حلم وردي – بشرى البستاني

ذكاء وحذر يتآزران مع روح مرهفة
بتاريخ : الثلاثاء 17-08-2010 المدى
ا.د بشرى البستاني
تلجأ الشخصية الراوية في رواية ميسلون هادي ” حلم وردي فاتح اللون ” الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر  إلى الحلم ليس هرباً من الواقع ، بل تصميماً على صنع حياة أفضل ، إنها تزرع الأمل مع الورد وتنتمي بالزراعة إلى الأرض متشبثة بها ” ثم سرحتُ بالأماكن والزوايا التي سيزرع فيها عمار الشتلات الجديدة التي اشتريتها من المشتل، ضحك عمار وأنا أضعها أمامه وقال محتدا أكثر منه مندهشا : من أين تأتين بكل هذه السنادين وكل المشاتل مقفلة ..؟ قلت له : هناك مشتل واحد لا يزال يجازف بالبقاء مفتوحا ويقع قرب نفق الشرطة ، قال بطريقته في الضحك التي تعبر عن الانزعاج ، ألم يغلق أبوابه بعد ، وكل الحواجز مقامة حوله وبالقرب منه ، بل أن سيارة مفخخة انفجرت بالقرب منه قبل اسبوع وأغراض محل ابو الموبايلات غدت شذر مذر  ..ص 20 ”  
إن كل ما يحدث للأشخاص على أرضهم في هذا النص يشكل قيمة درامية بذاته ، قيمة لا تنكشف فيها الدوافع والأسباب المعقدة التي أدت إليها صراحة ، بقدر ما توحي بطرائق تصويرها وحواراتها عن المرجعيات المركبة الغائبة التي أنتجتها ولذلك يكمن الماضي القريب والبعيد ثاوياً في أعماق الوقائع ، إن شخصيات الرواية لم ترد في العمل للتعبير عن ذواتها الخاصة ، وإنما تشكلت لتعبر عن جموع كبيرة من الناس ، وهذا ما جعلها حميمة من جهة ومتنوعة من جهة أخرى ، وهي فضلا عن كونها تبدو في أول الأمر في حركة اعتيادية إلا أنها ما تلبث أن تصطدم بواقع العنف الذي يفاجئها في الشارع والبيت وعلى الأرصفة ، فدبابات المحتل وآلته العسكرية من جهة والقتلة المجهولون والمتفجرات والمداهمات وملاحقة الأبرياء لمجرد الاختلاف معهم في الرأي أو الثقافة أو التوجهات أو الدين ، وكل تلك الأمور تسحق بنية المجتمع وتفكك روابطه .
   لا شك في أن تأثير الإنسان بالمكان واثر المكان في الإنسان أمر قائم بجدل عبر التاريخ ،وقد ركزت الدراسات النقدية الحديثة على أهمية المكان في النص الأدبي وقسمته على أصناف عديدة منها الأليف والمعادي والموضوعي والمفترض ، كما قسموه أحيانا على ثنائيات تشتغل بحركية داخل النص كالساكن والمتحرك والمغلق والمفتوح وغيرها ،  وعملية التوازن بين الأمكنة فيما بينها وبين الأمكنة والشخصيات تقنية مهمة تعمل الراوية على الاهتمام بها كل حين ، فهناك فروق شاسعة بين ماكان عليه المكان في أرض الحدث : بغداد ومدن العراق الأخرى من جمال وانسجام وما آل إليه من خراب ، وبين ما كانت عليه حياة الشخصيات من شعور بالأمن ، وما صار عليه الأمر اليوم من فزع ورعب ومداهمات داخل البيت نفسه .
