حديقة (لو) وحقيقة (إذا)
ميسلون هادي
بحسب فيلسوفة اسمها (روث ميليكان)، فإن عبارات الشرط هي من أكثر الأعراف اللغوية شيوعاً، وإنها مستمرة في التداول لأن نتائجها تفيد كُلاً من المتكلم والمتلقي. وهذا شبيه بما يحدث للكائن البيولوجي الذي يكتسب الصفات التي تبقيه حياًعن طريق الانتخاب الطبيعي. وكما أن البشر يكررون التصرفات الناجحة في تحقيق أهدافهم، فإن الأعراف اللغوية تنشأ وتنتشر لأنها تقدّم حلولاً لمشاكل المتخاطبين.
إذا أردنا أن نجري تطبيقاً لهذه الفرضية على لغتنا العربية لقلنا إن أداة الشرط (إذا) تقدم أنجح الصفقات للمتخاطبين وتجعل العيش بينهم ممكناً إذا تم التفاهم بينهم وفق كتاب وحساب وجواب. إذا رضيت بهذا الأمر فإني سأعطيك جزءاً من وقتي.. وإذا أكملت هذه المهمة فإني سأعطيك مبلغاً من المال.. وإذا ذهبت إلى السوق سأكافئك بهذه الهدية.. وهذا هو المقصود بأدوات الشرط التي تعتبر من أكثر الأعراف اللغوية نجاحاً وشيوعاً لأنها تفيد كلاً من المتكلم والمتلقي.. ولكن هذه الأعراف اللغوية لم تخدم مصالح المتكلمين والمتلقين معاً لكي تستمر وتبقى في العراق، بل راحت تُلقَى على عواهنها جزافاً وأصبح الكلام كله كذباً في كذب، ففقد خاصية الاتصال. وهكذا اكتمل الإهمال ولم يعد المستقبل يبشر بخير، وذهب كل شيء هباءً..
ترى لماذا لا يتم استخدام فعل الشرط وجواب الشرط وفقاً لمصالح المتخاصمين من الساسة العراقيين؟.. لماذا لا يقول الطرف الثاني للطرف الأول إذا أكرمتنا بصمتك فلن أتكلم أنا أيضاً؟ وإذا أحسنت لي سأحسن إليك، بل سأكون أكثر إحساناً منك أيضاً؟ وإذا رفضتني سأرفضك رفضاً قاطعاً؟ وإذا قبلتني سأقبلك وأزيد على القبول بحماية ظهرك؟ وإذا حافظت على حريتي سأحافظ على حريتك؟ وإذا خطوت نحوي سأخطو نحوك؟؟
حتى التفكير بمواجهة هذا الانسداد المرعب في التوافق على حكم البلاد لم يغرهم على الاعتراف بكل أدوات الشرط وجواباتها الديناميكية. وهذه هي المفارقة المؤلمة التي جعلتهم عازمين على إفشال بعضهم البعض وبالتالي جعل اليأس يسكن عقول الناس ويستشري في نفوسهم، فمنعهم حتى من التفكير بمواجهة هذا الوضع الفاشل أو الاحتجاج عليه. كانت نتيجة ذلك خسائر فادحة في الأرواح وتراجعاً مريعاً في الخدمات مقابل سيطرات أمنية وحلول عسكرية وصراع على السلطة وعلى المناطق المتنازع عليها والمناطق المجاورة لها أيضاً.. وتحميل الأطراف بعضها البعض مسؤولية كل فشل ذريع.. وعندما يتصدر بلدهم العراق قوائم الدول الأكثر فساداً على الأرض فلا يجد الناس مسؤولاً واحداً يستقيل بسبب إحساسه بالإحراج من ذلك.
