حلم وردي فاتح اللون – حسين سرمك (الاجزاء السبعة كاملة)

ميسلون هادي حلم وردي 1 بقلم:د.حسين سرمك حسن

تاريخ النشر : 2014-09-20

دنيا الوطن

مشروع تحليل خمسين رواية عربية نسوية : رواية (حلم وردي فاتح اللون) للروائية (ميسلون هادي) الجزء الأول

                   حسين سرمك حسن                   بغداد المحروسة

ملاحظة : انتهيت من كتابة هذه الدراسة يوم 2/آب/2010
ملاحظة :
———-
تأخر نشر هذه الدراسة أشهر عدة لاعتراض بعض القراء الذين اطلعوا على القسم الأول الذي نشر منها في جريدة (الزمان) قائلين أن هناك روايات كثيرة صدرت وهي في مستوى الشدائد الفاجعة التي عصفت وتعصف بالعراق . فاضطررت إلى مراجعة أغلب ما صدر من روايات بعد عام الاحتلال فتأكدت ، من جديد ، قناعتي بأن ما هو في مستوى المحنة ، فنيا ومضمونيا وجماليا ، من روايات  ، قليل وقليل جدا ، وهو تقصير فادح .
( كيف أخرج من هذا الظلام وأنا ابنة واحدة من أولات الألباب في التضرّع للأولياء الصالحين بالقرابين وإشعال الشموع ؟ . كانت هي وعمتي وجدتي لا يمللن من النذور والزيارات .. واحدة نذرت أن ترقص في الشارع إن عاد ابنها سالما من الجبهة ، والأخرى نذرت أن تعبر جسر الأئمة حافية القدمين إلى الكاظم لو عاد ولدها سالما من الأسر .. فما ذهبت عمتي حافية إلّا إلى قبرها الذي دُفنت فيه بعد سماعها خبر ابنها بأيام .. وما خرجت أمّي إلى الشارع راقصة إلّا مع خروج جنازة ابنها من البيت . خرجن من بيوتهن الدافئة الجميلة إلى الظلام ، الظلام الذي يلفنا جميعا ويحيطنا بأشباح ترانا ولا نراها ، ونقول لها إننا نخاف صمتها في الظلام ، فلتتحدث إلينا بكلام مسموع ، لتفتح لنا شباك ضوء يمسح عنا هذا العمى . ولكنها ، من شدّة الزعل ، صامتة وتنوس خلف الأبواب ، بل ترفض حتى الإنصات إلى النذور … )
( ميسلون هادي )                                       رواية ( حلم وردي فاتح اللون )
# تمهيد .. أين روايات الشدائد العراقية الفاجعة :
———————————————- 
.. هذه رواية الشدائد الفاجعة ، والشدة الفاجعة – علمياً وإجرائياً – أعظم هولاً من المحنة والكارثة .. الكارثة والمحنة قد توفر الكثيرين من تأثيراتها السلبية ، ولكن الشدة الفاجعة لا توفّر أحداً .. وقد عبرنا حدود المحنة منذ سنوات والحمد لله وصرنا نقف في مركز جحيم الشدة الفاجعة . ورواية الشدائد الفاجعة عطلتها ” ميسلون هادي ” طويلا . ويتحدثون عن ضرورة أن يكون الواقع متفجراً وصاخباً وممزقاً ليقدم للروائي عجينة ساخنة يشكّل منها إبداعه .. طيّب هذه عجينة بحجم الكون .. وهذا تنور بسعة جهنم .. وهذا حطب بمقدار خمسة وعشرين مليونا .. فماذا تنتظرون .. أيها الكتاب العراقيون ؟؟ .. دخل واقعكم مرحلته المابعد- سوريالية وأنتم تتحدثون عن تعطيل مسيرة الإبداع من قبل النظام السابق ؟!.
وإثر موت “فرانكو” دكتاتور أسبانيا السابق تحدث الروائي الأسباني المعروف (خوان غويتيسولو) الذي قضى قسطاً كبيراً من حياته في المنفى ، في باريس ، هرباً من الجحيم الذي أقامه فرانكو لأكثر من (35) عاما ، تحدث إلى  مجلة ” تري كوارترلي” الأمريكية . قال غويتسولو :
(يجب أن اعترف أنني احتجت إلى سنوات من الإقامة في الخارج للتخلص ليس من الرقابة وحدها، بل ومن الرقابة الذاتية التي استبطنتها وطبقتها على شغلي . فعلّق مراسل المجلة قائلا : إثبات آخر للنتائج الوخيمة للرقابة الذاتية هو أنه بعد موت فرانكو توقع كثيرون منا أن مخطوطات كثيرة لم يتح لها أن تنشر في ظل فرانكو ستخرج بطريقة سحرية من أدراجها في اسبانيا كلها) .                                                      
  غويتيسولو: لم يداخلني هذا الوهم أو ذاك الأمل لسبب بسيط هو أنني خلال سنوات طويلة في باريس كنت المدير الأدبي لطبعات “غاليمار” – وبالتحديد لأن دعاية فرانكو كانت تتهمني لأنني ناشر الأعمال المعادية لأسبانيا ( والمقصود بها معادية لفرانكو )- فقد كنت أتلقى مخطوطات (مدمّرة) من أناس كانوا يقولون إنهم لم يرسلوها إلى الرقيب . وقد اكتشفت بحزن خاص أنه ليس فيها استحقاق أدبي- أي ليس لها قيمة أدبية بالنسبة للقارئ الفرنسي. كانت ببساطة شهادات مباشرة ولكنها، بالتدقيق، لم تكن أعمالاً أدبية) .
فأين الأعمال الروائية التي كانوا يقولون أنهم أخفوها في طيات ضلوعهم لعقود طويلة .. وأن خزاناتهم قد امتلأت بالمخطوطات المقموعة ؟ طيّب .. سقط النظام الدكتاتوري السابق والعراق يتمزق ، وأنزل الأمريكان الغزاة جهنم من السماء إلى أرض العراق .. فمتى تكتبون رواية المحنة على الأقل ؟
والآن تأتي رواية الشدة الفاجعة من ميسلون هادي التي كتبت – قبل الإحتلال – أكثر الروايات جرأة وفنية في مهاجمة الواقع الفاسد السابق في رواياتها “العيون السود” و”يواقيت الأرض” وقصصها القصيرة الكثيرة – راجع كتابنا عنها الصادر عن دار الشروق عام 2002 – ، وها هي تقدم رواية الشدة الفاجعة الناضجة مبنى ومعنى ، لعلها تكسر أبواب الإحتباس السردية . رواية “حلم وردي فاتح اللون” ليست رواية تقريرية عن الخراب الذي يعصف بالمجتمع العراقي من كل جانب ، بل هي درس في كيفية تحويل تراب المعاناة إلى تبر الفن السردي الباهر ، المشكلة ليست في “تسجيل” الخراب الجنوني سرديا ، فهذا تصوره الصحافة والفضائيات كل لحظة وتعرضه بأفضل شكل وبصورة ساخنة ، لكن المعضلة هي في كيفية تقديم نص يسبق الواقع أو يسير- على الأقل – بموازاته . قلت سابقا أن مشكلة الكتاب العراقيين صارت تتمثل في أن الواقع العراقي المتفجّر سبقهم وباتوا يلهثون خلفه ، في حين أن ما اصطلح الإتفاق عليه منذ قرون مديدة هو أن الإبداع يسبق الواقع ويشكّله ، صارت عواصف الواقع العراقي تتلاعب بالمبدع العراقي وتطوّح بكيانه .
# أنامل المبدع تحوّل حجارة الشدّة السود إلى لآلىء :
—————————–
قال الروائي “عبد السلام العجيلي” سابقا : ” الأمم السعيدة ليست لديها روايات ” ، أي أن الرواية وليدة تعاسات الشعوب وأحزانها ، فكيف والواقع العراقي قد دشن ومنذ سنوات مرحلة “ما بعد الحزن” ، و “ما بعد التعاسة”!! . لكن هذا لا يستعصي على أنامل المبدعين المقتدرين أمثال “ميسلون هادي” التي حوّلت حجارة الفاجعة الوطنية السوداء إلى لآليء سردية مشرقة ، مشرقة بالخيبة وإيحاءات الفقدانات الجسيمة . بنبرتها الأسلوبية الهادئة التي عُرفت بها تمزّق روحك ؛ بحركة شخوصها التي تحكي وليس الراوية (فادية) التي تسجل ، تخز – مع كلّ مشهد يقتحم فيه الأمريكان المنزل وخشية الأم (آني) من أن يُلقى القبض على ولدها الوحيد (ياسر) الذي جاءت به من الموصل هاربا بعد أن لطم صديقه لأنه اشتغل مترجما مع الأمريكان ، ولأنه أيضا صار نزيل الجوامع هربا من أنياب الكارثة ، مع كل مشهد قتل كالصيدلي الذي كانت تشتري منه الدواء والذي جاءت أبوه واحتضن جثته في عراء الشارع بعد أن لم يقترب منه أحد لأن (الجماعة) يقتلون من يتعاطف مع ضحيتهم ، ولا أحد يعرف من هم (الجماعة) ، وقد يكون هذا ليس الضرورة الأولى ، ففي العراق “الجديد” لم يعد يشغلنا من الذي ( يَقتُل ) ؟ بل أن نعرف من الذي ( لا يُقتل ) ، حيث يُقتل الصيدلي وأستاذ الجامعة والطبيب والضابط مثلما يُقتل بائع الثلج والحلّاق والخبّاز !! ، ومع كل جثة عراقي يُقتل أكثر من مرّة – والشاب ذو النظارة السوداء الذي قتله خاطفوه الملثمون وألقوه مكتوفا من صندوق السيارة ، أكلت منه حتى الكلاب ، ثم جاءت الشرطة وأطلقت عليه النار ، أي أنه قُتل ثلاث مرّات على أيدي : القتلة والكلاب والشرطة ، فتتساءل الكاتبة ( كم مرّة يجب أن يموت الإنسان في هذا البلد ؟ ) ، مع كل جرح يصاب به بريء مثل جرح عمّار وهو يحاول إنقاذ رجل أطلق عليه (الجماعة) النار وكان لايزال حيّا، مع كل ذكرى عن أيام المسرّات المتناقضة في السبعينات حيث كان الحلاقون يعلقون صور گوگوش الإيرانية وهوليا التركية ، ليأتي محافظ بغداد ويأمر بصبغ سيقان البنات المكشوفة !! تداعياتها مع صديقتها (ريم) وهنّ يذهبن إلى كلية الزراعة في أبي غريب – أقول مع كل ذكرى جميلة راحلة ومشهد موت حاضر معاش تخز الكاتبة قلوبنا بخنجر صغير أنيق ومدبّب . وكلّ هذا يتم بتخطيط وقصدية عاليين . حتى مكان عمل فادية – وسنرى أن اسمها من “الفادي” فعلا – ووظيفتها كان مقصودا . كل شيء كان موظفا من أجل هدفين : الأول الإمعان في تجسيد بل شخصنة الشدائد الفاجعة التي نعيشها ، ثم الهدف الثاني الذي عجز عن تصويره كثير من المبدعين ، بل أن بعضهم أساء تصويره حيث صاروا يقدمون لنا أعمالا فنية عن مساويء صراع السنة والشيعة فيحوّلون الطائفية إلى فن رغم النوايا الطيبة في رسم أضرارها . الهدف الثاني تربوي وطني هاديء يستتر بأردية الفن السردي الآسرة .. الأم ( آني ) مسيحية ، زوجها ( تمام ) مسلم شيوعي سابقا .. وأبوه (الجد) قومي ناصري .. والإبن (ياسر) متديّن ؛ الإبن وحده كان يمكن أن تشتغل ميسلون على تحوّلاته الفكرية والسلوكية الرهيبة وإحباطاته موضوعا مستقلا لرواية قائمة بذاتها تشمل لا معاناة وتمزقات الشباب العراقيين حسب بل معاناة وتمزّقات الشبان العرب والمسلمين في كل مكان أيضا .. شاب كان مغرما بالموسيقى وأرسلته أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد إلى الولايات المتحدة للحصول على شهادة الماجستير في الموسيقى ، وكانوا يعدونه لقيادة الفرقة السمفونية – ولاحظ اختيار الولايات المتحدة كمكان والرسالة الخطيرة التي تريد ميسلون توصيلها حيث يقول لها ياسر الذي تديّن هناك : هناك تجدين إسلاما أفضل !! – . هناك يتديّن ويعيش المفارقات الممزقة : أستاذ الموسيقى الأمريكي يقيم كل أسبوع حفلة لنصرة أطفال العراق فيتساءل كيف ينتصر هذا الأجنبي للعراق وهو العراقي يترك وطنه الممتحن ويغادره .والأمريكية لبنانية الأصل (جوزيل) العازفة معه في الفرقة التي يعشقها وهو يرى أنها الوحيدة التي رفضت شرب قنينة الكوكا كولا لأنها تقاطع هذه الشركة التي تتعامل مع الكيان الصهيوني ثم يتركها لأنها جلست تتشمس بملابس تكشف مفاتن جسدها ، وصاحبه الطبيب العراقي المهووس بالجواز الأمريكي الذي حصل عليه لأنه سيخلصه من المهانة في مطارات الدول العربية !!) . في الرواية كل شيء ينطق بالخراب : جرس الباب الصامت – وهو من “أبطال” الرواية – الذي لم يدقه أحد بسبب تمزق الأحياء وهجرة الناس إلى المنافي وتداعيات الساردة حوله .. أوراق الحديقة الذابلة ..سنادين الورد ( ولا أعرف من هو الناقد الذي قال ذات مرّة أن ميسلون لم تكن موفقة وهي تعد أسماء النباتات في روايتها الرائعة “نبوءة فرعون” – وهي أيضا من روايات المحنة المهمة وكانت ، باعتقادي ، تمهيدا لهذه الرواية ، ناسيا هذا الناقد أن الإلتحام بالطبيعة حدّ التفاصيل هو من سمات “الأدب النسوي” ، وأضع هذا المصطلح بين قوسين لأن الرجل الذي يتمتع بقوة الظل الأنثوي – anima في لاشعوره ، حسب التعبير “اليونغي” يمكنه أن يكتب أدبا ” نسويا ” رفيعا ، وراجع “مدام بوفاري” ).  ميسلون إبنة هذه الطبيعة الأم المباركة ومن روحها استقت ومضة البقاء وسط عتمة الموت ، ونبضات قلب متفائل في أحشاء جسد واقع يحتضر .  وهذه الفلاحة العشتارية تقدم الدرس في كل روايتها من خلال “الحديقة” التي هي مكون أساس من مكونات المكان في نصوص  ميسلون .. الحديقة تتكلم و “تسرد” وتعِض وتقدم الدروس والعبر . وليس أبلغ من تحولات الحياة في حديقة المنزل الذي استأجرته فادية وهو بيت جدّ صديقتها (سارة) .. وحديقة (ختام) – ولاحظ دلالة الإسم – . ولا أعلم لماذا لم تطور ميسلون الثيمة العظيمة لختام المتصدّعة نفسيا باضطراباتها المحيّرة وهي ترمي كلّ يوم قطعة من أثاث المنزل إلى الشارع فيصطدم بالأسفلت بصوت مدوي ؟ وهل هناك تمثيل فني بارع للخراب أبلغ من هذا ؟ ، ثم حوار ختام البليغ مع الضابط الأمريكي ..و..و..والنهاية العظيمة للرواية التي تلاعبت بنا الكيفية التي صمّمت فيها المشهد الممتد الختامي بحيث أنها قادتنا ونحن محمّلين بقناعة أننا سنجد شيئا انتظرناه طويلا، فنعثر على شيء آخر صادم ومغاير تماما كما تقول إيزابيل أللندي : “جئنا نبحث عن شيء ، فوجدنا شيئا آخر” .  


