حفيد البي بي سي – عقيل عبد الحسين

مرويات الخلاص

 جريدة العالم

24 -8-2014

عقيل عبد الحسين

المرويات هي ما تتناقله الشخصية الرئيسة في الرواية، أو يمر عبرها، عن شخصية أخرى. كما هو الحال فيما تنقله ياسمين الابنة عن زينب الأم الثانية لها وماري الأم الأصلية لها في رواية “زينب وماري وياسمين”. وكما هو الحال فيما ينقله الراوي عبر عبد الحليم من أفعال وأقوال منسوبة لشهرزاد جدته ولمنار زميلته في العمل، في رواية “حفيد الـ(بي بي سي)”.

وتشكل الشخصية التي تنقل مروياتها كزينب وماري في الرواية الأولى وشهرزاد ومنار في الثانية، قطب الرواية، فهي تحرك الأحداث أو تفسرها أو توجهها وجهة معينة تخدم في اقترح حل، أو اتخاذ موقف. ففي رواية حفيد الـ(بي بي سي) وهي موضوع هذا المقال، تكون الجدة شهرزاد موجها أساسيا للحكي. تبدأ الراوية بها حاكية عن أبويها الأم ذات الأصل الجنوبي. فهي من ذي قار. والأب الكركوكلي، وما بينهما من فارق في البيئة، وفي الثقافة، وفي الحضارة، وفي التمدن. وهو فارق يترتب عليه تنوع مرويات شهرزاد وتداخلها إلى حد النتاقض، حتى أنها تبدو، كشخصية، غير مقنعة لحفيدها عبد الحليم الذي يرى فيها جامعة للمتناقضات. فهي تميل إلى الحب والى الحرب والى الجد وإلى الهزل معا. وهي تتقلب في مواقفها وآرائها كما تتقلب في نومها.

وهي تحب الراديو الاختراع الاجنبي وتحب الـ(بي بي سي) وتتابعها بشغف وتحب الملكة اليزابيث وتقتدي بها وتقلدها. وهي في الوقت ذاته تتابع القضايا العربية وتفرح لانتصارات عبد الناصر، وتقتلها أخبار الهزائم العربية وتراجع العرب الذي تسمعه من الـ(بي بي سي) ذاتها.

شهرزاد بحكم انتمائها إلى بيئتين مختلفتين ظلت تجمع في مروياتها الحكايات عن بيئة كركوك وجمالها ورقيها وما انعكس منها على زوجها ممتاز قارئ المقامات الذي ملأ بغداد فيما بعد غناء وفنا، وبين رصيدها من الكلام الفاحش ومن النكات البذيئة التي يحلو لها أن تفسر العالم بها، من مثل شغل الليل وأثره في تغيير العالم وتوجيهه وجهة غير متوقعة.

تأتي بعد ذلك شخصية عبد الحليم حفيد شهرزاد وابن ابنها شعيط. واسمه كذلك لأن أولادها الذكور يموتون ما لم تسمهم أسماء غريبة، كشعيط نفسه وأخيه معيط والثالث جرار الخيط، وعبد الحليم يعمل في المكتبة الوطنية في قسم الرقابة على الأعمال الأدبية. وهو مؤمن بدوره المهم والأساس في محاربة الأفكار الهادمة التي قد تؤدي إلى خراب الوطن وشيوع الفوضى. إنه دور لا يختلف، في نظره هو، عن دور المقاتل في الحرب على الجبهة!

ولكن عبد الحليم الذي تسميه شهرزاد على اسم عبد الحليم حافظ لا يغني ولا يبدع، وإنما، عمليا، هو يحارب الإبداع ويقف بوجه من خلال رفض النصوص أو الحذف منها، ومن خلال التقارير التي يرفعها إلى مسؤوليه. وسرديا هو جالس في مكان عمله لا يأتي بفعل حقيقي، وإنما يملأ السردُ توقفَ عبد الحليم وعجزه وانحسار دوره في الرقابة والدفاع الآلي الأعمى عنها.. يملؤه بالحديث عن شهرزاد ومواقفها وأفعالها وأقوالها تأتي تلك على لسان السارد الغائب. أما ما يأتي على لسان عبد الحليم فهو التقليل من شأن شهرزاد فلا يمكن أن تكون هذه المتقلبة موجها لأفعال عبد الحليم أو مواقفه.

أما منار وهي المرأة التي تقاسم عبد الحليم غرفته في الدائرة، فإنها تشكل فاعلية من نوع آخر لأنها لا تروي عن أحد ولا تقبل أو ترفض مرويات شهرزاد، ولا تجلس من غير فعل، ولا تخلو من رأي أو موقف يصل إلى حد المجاهرة بالاعتراض على دور الرقابة وعلى إخلاص عبد الحليم له، وإلى نقد النظام الذي يحارب الإبداع ويتوجس منه، ولكنها في الوقت ذاته تعود في كل تلك المواقف والأقوال والأفعال إلى ترسانة ثقافية نظرية بحتة وتستند إلى اللغة وإلى الكلام الذي تحفظه عن أسماء لامعة في عالم الأدب وتثبته على لوحة مخصصة لما يشبه الحكم اليومية.

ولكن ما موقع عبد الحليم من هذا النوع من المرويات (الذي تمثله منار ويمكن أن يكون ثقافيا و نظريا أو طوباويا)؟ إنه بلا شك يستفيد منه، ولكن في تضمين تقاريره وتزينها بأفكار منار أو بالأقوال التي تسطرها على لوحتها، ومن دون أن يخبرها بذلك ليبدو في نظر مسؤوليه على مستوى المسؤولية من الناحية الثقافية.

عبد الحليم المروي عنه في حفيد الـ(بي بي سي) الذي يمرّ نوعا المرويات الواقعية (شهرزاد) والثقافية (منار) عبره، يبدو في موقفه بين مشكك في الأولى لأنها – كما يبدو له – لا تخلو في تشكلها من تناقض يعود إلى اختلاط غير مقصود وغير مدروس بين الأصل العربي أو الهوية الصافية والطارئ الاستعماري أو الاستعمار.. وبين رافض كليا لنخبوية لا تنتمي إلى الواقع ولا إلى المجتمع ولا إلى الذات المحلية ولا تمثل حلا لمشكلاتها، فهي في أحسن أحوالها أفكار يسارية أو شيوعية أو غوغائية لا تغيّر شيئا أو تنقذ أحدا، وهو كثيرا ما يصف منار بالشيوعية.

ولكن رواية حفيد الـ(بي بي سي) بوصفها رواية حل تختبر نوعي المرويات. وتبدأ بالثانية أي التي تعود إلى منار. فعبد الحليم الذي يمرر في تقاريره قسما من أفكار ومقتبسات منار يصاب بعمى الرقيب فيجيز مسرحية (الزعيم آخر من يعلم) التي تتضمن مشهدا لمحاولة اغتيال الزعيم، وتشاء الصدف أنه في ذات يوم عرض المسرحية يتعرض القائد لمحاولة اغتيال وعندها تحل اللعنة على عبد الحليم فيسجن.

وهو ما يقود عبد الحليم حتما إلى تبني مرويات الجدة شهرزاد بعد تنقيتها من التباسها المزمن. فهو بعد أن يفر من السجن مع من فرّ في أثناء الاحتلال في 2003 يتمكن من الهجرة إلى بريطانيا بوصفه سجينا ومضطهدا وبوصفه حفيدا لشهرزاد التي تحب الملكة وتقلدها.

وفي المقابلة التي تنشرها جريدة بريطانية، وتقرأها منار، يتبرأ عبد الحليم كليا من تأثير مرويات منار عليه. فهو يعترف بأنه كان رقيبا على الأعمال الفنية والمسرحية تحديدا، وأنه كان يعمل ذلك من دون وعي كمن يولد على دين بعينه. ولكنه في المقابل يشدد على انتمائه لمرويات الجدة في جانبها المنتمي للبريطانيين بمخترعاتهم وثقافتهم وملكتهم، ليكون مقبولا في مكانه الجديد الذي استقر عليه واختاره في النهاية بعد أن حسم موقفه من عراق تتداخل فيه المرويات ويضيع فيه من يتبنى واحدة منها على حساب الأخريات.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

ميسلون هادئ……غزارة الإنتاج وبراعة الأداء.

ميسلون هادئ……غزارة الإنتاج وبراعة الأداءمن الأحداث الفارقة والمائزة في حياتي،هو اللقاء بالروائية المبدعة ميسلون هادي، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *