حوار منشور في جريدة العرب.
أجرت الحوار خلود الفلاح.
* مشروعك الروائي ينطلق من العراق. لماذا؟ هل المكان هو البطل الحقيقي لأعمالك؟
– من الطبيعي أن ينطلق الكاتب من خبراته المكانية والزمانية مع التجارب الوجدانية التي تخصه. والتزام المكان هو من أعز الثيمات على قلبي، وقد جسدتها في المكان الذي يكاد يحتل البطولة فيما كتبت من روايات، ألا وهو (البيت العراقي). فالبيت في “العالم ناقصا واحد” هو المسرح الذي تدور فيه مشاعر متضاربة نعرف من خلالها أن ما يجري في الخارج هو مأساوي وفظيع، والبيت في “العيون السود” هو عدة بيوت في زقاق واحد تقدم بانوراما العراق لعقد كامل هو التسعينيات من زمان الحصار، وكذلك الأمر في (نبوءة فرعون) و(العرش والجدول) و(العالم ناقصاً واحد). ولكن الواجب يتعدى أحياناً هذا المكان المحلي إلى تفاصيل أخرى كثيرة، كالبيئة مثلا والإحساس بالمسؤولية تجاه الحفاظ عليها وعدم التفريط بها والاقتصاد في استخدام مواردها، واهم تلك الموارد الماء الذي يجب أن ننظر إليه كشيء ثمين، والهواء الذي يجب أن لا يلوثه الدخان وسموم المداخن وعادمات السيارات، والطيور التي يجب أن لا تطردها المدينة من أجوائها الطبيعية، لأن لها الحق في أن تبقى في حصتها من الطبيعة. وعلينا أن نحافظ على ذلك التوازن، وأن ندين الجشع والإسراف والنزعة الاستهلاكية المتزايدة عند الإنسان. وقد عبرت عن كل هذا في مجموعة من الخيال العلمي عنوانها (ماماتور باباتور).
*كم مسودة تكتبين عادة لرواياتك؟
– في زمن الكتابة الورقية كنت أقوم بتبيض الرواية ثلاث مرات، وفي فترات زمنية متباعدة، قبل أن تكتمل نسختها النهائية، أما الآن فأراجع الفصول المكتوبة كلما فتحت الفايل على اللابتوب، فأضيف وأعدل وأغير ، قبل الشروع في كتابة فصل جديد. وعند هيكلة الفصول غالباً ما أترك الرواية تبدأ كما كانت في سياقها (الأولاني)، إذ يصعب علي أن أغير في تسلسل الفصول.. ولكن تبقى الكلمة الأخيرة للقراءة الأخيرة التي قد تجعل الفصل الأول في مكان آخر.. أو أن أقدم عليه فصلاً آخر لسبب من الأسباب.. وأحياناً أحذف فصلاً بأكمله… والصعوبة كل الصعوبة، هي أن تعرف ماذا تحذف وأن تكون جريئاً في الحذف.
*كتبت رواية ” حفيدالبي بي سي” بلغة تهكمية ساخرة مختلفة عن سابقاتها ومع ذلك لم تستطيع الخروج من دائرة العراق.
– استغرقت كتابتها ثلاث سنوات.. وكان عنوانها الأولي الرقيب الوفي.. غيرته إلى حفيد البي بي سي لأن كلمة (بيبي) بالعراقية تعني الجدة.. ورأيت العنوان ينطوي على مفارقة ساخرة باعتبار إن الرواية بمجملها تنحو نحو التهكم والسخرية.. إذ قدمت بانوراما لتاريخ العراق والعالم العربي في نصف قرن من الزمان من خلال شخصيات طريفة كان من بينها شخصية العجوز المرحة شهرزاد، ذات اللسان السليط، التي تعشق الحروب والثورات والانقلابات، وتتهكم على أولادها وأحفادها وأزواج بناتها، وواحد من أولئك الأحفاد هو بطل الرواية عبد الحليم، الذي يعمل رقيباً للمطبوعات، ويحمل سيفاً بتاراً يفرق به بين الصح والخطأ، فتخيلي كيف يمكن لمن انرسم حده الصارم بين الحق والباطل وفق عقيدة تربى عليها ولا يعرف سواها، كيف يمكن أن يكون حكمه في المنع أو السماح صادقاً أو عادلاً أو حقيقياً؟ هنا توجب التهكم على هذه الشخصية الدوغماتية المنغلقة على نفسها، وتطويقها من قبل المحيطين بها، ولكنها ستدافع عن نفسها ومعتقداتها في فصل من فصول الرواية..
بعد أن نشرت هذه الرواية طرأ على بالي سؤال آخر؟ إذا كنت قد تهكمت على الرقيب الوفي عبد الحليم في (حفيد البي بي سي)، فأنا من يتهكم علي؟ أليس الحد الذي قد اضعه بين الخطأ والصواب قد يكون هو الآخر مرسوماً على جدار وهمي كباقي الأوهام، فيكون بعيداً كل البعد عن الحقيقة.. وجواباً على هذا السؤال كانت روايتي الساخرة الثانية (أجمل حكاية في العالم) المنتمية إلى ماوراء القص، والتي انكتبت على شكل رواية داخل رواية.. لقد وجدت في هذا التهكم خروجاً من مأزق غياب الحقيقة، أو نسبيتها، واختلافها من شخص لآخر.. كذلك فأن السخرية تفكك المشاكل وتخفف منها.
* اليوم لم تعد تخلو رواية عربية من مشاهد الحرب. برأيك هل أصبح الروائي مؤرخا؟ _ فعلا أشعر بأن الحرب قدطغت بشكل مبالغ به على المشهد الروائي. ويحدث هذا بسبب التجارب الساخنة التي تمر بها أوطاننا. والكاتب يقف منها في الصميم، فجاءت الكثير من القصص أو الروايات تتحدث عن تلك التجارب المؤلمة، غير أن القاريء يعيش هذه التجارب كل يوم، وقد يشعر بالملل إذا ما أعادها الروائي كما هي في الواقع. فهو يبحث عن جانب الإمتاع في الرواية، وعلى الروائي أن يمتلك حس السخرية أو التهكم حتى وهو يكتب عن المأساة، مع الاستفادة من الفنتازيا والأحلام والشخصيات الهامشية بحيث تتلاشى الحدود بين الصورة الوهمية والصور الأخرى.
*هل الرواية موضوع جذاب للكتابة؟
– الموضوع هو الذي يختار شكله..فالقصة القصيرة مخيفة في تركيزها ولا تحتمل الفضفضة الزائدة مع أي وضع كان.. ويمكن التدرب على كتابتها من أجل كتابة قصة أفضل، وليس من أجل كتابة رواية.. ولكن في خضم الهوس الروائي الذي يجتاح المشهد الثقافي العربي، لأسباب كثيرة من بينها كثرة الجوائز، يبدو الإخلاص لفن القصة القصيرة ضرباً من الشغف الخاص لا يمتلكه إلا أصحاب الحنين الموجع لأقصى الكلام …أقصى المكان… أقصى الأسى…. وإذا كان بطل القصة القصيرة مرسوماً لمصيره منذ اللحظة الأولى، و قد لا يُسمح له بالتمرد على مصيره، فإن الشخصيات الروائية ليست كذلك، فهي قد تتمرد وتخلق لنفسها مسارات أخرى في هذا المكان الروائي المديد الذي لا أول له ولا آخر. وتبقى جاذبية الاثنين كبيرة بالنسبة لي.. لأن متعة الكتابة في الحالين واحدة لمن يشعر بأن العالم كله في عهدته، فينتدب نفسه للدفاع عن قيم العدالة والجمال.