المزيد على دنيا الوطن .. http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2014/09/20/342420.html#ixzz3DwrMqNKG

ميسلون هادي حلم وردي الجزء  2 بقلم:د. حسين سرمك حسن

تاريخ النشر : 2014-09-23

مشروع تحليل خمسين رواية عربية نسوية : رواية (حلم وردي فاتح اللون) للروائية (ميسلون هادي) الجزء 2————— 
                  حسين سرمك حسن 
                    بغداد المحروسة 
ملاحظة : انتهيت من كتابة هذه الدراسة يوم 2/آب/2010
# جرس الباب العراقي له مخالب ! :
——————————— 
لعل الرسالة الأولى التي ترسلها إلينا الكاتبة – ومنذ الصفحة الأولى في روايتها هي أن أي شيء في العراق لم يعد يشبه أي شيء في العالم الآن ويختلف عنه جذريا ، يختلف بإيحاءاته الوجدانية وبمحمولاته الرمزية . لاشيء في العراق لا يحمل معاني خراب أكبر من معناه المباشر .. جرس الباب في أي مكان هو جرس الباب … لكن في بغداد الجرس له مخالب لا ترحم :
( هذا الجرس هو نفسه الذي خمش القلوب المنتظرة بمخلبه القاسي ، عندما كان يقرعه قادم وقت الغسق يتبعه خبر مفجع أو تابوت ملفوف بالعلم ، فيتوحش البيت ويتحول إلى أثر .. فما أكثر ما يَرى هذا المنادي الصغير المختفي خلف كلكل الأشجار ، من أحزان وأفراح .. وما أغرب ما يحتمل من سبّابات العابرين وأهل المكوث من الأحبة والأهل والأصدقاء .. وما أسرع ما يتلقى اللعنات إذا ما كان الغاسق شرّا إذا وقب ، وما أقل ما يتلقى التقدير إذا كان القارع خيرا إذا نطق .. بيد أن وجوده ، ذاك الذي لا ينتبه إليه أحد ، لأنه خلوّ من الصفات والإضافات ، هو خرافة كل الأحوال ، والعلامة الفارقة التي تميّز البيوت من الخرائب والأطلال . واليوم يتحدّث بالحق بعد أن كان صامتا طوال سنوات عديدة لا يقرعه أحد ، وإن قُرع فالكل يفزع ويهرع خائفا إلى النوافذ – ص 6 ) . 
لكن البناء السردي الذي تشيده ميسلون يقوم دائما على الإيغال في تصوير فداحة الفقدانات المثكلة من خلال التمهيد المحكم في عرض “المسرّات حسنة الصيت” التي مزقتها مخالب المثكل . فهي لا يمكن أن تبدأ بخاتمة مصير كل مكون في عملها دون أن تعرض بداية ” حكايته ” وهنا تتجلى عظمة الفن السردي الباهر خصوصا في العمل الروائي ، فالرواية لا تقوم على “الكلّيات” ، بل على “الجزئيات” والتفاصيل . وهذه “حكاية” الجرس : 
( أما جرس الباب فتلك حكاية أخرى ، هي كل ما نحتاج إليه لنخلص إلى حكاية أصغر نلملمها في منديل معقود ونرويها للصغار عندما يكبرون .. فهذا الجرس المنطوي الصامت منذ سبع سنوات يبدو أنه قد نطق أخيرا وقال كلمة حق . كان هو الشاهد على الفرح والحزن ، وعلى الحقيقة والخطأ ، وقد مرّ عليه الشحّاذون بالعشرات ، الصادقون منهم والكاذبون ، ومرّ عليه المقايضون والعطشى والتائهون والحدائقيون والغالقون وطلّاب المؤونة الفائضة عن الحاجة . قرعه الأهل والأحبة من الأخوة والآباء والأمهات ، وأعلن أخبار التخرّج والنجاح بلجاجة الضرب عليه من الأبناء والبنات ، ثم عافوه وخرجوا جميعا فرارا من النار والدمار إلى الشتات وبلدان الجوار – ص 5و6 ) . 
إنه ليس جرسا من نحاس جامد ، هو كائن ” مؤنسن ” الآن ، يخيف ويرعب ( وذات مرّة جاءت إلى عيادتي امرأة تفقد وعيها كلما دق جرس الباب ، لأن دقاته ارتبطت ” شرطيا ” بصدمة الفقدان ، لحظة فتحت الباب من قبل ، وشاهدت نعش زوجها الشهيد ملفوفا بالعلم ) . 
# في الرواية المشهد يتكلّم : 
————————– 
وتدرك الكاتبة أن المشهد في الرواية هو الذي يتكلم ، وأن على الروائي أن لا يشرح ولا يبرّر ( يقول موباسان في إحدى قصصه : كان لي صديق شاب ، ولا تستغرب أيها القاريء أن يكون لمسنّ مثلي صديق شاب !! من سألك عن التبرير .. ويقول قاص عراقي : خرجت أرش الساحة المقابلة للبيت بخرطوم ماء طوله 25 مترا !! ، طيّب وإذا كان 22 مثلا ؟ ) . الروائي يرصد الحدث ويكوّن فكرة عنه – رسالة – خطاب – رؤيا ثم يرسمها من خلال حركة موجودات المكان من شخوص وحيوانات ونباتات وأدوات وغيرها في مشهد تتفاعل فيه علاقات تلك المكونات كافة . ودائما يكون للطبيعة عموما وحديقة المنزل خصوصا حضور طاغ ومعبّر في نصوص ميسلون . فإذ تريد الحديث عن مأساة التشتت التي مزّقت الناس هنا وأن لكل بيت في الشارع الذي استأجرت فيه فادية البيت ذا الباب العالي حكاية تُروى ، فإن كل الحكايات لا تصل في جزالتها إلى لوعة البلبلة الأم التي طارت كالمجنونة من على شجرة النارنج بحثا عن طفلها البلبل ، الذي اختطفه فتى الحدائق (عمّار) بعد أن أسقطه من العش برشقة من صنبور الماء وذلك كي يبيعه في السوق: 
( لولا أن البلبلة الأم انتفضت وهاجت تلوب بحثا عن ابنها الضائع بلوعة لا تختلف عن لوعة أم ضاع منها ابنها في الزحام .. كانت تمشّط الأرض بعينيها ثم تقف على حبل الغسيل وتنظر ثانية ثم تتلفت وتطير وتبحث وهي تصيح وتنوح .. شالت نفسها وحطّتها – ولاحظ التعبير العامي الأخير وفعله ، وفي رواياتها الخيرة كثرة من هذه التعبيرات التي تضعها في مكانها المناسب فتخلق تأثيرا نفسيا مضاعفا –ص11 ) . تتدخل فادية – وكيلة الطيور والبلابل – فيعيد عمار العصفور ( الطفل كما تصفه الكاتبة ) إلى عشّه . وليس عبثا أن يكون هذا الحدث هو الحدث الفعلي الأول في الرواية بعد عشر صفحات من استدعاء الذكريات الجميلة ومقارنتها بما هو قائم من دمار وهلاك ، فهل صمّمت ميسلون هذا المشهد قصديا بوعي أم أنه جاء عفويا بفعل اختناق اللاشعور بالموضوعة الرئيسية في الرواية وهو مواجهة الأم (آني) ومعها (فادية) التي تتعلق عاطفيا بالإبن ياسر احتمالات وقوع كارثة فقدانه . وحتى التفصيل الصغير الذي يحمله الحوار بين فادية وعمار بعد أن يعيد الطير الصغير 

 (عمّار : ضاعت مني الفلوس .. هل فرحت الآن ؟
 فضحكتُ وسألته :
 – بكم كنت ستبيعه ؟
 قال : – بألف دينار … ص 11 ) .
هذا التفصيل البسيط له إيحاءاته اللاحقة حيث يضيع الأبناء ليس من أجل ألف دينار بل للاشيء . كما أن خجل عمّار ( خاطف البلبل ) من فادية وإعادته الطير الصغير المخطوف له تواشجات مع ما تحاول الكاتبة – ضمن إطار الهدف الثاني – أن تبوح به على امتداد مسار الرواية من أن هناك بذرة للخير كامنة في تربة روح أي عراقي ، وأن المبادرة في الفعل الخيّر الرادع – حتى إذا كان هادئا وبسيطا ، وهو هنا حضور فادية فقط من دون أن توجه أي كلمة لعمّار – استفز تلك البذرة فتململت ونهضت ونمت .
# البداية بالأزرق الفاتح .. ذاكرة الأيام السعيدة :
———————————————
وتتجسد هذه البذرة الطيبة في سلوك ( تحسين الصباغ ) ( أبو تيسير فعلا لأنه ييسّر أغلب إشكالات الواقع ) بـ ( وجهه الباسم الذي يُفصح عن نفس نقية ويمتاز بالطيبة والسماحة ولطافة لا تخطئها العين في وجه بابلي من وجوه أهل الحلة – ص 53 ) والذي قام بطلاء غرفة الجلوس وباب بيت فادية باللون الأزرق الفاتح – وهذا ينسجم مع اللون الفاتح لحلم العنوان – ، فهو يحرص عليها رغم أنه مكلف بعمل ينجزه ويمضي ، فها هو يتباطأ في خطواته ويشير إلى فادية بأن المرأة والشاب الذي معها وجاءاها بشكل مفاجيء هما فعلا من أقرباء أصحاب المنزل الذي استأجرته .. فلتكن مطمئنة .
 وفي المعلومة التي يقدمها تحسين عن أنه كان قد صبغ بيت الطبيب المهاجر – إبن عم ختام – بالأزرق الفاتح أيضا ، فيه إشارة – ولو جزئية – إلى طبيعة المزاج النفسي التفاؤلي – الفاتح – الذي كان يسيطر على النظرة إلى الأشياء . وفادية تصبغ باب البيت بما يعبر عن نفسيتها وعمّا تتمناه من أماني وآمال ، فالواجهة الخارجية لباب البيت بيضاء رمزا للسلام والأمل ، والواجهة الداخلية خضراء فاتحة – الفاتح من جديد – لتنسجم مع حديقة البيت ووداعة الجو الداخلي ولون الغرف الأزرق الفاتح . يقول ( كاندلر ) وهو الصحفي الذي دخل مع طلائع القوات البريطانية الغازية يوم احتلت بغداد في 11/آذار/1917: 
( إن اللون الوحيد الذي يمكن مشاهدته في بغداد وضواحيها هو اللون الأزرق والذهبي القديم اللذان يغطيان المساجد والمنارات . إن هذه الفسيفساء البراقة تشكل تغييرا مريحا للأعصاب في بلد اختفت ألوانه بسبب التراب الذي يغطي أرض وحيطان وسقوف البيوت ، إضافة إلى ذرات الغبار الحارة التي تعوم فوق كل شيء ) .
# وتحسين – وأعتقد أن الكاتبة قد اشتغلت على هذا الجانب غنائيا – لم يكن صبّاغا عابرا يصبغ البيوت ويمضي ، كان “ذاكرة” الشارع من جانب ، وذاكرة للتاريخ المعاصر للمنطقة أيضا . فهو يعرف بيوت الشارع وساكنيه واحدا واحدا منذ أن وزعها عبد الكريم قاسم على الضباط الشباب في أوائل الستينات . وقد تابع أحوال هذه البيوت في الحصار حيث كانت قد أهملت كثيرا ، وبعضها كان لا يزال يحمل آثار المطر الأسود الذي خلفته سحب الدخان أيام القصف الأمريكي . لقد صبغ بيت الشيخ عبد الله ثم بيت ابنته (ختام) وهو البيت المقابل لبيت فادية . وختام هي التي اشترت هذا البيت من ابن عمها الطبيب الذي كان من المقرر أن يتزوجها ولكنه هاجر إلى أمريكا ورفضت الإلتحاق به . هنا تنقطع سلسلة ذكريات تحسين حين يشاهد على شاشة التلفزيون الفنان الثوري (عزيز علي) وهو يغني أغنيته الشهيرة ( يا جماعة والنبي ) فتربط الكاتبة -عبر صلة غير مباشرة – بين البستان العامر الذي كان ، والبيوت المهجورة التي صارت ، منتقلة إلى الجانب العام من مخزون ذاكرة تحسين الذي يقول لها أن أحمد حسن البكر قد أرسل خمسين دينارا إلى عزيز علي كمكافأة على أغنيته (البستان) ، وأنه – أي البكر – قد أهدى سيارات لادا إلى لاعبي منتخب الشباب عندما فاز على إيران . كأن هذا العراقي البسيط هو ضمانة ذاكرة تاريخ بلاده . 
# حديقة ميسلون .. حديقة الحياة : 
——————————- 
ودائما تأتي دروس الحياة من حديقة ميسلون . فبعد كل مجموعة وقائع تشيع موجة من التشاؤم الخانقة في نفوس المتلقين ، ترتد ميسلون إلى مرجعية حياتها : حديقتها ، التي هي الوحيدة القادرة على رصد مكوناتها وفعاليات “سكانها” التي لا تلتقطها عيوننا بغشاوة المرارات القاتمة . صرنا دقيقين في التقاط كلّ ما له صلة بالعنف الوحشي والأفعال السادية . وهذه نتيجة لما قلته قبل سنوات من أن الأمريكان سيقومون بأخطر تحوّل في حياة العراقيين بالحصار وبعد الاحتلال وهو أن يقتلوا الحب في نفوس العراقيين . عندما تموت شحنة الحب في نفوسنا ، لن يبقى لأي شيء في الحياة قيمة جمالية . من العلامات المرضية الخطيرة لحياة معتلّة أن تنقرض محلات بيع الزهور ، وتذبل الحديقة المنزلية وتختفي أصص الأزهار من شبابيك المنازل . وفي كل عودة لفادية – ومن ورائها الكاتبة – إلى معين الحياة المرجعي توقظ فينا غريزة الحياة والحب التي تبلدت وسبتت . فهذا مفتتح واحد من صباحاتها الذي تكشف فيه مواطن جديدة للجمال أمامنا لا يمكن أن نلتفت إليها ، في حديقة فادية حتى الديدان جميلة وعزيزة على الكنس : 
(عادت العصافير والبلابل إلى التنطط وتبادل الأسرار والقهقهات .. وكان صندوق القمامة قد امتلأ بأكياس مكوّرة ومعقودة بإحكام . كنت أملأها كل يوم بورق وقداح الأشجار المتساقطة إلى الأرض . الديدان التي كنت أعثر عليها في الزوايا كانت أجمل من أن تجرفها المكنسة .. وبيوت النمل التي تشبه فتحاتها فوهات البراكين ، تشي بأن أربابها من أصحاب الذوق الرفيع .. والوحوش الصغيرة تتسلق سيقان الأشجار إلى أعلى تبحث عن قوت تأكله ، فتصبح هي قوتا لحمائم الحديقة وعصافيرها .. والعصافير أيضا قد تصبح قوتا للقطط ، وحياتها اللاهية في غير منأى من الخطر – ص 17 ) . 
حتى المصائر المأساوية هنا تأتي ضمن سياقها ولا تخلف سوى إنجراحا عابرا في النفس . شتان بين أن يكون الموت مقدرا وفق قوانين الخالق ، وبين أن يكون مصنّعا بدوافع المخلوق السادية .
وقد انتقلت هذه العدوى المباركة من فادية إلى روح ياسر الذي أصبحت الطبيعة ” أستاذته” وهو يتكوى بجحيم سجن بوكا الذي ألقي في زنازينه المظلمة ، وتحولت تهمته من تهديد مترجم يعمل مع الأمريكان إلى المشاركة في التمرد العراقي ضد الأمريكان :
(في الليل المحقق يضربني ، وفي النهار الطبيب يعطيني الدواء والفاكهة ، وأنا أكره الإثنين – ص 128 ) 
كما قال في (الورقة الرابعة) التي وصلت فادية من سجنه . ولكنه الآن قد طُعِمت أفكاره بلقاحات مناعة الطبيعة ، يستقي من قواعد سلوكها ما يحصّنه ضد الإنهيار والتشاؤم والنظرة القاتمة . صار سلوك (الورود) مرجعا يقيس عليه سلوكات البشر العدوانية ومنه يتعرّف إلى ملامح الأفعال السوية التي تشيع نسمات السلام والخير في أجواء هذه الحياة المختنقة . يقول ياسر في ورقته الثانية إلى فادية بعد أن يتحدث عن عذاباته وتذبذبات روحه المحاصرة في ظلمة الزنزانة :
(أنا الآن مثل ورودك التي تمدّ أعناقها للنافذة بحثا عن ضوء الشمس ، أقول لنفسي : هل القلب دليل صادق للأشواق ؟.. وهل الوردة ترى ما لا نرى من مكانها الثابت المستتب إلى أبد الآبدين ، بينما نحن الذين ازدحمت رغباتنا وتشاسعت مسافاتنا على الأرض ربما منذ أبينا آدم عليه السلام ولحد الآن ، تهنا وتقاطعت أقدارنا وتناثرت منها الدماء ؟ . أما بذور الوردة فإذا ما تقاطعت فلا يتناثر منها غير الورود .. قلتِ لي إن الوردة مهما كبرت وتفتّحت فلن تجد في داخلها غير الوردة . فهل يوجد في الجنة ورود ؟ قطعا هي ليست في النار – ص 128 ) 
# حلول “طبيعية” لمعضلات مميتة :
——————————— 
وارتباطا بالحديقة وانطلاقا منها ، فإن الكاتبة توفر دائما مقتربا غير مباشر ومناور لتحقيق الهدف الثاني المكمّل الذي أشرنا إليه ، تقديم حل “طبيعي” بسيط وتلقائي مؤصّل يمكن أن نشتق منه الحل الإجرائي لمعضلات حياتنا المميتة . هذا هو واجب المبدع في هذه المرحلة النهائية والمنهية من تاريخ بلادنا،أن يعيدنا إلى مرجعيات “طبيعية” لسلوكنا بعيدة عن الحلول الآيديولوجية المصنّعة . حين يقول ياسر لفادية ملاحظته عن جمال نباتات الظل التي تميل برؤوسها جميعا نحو الشمس ، ويحصل انفجار مدوي في الخارج ، تعلّق فادية بجفاء: 
( إذا كانت النباتات تعرف أين تكون الشمس وتميل إليها بشكل فطري ، كيف يحدث أن يرتج الإنسان فلا يعرف الضوء من الظلام ؟ – ص 84 ) . 
لقد ارتجّ على الإنسان كلّ شيء .. ضاعت المقاييس .. واختلطت القيم .. وكشّر الوحش الرابض في أعماقه عن أنيابه .. وأصبحت بغداد لا تُعاش .. والناس يهربون من سفينتها المحترقة كالفئران .. ودخل أهلها الحلقة الجهنمية المفرغة : 
( بغداد صارت فوضى ودمارا ، ولا يمكن لكل هذه الفوضى وهذا الدمار إلا أن يخلقا الفوضى والدمار – ص 135 ) كما يقول ياسر .     



المزيد على دنيا الوطن .. http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2014/09/23/342775.html#ixzz3E9we3fls

مشروع تحليل خمسين رواية عربية نسوية : رواية (حلم وردي فاتح اللون) للروائية (ميسلون هادي) الجزء 3
—————————————-

تاريخ النشر : 2014-09-26


                   حسين سرمك حسن 
                    بغداد المحروسة
ملاحظة : انتهيت من كتابة هذه الدراسة يوم 2/آب/2010
# الأنوثة صنعة الحياة :
———————–
ولا ينفصل هذا الإنهمام بالحديقة وبتحولات الطبيعة المحتواة في فعالياتها عن الإحساس بجوهر الدور الأنثوي ، كدور مبارك صانع للحياة . وعندما أكرر كثيرا أن حضارة العراق أنثوية أمومية في نهضاتها الصارمة ، وأنها ذكورية في مقدمات انهيارها فلأن شأن الرجال العراقيين العطشى إلى الدماء كما تقول ختام- وانظر كيف جعلت الكاتبة الشاهدة على تاريخ متصدّع متصدّعة من جنسه – . الأنثى هي الإنسان ضمن الطبيعة – humanbeing among nature  بينما الذكر هو الإنسان ضد الطبيعة- umanbeing against nature  :
( .. ولهذا أسموها ختام ، وإن الأميرة عابدية بعثت لها هدية في يوم مولدها قبل أن يقتلها المجانين هي وأهلها تلك القتلة الشنيعة في قصر الرحاب .. كانت النساء تبكي الملوك ، والرجال يشاركون الثوّار فرحتهم ، وبعضهم يساهم في السحل والتقطيع . ثم لما حكم عبد الكريم قاسم العراق هذا ، ثار عليه الرجال من جديد .. هذا هو دائما شأن الرجال : عطش إلى السلطة .. جوع إلى القوّة – ص 139 ) . 
# رمز البيت الوطني :
———————
وترتبط بالحديقة ، آليا ، موضوعة البيت ، وهي هنا موضوعة البيت الوطني التي وفقت ميسلون في التعبير عنها رمزيا . ولأن الفاجعة تنهش أسس بنية الحياة الآن ، وتحاول الإطاحة بركائز البيت الأكبر ، واستباحة أبوابه وتهديم جدرانه ، فقد أتخمت ميسلون روايتها – وباستحقاق – بهذه التعبيرات الرمزية أو السردية الموحية بتهديدات البيت الوطني . فالبيت الذي استأجرته فادية يلمح بالكثير من ذلك بدءا من بابه الرئيسي ، باب الحديد العالي ، ومرورا بثقل أبواب غرفه الداخلية التي تشعر حين تحاول فتحها أن أحدا يقاومها من الداخل . وهناك رمزية الحديقة فوق معانيها المباشرة كمرتكز للحياة والأمل بالنماء والتجدّد . ولعلّ من المواقف البليغة في هذا الإطار هي إنتباهة ختام وهي تشعل المحرقة إلى شيء تلتقطه من الكومة وهو ( شاقول البناء) الذي يستخدمه البنّاءون لمعرفة استقامة الجدران التي يبنونها، وتصعد إلى السطح وترمي الشاقول من الأعلى لتعرف استقامة جدران البيت . تقول فادية :
( لم أكن قد رأيت هذه الآلة من قبل ، ولما سألتها : ماذا تفعلين ؟
 قالت :
 – إذا بُني البيت على الشاقول ، فهو بناء عدل ولن ينهار .
 – وماذا وجدت أنتِ ؟
 ظلت صامتة وهي تنظر إلى أسفل بعمق حتى خفت عليها من أن تسقط . كانت تقف في برجها المتألق حائرة ، تنظر إلى أسفل والخيط يراوغ في مكانه ولا يستقر على حال ، ثم قالت وهي تستعيد وقفتها الأولى التي رأيتها عليها أول مرة قبل أيام مع ذات الأنفة والكبرياء :
– ما أدري … يمكن عَدِل .. ص 39 ) .
والحكم الاحتمالي هذا ، والذي يصدر من امرأة متصدّعة لكن ممسكة بالتراب الطهور ورافضة للهجرة رغم احتمالات الموت ، قد يهز قناعاتنا في استقامة جدار هذا البيت ، بما يوحي به من عدم بناء هذه البلاد على أسس صحيحة فجاءت الحياة والشعور بالوطنية فيها مختلة . وهناك شواهد كثيرة على ذلك ، شواهد تفجرت في ظل الاحتلال من دمّلة في الروح احتبست طويلا . ولكن بالنسبة لميسلون هادي ليس هذا هو المضمون الذي يجب أن تراهن عليه.هو حقيقة كبرى صادمة وجارحة ، لكنها لا تتسيّد على الحقيقة الكبرى التي تشبعت بها روحها ، والتي تشعر أنها هي التي أصبحت في خطر . وأن الخطر الذي قد يمحقها سوف يمحق أسس الجدار ويطيح به حتى لو كان مستويا ، فمهما كان الجدار ( ورغم تعبيراته الرمزية ) فإنه سيبقى بغنى دلالاته من طابوق ، في حين أن ميسلون ترى أن البناء يقوم على طابوقة إلهية هي الإنسان ، وخصوصا الناس البسطاء ، لذلك تجعل فادية ،وهي تقف حائرة تراقب ختام وهي تدلي الشاقول (الحائر) بدوره ، تتداعى ذاكراتها ( ولا تعرف لماذا .. ودائما لا نعرف مغزى الفعل حين يكون لاشعوريا ) لتلمع في ذهنها صورة المرأة العجوز الجوالة :
( وكنا ندعوها بأم المكانيس ،والتي ارتبطت صورتها بطفولتي عندما كان جرس الباب يُقرع أكثر مما يصمت ،ولم نكن نسأله من الطارق ، أو نفتحه على وجل ؟ …أم المكانيس كانت صديقة جدتي .. وبالرغم من أن حكاية جدتي مع المكانيس لم تكن حكاية شغف أو حاجة إلا أن حكايتها مع أم المكانيس كانت كذلك ، فقد كانت تراها مثالا للكبرياء يُحتذى به ، وتريدنا أن نستخلص الدرس البليغ من تلك الناحلة ذات الوجه المليح والتي كانت ، حسب جدتي ، في تجوالها و(الگونية) الضخمة على ظهرها ، محفوظة الكرامة أكثر من الذي يتحجج بالجوع والفاقة فيبيع نفسه وكرامته بأبخس الأثمان – ص 40 ) .
# فلسفة “أم المكانيس” :
————————
هنا يتجلى إبداع ميسلون هادي ، في هزّ أركان وجودنا بقوة فرديا وجمعيا وبأبعاده الوجودية المعقدة عبر التوريات البسيطة . والآن أستطيع تصديق الحكاية الخرافية التي تقول أن فأرة مقدامة قرضت أسس سد رهيب وأهارت حضارة كاملة . وكما قلت مرارا فإن العمل الروائي يقوم على الجزئيات وليس على الكلّيات ، الكلّيات من اختصاص الدين أو الآيديولوجيا اللعينة . سلوك أم المكانيس يردّ على أولئك الذين يهجرون أوطانهم هربا من الإضطهاد ثم يستقرون إلى الأبد في بلدان غربية ويمعنون في هجاء أوطانهم بدعوى أنها لم تقدّم لهم عشر ما قدمته لهم “الأوطان” الجديدة . أم المكانيس لا تعرف هذه الألعاب التي طلع علينا بها (المناضلون) العرب وخصوصا العراقيون . كيف يحصلون على الجنسية الأمريكية مثلا ؟ وهذا سيحيلني إلى مقارنة بين رواية ميسلون ورواية (الحفيدة الأمريكية) رواية الخيانات الوطنية الناعمة التي سأتناولها قريبا وبالتفصيل لخطورتها على التربية الإبداعية (2) ، والتي من معطياتها الرهيبة هو أنها هزّت قناعة – يبدو أنها طفلية – في داخلي كنت أعتقد وفقها أن الدول الغربية تمنح الناس المضطهدين اللجوء رحمة بهم ، وتعبيرا عن موقف إنساني مشفوع بدوافع تنقذ هؤلاء المعذبين في الأرض من الضيم الذي يعانون منه . ولم أكن أعلم أن ثمن ذلك أن تجلس في حفل عام وتُقسم بالله  أن الولايات المتحدة هي وطنك ، وأنك تتعهد أن تبذل دمك وروحك في سبيل الدفاع عنها والحفاظ على وحدة أراضيها !! أي أنك تخلع العراق من وجدانك !! . طيّب لماذا لم تقسم القسم نفسه وفي حفل عام من أجل العراق ؟ لقد جاء بعض العراقيين (المناضلين) قاطعين عشرات الآلاف من الكيلومترات ليحرّروا العراق – وطنهم الثاني أم الأول ؟ : العراق – مع جيش وطنهم الأول أم الثاني ؟ : الولايات المتحدة الأمريكية !! وكل جملة تتبعها علامة استفهام !! إذ كيف اقتنعوا بأن الدولة الأكثر شرورا في العالم يمكن أن تقوم بفعل خير لبلدهم ؟ لندع مواطنا أمريكيا ومفكرا يتحدث وهو (نعوم تشومسكي) الذي يقول :
(أنا موجود هنا (في أمريكا) لأن بعض المتعصبين الدينيين الأصوليين من انكلترا ، جاؤوا إلى هنا وبدأوا بإبادة السكان المحليين ، ثم جاء من بعضهم من تولى إبادة من تبقى منهم .. لم يكن الأمر شأنا صغيرا .. لقد أبادوا الملايين ) . أو :
( لابدّ من إحضار قادة الولايات المتحدة إلى محاكمات كمحاكمات نورمبرغ ) وذلك – وحسب أمثلة تاريخية تفصيلية يقدمها في كتابه (القوة والإرهاب ، جذورهما في عمق الثقافة الأمريكية) – لأن الولايات المتحدة هي الدولة الإرهابية الأولى في العالم والوحيدة التي صدر بحقها قرار من الأمم المتحدة يصفها بأنها دولة إرهابية بعد أن دمرت الأهداف المدنية في نيكاراغوا مثلما حصل للعراق .. وبعض العراقيين – وقسم منهم من خيرة المثقفين والكتاب – طلعوا علينا بصرعة (نضالية) جديدة ، وهي : يحصلون على اللجوء في الدول التي تحتل وطنهم وخصوصا أمريكا،يستلمون منها الرواتب ويتحدثون بلغتها ويتطوعون في جيوشها هم وأبناؤهم للدفاع عن وطنهم الجديد ، ثم يأتون إلى إحدى العواصم العربية كل ثلاثة أو ستة أشهر ليعقدوا الندوات والمؤتمرات يشتمون فيها الاحتلال وعواقبه وخصوصا أمريكا أيضا،وبلغ التطرف المنافق بأحدهم أنه عدّ عاصفة ترابية حمراء اجتاحت العراق من نتائج الاحتلال رغم أنها بدأت من السعودية وشملت المنطقة كلّها !! هذا هو “الجدار” الذي ظلّت ختام – وبتصميم من الروائية صانعتها – تقيس استقامته وتتساءل حائرة :هل بنيناه بصورة صحيحة أم لا ؟ وهل سيستوي على سطحه الشاقول مطمئنا إيانا بصواب نهج البلاد عبر تاريخها أم لا ؟ .. لكن استواء سطح الجدار وحتى متانة بنيانه لا تأخذوه من السياسيين العراقيين  فهؤلاء سيحتاج الله نفسه إلى ملقط ليمسكهم يوم القيامة – والتعبير مأخوذ من وصف لكازنتزاكي في ” المسيح يصلب من جديد ” – ، خذوه من أم المكانيس .. صديقة ميسلون هادي .. أو من أمي الشهيدة (فاطمة) التي لحقت بأخي الشهيد عباس قهرا ، وذلك حين خرجت إلى حديقة البيت في عام 1991 وخلعت شيلتها السوداء فبانت – تحت ضوء القمر ولهيب الحرائق والطائرات الأمريكية تدك محطة وقود ومعمل طحين الديوانية لتحرير الكويت – ضفائرها الصغيرة الحمراء ونظرت إلى السماء وخاطبت الله معاتبة : سوف تتخلى عن الحسين من جديد !! وأتحدى أي سياسي أن يحدّد ما الذي تقصده هذه المرأة الأمّية بالحسين ؟! سيدخلون في مهاترات ويصدرون بيانات تدين هذه الأم أو تنتصر لها .. في حين أنها مثل أم المكانيس لا تعرف أي شيء سوى أنها نبتت في هذه الأرض كأي نبتة أو شجيرة تنبت في حديقة فادية ولا تتساءل كيف نبتت ، ولماذا طلعت هنا في هذه الأرض المجنونة المعذبة وليس في تربة الولايات المتحدة الناعمة ؟! .. هل الوعي ضد الوطنية التي هي حب قبل كل شيء ؟ هل الوعي يُفسد الحب ؟ أكيد . وأم المكانيس “الفيلسوفة” تحب بلا وعي لهذا يأتي حبها صادقا ، ثم أن الوعي يخلق بدائل انتهازية تُغلف بالفذلكات النظرية المخادعة التي تحاول شرعنتها . من هو الوطن الأول ومن هو الوطن الثاني ؟ الوطن ليس فيه درجات أولى وثانية … هناك درجة عادية وليست سياحية لعربة الوطن .. هي العربة التي تركبها أم المكانيس التي أصبحت كرامتها أكثر وضوحا عندما جاءت سنوات الحصار حيث شاعت السرقة في المجتمع . وذات يوم وكانت فادية تجلس مع أم المكانيس في حديقة بيت الأولى بالغزالية دخل عليهما لص أشرع مطواته فكاد يُغمى على فادية ، لكن العجوز أم المكانيس :
( لم تهلع ولم يطرف لها جفن ، بل نهضت بقامتها الممشوقة كعود الخيزران وحملت ثلاث مكانس في يديها دفعة واحدة وانقضّت بها على الرجل الغريب فخاف هذا وولّى منها هاربا … يومئذ ضحكت على نفسي وعلى قلة حيلتي .. وضحكت أم المكانيس على الحرامي الذي وصفته بالمستجدّ ، وضحكت المكناسة في يدها من شدّة الزهو والانتصار في معركة الكرامة – ص 40و41 ) .
لكن لاحظ أن من أشبع أرواحنا قهرا ، وملأ قلوبنا قيحا ، هم أولئك المثقفون الذين عادوا لاهثين للمشاركة في تنفيذ المشروع الأمريكي ومنهم كما تقول ريم :
(المذيعين عماة القلوب يستفتون الناس حول هدم نصب الشهيد وآخرون ينصحوننا بالتعاون مع قوات التحالف ، وتسليم الأسلحة إلى الأمريكان من أجل حرقها أو ردمها
قلت : أهي تلك الإذاعة التي كانت تبث من خيمة في حديقة الأمة ؟ سمعت بها .               – لا .. تلك إذاعة أخرى ، ولكنها الإذاعات التي بدأت تبث أثناء الحرب أمريكية ومذيعوها يلفظون القاف كافا .. وقالوا إن (التاكة) الكهربائية ستعود بعد عشرة أيام – ص 111 ) .  
# المكان وتعبيراته الرمزيّة :
—————————
لكن توظيف الدلالات المكانية يصل ذروته في إحكام التعبير الرمزي والتأثيث السردي من خلال ( الغرفة المتروكة ) ، التي لم تفتحها فادية منذ أن استأجرت البيت ، وهي الغرفة التي حاول الأمريكي أن يفتحها فاستعصى عليه بابها الثقيل . إنها غرفة ياسر القديمة . كانت تحتوي على عناصر الحياة الرخيّة : بيانو أبنوسي اللون مغطى بشرشف وردي فاتح اللون ( مواز للون حلم العنوان ) موشّى بحافات مرقشة بتطريز الأتمين الجميل . وفي الزاوية حوض للأسماك مهمل سيعيدون إليه الحياة .الآن ترتسم ملامح جانب من الحلم الوردي الفاتح اللون عندما يقترب ياسر من ( بيانوه ) ويبدأ بالعزف ، فتتململ الأرواح المختنقة وتخفق القلوب الجافلة بفعل التهديد والخراب الذي طال كل شيء . يرتفع صوت الموسيقى فيذيب جليد القلق والشعور بالوحدة ، وتشيع توحدا صوفيا بين العبد الجريح والكون وخالقه ، ويصبح طعم الحياة بطعم حلم وردي فاتح اللون وياسر يمرّر أصابعه النظيفة والمقصوصة الأظافر كما يليق بمن يقرب الصلاة خمس مرات باليوم :                                        
( كان يقتطف من ذلك العزف وجها آخر غير الذي دخل به إلى المنزل ،وغير الذي وقف به على السلم ، وغير أي وجه رأيته عليه في ثلاثة أيام . كان عاشقا بامتياز وتلك معشوقته التي طال غيابها عنه .. والآن يعانقها فتنطق تحت إصبعه بالغزل ، غناؤها ما هو إلا نغمة جرس تنطلق من هذا المكان الخفي من الكون لتتناغم مع غناء العصافير وصياح الديكة وتفتح الورود . إن هذه النغمة لتنسجم الآن مع كل نغمات الكائنات الحيّة للماء والهواء والشجر .. مع أشعة الشمس في الصحارى والغابات والحقول .. ومع هذا الكون الذي إن أحببته الآن فهذا شيء عظيم ، وإن أحببت خالقه فهذا هو الشيء الأعظم – ص 92 ) .
هذه الغرفة هي الغرفة – الكنز التي علينا أن نسارع في اكتشافها فورا .. فهي موجودة في داخل كل منا .. وهي التي يريد القتلة كسر أبوابها الثقيلة وحرق محتوياتها … إنها الغرفة / الحلم .. حلم الفرد والجماعة .. حلم فادية وياسر وختام .. وميسلون والناقد والقرّاء .. الحلم الوردي الفاتح اللون الذي لا يعوض ولا يقدر بثمن .. والأحلام هي اختصاص ميسلون في السردية العراقية والعربية بلا منازع منذ أول قصة قصيرة لها وحتى هذه الرواية .. وقد عادت إلى التقنية الحلمية بعد انقطاع نصّي قصير أعقب الإحتلال في وقفة منذهلة لا تنفصل عن حالة الذهول العامة التي لفّت شعبها بأكمله ، وهذا ما قرأته فادية ” لنا ” من صحيفة يومية اختلت بها بعد العشاء :
( بعد التاسع من نيسان ، غطّت بغداد في سكون عجيب ، ولم يصدر عن الناس ، وهم العراقيون ، أي ردّة فعل سريعة عبر هذا السكون .. كانت أياما تشبه في سكونها أيام العطل والإحصاءات السكانية والجمع الشتائية الباردة .. لا أحد يأتي .. ولا شيء يحدث .. ولا حكومة تعمل ، ولا قانون يُخشى منه .. ولا شيء على الإطلاق .. صحيح أن الفرهود كان جاريا على قدم وساق ، والمتحف العراقي كان يُنهب من اللصوص والرعاع ، إلا أن قلوب الملايين من الشرفاء كانت تبكي بصمت وتنزف بصمت . ودعا رجال الدين الناس إلى التروي والإنتظار وعدم اللجوء إلى العنف أو السلاح . وشهدنا ترويا عراقيا غير مسبوق ، بل بالغ العراقيون في التروي والإنتظار – ص 115 ) .
وفي ظل مرحلة الذهول العام الناجمة عن الصدمة الوطنية الرهيبة وإنشلال الروح المفجوعة من الطبيعي أن لا تكون ثمة فسحة للحلم أبدا . آنذاك صار الحلم من الحاجات الكمالية للنفس البشرية ، أما الآن وقد تطاولت المحنة ومزّق العراق شرّ ممزق وحوصر الإنسان هنا حتى الموت ، فقد عاد الحلم ليشكل حاجة إنسانية ملحة .. صار مخرجا من هذا الإختناق المميت .. صرنا بحاجة إلى أن نحلم بما ضاع من مسرات وهناءات .. وبما يمكن أن يحل محل مصيدة الخراب هذه التي نصبها لنا الأمريكان قتلة أحلام الشعوب .. صرنا بحاجة إلى حديقة أحلام كاملة تخضرّ في نفوسنا القاحلة .. وقد أدركت هذه الإختصاصية المحترفة دقة هذه الحاجة .. فعادت لتقدم لنا حديقة أحلام وردية فاتحة اللون ..