إن المكان في الرواية وفي أي نص أدبي هو مكان خاص له مقاصده ورؤاه التي تمثل مقاصد المؤلف ورؤاه السياسية والثقافية ، فللمكان بعده السياسي والاجتماعي والثقافي ، بل هو يملك دورا وجوديا في حياة الانسان منذ بداية الخلق ، حيث كانت مغادرة المكان أول إشكالية في حياة المخلوق قلبتها رأسا على عقب ذلك أن العلاقة بين الانسان والمكان علاقة درامية ، من هنا كان  الاعتداء على المكان  يعمل بجدل دائم مع الاعتداء على الإنسان ، فكل تخريب للأرض يعمل بعمق على تخريب الذات الإنسانية وتجريحها ، إن إحراق المكان بالصواريخ وأنواع المتفجرات إنما هو اعتداء على الشخصيات وغدر بها ونكاية بأمنها وقمع لحرياتها واقتحام بالخوف للبيوت التي هي مستقر حياة الإنسان وملاذه من مخاطر الخارج وما يكتنفه من مجهول ” الآن لم تعد البيوت وحدها محصنة بالأسوار ولكن الشوارع والساحات والجسور شأنها شان السجون والمعتقلات محاطة بالجدران والحصون والسيطرات ، وبين كل جدار وجدار يوجد جدار ..ص 30 ”   تقول الراوية لعمار فتى الحدائق الذي يرعى حديقة بيتها وهو يريد العودة لأهله في الديوانية بسبب واقع بغداد السيئ والقتل المجاني : ” لا تذهب ، ابق هنا في هذا الحي ، وهذا الشارع قد خلا من سكانه او كاد كما ترى ، وأنت الوحيد الذي يأتي إليّ بين صباح وأخر فأشعر بأني على قيد الحياة ..ص 20 ” فأي عذاب وأيّ وحشة تشعر بهما الراوية حينما تعدلهما بالموت ، إن العلاقة بين الإنسان والمكان قائمة على تبادل المشاعر والالتحام والتشرب حيث تنمو الدلالة النصية متشعبة متفرعة من خلال تكثيف الفعل الدرامي وتعقيد مساره  ، ذلك الفعل الذي يجمع الشخصية والمكان مع العناصر الأخرى وهما في عملية الدمج تلك يقوم كل منهما بالتأثير في الآخر والحفر فيه ، لاسيما أن الإنسان / الشخصية قادر على منح الأمكنة والأشياء قيمتها وأبعادها الذهنية والماورائية ، وقادر على تغيير ملامحها وتشكيلها على وفق أنماط مختلفة وقادرة أيضا على ابتداع بعض أنواعها ، فما أن يطأ الكائن الإنساني مكانا ما حتى تبدأ فعاليات التغيير ليكتسب المكان هوية جديدة وكذلك يفعل المكان بالإنسان والأحداث في الرواية حينما يعمل على دمج العناصر ببعضها مشكلا عنصر بناء فاعل لعناصر السرد الأخرى اذ لم يعد المكان فضاء حاويا محايدا ، ويتسم الإنسان بالإحساس العميق بالمكان ويتبين هذا النزوع المكاني جليا حينما يبتعد الإنسان عن مكانه الأصلي فهذا النزوع يتواصل بوشائج متينة ، حيث يحفر المكان في أغوار الذات مسارب عميقة تبدو فيها سطوة المكان واضحة على الإنسان من خلال الألفة والترابط بين الطرفين ، لكن المكان من جهة أخرى وبعيدا عن تلك السطوة يغدو صديق ساكنيه إذ تصل الألفة بيتهما حد المشاركة في الفرح والحزن وصورة المكان والأحداث التي تعرضها الراوية إنما تروى من خلال رؤية خاصة ، وهذه الرؤية يعرفها سعيد علوش  بأنها ” موقف يتخذه المؤلف من موضوع أو شيء ما ”  وللبحث عن هذه الرؤية علينا أن نتذكر أن المحتوى الظاهر ليس هو الأكثر أهمية وان من الممكن الكشف عن دلالات ثاوية تحت البنى السطحية للنص هي الأكثر عمقا والأدق تواشجا مع كوامن الرواة ومن ورائهم المؤلف فمن الطبيعي لمتأمل هذا النص ان يلتقط وراء ملفوظ الوقائع تصورات الراوية ورؤيتها عن إدانة المحتل الأمريكي وبشاعة سياسته الخارجية العدوانية وعنجهيته اللا إنسانية ، كما تواجهنا الحوادث الأليمة بأهمية الأمن وجماليات الوطن الغائبة ، وضرورة السعادة الأسرية المفتقدة بسبب ما أحدثه الاحتلال من فوضى وشتات ونفي ، كل ذلك يصور لنا قبح العنف وأهمية السلام والمحبة وغير ذلك مما هو متخف وراء ما هو صريح واضح . 
وتواصل الراوية لمساتها المرهفة لأحزان العراقيين بدءا من جرس باب الدار الذي اختفى باختفاء الأقارب والأصدقاء وانقطاع بعضهم عن بعض وغياب الزيارات وحفلات الأفراح والأعراس فهذا المكان ” مكان جيد  للموت لا للحياة ، تارة أبو عمر الذي قتل وهو يقف في باب البيت وتارة  ابو حيدر الذي باغته الرصاص وهو يقفل محله قبل ان يذهب إلى البيت  ..ص33 ”   وثالثة الصيدلي الشاب الذي حوله مسدس اعمي في يد عمياء إلى جثة مرمية على الرصيف  ..ص42 .
  ((حلم وردي فاتح اللون)) نص يكشف واقع الجريمة التي تجتاح العالم وتتمركز في العراق ، وتوقع بأهله وشعبه القتل والتنكيل معبرة عن ذلك بلغة جريئة ، ووقائع صادمة مع أن تفاصيلها تحدث يوميا وعبر دقائق الزمن العراقي في الليل والنهار ، وارتباطها الحميم بالواقع هو الذي منحها حيويتها وصدق انتمائها ، مراهنة في سردها على إشراك المتلقي في تشكيل عالمها الروائي الذي لا يحاكي الواقع بل يوازيه مشكلا معه جدلية فنية خطابية بين نصين هما نص الواقع ونص الرواية وما يحمله النص الأخير من إيهام واقعي هو ما يمنحه نفاذيته الدلالية ونجاحه الحجاجي الداخلي ، فضلا عن قدرته على إقامة علاقة استعارية مع الواقع تمنح النص مسافة جمالية بين المقروء ومرجعياته الواقعية المغذية له ، فالنماذج الأدبية تصبح عبارة عن وسائط علامية لهذا الواقع ، أي انها صور رمزية له وليست انعكاسا شكليا ، لأنها أشكال دالة وليست مضامين مدلولة ، فالعلاقة الجوهرية بين الحياة الاجتماعية والإبداع الأدبي لا تتمثل في مضمون هذين القطاعين ولكن في البنى الذهنية ، أي المقولات الفكرية التي تنظم الوعي التجريبي للفئة الاجتماعية المعينة والكون التخييلي الذي يبدعه الكاتب. 
  إن الراوية تحلم بالوصول إلى سلام روحي ، تركن إليه بعد معاناة طويلة من حصار  واغتراب وسفر من اجل لقمة العيش ، وبعد فقدانات شتى ولوعة أمهات ذهبن إلى قبورهن بحسرة أولادهن الشباب الذين لم يعودوا من الحرب إلا على الأكتاف ، أو لم يعودوا أصلا  ، وهي في سعيها لذلك السلام تفاجئنا بحركتين تخللتا فعل الخراب ، إطلاق الكناري من قفصه ، والكشف عن جهاز البيانو . ان لكل خطاب تتحقق فيه الفعالية الكلامية مرجعية خاصة في إحالة معينة على ما يتحدث عنه ، وهو موضوع الحقيقة ما وراء الكلامية ، ولذلك يصر اللغويون على التمييز بين المعنى والمرجعية ، لأن استعمال العلامة اللغوية في حد ذاتها يحقق معناها الخاص فقط ، أما معرفة مجددات الاستعمال الظرفية والمنطقية فتحقق القيمة المرجعية لذلك الاستعمال ، ولذلك يقتضي الفهم الحقيقي أو الإدراكي امتلاك الإجراء المساعد على تحديد المرجع أولا ،  وحين يكون المرجع واضح المعالم فانه سيكون قادرا على إضاءة النص ، ومؤازرا للقارئ في تحديد الإشارات الدالة وما توحي به من وظائف .