وهنا بالضبط تكمن العلة.. هنا يكمن الداء الذي ليس له دواء.. (إذا) أداة شرط لو عرفوا جوابها لعرفوا علة هذا العراق المحبط والمهموم.. لا أحد يستقيل (إذا) تصدرت عاصمته بغداد لقب أسوء المدن للعيش في العالم.. لا أحد يفصل من عمله (إذا) ثبت تزويره لشهادة.. ولا أحد يعاقب (إذا) ثبت سرقته واستلامه لرشوة مقابل كل تعيين، ورشوة مقابل كل صفقة، ورشوة مقابل إطلاق سراح كل سجين بريء، ورشوة مقابل كل متجاوز على الأرصفة تُدفع لمراقب في أمانة بغداد.
وعندما لا يجد العراقي مسؤولاً واحداً يستقيل من منصبه (إذا) كان قد تسبب في مأساته، فإنه سيصبح دائخاً وموجوع الرأس، بل لا يمتلك (الواهس) حتى للتململ أو العمل الخلاق.. إنه صريع الفوضى والخراب وانعدام الخدمات.. (إذا) عبر الشارع يدير ظهره للسيارات القادمة يائساً حتى من النظر بالاتجاه الصحيح.. و(إذا) خرج من بيته مشي في نهر الشارع بدلاً من الأرصفة (الملظومة) بالمولدات والتجاوزات والبسطات والحواجز.. (إذا) أراد الذهاب الى عمله يصل إليه في ساعتين بدلاً من ربع ساعة، و(إذا) عاد منه يصل في ثلاث ساعات بدلاً من نصف ساعة. أما (إذا) وصل بيته مهدود القوة والحيل، فسيجد أمامه أنقاضاً لم ترفع أو مولدة لا تعمل أو كهرباء وطنية تعمل بفيس واحد.. سيخرج من البيت للتسوق فسيجد عشرين شارعاً مختصراً قد أُغلقت بالصبات الكونكريتية.. و(إذا) ما وجد طريقاً سالكاً فستداهمه سيارة تهجم عليه (رونغ سايد) قد تقصف عمره أو ترفع ضغطه أو تذهب بما تبقى في رأسه من عقل.. (إذا) استلم رز الحصة التموينية سيجده مليئاً بقمل الفساد، و(إذا) فتح الراديو لن يسمع سوى الردح والتراشق بين السياسيين الذين اخترعوا لنا مترو بغداد السياسي، وهو حالة خاصة من المترو تتناسل وتتكاثر أنفاقه المظلمة تحت الأرض الملغومة بالمشاكل والأزمات..
بهذه الطريقة تستعمل أداة الشرط (إذا) عندنا.. إنها صياغة مصممة للعراقيين وليس للبشر الأسوياء.. مصممة لمن مات قلبه وأصبح يائساً من هذه البلاد العظيمة التي تتفسخ وتتبهذل، لمن كف عن الأمل واستكان لمدينة تشوهها الرقع والخرق والكذب الذي يزيد الطين بلة؟ بعد ذلك يأتي السياسيون ليطلقوا طلقة الرحمة على آخر ما تبقى من عبقرية العراقيين وعقولهم المستنيرة بحيث لا تبقى فيه فسحة للأمل أو العمل؟ إنهم يستنكرون حتى الاحتجاج والتظاهر على كل هذا الخراب وسيستعملون (إذا) للمرة الألف بهذه الطريقة الخائبة: (إذا) كان المتظاهر سنياً سيقولون إنه طائفي، و(إذا) كان شيعياً سيقولون إنه بعثي من أزلام النظام السابق، و(إذا) كان قومياً سيقولون إنه إرهابي، و(إذا) كان مستقلاً سيقولون إنه عميل مدعوم من دول الجوار، و(إذا) كان شيوعياً سيقولون إنه علماني كافر، و(إذا) كان كبيراً في السن سيقولون إنه من العهد البائد!!!
هذه هي الطرق المستعملة لأداة الشرط (إذا) عندنا مع الأسف؟ وما يمكن أن تفعله لساستنا هو إزهاق روح المواطن وإلغاء خاصية الاتصال معه، بينما الحقيقة تقول إن (إذا) أداة شرط لو عرفوا جوابها لعرفوا علة هذا العراق المحبط والمهموم. وطبعاً (لو) أداة شرط غير جازمة زرعوها وما خضرت!!
2014