المزيد على دنيا الوطن .. http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2014/09/26/343046.html#ixzz3EVTu034S

ميسلون هادي حلم وردي الجزء 4 بقلم: د. حسين سرمك حسن

تاريخ النشر : 2014-09-30

مشروع تحليل خمسين رواية عربية نسوية : رواية (حلم وردي فاتح اللون) للروائية (ميسلون هادي) (4)
————————————– 
                   حسين سرمك حسن 
                    بغداد المحروسة 
ملاحظة : انتهيت من كتابة هذه الدراسة يوم 2/آب/2010
# موقف صوفي :
—————-
وبعد الموقف الصوفي الذي عاشته فادية في غرفة الحياة المنسية حيث تكشّفت الملامح الحقيقية لوجه الحياة الضامر ، وحيث أيقظت الموسيقى قوى الحياة والحب المتماوتة وبعثتها من سباتها القسري ، تذهب إلى الكلية فتلقي محاضرة مغايرة لموضوع المحاضرة المحدّد رسميا . هذا ما يفعله الحب ( يا ناس حبّوا كما يقول طالب القره غولي في مارش المحبة الذي يغنيه ياس خضر وكتبه زهير الدجيلي ) إننا نقف هنا أمام مداورة ماكرة تشي بالكثير عن الكيفية التي تصمم بها التحولات النفسية العميقة للفرد (نصّه) المكتوب أو (خطابه) الشفاهي المتمثل في محاضرة الأستاذة فادية التي ألقتها على طلبتها بصورة مغايرة فجاءت تتحدث بدلا عن خصائص الأعشاب وفوائدها الطبية عن الإنجذابات – وقد انجذبت لياسر بعنف بعد طول حرمان – المغناطيسية والكهربائية وموجات الكهرباء التي تؤثر في الجسم وتوجه (جزيئاته) : 
( كنت أريد أن أخبرهم كيف يتساوق كلّ ما في الكون مع بعضه البعض ويتناغم بشكل جميل ، ثم عدت أحدثهم عن عشبة الآس … وهي شجيرة دائمة الخضرة لها أوراق لامعة خضراء وأزهار بيضاء عطرة ..- ص 94و95) . 
وفادية شخصية متخيّلة لم تستطع الإنفصال لا عن احتدام مكنوناتها الداخلية العاصفة ولا عن (نصّها) المتخيّل أيضا والذي خرجت فيه عن ( النص ) الأصلي المرسوم ، فكيف نسمح للأخ ( رولاند بارت ) أن يميت المؤلفة الفعلية والنابضة بالحياة التي خلقتها ؟! .                                                                             
# رفض تسليع الجسد الأنثوي :
——————————-
وقد حوّلت الكثير من الكاتبات العربيات والأجنبيات الأدب ” النسوي ” إلى أدب مكشوف يتم تسليع الجسد الأنثوي في رواياتهن وعرضه بلا وظيقة سردية تخدم تطوّر الحدث أو تسهم في تشخيص الصراعات الأساسية ، وهن يعززن بذلك النظرة الذكورية التسليعية للجسد الأنثوي ، وقد بلغ ببعضهن الإفراط حدّ تعهير الجسد . وقد يكون هذا في جانب منه مظهرا لموقف عصابي ثأري تستعري فيه الأنثى المعصوبة أمام عيني الذكر القامع . وفي كل إبداع ميسلون ، قصصا وروائيا ، لن تجد أي حديث عن الجنس والإنهمام بجسد المرأة على الإطلاق ، لأن ذلك مرتبط برؤيا إلى دور الأنثى في أعمالها ، دور مهيمن على الحياة وملتحم بها ومعبر عنها بانشغالاتها الكبرى في صراع الموت مع الحياة . وفي معالجة القضايا الوجودية الكبرى يُصبح الإنشغال بغرائز الجسد والإشباع الجنسي أمرا مفسدا لـ ” جدّية ” السرد . لكن علينا أن نفرق بين الجنس المبتذل والعواطف الإنسانية الملتهبة التي تعقد أواصرها بين رجال ونساء رواياتها . دائما تأتي هذه العواطف بصورة حييّة آسرة تحقق الإثارة الهادئة التي تناسب شخصيات شخوصها وخلفياتهم الاجتماعية وطبيعتهم الأخلاقية . مازالت ميسلون ساموراي رومانسي عراقي أخير من جماعة ” حلو وكذَاب .. ليه صدقتك ” – ولاحظ الإشتقاق العالي الشحنة في عنوان قصتها القصيرة ” أبيض كذّاب ” – .. من جماعة العيون التي تخاطب وتوصل لهيب القلب ، والأيدي الخجولة المرتبكة ، والوجنات التي تشتعل خفرا في حضور الحبيب .. يقترب ياسر من فادية وهما لوحدهما في مطبخ البيت فتحس بوجوده الغامر المربك فلا تعلم لماذا تهرب إلى الطبّاخ وتضع ماء على النار ؟! لقد تكهرب الهواء الذي يسري بينهما وبدأت المشاعر تفور كالماء المغلي :
( هذا الولد الذي قالت عنه ختام إنه جميل الخلقة جميل الكلام أيضا . وأنا في وحدتي لا أريد أن أقع في وهم الكلام الجميل مع مطارد مطلوب سيعتقله الأمريكان في أية لحظة …. وثمة سحر أحاطني به هذا الرجل في اقترابه مني .. والماء يغلي ويفور .. وأنا أخاف أن أنظر إليه مرة أخرى لئلا يفترسني بسحره – ص 86 ) .. وفي موقف ملتهب آخر – ملتهب بالمعاني الروحية لا الحسّية طبعا – تقول فادية :
( ترك المضخة وراح ينظر إلي .. كان يصطاد كرجل كهف ، حمامة أليفة وهو الآن في اللحظات الأخيرة من الإمساك بها ، وعليه الاقتراب منها بحذر … جاءت ريم في الوقت المناسب .. كانت تحول بيني وبينه لأنه كان ينظر إلي ويبتسم ، ويوشك أن يحسم الأمر – ص 109 ) . 
ثم تأتي النفحة الرومانسية ” المراهقة ” التي تنعش أرواحنا في اللقاء الأخير بين ياسر وفادية قبل أن يلقى القبض على الأول ويرمى في زنزانات سجن بروكر . لنقرأ هذه النفحة الباذخة بعواطفها المرتجفة ( أعظم أشكال الجمال هو الجمال المذعور ، وأروع اشكال الحب الحب المهدّد بالفقدان ) .. لنقرأها ونتنسم أريجها قبل أن يُفسدها الناقد :  
( .. تملّكني الصمت مرة أخرى ، فتحسّر ثم رفع يدي وفتحها وفرش راحتها أمامه ثم وضع فيها ورقة مطوية وقال :
– الليلة الماضية لم أنم .. كتبت لك أشياء كثيرة خطرت في بالي .                               ثم ضمّ يدي على الورقة فأصبحت الورقة داخل يدي ويدي داخل يديه ، ويداه داخل عيوني التي لم أجرؤ على رفعها إلى عينيه قط .
– لولا أن قص الشعر فأل سيّء لطلبت منك أن تعطيني خصلة من شعرك . وأحسست بيده تدفع شعري إلى الخلف ، ثم سمعته يقول وهو ينظر إلى وجهي بحبور :
– أنظري إلي ..
وعندما نظرت إليه قال :
– من يدري ؟ قد لا نلتقي بعد اليوم .. أريد أن أرى لون عينيك .. سأدقق النظر فيهما جيدا لأتذكر لونهما الأخضر على الدوام – ص 125 ) .. 
وحتى لون عيني فادية من نتاجات الطبيعة المحبّبة .. يتحدث الشعراء عن حدائق العيون الخضراء! . وبهؤلاء الحالمين تنتصر الحياة ، والمصيبة أنهم هم الذين يكونون مادة الحرائق التي يشعلها السياسيون ! .. لكنهم شعراء .. وخاطيء من يظن أننا نحيا بالسياسة ولا حتى بالعلم .. بالسياسة والعلم نعيش .. ولكن بالفن والحلم نحيا .. وشتان بين العيش والحياة .   
# مع ياسر .. الخلطة العراقية العجيبة : 
————————————
( كان أستاذي أمريكيا ، وكنت أحبه جدا . ولكن بعد الحرب كان يقدم حفلاتنا بتقدير خاص ويهديها إلى أطفال العراق ، فكنت أكره نفسي أن أعزف وبلدي يحترق – ص 104 ) ثم يستدرك فورا ويسأل فادية : 
( هل تعتقدين أن هذه طريقة مثلى لاحترام البشر ؟ .. أن نقتلهم ثم نعزف من أجلهم ؟ – ص 104 ) . 
وهذا أربك ياسر بدرجة أكبر وجعله يعود إلى وطنه ليجد نفس الشيطان وقد أحرقه وجعله غير صالح للموسيقى عاد ليجد نفسه وحيدا في الموصل ولم يجد غير الجامع ملاذا ليواجه الصدمة الرهيبة الثانية في نوع من المفارقة الموجعة ، فقد تدين في الغرب وكان يدخل أي جامع بلا اعتراض في بلد ليس اسلاميا ، ثم ها هو يطرد من الجامع ويُطارد في بلد اسلامي . وتشتعل المفارقة بدرجة أكبر حين تتداعى الذاكرة من الراهن المأساوي إلى الماضي السعيد الذي كان يعيشه في هذا البيت ، بيت جده الذي استأجرته فادية الآن ، حيث تواءمت السجادة والمكتبة والآلة الموسيقية ، يترافق الدين مع الحياة ، وفروض الرحمن مع متطلبات نفس الإنسان .. كان جدّه قوميا وأبوه شيوعيا وهاهو إسلامي النزعة .. خلطة عجيبة كانت تشهدها البيوت العراقية سابقا .. وميسلون بهذا التسلسل تكشف البنى السياسية التي حكمت الحياة العراقية . والمخبأ السري الذي يختبيء فيه ياسر عندما يقتحم الجنود الأمريكان الغزاة البيت للتفتيش هو مخبأ كان الجد القومي الناصري قد أنشأه ليختبيء فيه أيام حكم البعثيين في العراق .. وبعد أن ألقي القبض عليه وأمضى عدة سنوات في قصر النهاية .. صار مخزنا لكتب الأب – أبو ياسر – الشيوعية ..وها هو يصبح مخبأ للإبن ياسر من الأمريكان . هكذا هو العراق بأكمله ، مخبأ سري لكل المتناقضات السياسية.. بل حتى الحياتية . وإذا كان الحفيد قد ورث المخبأ السري عن أبيه عن جدّه فإنه (يرث) مصير جدّه نفسه عندما يكرّر الزمان نفسه ويُفاجأ مثل جدّه تماما ، بالحرس عند الباب وهو يعمل بجد بين ورود الحديقة – لاحظ حضور الحديقة -، ولم تشفع له هويته المزوّرة وهو في بيت جدّه المعروف في المنطقة . وليس أبلغ من حديث ختام لفادية وهي تستعيد تفاصيل المكان في بغداد وحوادث أزمانها التي جعلت نفس العراقي تتوجس قلقا من الفرح لأن أي مسرّة تلحقها غمّة تجهضها .. كانت بغداد تُحَب …. و :                                                  
# كانت بغداد تُحَب : 
——————- 
يقول (كاندلر) : 
(بالرغم من كلّ الدمار الذي حلّ ببغداد ، فإن انطباعاتي عن هذه المدينة هي صورة لجمال حزين . إن على هؤلاء الذين ينكرون سحر هذه المدينة أن يقفوا على النهر من جهة الشمال وقت الغروب ليشاهدوا الامتداد الرشيق لجبهة النهر حيث تصطف المساجد والمنارات ذات الآجرّ الأزرق لتمسك بخيوط الشمس المائلة . إن انعكاسات الضوء الآتي من جهة الشرق تجعل ألوان الأمواج من الجهة اليسرى من النهر تتبدد تدريجيا من البرتقالي إلى لون قاتم متقد ، في حين يرسم النخيل في الجهة الغربية صورة ظلّية بمواجهة سماء صافية ذات لون رمادي داكن)  ….. وكانت بغداد تُحَب ، حتى أن ختام ، ومن شدة تعلقها بشارع الرشيد ومسيرها المتكرر فيه تفاجيء فادية بأنها تعرف عدد (الدنگ) فيه .. فهي ألف ومئتان وأربع دنگات !!.. كانت بغداد :
( مبنية بتمر فلّش وأكل خستاوي ) كما يقول الملا عبود الكرخي .. حتى في الثمانينات حيث البلاوي والحروب واللافتات السود تتسلق البيوت كما تقول ختام كانت أمانة بغداد تُصدر تعليمات صارمة تلزم البيوت بزرع نخلة وشجرة زيتون في كلّ حديقة من حدائقها الغنّاء ، ومنذ ذلك الوقت تشكل هاتان الشجرتان علامتين من العلامات الفارقة في بيوت العراقيين – ص141) . 
كانت الحديقة علامة على بقاء الحياة رغم الموت .. كانت تُعلم الناس جوهر الحياة .. تحتضنهم وتلطّف مخاوفهم فهي من تمظهرات الرحم الأمومي مستقر الهناءة الفردوسية الأولى : 
( الحديقة مسالمة .. هي المكان الوحيد الذي لا نشعر فيه بالخطر .. ولأنها لا يمكن أن تتهددك أو تتربص بك – ص 108 ) . 
هكذا تقول فادية لياسر ، ولكن حين يقول لها أن النباتات لا تتربص لأن لا حيلة لها تنتقل إلى عرض جوانب من حكمة سلوك النباتات ، وعبر تفاعلات شبكة علاقاتها الاجتماعية . فالنباتات – وفادية أستاذة في كلية الزراعة كما قلنا – تتفاهم فيما بينها ، وتحكمها علاقات اجتماعية معقدة يحكمها الإيثار ، فالنبتة تميّز النبتة المجاورة لها وحين تعرف أنها من فصيلتها تعاملها بكثير من الإيثار . ومن سلوك الإثرة النباتي المعلّم تأتي النقلة الهائلة حين يسأل ياسر فادية ضاحكا :
– هل يوجد في النباتات سُنة وشيعة أيضا ؟ – ص 108 ) .. 
فتنتقل به عبر جواب توروي مثقل بالدلالات المعبرة التي تتيح لنا فسحة واسعة من التأويلات والاستثمارات الحكيمة : – كلّا . هذا من صنع البشر ، ولكن أتعلم أن بعض النباتات تقوم بإرسال نداء استغاثة من الأوراق إلى الجذور لدى تعرضها للهجوم من بكتريا ضارة فتفرز الجذور مادة حامضية لحمايتها .. تعجب من ذلك ثم قال :                               
– ما أحوجنا إلى نداء الاستغاثة هذا – ص 108 و109 ) . 
# الفسح السرديّة التأمّلية :
———————–
وقد قلت كثيرا أن ما أسميه ” الفسح السردية التأملية ” تشكّل جزءا أساسيا من روح العمل الروائي . هذه وقفات بين الوقائع يتأمل فيها الكاتب المعاني الوجودية والكونية – وحتى المعرفية – العميقة ، ويغوص في طبقاتها المظلمة ، ليمسك بدلالاتها المحيّرة ، ويفتح أمام بصيرتنا – لا بصرنا – كوى لإطلالة موجعة على تساؤلات الوجود المربكة . هذه الفسح أربكت الكثيرين من الروائيين الذين كانوا يقدمونها في صورة توجيهية وعظية فتفقد بلاغتها النفسية إذا جاز التعبير . مثل هذه الفسح برع بها مثلا : دستويفسكي في عمليه العظيمين : الجريمة والعقاب والأخوة كارامازوف ، وفلوبير في مدام بوفاري وستندال في الأحمر والأسود .. وفؤاد التكرلي في خاتم الرمل والمسرات والأوجاع وسهيل سامي نادر في ( التل ) . تأتي هذه الفسح متناغمة مع سياق تسلسل الحوادث العام ؛ هادئة وعفوية وغير مقحمة . يثيرها موقف سابق قد يكون واهي الصلة بها في الظاهر،لتستفز في نفوسنا مصادر القلق التي كبتناها طويلا فتوسّع أفق الرؤية والرؤيا . فبعد أن تستذكر فادية الكيفية التي استأجرت بها هذا البيت ومصير صاحبه الضابط في الحرس الملكي الذي عاصر العهود البائدة في العراق ( وما أكثرها ؟! ) ومات ميتة هنيئة هادئة على سجادته وهو يصلي ، والسنوات التي قضتها تعمل في الجبل الأخضر في ليبيا .. تجلس لتقلّب كتبها القديمة وتتأمل حركة عجلة الحياة المخادعة لأنها حركة عجلة الموت أصلا : 
( رحت أقلّب كتبي القديمة التي تركتها طيلة سنوات الحصار في بيت أختي .. لأجد فيها أياما وتواريخ وعناوين تعود إلى عشر سنوات خلت ، فأفكر كيف مضت مثل لمح البصر ؟! وكيف ينساب العمر مثل أمكر الثعالب بخفة بين القدمين ، ليسلب منك أثمن وأجمل مقتنياتك ، ويخدعك طوال الوقت بأنك باق في مكانك إلى الأبد ، وأنك لن تبلغ قط العمر الذي كنت ترى الآخرين من أهلك يبلغونه ، فتفزع منه وتحسب أنك ناج منه إلى الأبد ، فإذا بلغته أو اقتنعت مكرها بأنك بلغته فإنه يوهمك بأنه يبدو عليك أصغر سنا دائما وإلى الأبد ! – ص 18 ) . 
وفي وقفة أخرى تتداعى من الجدران الكونكريتية التي نصبها المحتل إلى معاني جدار آخر اختزن في وجدانها هو ( سور سليمان ) الذي يا ما حصّنت به جدّتها البيت وأهل البيت من كل بين ومكروه. ومن معاني سور سليمان .. إلى أصل إسم بغداد .. ثم إلى رأي للروائي ميلان كونديرا عن أساليب ترسيخ أصالة النفس والاقتناع بتفردها … وهكذا ..                             
# للرواية لغتها .. وللشعر لغته : 
——————————- 
ومن وجهة نظر الكثير من النقاد أن الرواية يجب أن تكون لها ” لغتها ” الخاصة بها ، وأن لا يغرقها الكاتب بلغة الشعر واستعاراته وتورياته ، إلا بالحدود التي يفرضها السياق وطبيعة المشهد ومستوى الشخصيات والمناخ النفسي . وميسلون هادي تدرك هذه الحقيقة بقوة لذلك نجدها – في كل قصصها وروايتها – حريصة على أن تكون لغة نصوصها السردية لغة سرد تنقل الوقائع برصانة وحزم أحيانا ولا تميع حدود الوقائع وتخلطها من خلال اللغة الشعرية . وحين تلجأ إلى الأخيرة ، فإنها تأتي على حدّ قول أحد النقاد الغربيين كمنديل أحمر منسدل من جيب جاكيتة بيضاء . تصعد فادية إلى سطح البيت لتتنسم شيئا من هواء الله النقي – كما تقول – وتتخلص من الجو الفاغم داخل البيت وتتأمل ليل بغداد المحزونة :
( كان الليل ، في الخارج ، ينتشر عاريا من الأقراط وقلائد الكهرباء التي انفرط عقدها منذ الحرب ، ولم تعد تزيّن عنقه منذ سنوات – ص 18 ) . 
هنا تأتي اللغة الشعرية لتوغل في تجسيم مأساوية الصورة ، وتخدم تنويعات السرد الروائي لا أن الأخير يصبح في خدمتها .                                                                                           
# عودة إلى ياسر : 
——————
لقد كانت صدمة ياسر الأولى في الولايات المتحدة وقد أُرسل للحصول على شهادة الماجستير في الموسيقى هو أنه أُسكن في غرفة واحدة مع طالب شاذ جنسيا .. وإذا أراد ترك الشقة عليه دفع غرامة لأنه لم يحسن اختيار شريكه والمجتمع هناك ليس متفرغا لهذه “الكماليات السلوكية” بالنسبة للمسلمين ، وينبغي أن يؤدبه ! إلتبس عليه تعريف معنى الشخص الصحيح .. ثم التبس عليه تحديد معنى الأخلاق .. ثم الأدب.. ثم القانون.. وأخيرا اختلاط معنى الشرف الذي تعود عليه في الموصل : (تركت الشقة إلى شقة مشتركة أخرى ، بعد أن عثرت على البديل الذي سيوفر علي دفع الغرامة ، ليس لأنه لا يبالي بالإقامة مع الشخص الصحيح أو غير الصحيح ، بل لأن تعريفه للشخص الصحيح مختلف على ما يبدو عن تعريفي . فعندما أخبرته بالسبب هزّ رأسه بحياد وقال إنه لا يهتم ، كما أنه يكره الحكم على الآخرين . وتعلمت درسي الأول في الغرب ، إن الحكم على الآخرين شيء غير أخلاقي وغير مقبول ، سألتهم بهدوء يقترب من المكر إن كان هذا مخالفا للقانون ؟ قالوا : لا ليس مخالفا للقانون ، ولكنه مخالف للأدب ، فكان علي أن أجد تعريفا آخر قريبا من تعريف الشرف الذي التبس علي معناه – ص 129و130 ) . 
والمفارقة الأكثر طرافة وتدميرا هي أن ياسر شاهد رفيق الغرفة الشاذ وهو يساهم ضمن حملة تدعو إلى رفع الآذان في الجامع بصوت عال . صورة متراكبة ولا تصدق من امتزاج أوامر الرحمن بشهوات الشيطان .. أمام ناظري ياسر الذي اعتاد على صورة ( نظيفة ) رسمتها ريشة الرحمن . ثم جاءت التجربة الثانية الصاعقة حين أحب ياسر الفتاة اللبنانية الأمريكية ( جوزيل ) التي طلب لها قدحا من الكوكا كولا فرفضت لأنها تقاطع هذا المشروب المساند للصهاينة .. فتعلق بها بعنف ليفاجأ لاحقا بها وهي ترتدي ملابس فاضحة وتتشمس في الحديقة :
( فوقعت في المأزق الأخلاقي مرة أخرى .. فهل أحكم عليها من جسمها المكشوف الذي لا يلتفت إليه أحد هنا .. أم أنظر إليها بحكم موقفها الجميل الذي أحرج جميع العرب الموجودين عندما كانت الوحيدة التي رفضت تناول الكوكا كولا ؟ – ص131و132 ) . 
صراع يتقلب على جمره بين (الشكل) المتحضّر / القشرة ، والمضمون الباطن الذي يستقر فيه البدوي العبوس بثبات



