نجيب محفوظ
وقفات ذاتية ونقدية
( 1 )
كلمتي، كما أظن معظمكم يعلم، ما هي محاضرة بل مشاركة نادي القراءة بقراءة محفوظ. هي كلمةُ ضيفٍ على نادي القراءة، وتأتي بمناسبة مرور (107) سنة على ولادة نجيب محفوظ التي كانت في 11/12/ 1911، و(30) سنة على حصوله على جائزة نوبل للآداب في 1988، و(11) سنة على وفاته في 2006. وهل لي أن أضيف مرور (50) سنة على قراءتي لأول رواية له، سنة 1968، ومن هذه القراءة أنطلق في كلمتي هنا لأبدأ بوققة قصيرة عن علاقتي القرائية والكتابية به.
بدأت علاقتي بنجيب محفوظ، إذن، بقراءة روايتَيْ “القاهرة الجديدة” و”خان الخليلي”، عام 1968، وهي التجربية التي شكلت تحولاً في مسيرة قراءتي، حين انتقلت، إنْ لم أغادر تماماً، في سن 17 ذاك من قراءة قصص وروايات المغامرات (مثل أعمال إسكندر دوماس)، والعصابات والكاوبوي (مثل أعمال موريس لبلان)، والغرام والحب الجارف (مثل أعمال ميشال زيفاكو)، والرومانسية (مثل أعمال المنفلوطي)، وقد تتوجت قراءاتي الشبابية لمحفوظ عام 1973 ببحث تخرج عنه وتحديداً عند روايات المرحلة الواقعية الاجتماعية السبع. وتواصلت قراءاتي لمحفوظ على امتداد خمسين سنة، قارئاً لما يقارب الثلاثين رواية ومجموعة قصصية من أعماله، وجل ذلك وذروته كانا خلال العشرينيات من عمري، بل وأنا دون السابعة والعشرين، وبما يعني، من وجهة نظري بالطبع، وهذه نقطة مهمة هنا، أن أعمال محفوظ كانت ملائمة لعمري حينها ولأعماركم الآن، وهذا ما أردت إيصاله من هذه الإشارات، وصولاً إلى التوقف عند أهم خصائصه التي تصب في ملاءمة أعماله لأعمار شباب نادي القراءة ومن هم بأعمارهم.
( 2 )
لقد كُتب وقيل الطبع الكثير والكثير جداً عن محفوظ، ولكن لك أن تكتب وتقول الكثير والكثير جداً عنه أيضاً، ببساطة لثراء خطابه السردي والعالم الذي يقدمه في أعماله التي قاربت الستين. وقفاتنا القصيرة هنا تأتي ضمن هذا ولكن دون الادعاء بالإضافة، بل للتوقف عند ما نراه مبررات لقراءته، وبما يتواءم مع طبيعة لقائنا وطبيعة نادي القراءة.
لمحفوظ روايات، وقصص قصيرة، ومسرحيات غالبيتها ذوات فصل واحد، وكتاب مترجم. ولكنه أولاً وأساساً روائي لا يمكن، برأيي، تجاوز كاتب سرد أو حتى قارئ سرد عادي لرواياته، بكل ما تميزت به، موضوعاً ومعالجةً وأسلوباً وفناً، ورواياته هي أهم كلاسيكيات الرواية العربية التي مرة أخرى لا يمكن للتأسيس الأدبي والثقافي والإبداعي لأي مثقف، مثل جلّ شباب الحاضرين، أن يتم بدون المرور بها، بما تميّزت به من خصائص كثيرة، نحاول التوقف عند ما نراه أهمها.
( 3 )
لعل أهم، أو على الأقل أكثر ما تجذب كلا القارئ العادي والناقد، في روايات محفوظ، البيئة وتحديداً الاجتماعية وما يرتبط بها بالضرورة نعني النماذج البشرية التي تتمثلها الشخصيات الروائية. فمعروف عناية محفوظ غير العادية بالبيئة، المصرية بالطبع، ولكن القاهرية تحديداً بشكل خاص، وغالباً ما كانت بيئة الطبقة المتوسطة والفقيرة، وتبعاً لذلك فقد حضر أكثر ما حضر من النماذج البشرية في أعماله أبناء البرجوازية الصغيرة والفقيرة. وتبعاً لذلك كان من الطبيعي أن يتميز عالم محفوظ الروائي، ولاسيما في المرحلة الاجتماعية من مسيرته الروائية (القاهرة الجديدة-الثلاثية) بالمحلية، وبرأيي أن هذا هو أكثر ما أوصل محفوظ إلى نوبل فالعالمية. لقد كانت وراء هذه المحلية بشكل خاص، إلى جانب التصاق محفوظ بعوالمها بنماذجها البشرية، الخبرة بهما على أرض الواقع، وفي النتيجة قدم الكاتب شخصيات حية أو قادرة على الحياة، ولم يعد غريباً أنها، بعد الانتهاء من قراءة الرواية، تبقى في أذهاننا، بخصوصياتها وطبيعتها وقضاياها التي هي القضايا التي تعالجها الرواية.
وهكذا تبقى نماذج الموظف والمتسلط وذي الشخصية المزوجة والمتسلق الطبقي، والمناضل والسياسي الوصولي والمسؤول الفاسد والمرأة المقموعة وغيرها. فبعد قراءة “القاهرة الجديدة” يبقى (محجوب عبد الدايم) الذي يرتضي لنفسه معاشرة المسؤول الكبير لزوجته، وبعد قراءة “زقاق المدق” تبقى (حميدة) بأحلامها التي تضيع وتضيّع صاحبتها معها، وبعد قراءة “بداية ونهاية” يبقى (حسنين) والتسلق الطبقي، وبعد قراءة الثلاثية يبقى (سيد أحمد عبد الجواد) بتسلّطه وانفصام شخصيته، وبعد قراءة “اللص والكلاب” يبقى (سعيد مهران)، وبعد قراءة “ميرامار” تيثى (زهرة) البنت الريفية البريئة و(سعيد مهران) الوصولي والسقوط السياسي. وهكذا الأمر مع جل روايات الكاتب.
ومما يجذب الانتباه في تفرّد محفوظ تميز اللغة الوصفية، وتحقيقها للإقناع، حتى في تفصيليتها في روايات المرحلة الاجتماعية، بعكس الكثير من الروائيين الذين يقعون في أسر الوصف والوصفية فيغرقوا في تفصيليتهما مما لا يقع مع محفوظ. وأعتقد أن مثل هذه الخصيصة من أكثر ما يلائم الذائقة الشبابية، وعليه حين تكون متميزة فإنها تترك تأثيراتها الإيجابية فيهم، وحين تكون عبءاً، في ضعفها أو تفصيليتها غير الملائمة، أو توظيفها غير الموفق، فإنها تترك تأثيراتها السلبية عليهم.
وتعلّقاً بهذا يأتي الحوار الذي يشكل أصلاً، من وجهة نظري وكما عبّرت عن ذلك في كتابي “مشكلة الحوار في الرواية العربية” مشكله عند غالبية الروائيين العرب. الحوار عند محفوظ جاء دائماً مقنعاً لغة وأسلوباً وتناسباً مع الشخصيات المتكلمة به.
( 4 )
في وقفات أخيرة أحاول تسجيل ظواهر أو خصائص مهمة تتعلق بتجربة نجيب محفوظ، أولها وعيه بكل مراحل تحولات الواقع والمجتمع والإنسان، وبما احتاجته تلك المراحل والتحولات من أنماط وتحولات سردية متلائمة معها. وهو في هذا كان صاحب حس غير عادي فما كاد تحوّل يسبق أو يتجاوز نمط كتابته جنساً سردياً أو نوعاً روائياً وقصصياً أو اتجاهاً فنياً أو نزعة فكرية. وهكذا نجد مسيرته الروائية قد بدأت بالرواية التأريخية مصاحبة لحركة البعث القومي والوطني الذي وسم نهايات القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وتحول إلى الرواية الواقعية الاجتماعية حين صار الواقع، ضمن ذلك، محور اهتمامٍ، ثم انتقل، وبما تناسب مع اتفتاح مصر والوطن العربي على العالم واجتياح الحركات الفكرية والفلسفية والثقافية المختلفة لواقع الوطن والأمة، الى التنوع ما بين الرواية الفكرية والفلسفية والرمزية، وامتداداً إلى التجريب.
ثاني الظواهر التي نتوقف عندها قصيراً، التأثير الذي مارسه محفوظ في الرواية والقصة العربيتين، وضمنها الرواية والقصة العراقيتان خصوصاً في الخمسينيات والستينيات. وأكثر من يشار إليهم في هذا: شاكر خصباك في الكثير من كتاباته ومنها مجموعة “حياة قاسية” وقصة “حياة قاسية” الطويلة. وغائب طعمة فرمان، الذي نستطيع ان نضع العديد من رواياته إزاء روايات لمحفوظ: “زقاق المدق” و”النخلة والجيران”، و”خمسة أصوات” و”ميرامار”، و”المخاض” و”الطريق”
أخيرا ًأستطيع أن أقول إن محفوظ أفضل من تعامل مع التقليد فلم يلغه أو يتعالى عليه، ومع التحديث فلم ينغلق عنه ويمتنع.
بين التقليد والتحديث: خير التقليد ما لا ينغلق عن التحديث، وخير التحديث ما لا يلغي التقليد.