حوار مع إرنست همنغوي

جورج بليمبتون
حوار مع إرنست همنغوي
هذا الحوار هو، في الحقيقة، مجتزأ من حوار طويل أجراه في مدريد عام 1954 الصحفي الأمريكي جورج بليمبتون (1927-2003) مع الروائي إرنست همنغوي (1899-1961).
المحاور: هل باستطاعتك أن تتذكر لحظة بعينها قررتَ فيها أن تصير كاتباً؟
-همنغوي: لا، فأنا كنت دوماً أريد أن أصير كاتباً.
يرى فيليب يونغ، في كتابه عنك، أن الهزّة أو الصدمة العنيفة التي سببتها لك إصابتك الخطيرة بقذيفة هاون سنة 1918، أثّرت تأثيراً عظيماً فيك ككاتب. أتذكّر أنك في مدريد تكلمت بإيجاز عن اطروحته، ولم تجد فيها حينها إلا القليل، مضيفاً القول بأنك تعتقد أن مؤهلات الفنان ليست خاصية مكتسبة، بل موروثة، وفقاً لتعبير مندل.
-من الواضح أن ذهني في مدريد تلك السنة لم يكن قد عاد سليماً تماماً. الشيء الوحيد الذي أفترضه هنا هو أنني تكلمت بإيجاز فقط عن كتاب السيد يونغ وعن نظريته في الصدمة العنيفة في الأدب. ربما جعلتني هزّتا المخ وكسر في جمجمة تلك السنة غير مسؤول عن تصريحاتي. أنا أتذكر فعلاً قولي لك إنني أعتقد بأن الخيال يمكن أن يكون نتيجة التجربة العرقية الموروثة، وهو ما يبدو مناسباً للكلام الذي يأتي في خضم بهجة ما بعد الارتجاج، ولكني أعتقد أنه ينتمي، أكثر أو أقل، إلى ذلك. وعليه دعنا نترك هذا هناك حتى هزة التحرير القادمة، هل تتفق معي على هذا؟ لكن شكراً لتجاوز ذكر أسماء أي مَن لهم علاقة قد أكون ورّطتُهم. إن المتعة في الكلام هو الكشف، لكن الكثير منه، مما هو غير مسؤول، ما كان يجب أن يُكتب. فحالما يُكتب يجب أن تكون مسؤولاً عنه، فربما تكون قد قلتَه لترى إن كنت تؤمن به أم لا. بخصوص السؤال الذي أثرتَه، فإن تاثيرات الإصابات والجروح تختلف اختلافاً كبيراً. فالجروح الطفيفة التي لا تكسر العضم تكون ذات تأثير محدود، بل قد تمنحك أحياناً ثقة. أما الجروح التي تسبب تلفاً كبيراً للعظم والعصب فإنها ليست حسنة للكتّاب، ولا لأي شخص آخر.
ما الذي تعتبره التمرين الفكري الأهم للذي يريد أن يصير كاتباً؟
-لنقل إن عليه أن ينطلق خارجاً فيشنق نفسه، لأنه يجد أن الكتابة بشكل جيد صعبة للغاية. ثم بعد ذلك عليه أن يصرع نفسه بنفسه بدون رحمة ليكتب أفضل ما يستطيع بقية حياته. فهو على الأقل، في هذه الحالة، سيكون لديه قصة عن الشنق يبدأ بها.
وماذا عن أولئك الذين انخرطوا في المهنة الأكاديمية؟ هل تعتقد أن العدد الكبير من الكتّاب الذين شغلوا مناصب تدريسية كيّفوا مهنهم الكتابية لذلك؟
همنغوي: الكاتب الذي يستطيع أين يقوم بكلا التدريس والكتابة يجب أن يكون قادراً على فعل الاثنين. العديد من الكتاب الكفوئين قد أثبتوا أن القيام بمثل هذا ممكن. أنا لا أستطيع أن أفعل ذلك. أنا أعرف، وأشيد بهؤلاء الذين هم قادرون على هذا. إني لأعتقد، مع هذا، أن الحياة الأكاديمية من الممكن أن تضع حاجزاً أمام التجربة الخارجية التي من المحتمل أن تحدّ من نمو معرفة العالم. وعلى أية حال، إن المعرفة تتطلب مسؤولية أكثر من الكاتب وتجعل من الكتابة أكثر صعوبة. إن محاولة كتابة شيء ذي قيمة دائمة هو أشبه بعمل أو وظيفة بدوام كامل حتى وإن كان ما يُصرف على الكتابة الفعلية هو بضع ساعات في اليوم فقط. من الممكن مقارنة الكاتب ببئر، فكما أن هناك أنواع من الآبار هناك أنواع من الكتّاب. لكن المهم هو أن تحصل على ماء جيد من البئر، وإن سحْبَ كمية منتظمة منه خير من ضخه إلى حد تجفيف البئر لتنتظر بعد ذلك حتى يعود فيمتلئ. أرى أنني قد ابتعدت عن السؤال، ولكن السؤال لم يكن مشوقاً جداً.