    إن المكان وما يحدث فيه وما يقع عليه من حرائق وتمزيق وما يوضع عليه من حواجز وعوائق هو أرضية الدراما الحادة التي تعيشها الراوية / الشخصية الرئيسة في الرواية والتي تروي الوقائع من وجهة نظرها … أستاذة جامعية عاشت ظروف وطنها بوعي وسافرت وعملت في بلد عربي ، ثم عادت لوطنها في ظروفه الحالكة ، ولذلك كانت تتعامل مع الواقع بذكاء وحذر يتآزران مع روح مرهفة وعقل يتأمل ويميز ، وسمات هذه الشخصية ككل الشخصيات الاخرى في الرواية لا تتضح فقط من خلال الوصف والحوار والوقائع ، بل هي تكتمل حضورا من خلال علاقاتها مع الاخرين ، ومن خلال أدوارها الفاعلة في الحدث المرتبط بفضاء زمكاني معين ، ولذلك فان بناء الرواية بالرغم من احتوائه على قلق وخوف ودم واضطراب وحرائق وفوضى ومفخخات إلا أن التخطيط لذلك البناء او منجزه بدا متماسكا لا إرباك فيه ، كما أضفت انسيابية أحداثه على النص نوعا من الإشراق الأسلوبي الذي يقود القارئ لنهاية تنفتح فيها الرؤيا ويظللها حلم بالتواصل والانتظار . إذ يتحول ما هو قبيح واقعيا الى جميل إبداعيا حين يعمد الفن إلى تفريغ القبح الواقعي الذي جرح الروح ليكون محتملا بالتعبير عنه فنيا . إن القوى المحركة للمعنى في نص (حلم وردي فاتح اللون ) لا تكمن في إشكاليات حياة وجودية حيث الحب والمرض والموت وقضايا العيش المعقدة ، بل تكمن في علاقة صدام حادة بين شعب كامل وقوى محتدمة متداخلة منها الظاهر وكثير منها المتخفي والمغيب ، ولذلك كان المصير مجهولا لان العدو يمكن ان يطلع في كل مكان ، العدو ليس قادما من الخارج فقط  او معسكرا على الحدود ، لانه ليس المحتل وحده ، بل هو أطراف عديدة أخرى ، ولذلك نجد هذه الرواية صورة صدق لحياة العراقيين بعد الاحتلال ، لكنها صورة فنية قامت اللغة فيها بمهمة بناء عالم فني يزخر بالإشكاليات ويلوّح  بإمكانية العودة للسلام والتماسك مرة أخرى من خلال عودة عائلة الشاب ياسر الى بيتها تنتظر خروجه من السجن ، وتشير إلى حتمية عودة الحب والأمل بانتظار الحبيبة لحبيبها السجين ، فالسجن بالرغم من كونه مكانا معاديا ومغلقا ، إلا أن له أمدا ينتهي ، وزمنا لا بد من أن ينقضي . وكان البيت بكل أبعاده التي تمنح سمات الهوية الإنسانية رمزا للوطن الذي سيعاوده سلام البيت وشعور الإنسان فيه بالطمأنينة والانتماء.
 

الهوامش :

* حلم وردي فاتح اللون ، ميسلون هادي ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر  ، ط 1  ، بيروت ، 2009 .

1- شعرية المكان في الرواية الجديدة ،الخطاب الروائي لأدوار الخراط نموذجا ،خالد حسين حسين ،104 ، كتاب الرياض ، مؤسسة اليمامة ، 2000 .

2-المصدر نفسه ، 106 

3 -معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة ، سعيد علوش ،222 ، دار الكتاب

4-مستويات اللغة في السرد العربي المعاصر ، محمد سالم محمد الأمين الطلبة ، 54-55، مؤسسة الانتشار العربي ، ط 1 ،بيروت  ، 2008 .

5-المرجعية الاجتماعية في تكوين الخطاب الأدبي ، محمد خرماش ، 90 ، مجلة حوليات الجامعة التونسية ،  38 / 1995 .

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

ميسلون هادئ……غزارة الإنتاج وبراعة الأداء.

ميسلون هادئ……غزارة الإنتاج وبراعة الأداءمن الأحداث الفارقة والمائزة في حياتي،هو اللقاء بالروائية المبدعة ميسلون هادي، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *