إنوثة
الحلم إنوثة الكائنات الجليلة
اسماعيل ابراهيم عبد
ما أن يُتِمَّ نظام السرد إتصال فاعله بحوامله حتى تتولد صور مؤدية الى الوقائع , خاصة تلك التي تُرسم بعناية .. أو ” بمخيلة إقناع ومدلولات وجودية ” ([1]) .. وهذا برأينا هو العامل الأول لنظام السرد في رواية , حلم وردي فاتح اللون , للروائية ميسلون هادي .. ما سيتوافق ويتساوق بين الواقع العملي والواقع ” الروائي ” الإفتراضي هو العامل الثاني لنظام السرد .. أسوق هذين العاملين لأنفذ منهما الى محمولات ” الروائية ” الشيئية للموجودات الناقصة والأفعال الحدثية المُرَكِزة لشعاع الفهم الـتأويلي الخاص بالاحلام الانثوية لجميع الكائنات التي جعلتها المرأة جليلة بجلالها .. عند الجمع بين المحمولات ( الصفات ) والمدلولات ( المعاني ) والأفعال ( الحركة ) سنلتقط أول آصرة شيئية في الرواية , تلك هي الأشياء الفقيرة والأشياء المهملة الجليلة , الأشياء الصانعة لمعظم وقائع الرواية .. لنتابع الأمر , أو نخرج منه الى مدركات جديدة , على التدرج الآتي . اولاً : محمولات شيئية الفعائل الأشياء تتحرك بنواقل وفواعل , ويحملها على ذلك فواعل حقيقية ومتصورة . وإذ نتابع المشهد الآتي فسنى الكيفية التي يتوافق بها الفواعل مع المحمولات للتوصل الى ديناميكية ومتعة السرد ” الروائية ” . [ هذا الجرس هو نفسه الذي خمش القلوب المنتظرة بمخلبه القاسي , عندما كان يقرعه قادم وقت الغسق يتبعه خبر مفجع … أراقب عصفورة وحيدة تتأرجح برفق فوق سعفة كبيرة وهي تزقزق بصوت متقطع نسميه غناء … ثمة مسمار معلق على جذع النخلة … الآن يحمل قطعة كبيرة من الخبز … الحمائم البدينة تسير ببطء على الحشيش … لن أغادر هذا الشباك حتى ينتهي اليوم الى مستقر أخير .. لن أغادره حتى إن نعست أو عطشت .. وفي هذا المكان سأتناول غدائي وأشرب شايي وأراقب أخبار التلفزيون ] ([2]) . لنحدد عشرة أشياء دون تمييز بين الأشياء المادية والأشياء الهلامية والأشياء المعنوية .. هذه الأشياء هي / (الجرس , العصفورة , السعفة , الغناء , المسمار , جذع النخلة , الخبز , الحمائم , الشاي , الفتاة الراوية ) .. هنا , للأشياء خمس صفات : كلها أسماء , كلها فقيرة ـ عادية ـ , كلها شبه مهملة ثم أنها لا تقوم بأفعالٍ إلّا بحدود ضيقة .. , جميعها تنذر بحدوث فاجعة .. حتى الفتاة الراوية تنطبق عليها تلك المواصفات … ” هذه الأشياء تنذر , تعد , بفجيعة ” كيف ؟ ـ الجرس : هو أكثر الأشياء خِيفة , مبعث التوجس لدى العوائل جميعاً , خاصة من زوار الليل والفجر , وهو من أكثر الأدوات البيتية مواجهة للوجود من الخارج . كما أنه أول ما أُهمل عند تقلص استعمال الكهرباء … جميع هذه التأويلات سترسم لنفسها طريقاً في الرواية . ـ العصفورة : وجود العصافير موجِّب للإحساس بالفرح , لكنه كثيراً ما يرتبط بالبيوت الفارغة من أهلها , المهجرين أو المتغربين أو المهاجرين , او الذين ماتوا بطريقة الإبادة بالقصف ! , لهذا التأويل أيضاً مساس مباشر بالأحداث الجارية في الرواية .. السعفة : هي رمز الخير والسعة والعطاء بلا مقابل , لكن الأحداث الروائية تتجه الى وضعها في مكانة مثيولوجيا الدفن العراقية القديمة , حيث كانت توابيت الموتى تصنع من سعف النخيل. ـ الغناء : في الرواية هو زقزقة , ترمز للجمال الفطري وبذات الوقت , هو بكاء الفتاة على أيام طفولتها وحياتها الضائعة دونما قدر من الطمأنية والاستقرار والسعادة . ـ المسمار : من استعمالاته , التثقيب والتثبيت والتعليق , لكنه في الرواية جيء ليعطي معنى تعليق الثوم والخبز البائت , الحالات الخاصة بفقراء العراق . ـ جذع النخلة : يدل على التقليد الخاص بالتعليق والتجذير للمصائب . ـ الخبز : يمثل في الرواية , مظهرا للألم الشديد الناتج عن المعيشة الضنكة . ـ الحمائم : جيء بها لتقرير حالتين , الشبع غير السوي , واللاعدالة في المستوى الإقتصادي . الشاي : جيء به لأجل توضيح جدب الحياة كونه السلوى والمتعة الوحيدة لدى النساء والرجال , وشربه الشحيح من مظاهر البطالة . الفتاة الراوية : إسـمها فادية , ستُقدم حياتها , بكل طاقتها , لخدمة الآخـريـن دون نتيجة مهمة . * تلك المؤولات تقول لنا الطريقة التي تضافرت عليها قوى السرد لصنع الفعائل القادمة , أي أن الأشياء برغم محدوديتها وفقرها وكونها مهملة لكنها مهدت للأحداث من خلال الوظائف الآتية / 1ـ أنها أشياء مصاغة لأغراض مرسومة مقدماً . 2ـ أنها موصلات ملائمة للإنفتاح المتصل الرابط بين الأحداث المتوقعة للرواية . 3ـ أن دربة الكاتبة في إستثمار صغائر الموجودات سوغت للأشياء أن تكون فاعلة للتمهيد الحدثي . 4ـ الفتاة التي هي الجزء الأهم المشمول بالإهمال , هي الراوية الأساسية , التي ستلعب بجميع العناصر لأجل خلق متعة السرد . 5 ـ فعائل السرد , بعمومها وخصوصها , تتقوم وتتبادل الفهم بوسيط أوحد هو الأسماء , التي هي الأشياء الحقيقية والمضللة الخالقة لجو وإتجاه الروي . لنعبر من فوق الأشياء هذه الى المشهد الآتي / [ الشارع الصامت الذي لم يكن مزدحماً كما هو الآن , كان هادئاً يغط بالقيلولة …رجل يجلس على كرسي متحرك … صحيفة قديمة كانت موجودة تحت جهاز الهاتف … عام مضى كنت بعيدة عن البيت … أواخر نيسان تتقارب الكواكب الخمسة الكبرى , عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل , في مشهد قد لا يتكرر خلال قرن ] ([3]) . الأشياء , هنا , لها دخول مباشر في تحريك الأفعال فعلى سيبل المثال , الشارع هو الذي يُنيم الناس , والكرسي هو من يحرّك الرجل , نيسان هو الذي يقارب الكواكب … البيت هو الذي يبعد الفتاة عنه بسبب الفراغ الذي كوّنه .. وهكذا . ** النتيجة إذاً , الأشياء العشرة , بمواصفاتها الخمس , ووظائفها الخمس , قد وسّمت ” الروائية ” بمضمونات ـ محمولات ـ تخص السرد , تغطي جمالية القول وبلاغية الوجود الشيئي للأحداث . ثانياً : إنوثة الباراسيكلوجيا لا تتميز الأنثى عن الرجل في قراءة الطالع او التنبوء بالمستقبل او الإتصال الروحي البعيد , لكن الموضوع يأخذ جدية أكثر عند النساء , ويتوزع على كم أكبر منهن .. ولو أنني في هذه المعلومة لم أستند إلا على الشائع , وأرى هذا ليس مهماً , لأني سأدخله مظلة الفحص الروائي , وبه أقرّ بمصوغة أخرى تبيح لي الإشارة الى جودة فنية من نوع خاص .. لنتابع / [ عندما ذهبتُ الى دوامي في اليوم التالي , وكان الإثنين , كان عليَّ أن اتذكر ما حدث بوضوح وأنا أفكر هل ثمة علاقة لما حدث البارحة بالأيام التي يكون فيها القمر جديداً … مما قد يؤثر بالتالي في الجسم البشري ؟ كنت أفكر ماذا حدث إذن ليلة أمس ليطرأ هذا التغير بشكل مفاجيء وحاد وخارج عن المألوف ] ([4]) . هذا النموذج باراسيكلوجيا غير مكتملة , ستكملها الروائية ” المرأة ” , الراوية , والمروي لها , , البطلة , الروائية , بستة مباديء هي / 1ـ الإنثوية : [ قالت ريم … ـ من الرواية في ص94 ] 2ـ الفلكية : [ يحدث هذا بين 21/6 , 21/12 , وهذا التغير في نشاط التأيّن ينعكس إيجابياً على نشاط الجسم البشري . ـ من الرواية في ص94 ] 3ـ الجمالية : ـ [ أريد أن أخبرهم كيف يتساوق كل ما في الكون مع بعضه البعض ويتناغم بشكل جميل … ـ من الرواية في ص95 ] 4ـ اللوجستية : [ ـ قلت لهم : قدّس الرومان زهرة اللوتس , وهي عند اليونان رمز النصر , وموطنها البحر المتوسط , وهي شجيرة دائمة الخضرة لها أوراق لامعة خضراء وأزهار بيضاء عطرة . ـ من الرواية في ص95 ] 5ـ الوحدة البيئية : [ سألني أحد الطلاب … قبل إنتهاء الدرس : ـ كيف يتساوق كل ما في الكون ؟ قلتُ له وأنا أرسم خلية على السبورة ـ ان الخلية عالم مصغر للكون . ـ من الرواية في ص95 ] 6ـ السيميائية : [ الخراب قبيح والبناء جميل .. بل أن اللغة نفسها … تستعمل الجمال للمفردات الجميلة , والقبح للقبيحة … وكتبت لهم عمودين متوازيين , في الأول , هديل الحمام … وفي الثاني خفخفة الخنزير . ـ من الرواية على صفحة 95 ] للتوضيح أذكر أن الصفحـات (94 , 95, 96) كلها تتصل بموضوعة واحدة تخص الكون والباراسيكلوجيا المترتبة على حركة أجرامه والنبوءات المتعلقة بذلك . الملاحظ على هذا الفعل الروائي إنه ينماز بالآتي / أ ـ يقدم المعلومات كأنها درس متنوع لطلبة صغار . ب ـ المعلومات الواردة حقيقية تماماً لكنها للكبار الوعاة . ج ـ النسج فيه من الفنية والسلاسة ما يجعل الأداء الروائي متغلب على الأداء الإخباري . د ـ الخليط المنصص من الأقوال قُطِعَ منتخباً للغرض النقدي لا للسبب الجمالي . هـ ـ أن الباراسيكلوجيا لم تكن مقحمة على العمل لأن لها مسوغات فنية وإجتماعية . و ـ من النادر ما يلحق الاسلوب النفسي للبارا … بالشروط الملحقة المذكورة … ولا اعلم أهي خصوصية إنثوية لنفسية الأنثى الساردة , أم هي تشمل كلا النوعين . ثالثاً : تراجيديا جمال الأسى حين يصير الأسى بديلاً على وشك الاستقرار للحياة ستبدو الحياة صنيعاً قدرياً الى حد بعيد . لكن ما أن نتوهم الحلول القادمة حتى نضع لها تفريغاً ينتشل الحياة من لا جدواها , واحدة هذه البدائل , الرواية برؤية إنتاج وجود يقترب من الإمومية . ” ثمة تداخل دلالي بين مركزيتين جبارتين للألفة والإنتماء المادي والمعنوي طرفاهما الأرض والأم , بوصفهما عَلَمَاً من الحياة والايواء … وقد عمق الخطاب السماوي الصفة الأمومية للأرض حين أشار الى بدء الصيرورة الإنسانية من التراب , وجعل منها جوهراً للطهارة وموئلاً للجسد الفاني العائد الى رحم التكوين القديم ” ([5]) . لنحدد مؤهلات طبيعة التراجيديا .. نراها في / أ ـ إستحكام المأساة بالظرف الإنساني لتصير علائق بشرية الى حد ( ما ) . ب ـ يتحول الأسى الى فعل فني , أي جزء من رواية . ج ـ يرتبط الأسى بالجمال الأرضي . د ـ ينتمي الجمال الى طبيعة وجود علائقي لمحسوسات إنثوية . هـ ـ تتماثل المحسوسات بدرجة الحنان الأمومي . لنتحسب لهذا كله في المشهد الآتي : [ تلك هي … طال غيابها عنه … والآن يعانقها … غناؤها ما هو إلا نغمة جرس تنطلق من هذا المكان الخفي من الكون لتتناغم مع غناء