المزيد على دنيا الوطن .. http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2014/09/30/343503.html#ixzz3Esg7Ss9d

يسلون هادي 5 حلم وردي بقلم: د. حسين سرمك حسن

تاريخ النشر : 2014-10-02

مشروع تحليل خمسين رواية عربية نسوية : رواية (حلم وردي فاتح اللون) للروائية (ميسلون هادي) الجزء 5
———————————
                  د. حسين سرمك حسن
                    بغداد المحروسة
ملاحظة : انتهيت من كتابة هذه الدراسة يوم 2/آب/2010
# ختام .. الخراب العراقي مُشخصناً :
———————————– 
ولا يمكن تقديم قراءة نقدية شافية لهذه الرواية من دون التوقّف عند شخصية ( ختام ) التي هي من النماذج التي تشخصن مسيرة الخراب وأبعاده وتجلياته وسبل تلقيه والإحاطة بأذرعه الأخطبوطية من خلال سلوكها المتصدّع ، ووعيها المأزوم ، واللذين يأتيانها في صورة نوبات . وهنا تحيلنا الكاتبة إلى محاكمة  الاشتراطات التي نضعها للحكم على فعل ما بأنه سوي أو لاسوي . فقد كانت ختام تقوم كلّ يوم برمي قطعة من أثاث البيت في الشارع ، وبلا مبالاة ؛ رمت أولا قفص الكناري الفارغ ليلا فخلق دويّا هائلا وهو يصطدم بأسفلت الشارع . كانت فادية ( أو نادية كما كانت ختام تخطيء باسمها ) تتساءل مندهشة من هذا الفعل :
( يا ترى ما بالها ؟ هل فعلت ذلك حزنا على طائرها الذي قالت إنه تركها واختفى فجأة ؟ أم إن الذي كانت تحمله بيدها هو شيء آخر غير قفص الكناري ، وأنا الذي توهمته قفصا ؟ – ص 19 ) .
لقد كان القفص الفارغ صورة موازية لمحنتها حيث “طار” خطيبها إلى المنافي تاركا إياها وحيدة في المنزل الموحش . بعدها قامت برمي الكرسي الخشبي إلى الشارع ، ثم خرجت ونقلته من الوضع المقلوب إلى الوضع الصحيح . بعد أيام رأت فادية دخانا يتصاعد من حديقة بيت ختام وحين اقتربت من باب بيتها شاهدتها تجلس وسط الحديقة قرب دائرة مشتعلة من النار ترمي إلى جوفها الملتهب خرائط وتذاكر طائرات وبطاقات سينما ومسارح .. ومعها صور كبيرة لجيفارا وعبد الكريم قاسم وفرقة الخنافس ، وأشرطة وتذكارات رُسمت عليها حمامات السلام .. وعشرات الرسائل التي كانت طوابعها تحمل صورا لمصطفى جواد والرصافي وأحمد حسن البكر وكمال جنبلاط ويوم الشباب ويوم الشهيد .. وتواريخ لا أول لها ولا آخر أفشت ثلاثين سنة من العراق كانت بالمصادفة هي عمري – ص 38 ) .
وكيف نحكم على سويّة هذا الفعل ؟ أليس من حق ختام أن تحرق آثار أي شيء نفضت يديها من تراب عودته .. سواء أكان حبيبا أو تاريخا أو موعد مسرة أو ذكرى حمامة سلام ، فقد رحل كل شيء بالنسبة لها . وها هي تصفّي ما تبقى من قرائن ودلائل على وجود ما هو غير موجود ،وعلى أمل استعادة ما لن يُستعاد أبدا . وفق هذه الرؤية يكون فعل ختام المتصدع هو عين العقل ولبّه . ورغم ذلك فهي تغسل وتعلق قمصانا رجالية في حديقة بيتها الخلفية !.               
# حوار الشخصيات يناسب مستوياتها الثقافية :
——————————————–
ومن المهم دائما أن يلتفت الكاتب إلى طبيعة مستويات شخصياته الثقافية ومنحدراتها الاجتماعية ، مرتبطة بالحديث الذي يضعه على شفاهها . بعض الكتاب يضع أحاديث ذات مستوى فكري و حتى فلسفي عال على ألسنة شخوص بسطاء لا تتيح لهم ثقافتهم ولا خلفياتهم الاجتماعية ومستوياتهم الطبقية التلفظ بها واستيعابها ( راجع دراستنا عن رواية المفتون للراحل عزيز السيد جاسم لتجد أمثلة كثيرة على ذلك ) . لكن في هذه الرواية جاءت الحوارات مناسبة لخصائص الشخصيات تماما ، بل أن كثيرا منها كان مصوغا باللغة العامية أو بلغة مبسطة كثيرا لكي يأتي الخطاب متسقا مع مرسله . خذ مثلا الحوار الذي دار بين فادية وعمار وهو يزرع الشتلات في حديقة الأولى :
( قلت له بصوت عال فيه شيء من التأنيب :
– هل نسيت أني أعمل في كلية الزراعة ؟ فالمشتل إذن ضروري .. وإذا كان بعيدا ، فما أفعل في العطلة الصيفية سوى المشي ..
توقفت الشتلة بين يديه والأرض وقال :
– عفية عليك ، هم رياضية .. وفلاحة .. وأستاذة ..
… قلت :
– بل قل إني عراقية .. هل تصدق أني مشيت مرة من ساحة النسور في الكرخ إلى معرض بغداد فمتنزه الزوراء فساحة المتحف ، ثم عبرت جسر الإذاعة إلى الرصافة ، وقطعت شارع الرشيد مشيا على الأقدام إلى الشورجة ، ومن هناك ابتعت لأهلي ثلاث لالات ومنقلة ..
أطلت من عيني عمار نظرة كالصيحة من شدة الاستغراب ، ثم قال :
– معقولة ؟؟
قلت له :
– حدث هذا وأكثر في ضربة أمريكا بعد حرب الكويت .. كنت لاأزال طالبة في الكلية ، وبعض الأساتذة جاءوا إلى أبي غريب على البايسكلات ..                                     نظر إلى دراجته الهوائية المركونة قرب الباب ، وقال مبتسما :
– على البايسكلات ؟
– نعم . لعلك كنت في العام الأول من عمرك حينئذ ، ولو سألت أباك أو أحد أقاربك الذين كانوا في الجيش هناك ، لقال لك إنه قد عاد من الكويت مشيا على الأقدام بعد الانسحاب . هكذا نحن ، منذ أن وعينا وفتحنا أعيننا على هذه الدنيا ونحن نركض ونمشي ونزحف على البطون .. في كل يوم إنقلاب .. وفي كل عام حرب ( … ) أسكت يا عمار .. أسكت .. فنحن رأينا أياما أكثر سوادا من الهندس)
 وتظهر قصدية الكاتبة في تصميم الحوار في أنها استخدمت وصف الدراجة الهوائية حين كانت الساردة فادية تتحدث عن دراجة عمار ، أما في الحوار فقد استعملت التسمية التي نتداولها يوميا ( عامية وهي انكليزية أصلا ) وهي : البايسكل . كما أنك ستلاحظ اختلافا بينا بين حديث فادية الأستاذة الجامعية وحديث عمّار الفلاح البسيط ، لأن التبسيط لا يعني الإسفاف وتناسي الفروقات النسبية القائمة حتما في حياتنا الاجتماعية . وقد اعتبر ( جيرار جينيت ) الحوار أو المشهد الحواري واحدا من أربع وسائل يلجأ إليها الكاتب لكسر الرتابة في السرد المتسلسل أو النمطي مع الحذف – ellipses ، والتلخيص ، والوقفة – pause ، وكلّها تهدف – حسب وجهة نظره إلى إبعاد مشاعر الملل عن القاريء وخلق حالة من التشويق لديه ، ولكن حوارات ميسلون تأتي أغلبها والساردة (فادية) طرف فيها بشكل مباشر أو غير مباشر مما يعزّز هيمنة حضورها من ناحية ، وضمن إطار سرد الواقعة المتسلسل من ناحية أخرى . إن لحواراتها وظيفة الإمعان في تعميق الطعنات النفسية التي تخلقها الواقعة المدمّرة التي تتصاعد في مسارها الخطّي . وكلّما تشعب الحوار أوغل في كشف الملامح السوداء والمخيفة لنفس الواقعة .
عندما تأتي أم ياسر هاربة بابنها من الموصل إلى بيتهم الذي استأجرته (فادية) في بغداد ويدخلان على الأخيرة بشكل مفاجيء تبدأ حوارات تعريفية تتكشف من خلالها مفاجآت متتالية عن الأزمة المهلكة التي يعيشانها وكيف أنهما يريدان الإختباء في البيت لأن ولدها ياسر تشاجر مع صديقه الذي يعمل مترجما للأمريكان وأن الأخير بلّغ عليه .. و .. إلخ .. يصعدون إلى الغرفتين المقفلتين في الطابق الأعلى بعد أن تخبر (آني) الأم فادية بأن لديها مفتاحيهما . وكل ذلك يحصل ضمن سرد متسلسل تقول فيه فادية :
(… أخرجت من حقيبتها حلقة تضم عدة مفاتيح من جهة وخارطة للعراق ملونة بألوان العلم العراقي من جهة أخرى – ص 62) ، وهذه الملاحظة :
( خارطة العراق الملونة بألوان العلم العراقي والتي تعلق مع مفاتيح البيت ) ، وضمن المناخ السردي المتأزم سيشعل استجابة هائلة وعنيفة في روح القاريء العراقي – وليس الأوربي ، بل حتى العربي – الذي يواجه مخطط تمزيق بلاده وضياع (مفاتيح المستقبل) ، وهي في باطنها حركة سحرية – وفي العقل البشري ساحر مهمل ومتروك يستيقظ في المحن المستعصية – تزاوج بين مفاتيح البيت الشخصي وخارطة البيت الجمعي المهدّدين كليهما لخلق حالة من التحصين المتقابل . فكيف يموت المؤلف ؟ وكيف يُفصل النص عن جسده الاجتماعي ؟ وكيف تنفتح استجابة القاريء على ردود فعل تأويلية لانهائية ؟ . تواصل فادية وصفها المتسلسل (النمطي) لما يجري :
( نظرت إليها تبحث عن المفتاح الصحيح ، وعندما عثرت عليه بلمح البصر كان هو الذي فتح باب الغرفة العلوية الأقرب إلى السطح . قالت لي فور أن دخلت – وهنا سيبدأ حوار “باهت” بإشارات مفروغ منها تثير ملل أي متلقي غير عراقي – ودون أن تترك لي مجالا لتأمل الغرفة : – هذه غرفة نوم … صحيح ؟ – وهل نحتاج إلى براهين كي تعرف فادية أو أي راشد آخر أنها غرفة نوم ؟!  ألقيت نظرة سريعة على غرفة النوم ، وقلت :
– نعم .   
 ثم تحركت قليلا وقالت :
– هذه غرفة نومنا .. أنا وأبيه .. منذ تزوجنا لحد الآن .. أقصد لحين بدأت الحرب وتركنا المنزل .
صمتت قليلا ثم قالت :
– هذا هو السرير .. وهذه منضدة الزينة .. وهذا الكنتور .. صحيح ؟
كان كلامها يبدو غريبا ، فقلت لها بفتور وأنا أكاد أفقد الصبر :
– نعم ، صحيح – ص 62و63 )
# حين يتحدّث الخشب :
———————-
… وفادية المسكينة تردّ عليها بالإيجاب على أسئلة طفلية الطابع .. فالسرير سرير .. والكنتور كنتور .. ولكن هذه الموجودات البائسة والمفروغ منها والتي تحاول الأم تأكيد هويّاتها هي آخر مسانديها في عملية إثبات الهوية ، وآخر رجاء كي توافق فادية على أن يختبيء ابنها في البيت تخلصا من ملاحقة الأمريكان قبل أن يرحل إلى سوريا . في هذا الوضع النفسي الشائك والإرادة المنشلة الحائرة أمام تهديد وحيدها بالموت تتمنى أي أم – عراقية هنا _ أن يتكلم خشب السرير أو الكنتور ويخبر فادية بالحقيقة  . وهؤلاء : السرير والكنتور ومنضدة الزينة رفاق حياة (أني) الزوجية والشاهدون على صدقها وعلى مسرّات حياتها الزوجية الضائعة – وفي الحصار زارني في عيادتي شاب أصيب بالكآبة بعد أن باع باب غرفة نومه .. كان يقول : أشعر أنني انكشفت .. لا أستطيع تقبيل زوجتي .. لقد كان حارسا أمينا !! – . (آني) الأم الهاربة بابنها فلذة كبدها – ويا لفلذة من وصف سخيف كأنها طابوقة ، واسألوا الأم لتخرج لكم مفردة جديدة تصف فيها ابنها في هذه الحالة المرعبة – “تشهّد” السرير والكنتور . ولا أعلم كيف يكون من مهمات الحوار التشويق إلا إذا كان ” يدخل ” على السرد من الخارج ليكسر رتابته ؟! . الحوار لدى ميسلون جزء من نسيج السرد ولتحم به وينبع من الداخل . وفي إطار الحوار أيضا تدرك الكاتبة أن الحوار قد يعني توقف الزمن السردي المنطلق – وهذا أعترض عليه أيضا لأن الحوار هنا خطوة تصاعدية ونقلة تقدمية في مسار السرد – توقّف يتطابق فيه زمن القصة الواقعي أو المتخيل مع زمن الحكاية المكتوب ( أو الزمن الدال على الزمن المدلول كما يقول جيرار جينيت ) ، ولهذا جعلت حواراتها موجزة وقصيرة وبعيدة عن الاستطالات . وفي هذا الإطار أيضا فقد حفلت الرواية بالكثير من المفردات والصياغات العامية المتداولة التي كانت أشد رهافة وتأثيرا في التعبير عن مكنونات شخوص الرواية واحتداماتها بحيث أن استخدام البديل الفصيح سيجهض الوقع النفسي للجملة أو الموقف في أغلب الحالات :
– في آب الّلهاب …. سقط القفص سقطة مدوية مثل ليرات ذهب تخرخش – ص 19 – ..أسكت  يا عمار .. أسكت .. فنحن رأينا أياما أكثر سوادا من الهندس ص -22
– لن أتحرك من مكاني لخاطر الله – ص 105.                                                   
– الدنيا بدأت تبرد بالليل .. عندك شوية نفط ؟ أريد أشعل الصوبة – ص 105                           – وتبرّر ختام عدم التحاقها بخطيبها في الخارج ( سرّتي مقطوعة في هذا المكان – ص 136 ) .
– أو ( ما من مرة مررت فيها بتلك المستشفى ( أي مستشفى اليرموك ) إلا ورأيت سيارات البيكب تشق الصفوف بسرعة الطائرات ، وهي تحمل في أحواضها الخلفية أجساد الجرحى أو جثث القتلى ، مثل لشش الذبائح – ص 54 )
# المقارنة العلاجية بين الماضي والحاضر :
—————————————–
هكذا يجب أن يكون العمل الروائي ، لامباشرا وعفويا وغير قسري . إن أي تقرّب مباشر من الظواهر قد يحيل النص إلى مقالة أو بحث ، في حين أن التقرب الإلتفافي والماكر الذي يعقده الكاتب بين الماضي والحاضر مثلا من خلال الذكريات يكون اشد وقعا في نفس ووعي المتلقي . لقد حوصرت بغداد ومُزّق نسيجها بالجدران الكونكريتية التي ابتكرها بول بريمر الملعون ، ولا يوجد مدخل يكشف فضاعة تأثيرها مثل أن توضع في محلها الملائم من صورة الحكاية الكلّية . إن فادية تستدعي ذكرى أول سيارة قادتها ( برازيلي ) في ذهابها إلى الكلية عبر الطريق الريفي ، وهناك انجرح إطارها ( لاحظ أنسنة الإطار ) فجاء أحد المارة ووضع جسم السيارة على حجارة ضخمة ، وبعد أن أبدل الإطار الجريح بمهارة ، حملت فادية الحجارة وأعادتها إلى مكانها ، وها هي تتساءل :
( تُرى ماذا يمكن أن يقول الآن ؟ كم سيهز رأسه بالعجب إذا ما رأى هذين الجدارين الكونكريتيين الهائلين اللذين يحيطان بالطريق من الجانبين ، ابتداء من ساحة نفق الشرطة حتى كلية الزراعة ؟ – ص 29 ) .
الحياة الراهنة خراب وظلام وقسوة وتمزّق . وتُرسل الكاتبة الإشارات إلى ارتباك الحياة الراهنة سريعة لكنها كافية ومحملة بالدلالات الجارحة . تتحدث عن أحوال النساء الآن فتقول إنهن قد بدأن بوضع الإيشاربات على رؤوسهن ولا يتزين ولا يتجملن .. نسين حتى قراءة سورة الفاتحة على أرواح أهاليهن الراقدين في مقبرة الكرخ . تقول ختام الصابئية أن لديهم عيد للصلح ، فيعلق ياسر : لديكم عيد للصلح وعيدنا أصبح ثلاثة أعياد من شدّة الخلاف . وفي مشهد بالغ التعبير تقترب ريم بسيارتها من بائع الصحف تشاهد فادية كارتونة بين قدميه فتصرخ بريم : الكارتونة .. الكارتونة .. لا تتوقفي .. متخيلة أن الكارتونة ستنفجر ، فأي ارتباطات شرطية مرعبة خلقها الحال الجديد المفزع ؟! . وفي تعبير إشاري سريع عن الصراع الطائفي الذي تم إشعاله تقول :
(لا شيء الآن مختلف في بيوت العراقيين البسيطة ، سوى أنها أصبحت خلوّا من لوحات الأسماء لأنها لم تعد آمنة في زمن تناحر الألقاب -ص123) .
وحتى في تشخيص حالة التدهور الذي كانت تسير إليها البلاد يأتي التصوير موجزا وكافيا من خلال تعبيرين تصف فيهما لحظتين تطوريتين في حياة ياسر :
( جاء إلى الدنيا في اليوم الحلو الذي جاء فيه التلفزيون الملوّن إلى العراق ، ودخل المدرسة في اليوم المرّ الذي دخل العراق فيه الحرب مع إيران ، فبدأت ولم تنته إلا بعد أن امتلأت رؤوس التلاميذ بأغاني القتال وصور القذائف والصواريخ -ص120) .
وتشعل إعادة استخدام الفعل “دخل” لفعلين الفارق بينهما صارخ ، بل مميت ، مفارقة جارحة بين مناسبة جميلة (دخول المدرسة) ، وكارثة مدمّرة (دخول الحرب) في يوم مرّ واحد ، يقابل اليوم الحلو الذي تطابقت فيه المناسبة الفردية (مجيء ياسر إلى الحياة) والمناسبة الجمعية (دخول التلفزيون الملون إلى العراق ) . والكاتبة تستعير المثل الشعبي الذي يصف الحياة بأنها : يوم مرّ ويوم حلو . ولكن هناك مقابلتين أخريين ننشئهما – نحن القرّاء والنقاد – في أذهاننا من خلال حيثيات وتداعيات  أخرى توحي بها التقابلات الوصفية ؛ الأولى هي أن الحرب نشبت مع دخول ياسر إلى المدرسة ولم تنتهي إلا بعد أن سمّمت عقول التلاميذ الصغيرة بنداءات الموت وصوره ، أي أنه لم يسلم من تأثيراتها المشوّهة ، والثانية هي أن آني الأم كانت – وهي ترى الأمهات يفقدن أبناءهن في الجبهات – كانت تغبط نفسها لأن ولدها لايزال طفلا في المدرسة ، لكنه في الواقع لم ينجو من الحرب ، بل – ومهما طالت السنوات – فقد عاد ليقع في أتون حرب أكثر جحيمية وخطورة .. حرب احتلال ودمار وصراع ملتبس ومخيف بين أبناء الوطن الواحد . بل أننا نجد الكاتبة تلخص الواقع المأساوي لقطاع واسع من شباب هذه الأمة الموشكة على الإنقراض ، بل الأمة نفسها في أزمتها المستديمة حين يصف ياسر إنهواس صديقه الطبيب – الذي يعلن أنه غسل يديه من الدين – الفرح بحصوله على الجواز الأمريكي ، هذه الوثيقة السحرية التي إن لم يحصل عليها ياسر فسوف يشبع من الذل والمهانة في المطارات ، ولكنه بكى على كتفي ياسر مثل الطفل الضائع وهو يودعه ويقول له ” دير بالك على نفسك ” ، فيلخص ياسر محنة الإستلاب والاغتراب والتمزق كلها بالقول :
( كان اسمه وياللمفارقة طارق زياد – ص 133 ) .


