الفنان يبدع الواقع
حميد سعيد
جريدة الرأي
21-7-2011ش
مازلت لا أستطيع توحيد الواقع، بمعنى الكينونة، بمصطلح الواقعية في الفن، كل أنواع الفن، الكتابة والرسم والنحت وغيرها، ومهما قلد الفنان الواقع لن يستنسخه كما هو، وفي احسن الحالات، يحقق الفنان حالة من إيهام المتلقي بأن هذا الذي يقدمه هو الواقع، بمعنى الكينونة.
غير أن هذا الإيهام، هو أعلى حالات الفعل الإبداعي ثقافياً،ذلك أنه يبدع واقعاً بأدوات جمالية وفكرية ، لايكون بموازاة الواقع – الكينونة، أو الواقع المعيش كما يقول بعض الكتاب، ولا يكرره، وإنما يضيف إليه ويفتح حدوده على آفاق أوسع.
خطرت لي هذه الخاطرة، وأنا أنتهي من قراءة رواية” حلم وردي فاتح اللون” للكاتبة العراقية ميسلون هادي، وهي قاصة وروائية، لفتت إليها الأنظار منذ بداياتها الأولى واتسمت كتاباتها بالحيوية والعمق والرزانة، إذ قرأت بعض بداياتها في القص القصير وتوقعت وقتذاك ، إن نصوصها ستشكل إضافة الى فن القصة القصيرة، لو واصلت عملها بالحيوية التي اقترنت ببداياتها، غير أن ظروفاً حالت دون أن أتابعها، ولم أطلّع على ماكتبت من روايات، وإن كنت أقرأ بين الحين والحين عن تواصل إنجازها السردي واستمع في الحدود التي تتاح لي إلى آراء إيجابية بشأنه.
قرأت أخيراً روايتها ” حلم وردي فاتح اللون” التي تناولت فيها موضوعاً، لاشك في أن الإقتراب منه إبداعياً، ليس بالأمر السهل، وهو حياة الإنسان في العراق في ظل الإحتلال وما نتج عنه من وضع كارثي، وحين يكون عمل الكاتب، إبداع واقع فنّي، بمصاف الواقع الحقيقي، تكون مهمته أكثر عسراً وتعقيداً،وبخاصة حين يكون الواقع ما زال قائماً ومتحركاً ومرشحاً للمفاجآت.
لقد قرأت في السنوات الأخيرة اكثر من عمل روائي، تناول ماتناولته ميسلون هادي في روايتها هذه، غير أن ما كان يلفت نظري، إن بعض الكتاب، يدخل مدخل المحاصصة في ما يكتب،فحين يدين تصرفاً ما للمحتلين ، يوازن هذه الإدانة بإدانة للمقاومة مثلاً او يفتعل خصاما مع النظام الوطني في العراق الذي أطاح به الإحتلال! كما شاع في الرواية العربية توجه يلفت النظر، يظهر في تقديم شخصية إيجابية تنتمي إلى محيط العدوان، في إطار دور إنساني يتخيله الكاتب، ليؤكد أنه يصدر عن موقف حضاري بعيد عن التعصب.
غير ان ميسلون هادي في روايتها” حلم وردي فاتح اللون” تناولت الواقع العراقي في ظل الإحتلال، برؤية عميقة، يشتبك فيها الفكري بالجمالي، وهذا الإشتباك هو الذي منحها العمق، من دون أن يحولها إلى أطروحة سياسية أو تحقيق صحفي، ولم يحاصرها في حدود ما هو جمالي.
وهذه الرواية، في سياق بنيتها، مكاناً وأحداثاً، بقدر ما كانت واقعية، فواقعيتها لايدرك المتلقي الحدود فيها بين المرئي والمتخيل، بين الكينونة والحلم، وحين يصل النص الروائي الى هذه المنطقة من جغرافية التلقي، يحقق انتسابه بجدارة إلى الإبداع، بأدوات هي جوهر الإبداع، وليس بعوامل مساعدة هي أقرب إلى أن تكون عكازاً تتكئ عليه.
وببداهة الخبرة قالت الكاتبة ما تريد قوله، وهي تعبر عن وعيها بالواقع العراقي، ليس في متغيراته فحسب، بل في ما تعرف وما تريد وما تتمنى، من دون أن تفتعل خطاباً أو تدعي حكمة ، ولم تقدم لقارئها درساً، بل شاركته في ما ترى وتعرف وتتمنى.
إن المكان الذي كان حاضنة أحداث حلمها الوردي فاتح اللون، سواءً شخّصه المتلقي أو تخيله، هو مكان روائي بامتياز، في تخطيطه وشواخصه، واستيعابه حركة الأشخاص والأحداث معاً، وهذا المكان، بما استوعب من أشخاص وأحداث، لم يكن بمنأى عن البيئة الروائية في حركتها ، وببداهة الخبرة ذاتها، عاش المتلقي مع المجتمع العراقي، كما هو، في تعدديته التي توحدت في المواطنة لافي الشعارات،وفي القيم الإجتماعية لا في الكلام .
إذ يعيش هذه الوحدة في التعددية، في كل ما كان من حلم وردي فاتح اللون، كما عر فناها وعشناها، ففي كل حي من أحياء العراق يدخل، ” عمار ” فتى الحدائق و”تحسين” صباغ المنازل إلى جميع البيوت من دون حذر أوخشية،و تفتح ” ختام” بيتها ل” فادية” سواء عرفت ديانتها او ملتها أو طائفتها أم لم تعرفها، وبكل نبل يشارك ” ياسر” في طقوس عيد الخليقة المندائية، وهو من أب مسلم وأم مسيحية، وحين يصلي تفرش له “آني” سجادة الصلاة، ومن سجنه حيث اعتقله المحتلون، يكتب رسالة من جملة واحدة، يختصر فيها أحلام جمبع العراقيين الذين شردوا وفقدوا بيوتهم، حيث يقول: أريد أن أرجع إلى البيت.
إن من يقرأ رواية” حلم وردي فاتح اللون” سيجد نفسه يعيش مع اشخاصها وأحداثها، ويتصادى طويلاً مع جمالياتها .
********************