العصافير وصياح الديكة وتفتح الورود … لَتنسجم الآن مع كل نغمات الكائنات الحية للماء والهواء والشجر … مع أشعة الشمس في الصحارى والغابات والحقول .. ومع هذا الكون الذي إن أحببته الآن فهذا شيء عظيم , وإن أحببت خالقه فهذا هو الشيء الأعظم … ظلت الأصابع تعزف برفق … بينما روحه تحتمي خلف إغماض العينين أحياناً , أو تقفز من القميص الذي انفتحت أزراره لتلوذ بين رأسه وكتفيه كمن يحضن نفسه … من شدة الخفة والنحول خلت أن أصابعه قد أصابها العشق فأصبحت لا ترى لولا حروف الموسيقا التي تخاطبنا فيها بدل الكلام ] ([6]) . قبل أي تخطٍ للمشهد أقرر حالين هما , أن العزف لرجل محاصر في (قبو) لبيت وارف الشجر, متهم ومطلوب , ضمن مسلسل التهم الطائفية للعام 2006 . والحال الثاني , أن الراوية إمرأة والكاتبة الروائية إمرأة . * لنأتي الى المدون في ” المشهد أعلاه ” .. به وعنه نتوصل الى / 1ـ العازف يحتضن آلة موسيقية بحنان الأم العاشقة لقلبها في إبنها . 2ـ أن الشدو الخارج من الآلة الى الأسماع هو من أصابع روح إنثى وليس رجل . 3ـ الرقة والعذوبة والوحدة الكونية هي للموجود الصوتي . 4ـ الوجود الصوتي يوحِّد الوجود الأرضي (الأمومي) , مع موجود التوق السماوي (الله جل جلاله) , مع الوجود المعنوي التجريدي (الروح المموسقة) . 5ـ السمو الأخير هو إرتقاء تعبدي بطريقة الموسيقى , كانما الفهم العبادي يتخذ قناة روحية مسيحية للوصول الى نشوى العبادة لا العبادة وحدها . * الوجود المشهدي يوحي بمخالفتين لفرائض الدكتور محمد الأسدي هما / ـ الوجود المفترض لا يربط بين رحم أو باطن الأم (البشرية) وباطن الأرض (الأسفل) . ـ الأم هنا رابطة أعلى من التعالق البيئي التي يراها د.محمد الأسدي , إذ أن الموسيقى هنا إنغمار في حالة الوجد كالتصوّف , بها ينعتق الوجود ليصير طوع الأصابع لا طوع الموت حباً للسلام الأرضي الأمومي . * لنا أن نقرر الآتي أيضاُ / ـ المأساة في تلك المقطوعة الأدبية تتضمن واقعة غريبة كأنما تريد الكاتبة تقول أن المأساة مطبقة وعلينا النفاذ منها بطرق جديدة تناسبها كالعزف بمثل هذا الظرف الغريب , لرجل مطارد , يتخفى في قبو بيت , يعزف أبهى أنواع الموسيقا . أتوجد تراجيدا أغرب من هذه ! ـ تأخذ هذه الواقعة سياقاً مروياً متمّماً لما سبقها من أحداث كما أنها تحمل معها بقايا السرد نحو مشاهد لاحقة متمّمة . ـ المشهد برغم غرابة مأساة بطله لكنه يزرع الجمال على الأرض وأمام بشر يتلقون ويتمتعون . الأرض تخص البيت والفتاة والأشجار … والجمال هو , العزف , وفلسفة الوحدة الكونية , والقول الحكائي الروائي . ـ صوت الموسيقى ( صوت الحنان الأنثوي ) .. إنه بنية التوحّد بين العازف وروحه وآلته وأموميته وعناصر البيئة , للشجر والماء والهواء ..الخ .. ـ الحنان ناتج , العناق والوَلَه , والخفة والنحافة , والروحية , كلها مظاهر للعاطفة الأُمومية الشجية والتي طبعت المشهد بجميع مفاصله . رابعا : الإحتواء السردي مأخوذ من الشبع والجوع ( الإمتلاء والحاجة ) المرتبطين بالأكل الإنساني والحيواني , سأستعيرهما قليلاً للتعبير عن ” منتوجات سردية ” خاصة بنموذج مجتزأ من رواية ” حلم وردي فاتح اللون ” لميسلون هادي , لأُقرر من خلال هذه المشاهد المجتزأة أين يكمن الشبع للحالة السردية , ومن أين نلمس الجوع السردي .
أ ـ الجوع السردي نقصد به المقاطع التي تحتاج الى مزيد من السرد لأجل مزيد من المتعة , ومثال هذا النول / 1ـ مشاهد هموم الهجرة : [ أعدتُ الخارطة الى مكانها ورحتُ أعيدُ ترتيب كتبي وأوراقي على رفوف مكتبة صغيرة في البيت الجديد الذي إستأجرته , بعد عودتي من الجبل الاخضر في ليبيا , من ورثة رجل معروف كان ضابطا في الحرس الملكي . ـ من الرواية في , ص17 ] هذا المشهد يحتاج الى مزيد من الحوادث , والى مزيد من المعلومات , ومزيد من تقاطعات المواقف , وهو قادر على الإيحاء بالتأريخ الشخصي للبيت وأصحابه وسيرة الراوية … هذه النواقص مقصودة لكي يظل القاريء في توقعات كثيرة , سيجدها حتما فيما بعد , وهذه الفجوات مصطنعة لأجل ان يمتحن القاريء قدراته وذكاءه قبل أن يقع عليها ضمن المتون .. وهذا ذاته سيقع في مواضع أخرى . 2ـ المشاهد الخاصة بحرق البشر وآثارهم : [ لم أستطع منع نفسي من خطف نظرة سريعة على ما كانت النار تلتهمه , من طعام , فوجدت صورا عائلية توهمت لحظة أن بعضها صور عائلية تخصني … معها صور كبيرة لجيفارا وعبد الكريم قاسم وفرقة الخنافس …وطوابع تجمع صورا لمصطفى جواد والرصافي وأحمد حسن البكر … ومعرض بغداد … وتواريخ لا أول لها ولا آخر أفشت ثلاثين سنة من العراق , كانت بالمصادفة هي عمري . ـ من الرواية في ص37, ص38 ] المشهد الذي يحمل بين طياته التأريخ المحترق لثلاثين سنة من عمر العراق وعمر البطلة وعمر الروائية , يحتاج الى ثلاثين مجلداً من الكتابة ! ليغطي مثل هذه الحقبة , ظل السرد جائعاً لها لكنه جوع اللذة بالقضمة النافعة المقتصدة .. ترى , لو أن الراوية أرشفت ذلك , هل ستظل الكتابة روائية ؟ من المؤكد , لا .. لذا بقي الجوع الى السرد جزء من لعبة الحصول على اللقية اللقطة ! التي تُمْتِعُ ولا تُشْبِعُ . لعل أهم سبب لهذا أن الكاتبة أبقت قضية الجوع الى جملة ” البراءة من التأريخ ” مفتوحة . 3ـ المشاهد الدالة على المساومات : [ في آب اللهاب كان أول موعد لي مع الصباغ الذي قبل أن يدخل الى البيت , وقف قريباً من بابه ثم نظر ملياً الى واجهته وقال : ـ الواجهة أيضاً تحتاج الى طلاء . قلت له : ـ لا أفكر إلا في طلاء غرفة الجلوس في الوقت الحاضر . قال وهو يرفع نظره مرة أخرى الى الواجهة ويدخن : ـ الكل يقولون هكذا في البداية .. ـ من الرواية في ص12 ] النموذج المتقدم يحتوي على مداهنات المسومات السوقية لذوات ” العمالة ” . لو دققنا فيه لوجدناه بحاجة الى موصوفات ووقائع مضافة ليتوضح الغرض من المشهد لكن تلك المخمنات المذكورة أخفتها الكاتبة لغرضين ـ بحسب فهمنا ـ هما , لتأكيد الخفاء الروائي الموازي للخافي من الفعل الخاص بـ ” المعامالات السوقية ” , والثاني لتجعل التحيير قيمة جمالية مضافة للفعل الأساس ” المساومة ” . ب ـ الشبع السردي سأتطرق الى الشبع السردي كحالة من التشبع بغمار السرد , الغور بعيداً في مناحيه المهمة . وسأقلص محمولنا هذا كثيراً لأُخصه بالحالات الآتية / 1ـ التآخي البايلوجي : إنه التآخي المبني على تكامل الوظائف البايلوجية للأحياء جميعاً من حيث الحاجة للعيش بسلام, وسيكون الشبع هنا , الحب المندمج بقوة الوجود , وقدرة التلاؤم . لنتابع / [ عادت العصافير والبلابل الى التنطيط وتبادل الأسرار والقهقهات .. وكان صندوق القمامة قد إمتلأ بأكياس مكورة ومعقودة بإحكام .. كنت أملأها كل يوم بورق وقداح الاشجار المتساقطة على الأرض . الديدان التي كنت أعثر عليها في الزوايا كانت أجمل من أن تجرفها المكنسة .. وبيوت الـنـمـل , التي تشبه فتحاتها فوهات البراكين , تشي بأن أربابها من أصحاب الذوق الرفيع .. والوحوش الصغيرة تتسلق سيقان الأشجار الى أعلى تبحث لها عن قوت تأكله , فتصبح هي قوتاً لحمائم الحديقة وعصافيرها.. والعصافير أيضا قد تصبح قوتا للقطط ] ([7]). المشهد مفعم بما نسميه , الإنغمار ( الشبع) السردي , فهو أشبه بالتيه الحكائي الذهالي , أو ” الهذيان ” عند أعتاب وهاد الجمال القولي , وبذات الوقت يغطي الفكر القرائي بمتعة شاملة للوجود النفسي والجسدي , لكأن الإبصار هو قيمة ما تروم إليه الكاتبة لما بعد القراءة . 2ـ اليوسفية : ما أن تقلّب أية رواية إنثوية حتى تجد تناصاً أو تضميناً صريحاً لقصة النبي يوسف عليه السلام ـ هذا ليس مطلقا بطبيعة الحال ـ , ولعل قصة يوسف القرآنية هي من الروايات التي تعني الاخلاص والمبدئية الإنسانية التي يعلِّي اللهُ , سبحانه , من أهمية وأحقية الحب الإنثوي بل أن تضحية الحب الأنثوي تتوصف بمصاف الرسالات النبوية . المسوغ لذلك يبين حين نتابع الآتي / [ كان متعباً في الصباح , بعد تلك الليلة التي قضّاها في ظلام داخل ظلام .. خرج مساءً , متأخرا , من المخبأ ونام على سريره مباشرة دون أن يتناول شيئا , سوى صحن من البطاطا المقلية حملته إليه أمه . إلا أني كنتُ أسمعُهُ ينهض من مكانه الى النافذة عدة مرات , وهو على ما يبدو كان ينظر عبرها الى الشارع , وذلك ما جعلني أنام نوماً متقطعاً خطف مني الراحة . وقد حلمتُ به تلك الليلة مرتين , مرة وهو يقع في بئر مربعة الشكل وينادي علي من قعرها لأمدَّ له حبلاً فأخرجه منها , ومرة أخرى وهو يأتي إليَّ في سرير النوم ليجدني مكشوفة الجسم فيغطيني حتى الرأس ] ([8]) . * المقطع ” المشهد ” المستقدم من الصفحة 80 , أعدُّهُ تناصاً مقصوداً مع قصة يوسف لما بينهما من تخالط في المعنى , والظرف المكاني . أرى التقارب بينهما يتم بثلاثة وجوه , هي : ـ المرأة ذات المرتبة الأعلى التي تعشق الفتى ذا المرتبة الأدنى . ـ يوسف يسقط في البئر ويؤتى اليه بحبل لينقذه كما حصل في حلم الفتاة الراوية البطلة . ـ الحلم سيد الإتجاهات السردية لقصة يوسف وقصة بطلة الرواية فادية . * المقطع على قصره فهو يتضمن ولهاً كبيراً يوصل البطلة أن تتصور الفتى حافظاً للشرف والنبل الانساني فيغطي جسمها المكشوف الممدّد على سرير النوم . إنه مشهد مضَخِّم للوعي بالسرد قولاً وحدثاً . 3ـ التآخي والتسامح الديني : يقوم هذا المتجه الثيمي على الأرضية الثقافية التي توسّم كل أجزاء العراق , ويسهم السرد في تقريب التآخي الإنساني بين الأطياف , فالفتى سني , والفتاة البطلة شيعية , والأُم مسيحية والمتعاطفة مع الفتى ربتهُ عن طريق ” الجورة ” منذ صغره وهي صابئية وتعرض عليه أن تحميه معرضة نفسها لمخاطر الإعتقال او التصفية من قبل الامريكان والمتطرفين .. نتج عن مثل هذا الظرف ( الوله ) الإنساني في المحادثة الآتية : [ ظهرت ختام بيننا مثل حورية البحر : ـ عندي فكرة .. العيد الصغير بعد أيام , وسنذهب الى المندى في القادسية من أجل المصبتا والارتماس في ماء دجلة … وسنأخذه معنا … صمتنا جميعاً كمن حطّ على رأسه الطير , وسألها ياسر : ـ هل أنت صابئية ؟ قالت وهي تنظر الى آني : ـ نعم .. الم تخبرك أمك ؟ نظرنا الى آني نبحث في وجهها عن تأكيد , فوافقت على كلامها ثم قالت : ـ هذا أفضل ما سمعته لحد الآن ] ([9]) . يوضح المشهد قدراً كبيراً من التعاون الأخوي الديني والاجتماعي من خلال التضامن والتآزر الإنساني غير المقحم على الروي , ومن أفضل نتائجه الفنية والقيمية , كما نرى , يجيء بشكل عفوي كأنه حدث صدفة بديهية , لا من تخطيط كاتبة الرواية , مما يؤكد إشارتنا السابقة ,عن ” الأرضية الثقافية ” توسّم كل أجزاء العراق . الغريب في الروي ” الأنثوي ” في العراق , بعد 2000, يتطابق في رؤيته الى التآخي الإجتماعي , ولا تخلو أية رواية إنثوية عراقية , على إختلاف موضوعاتها , من وجود قضية أساسية فيها هي الدعوة الى التآخي بين أطياف العراق . خامسا : العنوان يحتل العنوان في هذه الرواية رتبة متقدمة من حيث الترميز والإدغام الفني المعبِّر , غير المبهرج للفعل الروائي . من مؤولاته / 1ـ الحلم الوردي حلم بحياة ملونة جميلة كبسمة طفلة بثغر مزهر البراءة والدلال . 2ـ اللون الفاتح قد يقع في دائرة التفاؤل ليصير الحلم وردياً قريباً من الأبيض الموحي بمعاني الخير والرفاه والنور . 3 ـ الحلم الوردي يؤول الى معاني التَوَحُّد بين المكونات البيئة النباتية والحيوانية والبشرية قولاً وسلوكاً كمجودات تحلم سويةً بمستقبل مشرق . 4ـ قد يؤول الحلم الوردي فاتح اللون الى أنه رمز للآمال التي صارت عتيقة بحيث تغيرت من الوردي الى الوردي الفاتح . 5ـ وربما يكون التأويل هو حلم القلوب النابضة بالحب المحاط بالتخلف والتقاتل والتطرف بما يجعلها متوجعة كالممروضة التي يتغير لونها نحو الوردي الفاتح القريب من صفرة الخيبة .
اسماعيل ابراهيم عبد
[1] عبد , إسماعيل ابراهيم , منشئيات مأوى القص , 2014 , ص182 , الشؤون الثقافية العامة , بغداد , العراق
[2] هادي , ميسلون , رواية حلم وردي فاتح اللون , 2009 , ص7 , المؤسسة العربية للدراسات والنشر , بيروت
[3] هادي , ميسلون , رواية حلم وردي فاتح اللون , مصدر سابق , ص9
[4] هادي , ميسلون , رواية حلم وردي بلون فاتح , مصدر سابق , ص94
[5] الأسدي , محمد , إنتاج المكان , 2013, ص189, الشؤون الثقافية العامة , إصدارات بغداد عاصمة الثقافة العربية , العراق
[6] هادي , ميسلون , رواية حلم وردي فاتح اللون , مصدر سابق , ص92, ص93
[7] هادي , ميسلون , رواية حلم وردي فاتح اللون , مصدر سابق , ص17
[8] هادي , ميسلون , رواية حلم وردي فاتح اللون , مصدر سابق , ص80
[9] هادي , ميسلون , رواية حلم وردي فاتح اللون , مصدر سابق , ص117, ص118