المزيد على دنيا الوطن ..

http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2014/10/02/343719.html#ixzz3F11kfMl4

مشروع تحليل خمسين رواية عربية نسوية : رواية (حلم وردي فاتح اللون) للروائية (ميسلون هادي) الجزء 6—————————–

تاريخ النشر : 2014-10-07
                   حسين سرمك حسن
                    بغداد المحروسة
ملاحظة : انتهيت من كتابة هذه الدراسة يوم 2/آب/2010
# الرسالة الاجتماعية للمبدع :
—————————-
 وصحيح أن الأدب عموما والرواية خصوصا تُعدّ من مصادر دراسة الشخصية القومية ، لكن من الأمور المفروغ منها هو أنه ليس من مسؤولية الروائي أن يكون مؤرخا ولا محللا اجتماعيا ، كما أنه ليس من واجبات الرواية ، حيث يستطيع أي مؤرخ أن يسجّل الحوادث التاريخية ويعرضها أفضل من أي روائي ، مثلما يستطيع أي عالم اجتماع تحليل الوقائع التي يمر بها المجتمع أفضل من أي روائي أيضا . لكن من مسؤولية الروائي الشهادة الحيّة والتفصيلية على حيوات شخوصه وتحولاتها السلبية والإيجابية ، هذه التحولات التي لا تجري في وسط مفرغ من الأشخاص والمؤسسات والأفكار .إنها تحيا داخل شبكة هائلة من العلاقات وتتعرض لمقادير لا تحصى من مؤثرات مكونات النسيج الاجتماعي الذي يحيط بها . ولكن على الروائي أن ينتبه إلى “وظيفة” أي معلومة تاريخية أو اجتماعية يذكرها ، وظيفة سردية تحفظ السياق الحكائي وتعزز لحمته وتغنيه ، وتكشف محطات ” تاريخية ” و”اجتماعية” تثري حضور الشخصية وتوسّع دائرة أفكارها وتعزّز مصداقيتها . فالمعلومة التي ذكرتها فادية لعمّار عن أن جيل العراقيين من مواليد عام 1947 قد انقرض من الوجود في العراق ، وهم الذين خاضوا الحروب الكونية الثلاث التي عصفت بوطنهم ، جاءت تعليقا من فادية على قول عمّار البسيط والذي يلتقط ظاهرة اجتماعية خطيرة حين قال:
(الآن العجائز قاعدات على قلوبنا، والشباب يموتون بالجملة ) .
والصورة الكلية أحالتني إلى تعريف للحرب قرأته قديما يقول :
( في السلم ، الأبناء يدفنون الآباء ، وفي الحرب الآباء يدفنون الأبناء ) .
وها هي غولة الحرب تبتلع الشباب وتترك العجائز قاعدين على قلب المجتمع . وفي الحوار نفسه تستعيد فادية معلومة معبّرة جدا من سنوات الحصار وتكشف طبيعة السلوك الاجتماعي القائم آنذاك وحدة العوز التي ترتبت عليها مهانة الإنسان العراقي ، والطريقة التي كانت تتعامل بها مؤسسات الدولة مع همومه :   ( – هل تعرف ، إني في العام 1994 الذي وُلدتً أنت فيه ، شاركت في المظاهرات الحاشدة التي قامت في ساحة الحرية بالكرادة ؟
– مظاهرات ؟
– طبعا .. وزعت ( جلود ) منتجاتها الفاخرة على الناس في التسعينات ، فقامت مظاهرة هناك للحصول على الجنط والقماصل .
– مظاهرات من أجل الجنط والقماصل ؟
– ومن أجل الأحذية أيضا … ص 23 ) .  
# وضمن إطار هذا الدور المقدّس تبلغ اللعبة الميسلونية الباهرة درجتها القصوى في تسريب المعاني الوطنية عبر درس تربوي تتكفل به أردية الإبداع المغيبة ، فختام ظهر الآن أنها صابئية ، وهي ابنة شيخ صابئي بدرجة ( الترميذة ) وكان صديقا لجد ياسر .. لاحظ الخلطة العجيبة من جديد ، الخلطة الآمنة التي فجّرها المحتل . قال ياسر لفادية :
( .. جدّي لأبي مسلم من بيت الرسّام ، وجدّي لأمي مسيحي من بيت رسّام ولم أجدهما قد اختلفا في يوم من الأيام ، بل كانت أمي تقول لأبي إن المكتبة اختراع رافديني بحت ، وإن أحد أجدادها هو الذي اكتشف مكتبة آشوربانيبال العظيمة والرقم الطينية لأحداث ملحمة جلجامش في تل قاينجو قرب الموصل ، فيقول لها إن أجداده استماتوا في الدفاع عن سور الموصل وهم يرممونه كلما هدمته مدفعية قوات نادرشاه التي هاجمت الموصل في القرن الثامن عشر ، هل اختلفا ؟ لا أعتقد – ص 134) .
وهذا أيضا ما تؤكده الأم – والكاتبة تحاول بكل الطرق توصيل رسالة درس فسيفساء الحياة العراقية الماضية – حين تقول لفادية :
( أنظري .. أنا مسيحية وأبوه مسلم ، ونحن الإثنين من أهل الموصل ، وحماي متزوج من كردية تعيش في دهوك .. لا أدري كيف انتهينا إلى أن يصبح الدين بيننا مشكلة ؟! – ص 98) .
# ولا تكتفي مكونات هذه الفسيفساء بالتساند من خلال توفير الملجأ والمأوى الحامي ، لكنها تتساند لتهريب الأمل / ياسر . ويأتي الحل – بعد طول عناء موجع عاشته فادية في كيفية تهريب ياسر من البيت،يأتي من الصابئية ختام التي تقترح عليه لبس ملابس (الرستة) .. هنا تتتجلى أبعاد رسالة الكاتبة حين تحكم أناملها الخيميائية القبضة على عنق تراب المعاناة الجسيمة فتحيلها إلى تبر الفن الخاطف للأبصار .. فتجعل الطريق الوحيدة التي يلتجيء إليها ياسر / الأمل ، هو أن يلبس الملابس البيضاء الرائعة للصابئة ليمرق من نقاط السيطرة محتفلا بعيد الماء الصابئي ( المصبتا والإرتماس في ماء دجلة ) حيث يتصافح الجميع بعد أن يضعوا خواتم الياس في خناصر أيديهم اليمنى – ص 117 )  . وللبس الملابس معنى رمزي عميق يتمثل في توحّد الهوية .
# في بيت “فادية” رجل :
———————
وثيمة الرواية ذاتها تتيح لك الإنتقال عفويا للمقارنة بين هذا الواقع المفارق وأي واقع آخر حين يتمظهر إبداعيا ، فقد يقع القاريء في مطب المقارنة بينها وبين رواية ( في بيتنا رجل ) للروائي المصري الراحل ( إحسان عبد القدّوس ) والتي تتحدث أيضا عن بطل فار من ملاحقات الأجهزة الأمنية ويختفي في بيت صديقه وتقع واحدة من بنات البيت في حبّه . هنا تختلف الصورة جذريا . أولا هناك الإطار الكلي للحالة العامة التي هي حالة دموية ومميتة .. إننا في رواية عبد القدوس نقف في حدود البيت الضيقة التي اختفى فيها البطل والتخوّف من أن تخترق البيت مخالب الجهات الإستخبارية التي تبحث عنه ، بعيدا عن تناول التحوّلات الاجتماعية والشخصية والصراعات النفسية الدفينة لدى البطل ، وارتباطها بالمناخ الدموي العام . فتداعيات بطلة في بيتنا رجل هي تداعيات ذاتية مرفّهة عند قياسها بتداعيات فادية بطلة حلم وردي فاتح اللون المدمّرة التي تزيح من طريقها أي قرينة رومانسية أو إشارة مستريحة ، البقاء لجهنم .. فادية لا وقت لديها لتفكر في الحب أو التعلق الغرامي ، لأن الحب يقتضي شرطا أساسيا هو أن لا يقلق كي يترعرع ويتنامى .. والمناخ العام لا يتيح لأي بذرة حب أن تصحو وتنتعش . لنأخذ عينة من عينات دوامة أفكار فادية التي ستبدو تداعيات بطلة عبد القدوس تأملا طريفا بالنسبة لها – طبعا مع فارق سياقي الروايتين السردي ومرحلتيهما التاريخيتين – :
( كيف لي أن أصدق أن أحدا يمكن له أن لا يموت في هذا البلد الذي لم يعد فيه سوى من مات مرة واحدة ومن مات مرتين أو ثلاث مرات ؟ أما من ينتظر فأصبح فراغا كباقي الفراغات التي يتركها الآخرون عندما يغادرون لمختلف الأسباب .. فراغات في البيوت .. فراغات في الوقت .. فراغات في المسافات .. تُسمّى منع تجوال يُفرض على الناس منعا للأذى .. منعا لتصادم أمواج البشر الهائمة على وجوهها ..الجاهزة بأجسامها للأذى ، وعقولها للأذى) .
# ما الذي يحيط بالبيت الذي فيه الرجل ؟
————————————-
تحيط به أشياء لا يمكن أن تصدّق في العالم المعاصر وستُعد أشبه بالنكتة الهيتشكوكية رغم أن هيتشكوك سيعجز عن تصوّر واحدا من أبسط سيناريوهات فلم الرعب الأمريكي الذي أخرجته الولايات المتحدة على أرض العراق . لقد قتل الصيدلي الشاب الذي كانت تشتري فادية منه الدواء بلا سبب … جثة مرمية على ناصية الطريق ومكومة على نفسها .. لم يتقدم منه أحد خوفا من أن يكون القتلة قريبين .. هم يحاسبون من يتعاطف مع ضحيتهم . لكن الأب الذي جاء بعد ساعات احتضنه وبكى .. وليست هذه كل معاني أقصى فنطازيا الغرابة .. غرابة ما بعد الواقع السوريالي الذي يجعل فادية لا تصدق عينيها ولا أذنيها حين حضرت مجلس عزاء الصيدلي المغدور وهي ترى النسوة يهنئن أمه المثكولة على تمكنهم من التقاطه ودفنه بكامل طوله !!. وقد أخبرني صديق بأنه رأى بأمّ عينه أمّهات شبه مبتهجات يحملن ” فلّينات – ice box ” فيها رؤوس أبنائهن فقط !! .. وهنا تأتي الفسحة التأملية التي أشرنا إلى أهميتها الحيوية :
(عندما ذهبت إلى عزائه سمعت بعض النسوة يهنئن أمه على تمكنهم من التقاطه ودفنه بكامل طوله ، ثم هرعن إلى القرآن يخفضن صوته عندما اتصلت أخته المهاجرة من استراليا تبشر أمها بأنها حامل ..فبقيت أقول لنفسي ( حامل وميت حامل وميت حامل وميت ) .. أدهشني أن العقل يعمل حتى في شتاته ، ويا له من تطابق عجيب في أن يكون أقصى ما تتمنى النسوة أن تدركه هو أن يُدفن الإبن في بطن الأرض كما يرقد الجنين في رحم أمه ، كامل الجسم وليس على شكل أشلاء وقطع مبعثرة – ص 42و43 ) .
وفي فيلم ( خيط أحمر رفيع – thin red thread) يقول أحد الجنود في رسالة إلى حبيبته : أشلائي مبعثرة والمشكلة بإهمال !! .
# عودة إلى ختام .. يواجه المحتلين بأضعف خلقه :
———————————————–
وختام هي امرأة أخرى في (بيتها) رجل ، رجل مؤجل أو حاضر لا فرق ، حلم أو حقيقة سيان ، مهدّد أو مسترخ …. يتكشف الفارق في الحركة التبديدية التخفّفية الأخيرة التي تكوّم فيها :
( أربعة كراس خشبية مع منضدة واطئة وضعت فوقها سجادة بحال جيّدة وكومة من الستائر وصوبة علاء الدين وسماور وساعة جدارية من النوع الذي كان موجودا في الكثير من البيوت ، لأن الناس ، كما أخبرتني أمي ، كانوا في السبعينات يشترونها من السوق الحرة بعد عودتهم من رحلات اصطيافهم السنوية التي كانوا يقضونها خارج العراق – ص 48و49 ) .
تحوّل الخسارات المستنزفة الإنسان – أحيانا طبعا وحين يتوفر الحضن النفسي اللازم – إلى كائن جبار ، على حافة بعد فوات الأوان يمكن أن تنبثق صورة مارد من أعماق الإنسان الأعزل .كانت ختام ترمي أغراض البيت – كتقسيط رمزي عن أجزاء وجودها المقطعة – في الليل ،وخلسة ، ولكنها الآن تلقيها في رابعة النهار ومع دويّ الإنفجارات ووصول خنازير الأمريكان المحتلين ، ويدور حوار هائل الدلالات بينها وبين القائد والجنود الأمريكيين . فحين يسألها الجندي الأمريكي هل تسمعه ، تجيبه بأنها لا تريد أن تسمعهم . محاطة بالرشاشات والوجوه الخنزيرية المقزّزة فلا يرف لها جفن ، بل هي تمعن في السخرية من القوة المسلحة التي تحاصرها هي العزلاء ، حيث تجيب على سؤال قائد المجموعة عن محتوى السجادة ، بأنه جثة !! . ينرعب الجنود الأمريكان ويشرعون أسلحتهم ثم لا يجدون شيئا ويسألونها :
(- ما خطبك ؟ لا توجد جثة ..
قالت : – الجثة هي الإسم السري لقصة حياتي – 50 ) ..
والجثة بتعبيراتها العملية والرمزية هي الإسم السرّي لقصة اسمها العراق .
وصاحبة هذه التوريات المتصدّعة تقف برهاوة أمام قائد القوة الأمريكية ، بل ترعبه وترد له الصاع صاعين . إنها تحدث أفراد القوة المرعبة المدججة بالسلاح عن وجود جثث أخرى في البيت فتستفزهم ، وهذا الدرس الذي يجعل إنسانة بسيطة متصدعة تُرهب قوة معادية محتلة من أقوى دولة في العالم هو من أعظم الدروس التي تقدمها ميسلون ضمن إطار الهدف الثاني من الأهداف الستراتيجية للرواية ، فالقائد الأمريكي يسأل ختام العراقية بغضب : ماذا تفعلين هنا ؟ ، فترد عليه بحزم وغضب أشد : هذا بيتي ، أنت الذي ماذا تفعل هنا ؟ . إن الإطمئنان للإرتباط بالرحم الأمومي والثقة بالذات يمكن أن ترعب أقسى الطغاة الغزاة بطشا ، في الوقت الذي انخذل فيه أكثر المتشدقين باسم التراب الطهور ، والمتلاعبين بمصطلحات الغيرة الوطنية . هذه المراهنة على فعل الأناس العراقيين البسطاء ، أناس الحياة اليومية التي تجري بلا صخب موجات نهر السياسة الهادرة التي تتلاعب بالهوية الشخصية لأي شيء فتخادعنا وتتلاعب بتشخيصاتنا . يجوز أننا لو كنا نعلم بوجود مثل هذه الإنسانة – ومن ورائها الكاتبة – لحصل شيء آخر في ما رسم لمصائرنا حتى ولو نسبيا . لكن المشكلة أن مفهوم الوطنية والمواطنة لم يتبلور بوضوح مكين في أعماق وجدان المواطن العراقي حتى الآن ، ومن اليسير أن يتراكم تراب الإعتياد وصدأ الرتابة على أشد الرموز إشراقا في حياتنا . لكن من يفرك الصدأ – تعبير مستقى من حسين مردان – ؟ ويطلق لهيب إشراقات تلك الرموز في حياة الشعوب ؟ إنه المبدع ، ولذلك أشعر أن خطيئة كبرى تقترف بحق الإبداع حين نفصله عن إنسانه المحطم وسياقه الإجتماعي . صحيح أن أي فلاح لن يستطيع فهم أبسط قصيدة للمتنبي ، وأي عامل بسيط لن يدرك مغازي دستويفسكي في الجريمة والعقاب ، لكن إن لم يكن هؤلاء حاضرين في ذهن المبدع فمن أين سيستقي موضوعات إبداعه ؟. لكن ميسلون هادي لا تقدّم درسا في الكيفية التي يعود فيها النص إلى حاضنته الاجتماعية التي صارت مجذومة حداثويا ، بل في كيفية تشكيل مفهوم جديد – كان موجودا لكن علاه الصدأ – للبطولة وللدور الإنقاذي :                                        
( قال القائد الأمريكي قبل أن يدخل : – هل يوجد سلاح داخل البيت ؟
ضحكت : – يبدو أنك لم تسمعني جيدا
وصفّقت ، كمن يطلب الصمت وجلب الإنتباه ، فقال القائد
– لماذا ترمين أغراض البيت في الشارع ؟
قالت بحزم :
– أريد أن أصبغ البيت .. بيتي .
قال :
– وهل من يصبغ البيت يرمي أغراضه إلى الشارع ؟
قالت بحزم وهي تستدير دون أن تدع له مجالا للتدخل :
– نعم . بيتي وأنا حرّة فيه .
كرّر قائد المجموعة سؤاله مرّة أخرى :
– هل يوجد سلاح داخل البيت ؟
قالت :
– لقد سألت هذا السؤال من قبل ، فلماذا تعيده ؟
قال ، وهو يبتسم كمن لا يأخذ كلامها مأخذ الجد ، ومع ذلك هو يتخذ مأخذ الحذر في الدخول :
– حسنا . لأنك لم تردّي ، لندخل أولا .
فدخل الجميع وهم يتباطؤون في مشيهم بشكل غريب ، وقد سارت ختام أمامهم وهي تتحرك بشكل مرح ، كمن يجسد دور الفائز بشيء ثمين بعد نزال صعب – ص51)
وقد نقلت هذا الإقتباس الطويل نسبيا لأهميته التي تتأسس على عاملين : الأول هو لغة الحوار التي يبدو أنها كلما كانت بسيطة كلما لاءمت الجو الإنفعالي المحيط بالحدث . وهنا عبرة مضافة عمّا قلناه عن مغبة الإسراف في شعرنة لغة السرد ، فأي إيغال في تزيين الرداء الشعري لمضمونية الحدث السابق سوف يجهض فعله النفسي العميق ، لأن من عادة اللغة الشعرية أن تلطف وتخفّف حتى لو كانت حادة . أما الثاني فيتمثل في الكيفية التي يلجم فيها التعقّل المفرط إرادة الإنسان المحبَط ، وهذه صلة إجرائية هي مقلوب العلاقة اللغوية السابقة . فالخوف الذي يعزز ميل الفرد إلى أن يتعقل في ردود أفعاله – وهذا المظهر “العقلاني” لانشلال الإرادة الذي اجتاحنا في حرب الاحتلال – سيطوح به إلى سفح المهانة والإنطواء. ورد فعل ختام أمام القوة الأمريكية وضع معادلة أخرى لم نمسك بها عبر هذه السنوات الطويلة لكشف الوجه الذي نظنه حقيقيا ونحن نلاحق الأفعال اليومية لمن يحيطون بنا خصوصا ونحن نواجه معهم طعنات الشدة الفاجعة . كانت فادية تحاول اكتشاف الوجه الكامن – والفاعل أيضا – للأشخاص الذين تتعامل معهم ، خصوصا وهم يستجيبون سوية للمؤثر الجحيمي نفسه . وقد يرتبط هذا بفعل دفاعي إسقاطي – projected يغرّب صراع الداخل ليحيله إلى ثيمة ” معروفة ” في الخارج ، فيبعد جزئيا سهام القلق المنطلقة من الداخل وإلى الداخل لتمزق أحشاء النفس . ويتشرعن هذا الوجه الاسقاطي الباحث من خلال العودة الى المونولوج الداخلي الذي أربكتنا به الروائية في مناجاتها المعاتبة لقلبها الحازم والمؤدب وهو دور لم يعرف عن القلب عادة :
(في رأسي أتكوّن من جديد كلّ مساء نفسا أخرى جديدة ، بعد أن أحاسب الأولى على ذنوبها وأخطائها ، ثم أطويها في خلوة الليل فوق آلاف النفوس التي تنام معي كلّ يوم . . وعندما أستيقظ أحيانا ، من دون التجدد إلى النفس الجديدة التي يرتاح لها العقل جازما بالصحيح من الخاطيء ، يهتف القلب بأنني كاذبة ، لأن الشيء الصحيح سنعرفه في اللحظة نفسها التي نفعل فيها الشيء الصحيح . أقول له : يا قلب ، صدقني هذه المرة أني قد انتظرت طويلا وأنا لا أعرف إن كنت قد فعلت الشيء الصحيح . فيضحك ويقول : إنك سألت هذا السؤال مئة مرة من قبل ، وبعض الصحيح نقوم به دون سؤال ، فدعي جانبا الأسئلة التي يجب أن تبقى بلا جواب – ص 5 ) .
ولعل تكرار مفردة ” الصحيح ” خمس مرّات – على غير عادة الكاتبة – في خمسة أسطر يعكس – ولو جزئيا – الربكة الداخلية التي شوّشت جزالة التعبير الخارجي . وقد يكون هذا هو الجذر النفسي لكل الفعل المجازي للغة ، وحتى – بتطرف قليل – جذر خلقها هي ذاتها ، أي أن البحث عن الذات الشخصية الحقيقية الذي استهلت به الراوية حكايتها ، أُسقط كمحاولة دائبة وعزوم لكشف الوجه الفعلي والحقيقي – كما تعتقده فادية – لكل فرد من المحيطين بها ، الوجه الكامن خلف الوجه “الرسمي” الذي يظهره هذا الفرد وهو يلعب دوره الاجتماعي – وهذا يحيلنا نسبيا إلى الـ persona وهي جذر مصطلح الشخصية – personality وتعني القناع – . ويبدو أن هناك قناعا تحت القناع في دواخل فادية يعيقها عن كشف الوجه الحقيقي لها ، الوجه الذي يعرف خواصه بدقة “قلبها” كناية عن لاشعورها العليم بكل شيء . والوجه “المخفي” الذي تربكنا حركته المراوغة يمكن أن يكون فرديا وجمعيا في الوقت نفسه . متى تنجلي ملامحه ويتجلى بهاؤه ؟ وفي أي موقف ؟ وتحت أية ظروف ؟ . مع ضحكة ختام الشامتة أمام القائد الأمريكي ، يأتي الرد خشنا ولا مهادنا ، بخلاف ضحكة البراءة التي أطلقتها قبل يومين والتي استنتجت منها فادية وجها بريئا آخر مناقضا . هل الوجه المخفي هو مجموعة وجوه ،أقنعة ، نكتشف كلا منها تحت طبقة من التراكمات التي نحفر فيها بعناد لننزل إلى مركز النواة الملتهبة :
( ثم ضحكت ضحكة شامتة بدت لي على النقيض من تلك الضحكة البريئة التي كنت استخرجت منها وجه البراءة قبل يومين . بدا لي أن ما يمكن استخراجه من تلك الضحكة الجريئة ليس وجه الطفولة أو الصبا أو الشباب ، إنما وجه مطلق مكتمل بوضوحه ، ولا يمكن العثور فيه إلا على ملامح وتجاويف ومعان بالغة القوة – ص 50 ) .
هل يمكننا – بالتداعي المنضبط – أن نخطو خطوة واسعة في التأويل فنحيل الوجه الفردي – وجه ختام ورمزية اسمها تعين على ذلك – المطلق والمكتمل الوضوح إلى رمز للوجه الشديد التخفّي لهذه الأرض المهانة والتي استخف بها المحتل ، والأقسى أننا أنفسنا أسهمنا في التغافل عن وجه الرشد الصارم – بل المميت – الذي يتمرأى خلف أستار ضحكة البراءة السطحية . أظن ذلك .


المزيد على دنيا الوطن .. http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2014/10/07/344082.html#ixzz3Ffm0ECqR

مشروع تحليل خمسين رواية عربية نسوية : رواية (حلم وردي فاتح اللون) للروائية (ميسلون هادي) ( الجزء7/ الأخير)