هل تنصح بالعمل الصحفي للكاتب الشاب؟ إلى أي مدى كان التمرّن الذي حصلت عليه أنت في صحيفة (كنساس ستي ستار)؟
-في صحيفة (النجمة) كنّا تُجبر على أن تتعلم كيف تكتب جملة صريحة تقريرية، وهذا مفيد لأي شخص. ليس من شأن الصحيفة أن تُلحق الضرر بأي كاتب شاب، بل هي من الممكن أن تكون ذات فائدة له إذا ما غادرها في الوقت المناسب. هذه هي إحدى أكثر الكليشهات عدمَ وضوح، وأنا أعتذر عنها. ولكن حين تسأل أحداً كبيراً أسالةً متعبة فإنك تكون عرضة لتلقي أجوبة متعبة.
لقد كتبتَ مرةً في (مجلة تراسنتلانتك) أن السبب الوحيد للكتابة الصحفية كان الدفع الجيد. وقلتَ: “وحين تقوم الأشياءُ بتدمير القيمةَ التي تمتلكها بالكتابة عنها، فإنك تريد أن تحصل مقابلها على الكثير من المال.” هل تفكر بالكتابة على أنها نوع من التدمير الذاتي؟
-لا أتذكر أني كتبت هذا أبداً. لكنه يبدو ان الامر سخيف بما فيه الكفاية لأتجنب تصريح مباشر ومنطقي. من المؤكد أنني لا أفكر بالكتابة بوصفها نوعاً من التدمير الذاتي، مع أنها من الممكن، بعد نقطة أو مرحلة يتم الوصول لها، أن تكون تدميراً ذاتياً يومياً بالنسبة للكاتب المبدع الجاد.
المحاور: هل تعتقد أن التحفيز الفكري لمرافقة كُتّاب آخرين أي قيمة للمؤلف؟
همنغوي: بالتأكيد.
المحاور: هل اكتسبت، في باريس العشرينيات، أي “إحساس بالجماعة” group feeling مع كتاب وفنانين آخرين؟
همنغوي: لا، لم يكن هناك إحساس بالجماعة. كان لدينا احترام كل منا للآخر. لقد كنت احترم الكثير من الرسامين التشكيليين، بعضهم كانوا في عمري، البعض الآخر كانوا أكبر- غريس، وبيكاسو، وبراك، ومونيه الذي كان لا يزال حيّاً حينها- وقليلاً من الكتّاب: جويس، إزرا، وشتاين الممتعة.
المحاور: حين تكتب، ألا تجد نفسك أبداً تتأثر بما تكون تقرأه حينها؟
همنغوي: لم يحدث هذا منذ كان جويس يكتب يوليسيس. تأثيره لم يكن مباشراً، ولكن في تلك الأيام، حين كانت الكلمات التي نعرفها تمتنع عنّا وكان علينا أن نجاهد من أجل كلمة واحدة، فإن تأثير عمله كان هو الذي يغير كل شيء، ويجعل من الممكن لنا أن نفلت من القيود.
المحاور: ألا يمكنك أن تتعلم أي شيء عن الكتابة من الكتّاب؟ أمس كنتَ تقول لي بأن جويس، على سبيل المثال، لم يكن يتحمل الكلام عن الكتابة.
همنغوي: أنت، في مصاحبة أناس من أهل حرفتك، من الطبيعي أن تتكلم عن كتب كتّاب آخرين. وكلما كان الكُتّاب أفضل كلما سيكون كلامهم أقل عما كتبوه هم أنفسهم. كان جويس كاتباً عظيماً جداً وإنه ما كان ليوضّح ما كان يفعله إلا للحمقى. ومن المفترض أن الكتّاب الآخرين الذين كان يحترمهم كانوا قادرين من خلال قراءته على معرفة ما كان يعمله.
المحاور: يبدو أنك عملت على تجنب رفقة الكُتّاب في السنوات الأخيرة. لماذا؟
همنغوي: ذلك أمر أكثر تعقيداً. أنت كلما انخرطت في الكتابة أكثر كلما صرت وحيداً أكثر. فأفضل وأكبر أصدقائك يموت أكثرهم. آخرون يبتعدون، فلا تعود تراهم إلا نادراً، لكنك وأنا تكتب يكون لك نفس القدر من الاتصال معهم وكأنكم معاً في نفس المقهى في الأيام الخوالي. أنت تتبادل فكاهات، وأحياناً رسائل مرحة في فحشها ولا مسؤوليتها، وتكون جيدة بجودة الكلام. لكنك تكون وحيداً بشكل أكثر بسبب أنك هكذا يجب أن تعمل، والوقت يكون أقصر دائماً وإذا ما أنت ضيعته فإنك ستشعر وكأنك ترتكب معصية لن تغفر.
المحاور: ماذا عن تأثير بعض هؤلاء الأشخاص- معاصريك- في أعمالك؟ ماذا كانت إسهامات جيرترويد شتين، إن كان هناك شيء منها؟ أو عزرا باوند؟ أو ماكس بيركينز؟
همنغوي: أنا آسف، ولكنني لست جيداً في تشريحات الجثث هذه. هناك أطباء شرعيون، أدبيون وغير أدبيون، مهيّؤون للتعامل مع هذه الموضوعات. كانت المسز شتين قد كتبت بشيء من الطول وعدم دقة كبير عن تأثيرها في أعمالي. كان ضرورياً لها أن تفعل هذا بعد أن كانت قد تعلمت كيف تكتب حواراً من كتاب عنوانه “وتشرق الشمس ثانيةً”. لقد كنت مغرماً جداً بها، ووجتُ رائعاً أنها تعلمت أن تكتب محاورة. لم يكن شيئاً جديداً بالنسبة لي أن أتعلم من أي شخص استطيع أن أتعلم منه، حياً كان أم ميتاً، ولم يكن لدي أي فكرة عن أنها ستؤثر في جيرترود بشدة كبيرة. إنها كانت أصلاً قد كتبت بشكل جيد جدا بطرق أخرى. كان عزرا باوند ذكياً للغاية في الموضوعات التي كان يعرفها حقاً. ألا يضجرك هذا النوع من الكلام؟ إن هكذا سوالف سطحية ومملة، خلال غسل الملابس القذرة للخمس والثلاثين سنة الماضية، أمر مقرف بالنسبة لي. كان سيكون مختلفاً لو كان أحدٌ قد حاول أن يقول الحقيقة كلها، فكان سيكون لذلك بعض القيمة. هنا من الأسهل والأفضل أن أشكر جيرترود على كل شيء تعلمته منها عن العلاقة المجردة للكلمات، قل كم كنت مولعاً بها، مؤكداً وفائي لعزرا بوصفه شاعراً كبيراً وصديقاً مخلصاً، وقل إنني اهتميت كثيراً بماكس بيركنز بحيث لم أستطع أبداً تقبّل موته. هو لم يطلب مني أبداً أن أغير أي شيء كتبته باستثناء أن أزيل كلمات بعينها لم يمكن ممكناً وقتها نشرها. لقد تُركت فراغات، وكل من كان يعرف الكلمات كان سيعرف ماذا كانت. هو بالنسبة لي لم يكن محرراً، صديقاً ذكياً ورفيقاً رائعاً. لقد أحببت الطريقة التي كان يلبس بها قبعته، والطريقة الغريبة التي كانت شفتاه تتحركان بها.
المحاور: من ستقول إنهم أكثر سابقيك الذين تعلمت منهم؟
همنغوي: مارك توين، وفلوبير، وستندال، وباك، وتورجنيف، وتولستوي، ودوستويفسكي، وتشيخوف، وأندرو مارفيل، وجون دون، وموبسان، والممتع كبلينغ، وثيرو، وكابتن ماريات، وشكسبير، وموزارت، وكويفيدو، ودانتي، وفيرجيل، وتينتوريتو، وهياروناموس، وبوش، وبريغيل، وباتينيار، وغويا، وجيوتو، وسازان، وفان كوخ، وغوغان، وسان خوان دي لا كروز، وغونغورا. أن أتذكر كل واحد أحتاج إلى يوم كامل. وعليه فهذا سيبدو وكأنني أدّعي فيه سعة معرفة أنا لا أمتلكها، بدلاً من محاولة تذكّر كل الذين أثروا في حياتي وفني.

LEAD Technologies Inc. V1.01

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *