الناقد الدكتور نجم عبد الله كاظم: العراق كان مصدّراً للثقافة والعلم أكثر مما كان مستورداً لهما مقارنةً بالبلدان العربية الأخرى
أجرى الحوار: علي عطوان الكعبي (ملف موقع الناقد العراقي)
2020/08/05
كتب روايته (دروب وحشية) في عشرين سنة، حيث أراد بها أن يعايش الكاتب في تفاصيل الكتابة، فقد كتبها من خلال كونه ناقداً وليس روائياً، وهذا السبب جعله يعدها تجربته الروائية الأولى والأخيرة. هو ناقد وباحث لا يزال يعمل على مشروعين رئيسين: الأول التأثيرات الغربية في الأدب العربي الحديث ولاسيما الرواية، والثاني هو التجربة الروائية في العراق الذي أكمل منه الجزئين الأول والثاني لحد الآن. مارس عمله الأكاديمي أستاذاً للنقد والأدب المقارن والحديث في بلدان عدة، فإضافة إلى العراق هو عمل في كل من ليبيا والأردن وسلطنة عمان وبريطانيا. فاز في العام 2009على جائزة يوسف بن أحمد كانو عن كتابه (الآخر في الشعر العربي الحديث.. تمثُّلٌ وتوظيف وتأثير”. وغيره من مؤلفاته (الرواية في العراق وتأثير الرواية الأمريكية فيها)، و(مشكلة الحوار في الرواية العربية)، و(وليم فوكنر في صخبه وعنفه)، و(الفراشة والعنكبوت)، و(الرواية العربية المعاصرة والآخر)، و(أيقونات الوه.. الناقد العربي وإشكاليات النقد الحديث)، و(هوسيك.. الوطن في غبار المبدعين). عن تجربته النقدية والكتابية ، كان لنا معه هذا الحوار:
- مارستَ التدريس في جامعات عربية عديدة. تجربة أكاديمية كهذه ما الذي أضافته لك على المستوى الأدبي الأبداعي والكتابة البحثية والعمل الأكاديمي؟
– بالتأكيد هناك اضافات عديدة اكتسبتُها من هذه التجربة في بلدان عربية مختلفة، ولاسيما على المستوى الأكاديمي والتدريسي، ولكن قبل هذا من الطريف أن أشير إلى أن تدريسي هناك، وتحديداً في الأردن، أشعرني بأستاذيتي لأول مرة وأنا أقارن وضعين هناك، وهو ما ينطبق برأيي على عموم الأساتذة العراقيين، بوضعي ووضع الاساتذة في العراق. فهناك وجدت الاهتمام الراقي والمتحضر بالأستاذ من الكلية والجامعة والوزارة والوسط الأكاديمي السليم، وهو ما لم اجده قبل ذلك في العراق، وأنا أتحدث هنا عن فترة الثمانينيات والتسعينيات. وقد وتكرر هذا الشعور في سلطنة عمان ومؤخراً في بريطانيا حيث امضيت عامين أستاذاً زائراً في جامعة إكستر. وفي العودة إلى سؤالك عما أضافته تجربة العمل الأكاديمي في أقطار عربية، كن هناك، غير هذه المسألة الشكلية، الكثير من الفوائد التي جنيتها، أهمها ما هيأتْه لي من اطلاع على ما كنا شبه محرومين منه في ظل الحصار، من آخر الإنجازات العلمية والتأليفية والأكاديمية. كما أن التجربة عرّفتني على السياقات الادارية والعلمية الجامعية التي كنا متأخرين فيها عن البعض، فضلاً عن الاطلاع على الثقافات الأخرى ونشاطاتها. ولا أنسى ما هيأه لي الوسط الأكاديمي السليم الذي أشرت إليه من جو صحي للكتابة والتأليف والترجمة، قبل ذلك وضمنه إعادة بناء الشخضية الأكاديمية والعلمية والثقافية.
بقي من المفيد والموضوعية القول في ظل أن العراق، مع كل الأوضاع التي كان يعاني منها في تلك الفترة، كان مصدّراً للثقافة والعلم أكثر مما كان مستورداً لهما مقارنةً بالبلدان العربية الأخرى. ومن هذا الجانب استطيع القول إن الأساتذة العراقيين، إلى جانب عموم المثقفين العاملين في البلدان العربية، قد أضافوا إلى الآخرين، ليس على المستوى الاكاديمي، الذي تمثل في إثراء الكثير من الجامعات فحسب، بل على المستوى الثقافي عموماً ايضاً، كما فعلوا ذلك في الأردن حين أثروا الجو الثقافي باعتراف الأردنيين وبقية العرب أنفسهم وليس هذا ادعاء. - إذن طالما أن الاكاديمي العراقي هو الذي يضيف للآخر، فإن التجربة هنا ستكون سلبية أو حيادية على اقل تقدير.
– كلا، ولماذا تكون سلبية؟ لا أظن أنها يمكن أن تكون كذلك إطلاقا، فأنت تعطي وتأخذ. وفي كل الأحوال أنت، سواءٌ اضفتَ أم لم تضف، لا بد ان تكتسب شيئاً، وأقلّ ما يقال عن ذلك إنها تجربة جديدة تختلف بشكل أو بآخر عن تجربتك في بلدك، وعليه فإنها تجربة مفيدة، كما هو حال أي تجربة جديدة. - انتقالاً إلى موضوع آخر، لقد أنتج أدب الحرب في العالم الكثير من الآثار الأدبية، كما حصل في أدب الحرب الغربي.غير أن الرواية العراقية كانت خجولة في هذا المضمار إبداعياً. تُرى ما أسباب ذلك برأيك؟
– أنا لا أرى أن الرواية العراقية كانت خجولة في هذا، لإن الإنتاج كبير جداً. فإذا كنت تقصد رواية الحرب العراقية عموماً علينا أن نعرف أنه لطبيعة النظام السابق وطبيعة الحرب التي خاضها في ثمانينيات القرن الماضي وطبيعة ما كان مطلوباً في ظلها من كتابات تعبوية هي مطلوبة لأي نظام يخوض حرباً ويؤمن بها. فبالتأكيد كان من الطبيعي أن يكون النتاج كبيراً، ويكون أكثره ضعيفاً. لكن هذا يجب إن لا يمنعنا- كما منع بعض النقاد للأسف- من الاعتراف بالجيد حتى وإن كان قليلاً جداً. وفي مثل هذا عبّر احد النقاد الغربيين عما أنتجته الحرب العالمية الثانية في الغرب من كتابات أدبية بأنه كان تلالاً، ولكن لم يبق منها إلا القليل من الأدب الحي مثل رواية “وداعا للسلاح لهمنغوي” وغيرها. وهكذا كان العدد الكبير من روايات الحرب العراقية وغالبيتها العظمى غث أو ضعيف، ولكن علينا أنْ لا ننسى الروايات الجيدة. - هل يمكن أن نشير الى روايات معينة ؟
– أتذكر هنا روايات عبد الخالق الركابي “مكابدات عبدالله العاشق”، وهشام الركابي “أعداد المدفع 106″، وفيصل عبد الحسن حاجم “الليل والنهار” و”أقصى الجنوب” وغيرها. ولك أن تجد الكثير من النتاج الجيد على مستوى القصة القصيرة، فهناك كتّاب لهم كتابات حرب جميلة مثل عبد الخالق الركابي وكاظم الأحمدي وميسلون هادي وفرج ياسين وعبد الستار البيضاني ووارد بدر السالم وغيرهم ممن استطاع بعضهم أن يتجنب، في بعض قصصه، الرقيب.
والآن إذا ما قصدتَ بروايات الحرب ما كُتب عن الحرب الأخيرة وما تبعها، فإن توصيفك لها بالخجولة يبتعد عن الدقة تماماً.. أقول هذا لأن الرواية العراقية استجابت لهذه الحرب ولِما تلاها، كما لا أظن أنها ولا غيرها قد استجابت من قبل لأي حدث شبيه، بل لا أبالغ إن قلت إن غالبية الروايات التي ظهرت خلال السنوات الخمس أو الست بعد سنة 2003، ولنقل من 2004 إلى 2009، وعددها يزيد على المئة رواية، قد تعاملت مع هذه الموضوعة، والكثير الكثير من هذه الروايات قد جسدت نضجاً فنياً لم تتسلل إليه سذاجة أو سطحية ولا تعبوية. الواقع لا أظنني أبتعد عن الدقة إن قلت يندر أن نجد روائياً عراقياً، في الداخل والخارج، لم يتعامل مع هذه الموضوعة. ولا بأس من إن نشير إلى بعض ما قدمه مهدي عيسى الصقر وميسلون هادي ونجم والي وسلام عبود وعلي بدر وأنعام كججي وغيرهم. - يَفترض الأدب المقارن خاصية المقارنة بين أدب أمة وأدب أمة أو أمم أخرى. هل من سمات معينة يجب توفرها لأجراء هذه المقارنة؟ وما مدى الاقتران والتأثر بين الأدب العربي والآداب الأخرى؟
– يعود بنا هذا السؤال الى مدارس الأدب المقارن وخصوصا المدرستين الفرنسية والأمريكية. فالمدرسة الفرنسية تقول بضروروة وجود علاقات بين الآداب المختلفة ينشأ عنها تأثير وتأثّر لإجراء المقارنة. أما المدرسة الأمريكية فتقول بالمقارنات بحثا عن أوجه الشبه والاختلاف بمعزل عن اللقاء والتأثير والتأثر، ولهذا سُميت المدرسة الفرنسية مدرسة تاريخية، إذ هي تنطلق من البحث عن تاريخ لقاء آداب الامم ولغاتها وما ينشأ عن هذا اللقاء من تأثر وتأثر، بينما سُميت المدرسة الأمريكية مدرسة نقدية أو نصية. وعلى أية حال أعتقد أننا حين نريد إجراء مقارنة ما بين أدبين يجب أن يتهيأ لنا، على الأقل من وجهة نظر المدرسة الفرنسية، شرط أو شرطان وهما تحقق اللقاء بين الأدبين، ووقوع التأثير والتأثر بينهما. أما عن مدى الاقتران بين الأدب العربي والأمم الأخرى، على حد تعبيرك، فقديما كان الأدب العربي هو المؤثر في الآداب الأخرى، لاسيما آداب الأمم غير العربية التي دخلت الإسلام. وعندما وصلت الحضارة والثقافة العربيتان والإسلاميتان إلى بلدان عدة، ومنها الأوربية فإن هذا التأثير قد شمل آداب الأمم غير الإسلامية، ولنا أن نذكر هنا نموذجاً واحداً على الأقل هو “ألف ليلة وليلة” التي لا أظن أن هناك من شعب لم يتأثر ثقافةً أو فناً أو أدباً بها.
أما في العصر الحديث، فنحن العرب تأثرنا ونتأثر بالآداب العالمية، الأوربية والأمريكية بشكل خاص، وفي كل الأجناس الأدبية بدءاً بالقصة الورواية والمسرحية التي أخذناها نحن أصلاً من الغرب، وانتهاءً بالشعر الذي انفتحت أبوابه تدريجياً بدءاً بما هيأته لذلك مرحلة البعث الشعري على يد البارودي وآخرين، ومروراً ببعض الحركات والجماعات الشعرية التي تأثرت فعلاً بالشعر الغربي مثل (جماعة الديوان) و(أبوللو) و(المهجر)، وانتهاءً بالأهم، نعني حركة الشعر الحر. ولا أظن أن النقد العربي الحديث يخرج عن هذا التعميم. - ما الذي يمثله فوزك بجائزة يوسف بن أحمد كانو للتفوق والإبداع في دورتها الخامسة عام 2009؟
– بداية من المهم أن أشير إلى أن أهمية الجائزة تأتي أولاً من أنها كانت في مجال تخصصي، الأدب المقارن، واكثر من ذلك أنها كانت في مجالٍ بعينه من مجالات الأدب المقارن التطبيقية، أنا أُعنى به أكثر من غيره من عشر سنوات تقريباً، وهو (صورة الآخر في الأدب). كما أنها اول دراسة مقارنة لي أخرج فيها من الرواية والقصة إلى الشعر: فكتابي الذي فاز بالجائزة هو “الآخر في الشعر العربي الحديث، تمثُّلٌ وتوظيف وتأثير” الذي كان موضوع الجائزة. وبخصوص سؤالك عما يمثله فوزي هذا؟ أقول إنه يمثل إنجازاً افتخر به ذاتياً لأنه إنجاز علمي، وأفتخر به من منطلق كوني عراقياً يفوز كتاب لي بجائزة عربية كبيرة، وأقول لك بصراحة إنني كنت أفترض أن فوز كتاب عراقي بجائزة عربية كبيرة يعني شيئاً للثقافة العراقية والكتاب العراقي، لكن المفارقة تأتي أن فوز كتاب عراقي بجائزة عربية كبيرة في ما كان يُفترض أنه (عام الكتاب العراقي) لم يعنِ أي شيء لا لوزارة الثقافة ولا للدار التي لا أفترض أنّ هناك شيئاً تهتم به غير الكتاب العراقي، أعني دار الشؤون الثقافية، بحيث لم يبادر أحدٌ لا من الوزارة ولا من الدار حتى بتهنئتي، في وقت احتفلت بي فيه جامعة إكستر في بريطانيا التي كنت حينها أستاذاً زائراً فيها. بقي من المفيد أن أشير بفخر إلى أن كتابي هذا هو ثاني كتاب لي يفوز بجائزة عربية، وكان الأول قبل ذلك بسبع سنوات وهو “مشكلة الحوار في الرواية العربية”، وهو يأتي أيضاً قبل كتاب ثالث فاز قبل شهرين بمنحة (الصندوق العربي للثقافة والفنون)، وهو “أيقونات الوهم.. الناقد العربي وإشكاليات النقد الحديث” الذي سيصدر مطلع عام 2011. - هل اهتمامك بممارسة النقد الروائي نابع من كونك كاتباً روائياً؟
– أنا لست كاتباً روائياً.. - ولكنك كتبت رواية؟
– (يضحك، ثم يقول): هذا لا يعني أنني روائي، بل وضعي هو عكس ما افترضتَه أنت في سؤالك. فاهتمامي بكتابة رواية، ولا أقول الرواية، ينبع من كوني ناقداً للرواية. الواقع أني حين كتبت “دروب وحشية”، وهي الأولى والأخيرة، كنت أمارس كتابتها كي أعيش أجواء الكتابة الروائية وعملية كتابة الروائي لروايته.. كيف يفكر؟ وبماذا يفكر؟ وكيف تسير عملية البناء؟؛ انطلاقا من تخصصي في نقد هذا الفن، ولهذا أنا لم افكر بنشرها إلا بعد الانتهاء من كتابتها، فاستأنست برأي زوجتي الكاتبة ميسلون هادي التي هي أعرف مني بذلك، فاشارت علي بنشرها. مرة أخرى أنا لست كاتباً روائياً، بل أنا ناقد وباحث أكاديمي ليس أكثر. - الملاحظ أن المبدع بشكل عام، حين يكون أكاديميا تذوي لديه جذوة الإبداع، كأنه يستسلم للخدر الأكاديمي اللذيذ. ما تعليقك على هذا؟
– هذا الكلام صحيح في كثير من الاحيان، فهناك ما يشبه التناقض ما بين النَّفَس الإبداعي والنفس الأكاديمي، وما بين شخصية المبدع وشخصية الأكاديمي. فالمبدع في طبيعته متحرر والذات لديه تلعب دوراً كبيراً هنا، وإذا جاز لنا التعبير فالقلب هو الذي يسود في كثير من الأحيان. أما الأكاديمي فعلى العكس إذ هو يسير على وفق خطوط معينة نحو آفاق معينة، وللعقل حيز كبير في عمله. ومن هنا يبدأ الصراع لدى المبدع الأكاديمي، وفي شخصية المبدع الأكاديمي غالباً ما يتغلب الأكاديمي فتذوي أو تضعف او تنزوي جذوة الإبداع لديه، ولكنّ بعض المبدعين استطاعوا أن يتحرروا من هذا، كالشاعرين الأكاديميين على العلاق، ومحمد حسين آل ياسين مثلاً. - أصدرتَ جزءين من مشروع عمل ببلوغرافيا الرواية العراقية، وقد ناشدتَ الروائيين العراقيين لتزويدك برواياتهم للجزء الثالث من المشروع. فهل اكتمل المشروع؟ وماذا يشكل عمل كبير مثل هذا؟
– بداية هو ليس مشروعَ عملِ ببلوغرافيا، بل الببلوغرافيا تابعة لمشروع عن التجربة الروائية في العراق، كان الجزء الأول منه عن مرحلة 1919- 1965 أي من التأسيس إلى ما قبل رواية “النخلة والجيران” لغائب طعمة فرمان، وقد الحقت بهذا الجزء ببلوغرافيا الرواية العراقية في تلك الفترة. وعندما كتبت الجزء الثاني بعد أكثر من 15 عاماً، وهو عن مرحلة 1966-1980، ألحقت به ببلوغرافيا للفترة ذاتها. والآن وأنا أتهيأ لكتابة الجزء الثالث عن الفترة 1981- 2002 أعمل على إعداد ببلوغرافيا لتلك الفترة. من هنا جاءت مناشدتي للروائيين والنقاد والآخرين لتزويدي بما ينقص ما جمعته من أسماء الروايات التي كُتبت خلال هذه الفترة. وهنا أريد أن أوضح بأن هذا المشروع ليس كتباً كبيرة كما يتصور البعض، بل هو عبارة عن كُتيّبات صغيرة ستكون كلها في النتيجة كتاباً، أكتبه ليكون مساعداً للنقاد أكثر من كونه كتابةً نقدية، وهو تتبّع تاريخي لنشأة الرواية العراقية وتطورها مع توقف قصير عند كل عمل متميز في فترته مع بيان أهم المصادر التي كتبت عنه والتي تفيد الباحثين والنقاد. - أما زلنا (علي سفينةٍ غرقى)، كما جاء في دراسة لك عن رواية “بيت علي نهر دجلة” للروائي مهدي عيسي الصقر؟
– ‘لى حد ما نعم، لكن الذي أتمناه هو أن تكون هناك نوايا صادقة عند بعض السياسيين، مدعومين بقطاعات أخرى كالمثقفين، ليحاولوا إصلاح هذه السفينة.. ولعلّي هنا لا أقول (سفينة غرقى) بل أقول هي سفينة مهددة بالغرق، وما يهمنا هو أن نعمل على إصلاحها. وهنا، تعلّقاً بنا نحن المثقفين، أشير إلى دور الفئة المثقفة التي أظهرت غالبيتها سلبيةً غير مشرّفة وغير مسبوقة لا بالعراق ولا في غيره، تمثلت في الانسحاب الهائل لجموعها بمن فيها غالبية رموزها. - إشارتك إلى ما تراه من سلبية المثقف، يجعلني أسألك عن رؤيتك للمشهد الثقافي وفاعلية المثقف العراقي؟
– المشهد الثقافي من ناحية الإبداع والكتابة عن الإبداع والنشاط الثقافي عموماً هو مطَمْئن كمّاً ونوعاً بغناه وتنوّعه، وهو مُقلق من ناحية المؤسسات التي تُعنى بهذا النشاط إذ نجده يتخلف، في دعمه ومتابعته وبعض مسؤوليه، عن هذا النشاط. أما من ناحية سلبية المثقف التي أثارت سؤالك، فأجيبك بالإحالة إلى آخر كتاب صدر لي وهو( هومسيك.. الوطن في غبار المبدعين)، إذ أتحدث فيه عن دور المثقف والمبدع وفعلهما خلال السنوات الكالحة بين 2003-2006، والتي شكلت مدخل مرحلة الموت التي أتمنى أن لا تعود، وقد انطلقتُ فيه مما رأيته وعشته وعانيت منه من سلبية النخبة المثقفة مما جرى وكان يجري. والواقع أنا أعتقد أن الكثير من مثقفينا، ومنهم المبدعون، كانوا، وكما قلت، سلبيين في عموم تاريخنا الحديث، ولكنهم وصلوا قمة هذه السلبية في فترة ما بعد السقوط حين انسحبوا وتركوا فراغا ما كان ليملؤه إلا من يتناقضون مع المثقفين. - لكن ألا تعتقد بأن سلبية المثقف العراقي كانت نتيجة لما مرّ به من التهميش والإقصاء في المرحلة السابقة؟
– نعم، أعتقد أن هذا جزئياً صحيح، ولكن يُفترض بالمثقفين أن يواجّهوا ذلك كله، ولا أعني بالسلبيين هنا أولئك المثقفين الذين تركوا الوطن فقط، وهم كثيرون، بل أولئك وغيرهم ممن لم يقدموا للوطن سوى الكتابة عن حب الوطن والحنين إليه والنواح عليه، وأنا لست ضد مثل هذه الكتابة لكني ضدها حين تأتي مبالغاً فيها مع عدم تجسيد ما تعبّر عنه بالفعل الإيجابي لا السلبي الذي كان واحداً منه الهروب ومغادرة الوطن الذي أقدم عليه الكثير منهم. ألم يبق بعضهم في تلك الفترة رغم القمع والسلطوية، فاستطاع أن يقدم شيئا ليس أقله هو وجوده داخل الوطن؟
الواقع فيما يخص كتابي لم أكن لأقول شيئاً عن مثقف تخلى عن وطنه أو هجره وعاش لأجل ذاته أو عائلته، ولكنه سكت وما ادّعى وتباكى، فهذا من شأنه هو فرداً أو إنساناً. ولكني ضد من فعل ذلك وراح ينوح على الوطن ويبالغ في التغني به والادعاء بما لا يجسده فعل وسلوك على أرض الواقع، مثل مظفر النواب وسعدي يوسف وكاظم الساهر ونصير شمه وسميرة المانع وفاضل العزاوي وغيرهم. فلماذا لم يكونوا مثل تلك الأقلية التي شرّفت الثقافة مثل يوسف العاني ومفيد الجزائري ومثل الشهداء كامل شياع وشهاب التميمي واطوار بهجت، ومثل لطفية الدليمي وعبد الخالق الركابي ونادية العزاوي ود. محمد درويش؟، ولماذا لم يشاركوا الآخرين ويتحملوا جزءاً مما تحملوه، بما في ذلك تحمل شيء من التعب والخطورة؟ وهنا أنا لا أعني أنهم كان عليهم أن يلقوا بأنفسهم إلى التهلكة، بل كان عليهم إن يثبتوا حضورهم في البلد وأن يقدموا شيئاً، كما فعل أولئك الذين ذكرتُهم، ولماذا لم يكونوا مثلنا ويتعرضوا لما تعرضنا له؟ - في كلمة أخيرة ماذا تود أن تقول؟
– تعلقا بكل الذي سبق ولأننا معنيون بالقطاعين الأكاديمي والثقافي، أتمنى في ظل وزارة المالكي الجديدة أن تسير الأمور بأفضل ما كانت عليه، من خلال أن تسترد الأكاديمية ما فقدتْه خلال سنوات الحصار وما بعدها من سياقاتها السليمة، وأن تسترد الثقافة ولاسيما في مجال الكتاب ونشره وجهَها السليم. فهل سيفعل وزيرا التعليم العالي والثقافة؟ أتمنى هذا وإن لم أكن متفائلاً.