيا والتراث الشعبي العراقي في وقت كانت الظروف سيئة في العراق وكنت لاأخرج من البيت إلا نادراً فكنت أكلف زوجي بالبحث عن تلك الكتب..الآن أنا أكتب بمعدل عشر ساعات في اليوم وبالدخول على مواقع الكترونية موثوقة أستطيع الحصول على المعلومات التي أريدها خلال دقائق..هذا لايغني عن الكتب بالتأكيد، وقبل الكتابة وأثناءها أقرأ كثيراً..ولكن في كل شئ من الروايات والقصائد إلى الأبراج وعالم الحشرات والورود والفراشات….لاأذيع سراً إذا قلت لك إنني أريد الحفاظ على براءة لغتي..وبعد عشرات السنين من الكتابة قد تصيبها الحرفية بالتعقيد والتصنع…بينما أتمنى الحفاظ على الميزة التي عرفت بها وهي بساطة السهل الممتنع وليست البساطة بمعناها المتواضع..وأريد أيضاً أن لاتتحجر اللغة وتصبح حاجزاً اسمنتياً أو متيبساً..وأتمنى دائما ان أكتب بنفس الروح التي كتبت بها قصتي الأولى..وطبيعتي الاولى..ومادامت الطبيعة محافظة على نفسها..ستبقى هذه الروح تلازمني..اما النقد فهو عامل مهم لتأشير الأعمال المهمة..وأعتبر نفسي محظوظة بكل هذا الكم من الدراسات التي كتبت عن أعمالي وتجعلني أشعر إنني سائرة في الطريق الصحيح.
*هل لديك فروق خاصة بين القصة والرواية وكيف ظهرت؟
– الفكرة هي التي تنادي الكاتب وتستدرجه الى كتابتها فإذا استوفتها القصة القصيرة فلن تمتد الى رواية أو تتبخر في قصيدة نثر..وليس هناك أكثر من القصة القصيرة قدرة على التعبير المكثف ..ولكن يحدث أحيانا أن القصة القصيرة لاتحتمل صراعات الرؤى والدروب المتقاطعة وهذا ما يجعلها تتحول أحياناً الى رواية وقد حدث ذلك معي في (نبوءة فرعون) إذ تحولت فكرة لقصة قصيرة إلى رواية. ….في أحيان أخرى تتحول فكرة رواية إلى قصة قصيرة..أو فكرة لرواية إلى قصة طويلة كما حدث في (العالم ناقصاً واحد).
*هل تعد نتاجاتك الأخيرة أفضل ماقدمت من نتاجات ولماذا؟
– بالعودة إلى جواب سابق أشرت فيه إلى خوفي من أن تفسد الصنعة كتاباتي بمرور الزمن، يمكن القول إني من النوع الذي لايخجل من كتاباته الاولى إلا فيماندر..عدا إستثناءات قليلة أجدها غير ناضجة وأكرهها أحياناً..الحديث عن أعمالي الأخيرة يقودني إلى الحديث عن التجريب ..لقد طرقت تجارب جديدة لأني أحسست برغبتي في التغيير..هذا حدث في (شاي العروس) التي تتحدث عن شخص يبصر العالم للمرة الاولى .. وفي رواية أخرى ساخرة اسمها (حفيد البي بي سي) ستصدر قريباً..سيكون من المفاجئ أن تكتب ميسلون هادي في السخرية ولكن لدي (سوابق) في هذا المجال في قصص قصيرة.
*يشير نقاد إلى حضور الفلسفة في كتاباتك..هل يصح ذلك؟
– الرواية هي جدل…ولاتحتمل الصوت الواحد مثل المقالة أو القصيدة.. وكل جدل هو فلسفة……..كما إن الإنسان لايستطيع تحمل بشاعة الواقع فيمضي إلى إصلاحه بالغناء والرسم والنحت والشعر والنثر….الكتابة قبل كل شئ بالنسبة لي هي شغف وهي عاطفة جياشة تجاه الحياة ورغبة في تكرار حدوثها على الورق على نحو آخر فيه قضية ورسالة فلسفية … هي أيضاً رغبة في تغيير الكون وجعله جميلاً ونظيفاً وخالياً من الأحقاد والكراهية..ببساطة أن الكاتب نوع من البشر يهتم وإذا كان الكاتب نوعاً من الكائنات الحية فالكتابة هي لغة هذا النوع ….أظن أن البشر كالأشجار فيهم المعمر والعابر والصاخب والعقيم..والكتابة هي أزهار كثيفة لشجرة مثمرة تحب الحياة والناس.. انها الطلع طائرأ داخل شبكات شفافة من الهباء تنقلهاالريح الساعية من ورود الى ورود أخرى لنقل حبوب اللقاح..
*أغلب شخصياتك تنتمي إلى المهمشين ..هل يعني هيمنة الموضوعات الهامشية عليها؟
– بطبيعتي أميل إلى أن تتنوع الشخصيات وتشمل بعض من أسميتهم بالمهمشين ممن أصادقهم في الحياة بدافع إحساس أصيل …هم فطريون من أصحاب المهن اليدوية التي أكن لها إحتراماً كبيراً يفوق إحترامي للمهن الفكرية.. لهذا تجد هذه الشخصيات تتحاور مع الشخصيات ذات الثقافة العالية.. تجدها كثيرة في رواية نبوءة فرعون والعيون السود أو محدودة كما في العالم ناقصا واحد..لكن وبالرغم من تنوعها بين طبائع مختلفة إلا انها تشترك بشئ واحد هو غرابتها..صحيح انها تبدو واقعية جداً في ظاهرها ..ولكنها غامضة بعض الشئ وفيها خلل بسيط..إنها ليست كاملة ولامستقرة وتعيش حالة من التوجس لحدوث خطأ ما في مكان ما ..في العيون السود مثلا ستجد عشر شخصيات تحيط بحدث واحد في زقاق واحد…كما تقع يمامة في حب رجل غريب هو نسخة طبق الأصل شكلياً من حبيبها الأول ولكنه نقيضه في المضمون ..وفي نبوءة فرعون ستجد يحيا الذي فقد في الحرب..يختفي بطريقة تشبه الخرافة ..وهناك المذيع وربة البيت وموظفة البدالة والمهاجر..الخ كلهم يبدون في غاية الواقعية ولكنهم يخضعون لبنية إيهامية تجعل القصة تشبه الحلم..أنا لاأتصنع هذا التكنيك ..ولكنه جزء من طبيعتي كإنسانة أجد الواقع مستأجراً يعيش في غرفة من قصر الحلم..الكتابة هي بستاني .. وأجد نفسي أواصلها رغم كل الشكوك والمصاعب والتساؤلات.. أحاول قدر الإمكان أن أقصر المسافة بين الواقعة والخرافة .. وبينهما أطير .. والطيران في الكتابة ضروي ولو كان في أضيق المسافات.