” ميسلون هادي” و “حلم الشدائد الفاجعة الوردي اللون” (1-2) 0000-00-00 ( كيف أخرج من هذا الظلام وأنا ابنة واحدة من أولات الألباب في التضرّع للأولياء الصالحين بالقرابين وإشعال الشموع ؟ . كانت هي وعمتي وجدتي لا يمللن من النذور والزيارات.. واحدة نذرت أن ترقص في الشارع إن عاد ابنها سالماً من الجبهة ، والأخرى نذرت أن تعبر جسر الأئمة حافية القدمين إلى الكاظم لو عاد ولدها سالماً من الأسر .. فما ذهبت عمتي حافية إلّا إلى قبرها الذي دُفنت فيه بعد سماعها خبر ابنها بأيام .. وما خرجت أمّي إلى الشارع راقصة إلّا مع خروج جنازة ابنها من البيت . خرجن من بيوتهن الدافئة الجميلة إلى الظلام، الظلام الذي يلفنا جميعاً ويحيطنا بأشباح ترانا ولا نراها ، ونقول لها إننا نخاف صمتها في الظلام ، فلتتحدث إلينا بكلام مسموع ، لتفتح لنا شباك ضوء يمسح عنا هذا العمى . ولكنها ، من شدّة الزعل ، صامتة وتنوس خلف الأبواب ، بل ترفض حتى الإنصات إلى النذور … ) ميسلون هادي – رواية ” حلم وردي فاتح اللون”رواية “حلم وردي فاتح اللون” الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2009 – ليست رواية تقريرية عن الخراب الذي يعصف بالمجتمع العراقي من كل جانب ، بل هي درس في كيفية تحويل تراب المعاناة إلى تبر الفن السردي الباهر ، المشكلة ليست في “تسجيل” الخراب الجنوني سردياً ، فهذا تصوره الصحافة والفضائيات كل لحظة وتعرضه بأفضل شكل وبصورة ساخنة ، لكن المعضلة هي في كيفية تقديم نص يسبق الواقع أو يسير- على الأقل – بموازاته . قلت سابقاً أن مشكلة الكتاب العراقيين صارت تتمثل في أن الواقع العراقي المتفجّر سبقهم وباتوا يلهثون خلفه ، في حين أن ما اصطلح الاتفاق عليه منذ قرون مديدة هو أن الإبداع يسبق الواقع ويشكّله ، صارت عواصف الواقع العراقي تتلاعب بالمبدع العراقي وتطوّح بكيانه . قال الروائي “عبد السلام العجيلي” سابقاً : ” الأمم السعيدة ليست لديها روايات ” ، أي أن الرواية وليدة تعاسات الشعوب وأحزانها ، فكيف والواقع العراقي قد دشن ومنذ سنوات مرحلة “ما بعد الحزن” ، و “ما بعد التعاسة”!! . لكن هذا لا يستعصي على أنامل المبدعين المقتدرين أمثال “ميسلون هادي” التي حوّلت حجارة الفاجعة الوطنية السوداء إلى لآليء سردية مشرقة ، مشرقة بالخيبة وإيحاءات الفقدانات الجسيمة . بنبرتها الأسلوبية الهادئة التي عُرفت بها تمزّق روحك ؛ بحركة شخوصها التي تحكي وليس الراوية (فادية) التي تسجل ، تخز – مع كلّ مشهد يقتحم فيه الأمريكان المنزل وخشية الأم (آني) من أن يُلقى القبض على ولدها الوحيد (ياسر) الذي جاءت به من الموصل هارباً بعد أن لطم صديقه لأنه اشتغل مترجماً مع الأمريكان ، ولأنه أيضاً صار نزيل الجوامع هرباً من أنياب الكارثة ، مع كل مشهد يُقتل فيه الصيدلي والطبيب والضابط مثلما يُقتل بائع الثلج والحلّاق والخبّاز !! ، ومع كل جثة عراقي يُقتل أكثر من مرّة، مع كل جرح يصاب به بريء مثل جرح عمّار وهو يحاول إنقاذ رجل أطلقت عليه النار وكان لايزال حيّاً، مع كل ذكرى عن أيام المسرّات المتناقضة في السبعينات حيث كان الحلاقون يعلقون صور گوگوش الإيرانية وهوليا التركية ، ليأتي محافظ بغداد ويأمر بصبغ سيقان البنات المكشوفة !! تداعياتها مع صديقتها (ريم) وهنّ يذهبن إلى كلية الزراعة في أبي غريب – أقول مع كل ذكرى جميلة راحلة ومشهد موت حاضر معاش تخز الكاتبة قلوبنا بخنجر صغير أنيق ومدبّب . وكلّ هذا يتم بتخطيط وقصدية عاليين . حتى مكان عمل فادية – وسنرى أن اسمها من “الفادي” فعلاً – ووظيفتها كانا مقصودين . كل شيء كان موظفاً من أجل هدفين : الأول الإمعان في تجسيد بل شخصنة الشدائد الفاجعة التي نعيشها ، والهدف الثاني تربوي وطني هادئ يستتر بأردية الفن السردي الآسرة .. الأم ( آني ) مسيحية، زوجها ( تمام ) مسلم شيوعي سابقاً .. وأبوه (الجد) قومي ناصري .. والابن (ياسر) متديّن ؛ الابن وحده كان يمكن أن تشتغل ميسلون على تحوّلاته الفكرية والسلوكية الرهيبة وإحباطاته موضوعاً مستقلاً لرواية قائمة بذاتها تشمل لا معاناة وتمزقات الشباب العراقيين حسب بل معاناة وتمزّقات الشبان العرب والمسلمين في كل مكان أيضاً .. شاب كان مغرماً بالموسيقى وأرسلته أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد إلى الولايات المتحدة للحصول على شهادة الماجستير في الموسيقى ، وكانوا يعدونه لقيادة الفرقة السيمفونية – ولاحظ اختيار الولايات المتحدة كمكان والرسالة الخطيرة التي تريد ميسلون توصيلها حيث يقول لها ياسر الذي تديّن هناك : هناك تجدين إسلاماً أفضل !! – . هناك يتديّن ويعيش المفارقات الممزقة : أستاذ الموسيقى الأمريكي يقيم كل أسبوع حفلة لنصرة أطفال العراق فيتساءل كيف ينتصر هذا الأجنبي للعراق وهو العراقي يترك وطنه الممتحن ويغادره .والأمريكية لبنانية الأصل (جوزيل) العازفة معه في الفرقة التي يعشقها وهو يرى أنها الوحيدة التي رفضت شرب قنينة الكوكا كولا لأنها تقاطع هذه الشركة التي تتعامل مع إسرائيل ثم يتركها لأنها جلست تتشمس بملابس تكشف مفاتن جسدها ، وصاحبه الطبيب العراقي المهووس بالجواز الأمريكي الذي حصل عليه لأنه (سيخلصه من المهانة في مطارات الدول العربية !!) . في الرواية كل شيء ينطق بالخراب : جرس الباب الصامت – وهو من “أبطال” الرواية – الذي لم يدقه أحد بسبب تمزق الأحياء وهجرة الناس إلى المنافي وتداعيات الساردة حوله .. أوراق الحديقة الذابلة ..سنادين الورد ( ولا أعرف من هو الناقد الذي قال ذات مرّة أن ميسلون لم تكن موفقة وهي تعد أسماء النباتات في روايتها الرائعة “نبوءة فرعون” – وهي أيضاً من روايات المحنة المهمة وكانت ، باعتقادي ، تمهيدا لهذه الرواية ، ناسيا أن الالتحام بالطبيعة حدّ التفاصيل هو من سمات “الأدب النسوي” ، وأضع هذا المصطلح بين قوسين لأن الرجل الذي يتمتع بقوة الظل الأنثوي – anima في لاشعوره ، حسب التعبير “اليونغي” يمكنه أن يكتب أدباً ” نسوياً ” رفيعاً ، وراجع “مدام بوفاري” ). ميسلون ابنة هذه الطبيعة الأم المباركة ومن روحها استقت ومضة البقاء وسط عتمة الموت ، ونبضات قلب متفائل في أحشاء جسد واقع يحتضر . وهذه الفلاحة العشتارية تقدم الدرس في كل روايتها من خلال “الحديقة” التي هي مكون أساس من مكونات المكان في نصوص ميسلون .. الحديقة تتكلم و “تسرد” وتعِض وتقدم الدروس والعبر . وليس أبلغ من تحولات الحياة في حديقة المنزل الذي استأجرته فادية وهو بيت جدّ صديقتها (سارة) .. وحديقة (ختام) – ولاحظ دلالة الاسم – . ولا أعلم لماذا لم تطور ميسلون الثيمة العظيمة لختام المتصدّعة نفسياً باضطراباتها المحيّرة وهي ترمي كلّ يوم قطعة من أثاث المنزل إلى الشارع فيصطدم بالإسفلت بصوت مدوي ؟ وهل هناك تمثيل فني بارع للخراب أبلغ من هذا ؟ ، ثم حوار ختام البليغ مع الضابط الأمريكي ..و..و..والنهاية العظيمة للرواية التي تلاعبت بالكيفية التي صمّمت فيها المشهد الممتد الختامي بحيث أنها قادتنا ونحن محمّلين بقناعة أننا سنجد شيئاً انتظرناه طويلاً، فنعثر على شيء آخر صادم ومغاير تماماً. أما تحسين – وأعتقد أن الكاتبة قد اشتغلت على هذا الجانب غنائياً – فلم يكن صبّاغاً عابراً يصبغ البيوت ويمضي ، كان “ذاكرة” الشارع من جانب ، وذاكرة للتاريخ المعاصر للمنطقة أيضاً . فهو يعرف بيوت الشارع وساكنيه واحداً واحداً منذ أن وزعها عبد الكريم قاسم على الضباط الشباب في أوائل الستينات . وقد تابع أحوال هذه البيوت في الحصار حيث كانت قد أهملت كثيراً ، وبعضها كان لا يزال يحمل آثار المطر الأسود الذي خلفته سحب الدخان أيام القصف الأمريكي . لقد صبغ بيت الشيخ عبد الله ثم بيت ابنته (ختام) وهو البيت المقابل لبيت فادية . وختام هي التي اشترت هذا البيت من ابن عمها الطبيب الذي كان من المقرر أن يتزوجها ولكنه هاجر إلى أمريكا ورفضت الالتحاق به . هنا تنقطع سلسلة ذكريات تحسين حين يشاهد على شاشة التلفزيون الفنان الثوري (عزيز علي) وهو يغني أغنيته الشهيرة ( يا جماعة والنبي ) فتربط الكاتبة – عبر صلة غير مباشرة – بين البستان العامر الذي كان ، والبيوت المهجورة التي صارت ، منتقلة إلى الجانب العام من مخزون ذاكرة تحسين الذي يقول لها أن أحمد حسن البكر قد أرسل خمسين ديناراً إلى عزيز علي كمكافأة على أغنيته (البستان) ، وأنه – أي البكر – قد أهدى سيارات لادا إلى لاعبي منتخب الشباب عندما فاز على إيران . كأن هذا العراقي البسيط هو ضمانة ذاكرة تاريخ بلاده .وارتباطاً بالحديقة وانطلاقاً منها ، فإن الكاتبة توفر دائماً مقترباً غير مباشر ومناور لتحقيق الهدف الثاني المكمّل الذي أشرنا إليه ، تقديم حل “طبيعي” بسيط وتلقائي مؤصّل يمكن أن نشتق منه الحل الإجرائي لمعضلات حياتنا المميتة . هذا هو واجب المبدع في هذه المرحلة النهائية والمنهية من تاريخ بلادنا، أن يعيدنا إلى مرجعيات “طبيعية” لسلوكنا بعيدة عن الحلول الأيديولوجية المصنّعة . حين يقول ياسر لفادية ملاحظته عن جمال نباتات الظل التي تميل برؤوسها جميعا نحو الشمس ، ويحصل انفجار مدوي في الخارج ، تعلّق فادية بجفاء: ( إذا كانت النباتات تعرف أين تكون الشمس وتميل إليها بشكل فطري ، كيف يحدث أن يرتج الإنسان فلا يعرف الضوء من الظلام ؟ – ص 84 ) . لقد ارتجّ على الإنسان كلّ شيء .. ضاعت المقاييس .. واختلطت القيم .. وكشّر الوحش الرابض في أعماقه عن أنيابه .. وأصبحت بغداد لا تُعاش .. والناس يهربون من سفينتها المحترقة كالفئران .. ودخل أهلها الحلقة الجهنمية المفرغة : ( بغداد صارت فوضى ودماراً ، ولا يمكن لكل هذه الفوضى وهذا الدمار إلا أن يخلقا الفوضى والدمار – ص 135 ) كما يقول ياسر . ولا ينفصل هذا الإنهمام بالحديقة وبتحولات الطبيعة المحتواة في فعالياتها عن الإحساس بجوهر الدور الأنثوي ، كدور مبارك صانع للحياة . وعندما أكرر كثيراً أن حضارة العراق أنثوية أمومية في نهضاتها الصارمة ، وأنها ذكورية في مقدمات انهيارها فلأن هذا هو شأن الرجال العراقيين العطشى إلى الدماء كما تقول ختام- وانظر كيف جعلت الكاتبة الشاهدة على تاريخ متصدّع متصدّعة من جنسه – . الأنثى هي الإنسان ضمن الطبيعة – humanbeing among nature بينما الذكر هو الإنسان ضد الطبيعة- umanbeing against nature ( .. ولهذا أسموها ختام ، وإن الأميرة عابدية بعثت لها هدية في يوم مولدها قبل أن يقتلها المجانين هي وأهلها تلك القتلة الشنيعة في قصر الرحاب .. كانت النساء تبكي الملوك ، والرجال يشاركون الثوّار فرحتهم ، وبعضهم يساهم في السحل والتقطيع . ثم لما حكم عبد الكريم قاسم العراق هذا ، ثار عليه الرجال من جديد .. هذا هو دائماً شأن الرجال : عطش إلى السلطة .. جوع إلى القوّة – ص 139 ) .