تاريخ النشر : 2014-10-09


—————————————–
                   د. حسين سرمك حسن
                    بغداد المحروسة
ملاحظة : انتهيت من كتابة هذه الدراسة يوم 2/آب/2010
# القصّة القصيرة فن .. والرواية علم :
———————————–
وكنت أقول دائما أن القصة القصيرة فن ، أما الرواية فهي علم . في الرواية حسابات وتخطيط وبناء هندسي ومعمار يُشاد .. وهذا ما تدركه الكاتبة بحذاقة . فالفقرة الإفتتاحية التي تستهل بها الصفحة الأولى من روايتها وهي تحاور قلبها ( في رأسي أتكوّن من جديد كلّ مساء نفسا أخرى جديدة … إلخ ) ، تعود إلى ذكرها من جديد بتمامها على الصفحة (114) . لكنها تكررها الآن وقد تكشفت لدينا معطيات جديدة عن شخصية فادية في أزمة مجيء آني وابنها ياسر ، والعلاقة العاطفية التي بدأت تتأسس بينها وبين ياسر ، ولهذا نجدها تضيف إلى الفقرة السابقة أربعة أسطر جديدة تقول فيها :
( كنت أعرف أن بقائي معهما خطأ وليس سؤالا بلا جواب ، ولكن الأيام يجر بعضها بعضا ، ولا مجال للتفكير بخروجهما مع هذا الحشد الأمريكي المفاجيء الذي تصادف وجوده في المنطقة مع دخولهما البيت- ص 114 ) .
لكن بقاءها مع الأم وابنها رغم أن ختام عرضت عليها أن تخبيء الشاب عندها ، يؤيد ما قرّره القلب ، فهو سؤال بلا جواب ، سؤال جوابه في أعماق اللاشعور ، جواب مختزن ولائب يتحكم بأفعالنا من دون أن ندري يجعلنا لا نعرف هل فعلنا الشيء الصحيح من الخطأ . يقف عقلنا الواعي عاجزا عن الحكم على طبيعة تصرّفنا الذي يأتي كسؤال معلّق بلا إجابة مقنعة . لكن القلب يعرف ما لا يعرفه العقل . إن مصائرنا هي أقدار يكتبها اللاشعور على جبين حيواتنا كما قلنا ، ولذلك فلا عشوائية في السلوك البشري مطلقا .. هناك سلوك غير مفهوم لأن وعينا لا يمسك بأسبابه ، ولكن لاشعورنا يتلمظ فهو يعرف تماما لماذا قمنا بهذا الفعل دون ذاك . ولهذا نبدأ بالتساؤلات المتكررة والمتشابكة المدوّخة التي كلما اشتدت كلما دلّ ذلك على ضغط حفزة مكبوتة عنيفة . مثل هذه التساؤلات هي التي استولت على فادية وهي تحاول فك أسرار القدر الذي رُسم لها في هذا البيت :
( لم يدر بخلدي أن آخر سبعة أيام قضيتها فيه سترسم لي موعدا قدريا كان يتقدم لكي يختارني مادمت أنا التي اخترت هذا البيت منذ البداية .. فهل عندما نختار سنُختار ، وستمضي حياتنا بطريقة أخرى منذ اللحظة التي يتم فيها هذا الاختيار ؟ ولكن هذا لم يحدث معي من قبل ، وكنت دائما أدقق في الاختيار ، فكيف عندما جاء الوقت لأكون في نهار عمري وسيدة مصيري يخطفني القدر بهذا الشكل ، ويملي علي ذلك الاختيار الذي وصل إلى شطره الأخير ، عندما قرر ياسر الفرار عبر النهر وقررت أنا الخروج أيضا إلى غرفة في بيت ختام – ص 122 ) .
وهي هنا تعيدنا إلى تساؤلات القسم الأول الإفتتاحي بنوع من التواتر حيث تساءلت :
( كيف خطر ببالي أن أسكن ذلك البيت ذا الباب العالي ؟ وهل كان هو الذي اختارني عن عمد أم أنا التي اخترته دون قصد ؟ وكم كانت غريبة تلك الأيام التي قضيتها فيه ، عندما حدث أن نظرتُ إليه ونظر إلأي وابتسمنا وحُسم الأمر ؟ – ص 8 ) .
المهم أنها قبل سبع سنوات لم تكن تعرفه ولا يعرفها ، فقد كانت في الجبل الأخضر في ليبيا ، وهو في بوسطن في الولايات المتحدة الأمريكية ، وقبل سبعة أشهر كانت هي في بغداد وهو في الموصل ، وقبل سبعة أيام أسبحا يعيشان في بيت واحد كما تقول ، وتعلن دهشتها من حركة مصائر غريبة تبدو عشوائية مثل هذه . وأقول (تبدو) عشوائية رغم أنها ليست كذلك من جوانب كثيرة قد توسّع فهمنا لعمل (الأقدار) ولو بدرجة بسيطة ، فخلاف ما تقوله فادية من أنها لم تكن تعرف ياسر قبل سبع سنوات ، فها هو ياسر يذّكرها بأنه قد إلتقاها قبل سبع سنوات في منطقة (العبدلي) قبل أن تسافر هي وشقيقته (سارة) إلى ليبيا . لا تهدر الذاكرة البشرية أي قشة من قش الحوادث ، وقد تكون هذه القشة هي المنتظرة التي ستقصم ظهر التلاحق الذي يبدو تصادفيا . لا توجد صدفة في الحياة ، الصدفة هي تقاطع ضرورتين . ولهذا فقد سارت فادية في طريق ضرورة (مكتوبة) على جبين مسيرتها الحياتية وهو أن ترحل إلى ليبيا مع سارة للعمل في ليبيا ، وقد عاشتا سوية سبع سنوات ، ولا شيء لديهن هناك سوى العمل واجترار الذكريات، قهل يُعقل أن سارة لم تحدّث فادية عن عائلتها وخصوصا أخاها ياسر .. عن حياته .. واهتمامه بالموسيقى .. وسفره إلى الولايات المتحدة .. وغيرها من التفصيلات ؟ . وهذه التفصيلات تتناسب مع الخصال النفسية لفادية الساموراي الرومانسي الأخير كما وصفناها . ومثل هذا قد ، وأقول : قد ، حصل لياسر الذي اختزن مشاعره في ذلك اللقاء السريع بفادية – وقد تكون أخته قد حدثته عنها لاحقا – ، وكلاهما قد يكون نسي وجه الآخر ولم يحفظه في أرشيف ذاكرته الواعية ، ولكنها – أي الصورة – انزلقت إلى اللاشعور ، وهناك الصورة لا تفنى ولا تُخلق من العدم – وتبقى تلوب وتضغط وتتحكم بسلوكياتنا . وحين عادت فادية عودة نهائية إلى بغداد من ليبيا وجدت بيتين آمنين للسكن وحدها في أحدهما لأن كل أفراد عائلتها قد رحلوا إلى المنافي ؛ الأول بيت فارغ يقع في زقاق قريب من الشوارع الأربعة ، يتوسل أصحابه بمن يسكن فيه بدون مقابل حفظا له من أذى الآخرين ، وكان هو الأقرب إلى الإختيار المؤكد كما تقول وهو مجاني ، لكنها فضلت الاختيار الثاني وهو بيت جدّ ياسر فمن دلّها عليه ؟ ، سارة التي هاجرت من ليبيا إلى الدنمارك بعد زواجها ؟ وكيف علمت ساره أن فاديه تبحث عن بيت للإيجار ؟ إنهما تتواصلان بفعل العلاقة الحميمة التي من المحتم كانت خيوطها توصل إلى الذكريات العائلية وياسر تحديدا. كانت الصورة الدفينة اللائبة تضغط من وراء ستار – وليس معنى أننا لا نرى مخرج المسرحية أنه غير موجود – . ولماذا عاد ياسر من الولايات المتحدة ؟ هل لأنه شاهد أستاذه يقيم الحفلات الموسيقية ويهديها إلى أطفال العراق وهو يعزف في هذه الحفلات ووطنه يحترق ؟ ممكن . لكن أليس من الأشد إمكانا أن نقول أن البحث عن موضوع الحب المناقض لسلوك ( جوزيل ) ، وتفكيره الدائب بالحضن الأمومي ، الحضن الذي “استعاده” وجاء به مفزوعا من الموصل ليستقر في المخبأ السري في بيت جدّه ، كان عاملا ضاغطا أيضا ؟ . وأن بحثه الدائب والمستتر عن موضوع الحب الأثير جعله يسلك ذاك السلوك ” المدمّر ” للذات ولمشروعه ، ويعود بطريقة ” هروبية ” إلى الموصل ؟ . ومن المستحيل أن نترك التاريخ الفردي للشخص وندرس حياته من خلال التاريخ الجمعي رغم أهميته . ولماذا اختارت فادية بيت جدّ سارة في حين أنها قالت أن البيت الأول كان هو الأقرب إلى الإختيار المؤكد ؟ وقد عادت بعد أن توثقت علاقتها بياسر إلى البيت / الإختيار القديم فوجدته مشغولا بالناس والبيوت من حوله ، مثل كلّ بيوت العراقيين ، لكل بيت طابقان وحديقة تتقدمها قمرية تعرّش فوقها الجهنميات ، أي أنه لا يختلف عن هذا البيت . ولكن مكالمة سارة ( التصادفية ) قد تصادفت مع استشارة من معلمتها الأبدية / الحديقة الأم الحانية : ( نظرت إليه من الخارج فوجدته أكثر جمالا من البيت الأول ، ويقع في جوار هاديء جدا .. يبدو كالقاعة الامتحانية من شدّة الهدوء (حتى أوصافها من أيام التلمذة والشفافية والرومانسيات – الناقد) فامتلأ رأسي بزقزقات العصافير،ونادت فاختة من الأعالي : (كوكوكتي .. وين أختي) فقلت كأنها تناديني ، واخترته على الفور – ص 122 ) .
كلّها ( مصادفات ) بريئة في الظاهر ، لكن التخطيط يجري بصبر وأناة في غرفة اللاشعور المظلمة . هل لوينا عنق الحقائق ؟ ممكن . وهل نبرّر علاقة حب محتدمة خلال سبعة أيام بين طرفين لا يعرف أحدهما الآخر لو لم تتأسس هذه العلاقة على بناء صبور استمر مدة طويلة قد تستمر سبع سنوات توّج بعدها بإخراج المشهد الأخير الذي لا “يُصدّق” ؟ .
وإذا كانت عودة ميسلون إلى الطرق على المشهد الافتتاحي ( في رأسي أتكون من جديد كلّ مساء … ) بأكمله في ما يسمّى بالتواتر – frequency في السرد الروائي والذي يجمع المختصون بعلم السرديّات والنقاد على أنها طريقة لربط المقدمات بالنهائيات بصورة تحافظ على وحدة المسار السردي أمام القاريء ، ولكن هذا لا ينطبق على ميسلون هنا ، فما بدأت به روايتها – القسم (1) – هو في الحقيقة جوهر عملية الانتظار في القسم الأخير منها – القسم (24) . وسنرى الإختلاف الجوهري بعد لحظات . في رجعة أخرى تعود الكاتبة إلى جملة جزئية قد تبدو بسيطة ومبتسرة حيث سبق لها أن قالت وعلى الصفحة السادسة :
( كنت أنظر من نافذة غرفتي العلوية ، بعد أن عدت مبكرة من كلّيتي ، لأشهد هذا النهار الشتائي الذي لا يبدو مختلفا عن أي نهار شتائي آخر إلا لمن تغمره السعادة مثلي الآن ) ،
وضمن عملية التواتر نفسها لتفتتح بها المشهد النهائي على الصفحة (142) ولتغلق دائرة الرحلة الروائية مع ترك باب الانتظار – كالعادة – مشرعا على مصراعيه :
( كنت أنظر من نافذتي العلوية إلى بيت ياسر الذي كان يغرق في نور الشمس تارة ويعتم بالظل تارة أخرى ) .
لم تبرّر لنا سرّ بهجتها ذلك اليوم ، وقطعت بنا – وعبر وقائع شائكة ، بعضها حبس أنفاسنا كما يُقال – شوطا سرديا طويلا لتكشف لنا سرّ سعادتها ، ودافع العهد الذي قطعته على نفسها :
( لن أغادر هذا الشباك حتى ينتهي اليوم إلى مستقر أخير .. لن أغادره حتى إن نعست أو عطشت .. وفي هذا المكان سأتناول غدائي وأشرب شايي ,أراقب أخبار التلفزيون .. لا يهمني من غاب أو حضر ومن فاز أو خسر ..لن أكترث الساعة لغيري من الناس ، وسأظل أنظر من نافذة صغيرة كهذه وأراقب هذا النهار المختلف كيف يطلع على الباب العالي ويسفح نوره الساطع على الحيطان – ص 7 ) .
لا نعلم سبب هذه البهجة الغامرة .. ولا حتى أين يقع غرفتها وهي تشير بعد خطوات من هذا القسم الإفتتتاحي إلى أنها قضت أياما غريبة في البيت ذا الباب العالي ، أي أنها خارجه الآن . ومهمتها الأساسية وهي تعتكف عند شباك غرفتها العلوية هو أن تنشغل :
( بالنظر بعيدا إلى نهاية الشارع لعلّ ضجة أخرى تقوم هناك فتضع حدا لهذا الانتظار الطويل الذي يمطر الأفكار عن قصة حدثت منذ وقت طويل ، لكن خيوطها الأخيرة تتجمع الآن قرب الباب العالي وأمامه ، لتكتب لها نهاية جديدة في نهاية الشارع – ص 8 ) .
وإذا كنت قد قلت أن كتابة القصة القصيرة فن ،وأن كتابة الرواية علم ، فإن ما هناك قاعدة تقابلها على مستوى القراءة وهي أن قراءة القصة القصيرة أشبه بتحضير واجب يومي في درس محبب ، أما قراءة الرواية فهي استعداد مضن لامتحان نهائي ، على القاريء فيه أن يركّز ويستظهر ويدقّق وحتى “ينقد” . على قاريء رواية ميسلون هذه أن لا ينسى القسم الافتتاحي الأول ..لا ينسى سبب فرح فادية ..عودتها السريعة من الكلية التي تدرّس فيها .. إصرارها على الانقطاع عن العالم بأكمله عدا النظر من نافذة غرفتها العلوية إلى نهاية الشارع .. وأن يحتفظ في طيات ذاكرة متألقة بسؤال عما تنظر أن يطل عليها من نهاية الشارع .. وما هي طبيعة الانتظار الطويل الذي سيضع حدّا له ؟ .. هذا ما ستخبرنا به ميسلون في ختام الرواية :                                          فبعد أن يُلقى القبض على ياسر وتُجهض قصة حبه لفادية .. تمضي فادية سنتين في غرفة بالطابق العلوي من بيت ختام منتظرة إياه .. لقد أُسر حبيبها في سجون الغزاة .. وظل إخوتها يتلكؤون في العودة .. وكانت فادية تحلم مرّة بعد مرّة ببستان يابس مملوءة أرضه بالورق الأصفر المتساقط فتقول لها ختام ، إبنة الربيع كما تلقبها :                                             (- هذا همّ .. البستان اليابس همّ .. فلا تهتمي . أن يُعتقل ياسر هنا أفضل من أن يسافر ويتغرب ويضيع هناك – 136 ) .
… ولكن لابدّ أن يكون لكل انتظار خاتمة ..تكسر حلقة دوّامته ..ها هي فادية تقول : ( أما ياسر فإنه اليوم يخرج من السجن بعفو عام .. وآني تخرج ، بين الحين والآخر ، لتضع مزيدا من الياس على الأبواب وتصفّ الكراسي في الحديقة .. ثمة فرقة موسيقية مزهوة في الباب لم تتوقف لحظة واحدة عن عزف موسيقى القرب تلك التي كنا نسمعها في الاحتفالات الرياضية والوطنية .. لا أدري من أين جاءت بها أمه ؟ ولكنها قالت أن خروج ابنها من السجن هو يوم وطني وعيد مجيد – ص 142و143 ) ..
ولا تستطيع الكاتبة – وهي تنتظر وصول ياسر إلى البيت – ونحن على بعد صفحة واحدة من نهاية الرواية أن تنسى تقديم الدرس التربوي الأخير من الحديقة الحكيمة .. والعظة من نحلة رقيقة الآن :
( الشمس الساطعة في السماء توحي بجو دافيء رغم البرد الشديد ، وثمة نباتات صغيرة أمالت رؤوسها حيث يتدفق النور وكأنها خير من يدرك السعادة . نحلة صغيرة بنّية اللون كانت تحلّق فوقها بهدوء فتبدو طافية في الهواء من شدّة النحول . إنها إن نظرت إلي الآن لن أعرف ، وإن تنبأت بمكان وردة أخرى لن أعرف ، ولكنها تبدو سعيدة وغير مبالية ، وتقول لي بلا لسان إن خير من يدرك السعادة هو من يفتح قلبه للحياة بغريزة النحل وشهادة العسل –ص 144 ) …
الله .. أنظر ما الذي يفعله الحب بالإنسان .. يعيده لاشعورا عاريا كالإنسان البدائي .. يعرف لغة النباتات .. ويتفاهم مع النحلة ويدرك مشاعرها .. الحب ” يؤنسن ” حتى الموجودات الجامدة ويمدّ جسورا خفية بينها وبين الذات العاشقة .. مثل هذه الأرواح الكبيرة المتيمة التي تتحرك بغريزة النحل وشهادة العسل هي الوحيدة القادرة على إشاعة السلام في المجتمع .. حتى الماء بدأ يشرق من الأوعية الكبيرة: ( اليوم البيت بيت مثلما يجب أن يكون البيت الجميل ؛ أطفال وطعام وأزهار وكلام وضحك ولعب وضجيج . اليوم باب مفتوح وجرس لا يكف عن الرنين ، ودراجة فتى الحدائق مركونة بجانبه ، ليس عمّار الذي لم يعد من الديوانية قط ، وقالوا إنه هاجر هو الآخر إلى الدنمارك ، وإنما الحدائقي الجديد الذي يشابهه في العمر واسمه ، ويا للصدفة ، عمّار أيضا – ص 143) .
ولاحظ لعبة الحدائقي واسمه ، يذهب حدائقي فينبع آخر بنفس الدور والإسم .. حياة حديقة الحياة لن تتعطل .. وعجلة نمائها الهادرة تدور .. ضربة الرجل الأمريكي على الباب كانت من الممكن أن تدمّر حياة فادية قبل عامين وهي تبحث عن ياسر .. لكن هذه الضربة جمعتها به :
( تلك الضربة -وهنا فلسفة الموقف المقاوم – أفزعتني وأرعبتني في البداية وجعلتني أندم على ما فعلت ، ولكن هذا لم يمنع من أن تجعلني أشعر بأننا جماعة واحدة أمام هؤلاء الغرباء ، وبأن عليّ أن أحميه من هؤلاء الطارئين . ها هم ، مثل شهر آذار المهذار الذي جاءوا فيه ، يدخلون كالنمور ويخرجون كالحملان –-ص 142).
نعم خبرناه شهر الاحتلالات هذا .. وبعد غيوم محنه السوداء ستشرق أشعة شمس الأمل البيضاء .. هذا ما كانت تفكر فيه فادية وهي تنظر من نافذتها العلوية إلى بيت ياسر :
( وفجأة ، ارتفعت موسيقى القرب تعزف أغنية وطنية قديمة يقول مطلعها ( جنّة جنّة جنّة ) ، وأغمضت عيني من شدة الخوف ، ثم فتحتهما من جديد وأنا أقطع أنفاسي من شدّة السكون .. ورأيته .. رأيت ياسر العائد من سجنه يترجل من سيارة بيضاء تحمل شدّة ورد في مقدمتها .. لست أحلم بالتأكيد ، لأن صوت الزغاريد جلجل بعد قليل ، وهذا هو أمامي ، وأول ما فعله عندما نزل ووقف بالباب هو أن رفع نظره باتجاهي وابتسم لي .. وبعد قليل ستبتسم الدنيا – ص 145) .
وبعد نقلة رائعة وهادئة كالعادة نتأكد أن فادية كانت تحلم .. حلما ورديا فاتح اللون .. فهاهو كل شيء في مكانه .. البيت والصمت والباب والقفل .. وآني الأم تنظر إلى ساعتها اليدوية بين الحين وآخر ، على الأغلب لأنها شاردة الذهن أو لأن الساعة لم تعد تشير إلى شيء .. والغائبون لازالوا في منازل بعيدة منسيين في أيام طويلة تمتد من ماض إلى ماض آخر .. تحت قمر صامت وبعيد .. وآخر رسالة بعثها ياسر من السجن تقول جملة واحدة :
أريد أن أرجع إلى البيت – ص 146 ) .
…….. وحلم العودة إلى البيت العظيم : بغداد ، الحلم الوردي الفاتح اللون ، قد استولى على وجدان ميسلون وعقلها فصمّمت حتى في إهدائها لي على نسخة الرواية  وفق اشتراطاته :
( إلى الناقد حسين سرمك حسن : حلم يراودنا جميعا ، هو أن تغمرنا بغداد بنورها مرة أخرى ) …
حلم العودة إلى البيت هذا هو حلم الحياة كلّها ومفتاح نمائها وديمومتها .. حلم كل العراقيين .. فحافظوا عليه .. وهذه وصية ميسلون هادي .. فتحية كبيرة لها .  
هوامش :
——–
(1)    حلم وردي فاتح اللون – ميسلون هادي – رواية – الطبعة الأولى –  المؤسسة العربية للدراسات والنشر – 2009 .
(2)    راجع دراستنا “تحليل رواية الحفيدة الأمريكية لإنعام كجه جي” والتي نشرت بعدة حلقات في موقع الناقد العراقي عام 2011 .

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

ميسلون هادئ……غزارة الإنتاج وبراعة الأداء.

ميسلون هادئ……غزارة الإنتاج وبراعة الأداءمن الأحداث الفارقة والمائزة في حياتي،هو اللقاء بالروائية المبدعة ميسلون هادي، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *