عقيل عبد الحسين الاثنين 11 آب جريدة العالم الجديد 2014 |
حلم وردي فاتح
ميسلون هادي في روايتها “حلم وردي فاتح” تكتب عن تشظي الهوية العراقية إلى هويات متحاربة على أساس ديني بعد الألفين وثلاثة، وبطريقة سردية متعاقبة زمنيا وخالية من التعقيد أو التعدد الصوتي أو الترميز. فالشخصيات (فادية وآني وعتاب وياسر) كلهم يتحدثون عن العراق أمس الذي كانت تتعايش فيه الأديان والطوائف وتتمازج.
وياسر نفسه الذي جاء إلى بيت جده الذي تسكنه، مؤجرةً، فادية الثلاثينية الأستاذة في كلية الزراعة، هو من أب مسلم وأم مسحية. وختام التي تعيش في البيت المقابل لبيت عائلة ياسر وتصر على حماية ياسر من الأمريكان الذين يريدون القبض عليه، وتريد أن تخبئه في بيتها حتى مع ما قد يتسبب لها ذلك من خطر، هي صابئية.
وتمر الرواية على ما يشهده العراق بعد الاحتلال من قتل وعنف، فهناك من يحسد أهل القتيل على أنهم عثروا على جثته وسيدفنونها كاملة. ومن تخريب ومشاهد رعب ومن تغيير لمعالم بغداد بالتفجيرات والكتل الكونكريتية، ومن فزع ورعب أصاب الناس ومن خلو أكثر البيوت من سكانها حتى أن الغزالية حيث بيت فادية أصبحت بيوتها سكنا لزوجات الحراس بعد أن فر أهلها منها ومن بغداد والعراق إلى غير رجعة كما يبدو.
الرواية أيضا تناقش وضع بغداد وتذكر أحياءها ومباهجها ومعالمها قبل هذه الحقبة الدموية وما مرت به من تغيرات سياسية وانقلابات لم تكن تؤثر كما هو الحال الآن على الحياة فيها. فختام التي أضاعت عمرها في انتظار ابن عمها الذي كان خطيبها وهي تدري أنه لن يعود من مهجره وأنها لن تذهب إليه فهي تحب بغداد أكثر منه، تقول لفادية إنها تعشق أكثر ما تعشق في بغداد شارع الرشيد الذي تقطعه مشيا على الأقدام من جسر الإذاعة حتى المدرسة المستنصرية تطالع المقاهي والمحلات وتتباطأ عند استوديوهات التصوير ثم بعد أن تعبر جامع الحيدر خانة تتابع محلات الحلاقين الذين كانوا يعلقون في الثمانينيات صورا لمغنية تركية اسمها هوليا ولأخرى إيرانية اسمها كوكوش وفي السبعينيات صورا أخرى لنادية لطفي وسعاد حسني ونجلاء فتحي وميرفت أمين.
وكانت ختام تعرف حتى عدد الدنك الموجودة في شارع الرشيد. فهي تعدها في كل مرة تنزل الشارع من أجل الشورجة أو من أجل السوق العربي أو من أجل عكد الجام أو من أجل سوق العصافير أو من أجل سوق دانيال أو من أجل سوق السراي.
أما الجيل اللاحق الذي عاش زمن الحروب وزمن الاحتلال، ومثاله التام ياسر، فإنه صار ممزقا بين نشأته على القومية العلمانية التي كرستها أساليب التعليم الحديثة وبين العودة، فيما بعد الاحتلال، إلى الدين والمذهب والتطرف في مواجهة أية علمانية وأي شكل من أشكال المدنية الحديثة بما تعنيه من تقبل للتنوع والاختلاف واجتراح قيم التعدد والتعايش والتنوع الثقافي والديني. فياسر الذي نشأ محبا للموسيقى الغربية ليبتعث إلى أمريكا وينال درجة الماجستير فيها يعود بعد الاحتلال ليشارك بلده محنته. وهناك يتحول إلى معاد للاحتلال ومتمسك بإسلاميته لتتم مطاردته رغم أنه لم يأت بأي فعل عدائي. هو فقط تلاسن مع صديق له حول شرعية عمله مع المحتل مترجما ليقوم هذا الأخير باتهامه عند الأمريكيين بتهديده بالقتل فيصير مطلوبا لهم وفارا منهم ومسجونا في سجونهم في العراق.
في هذه الرواية التي تناقش قضية الهوية العراقية في العقد الأخير بصورة صريحة ومباشرة كما ذكرت، تحافظ ميسلون على موقع المرأة ساردة من خلال فادية التي تنتظر عودة أهلها وحيدة في بغداد المخربة وتتحمل مسؤولية إيواء ياسر وتعيش بانتظاره بعد أن تحبه، وهي في كل ذلك تروي قصصها وقصص الآخرين، مراقبة وراصدة للتغيرات التي أصابت المجتمع وآذت بنيته الثقافية والإنسانية والحضارية، ومتمسكة بدورها الأخير القديم الجديد المتبقي لها وهو التشبث بالحياة، كما كانت جدتها شهرزاد تفعل، ومقاومة الخراب والتدهور والموت بالسرد. فهي رغم تسليمها بضعفها وعجزها عن تغيير مصيرها ومصير بنات جنسها وربما مصير الإنسان العراقي عامة الذي يواجه الظلم السياسي في العقود الخمسة الأخيرة من القرن العشرين والاحتلال والعنف والتطرف في العقد الأول من هذا القرن.. رغم ذلك فإنها تصر على البقاء في مكانها والحفاظ على موقعها مراقبة وساردة ومنبهة. الشيء الذي يعطي حياتها وفعلها معنى في ظل غياب المعنى من حولها ومن حولنا. والشيء الذي سيشكل ذاكرة ضرورية لتجاوز المحنة الهائلة في يوم ما لا بد من أن يأتي. والسرد هو من يقصّر المسافة بين حاضرنا وبينه.