حديث عن أوجاع الظهر وآلام اليد اليمنى!
ميسلون هادي
ثمة أخلاقيات معينة ترتبط عادة، وبعـد مـواضـعـات اجتماعية طويلة، بمهنة دون أخرى فيصبح أبناء هذه المهنة متشابهين في طبائعهم وأفعالهم وردود أفعـالهم، ولـعـلي استطيع، من ملاحظتي الشخصية، أن أشير إلى أن العاملين في مهنـة الأدب يتشابهون في صفات معينـة قـد يتسم بعضها بالسلبية في نظر الآخرين منها كون الأديب، بـانسحابـه إلى عزلته، مغترباً قليلا عنهم، إن لم نقل مختلفاً وممتثلاً للمزاجية والتقلب الحاد بين درجات الإنفعال المختلفة لدى الانسان، وهـذه الصفات وأخـرى غيرهـا، قد تميـز الأديب عن غيره من الناس، كما تميز ابناء مهنة أخرى عن غيرها من المهن. وليس هذا موضـوعي، وإنما أدخل من بابـه الواسع فقط إلى باب أضيق لأميز بين طبيعتين مختلفتين لذاتين تنتميـان إلى عالم الأدب نفسه هما ذات (الشـاعر) وذات (القاص أو الروائي) وأضع على منضدة الكتابة محض ملاحظـات شخصية قابلة للرد والنقاش بالرغم من أنها قد تكوّنت بعد انتباه ومعايشة فرضها على العمل الادبي نفسه.
دهشة الطفولة
ألاحظ أن الشاعر، بشكل عام، يكون، ومهما تقدم به العمر،مندهشا دائماً دهشة الاطفال ومبتهجاً بهجة الشباب كلما رأى الجمال يمر أمام عينيه، ولكنه من جهة أخرى نرجسي متباه تابع لحركة الحياة لشدة تعلقه بها، حتى وأن كـان ذلك عن طريق توافقه مع تفاصيلها اليومية الزائلة، فتراه ذا طبيعة اجتماعية أكثر انفتاحيـة على الآخرين ومرونة مع الأفكار اليوميـةالسائدة في المجتمع، وتراه هـارعاً للمناسبات والفعاليات والفرص الاجتماعية ناظراً للجاه والشهرة متمنياً الجلوس في المقاعد الأمامية للقاعات، بدلاً من الجلوس في الصفوف الخلفيةمع عامة الناس، منطلقاً دائماً من إحساسه بأن موهبتـه كبيرة وفذة وتستحق المجد والأضواء وعلو الشأن.. وإذا كان ثمـةشعراء يعملون ويعيشون بصمت وعزلة بعيداً عن كل تلك المتعلقات الاجتماعية، فهم موجودون ولايخلـّون بالقاعدة، التي أنطلق منها في تكوين هذا الرأي .
الشعراء ايضاً أكثر استجابة لحركة الحياة وأكثر تفاعـلاً معها، فتراهم يبثون ردود أفعالهم عليها بسرعة، وأحياناً وهم ينتظرون الجدل واحتكاك الافكار، يفعلون ذلك شفاهياً وعلناً فيتحدثون أكثر من غيرهم، ويغتنمون كل مناسبة، لكي يقرأوا قصائدهم بصوت عال على أصدقائهم، وعلى مسمع من الآخرين منتظرين رد الفعل، السريع، ايضاً عليها.. ومن خلال تجربتي في الصحافة الثقافية ألمس هـذه الرغبـة لقراءة الشعـر أمام الآخرين لدى الكثير من الشعراء، وألمس رغبتهم في تغليب ذواتهم على الآخرين، في ظل غلبة النرجسية لديهم في تقییم أشعـارهم وأشعار من هم أكثر خبرة وتجـربـة منهم، لذلك نجدالروائي أكثر عزلة من الشاعر وأقل اجتماعية منه وأكثر تمهلاً في الاستجابة لحركة الحياة اليومية، بمعنى أنه لا يبث ردود أفعاله عليها بالسرعة التي يبثها الشاعر، ولكنـه يراهـا ويهضمها ويتمثلها ويدعها تتفاعل في داخلـه بنفس الكيفية التي ينكب فيهـا على منضدة الكتابة ليكتب.. أي بـالصبـر والدأب والمطاولة.. ومع مرور الزمن تجعل هذه الميزات الروائي ذا طبيعة متـأنية مـوضوعيـة تنأى بصاحبها عن النرجسية والذاتية، وتمحو في داخله كـل رغبة في مكتسب اجتماعي او وظيفي لصالح هذه الأنـا، لأن الكتابة الروائيـة تجعل من هذه الذات في خدمة الذوات الأخرى وفي حالة تكامل معها، أي أنها تنتهي بحكم طبيعـة الكتابـة إلى زوايـا نظـر مختلفة، تنتهي إلى أن يخرج الروائي من ذاته ويراقبها هي الاخرى بمنتهى الموضوعية.
قد تبدو هذه الملاحظـات، لأسباب شخصيـة، منحازة إلى القصاصين والروائيين، ولكني أشعر دائماً أنه ليس من الإنصاف أن يكتب الشاعر قصيدته في ثلاثين دقيقة وتصطف تلك القصيدة في المكانة نفسها، مع قصة جميلة كُتبت في ثلاثين ساعة.. طبعاً قد تكون القصيدة أجمل وأذكى وأكثـر عبقريـة.. ولكني عندما أفكر بآلام اليد اليمنى، وأنين المفاصل، وأصوات الرأس التي لا تهدأ، والانحناء الذي يتركه على الظهر الانكباب لساعات طويلة على الكتابة، أسأل نفسي هذا السؤال، و أعلم أنه سيثير حفيظة الشعراء، إذا اختتمت به موضوعاً (يبدو) في غاية الجدية!
مجلة ألف باء 1997
شاهد أيضاً
الأحلام لا تتقاعد
لو أنَّ حدّاداً تعب وهجر مهنته أو نجّاراً شاخ فتوقف عن العمل أو محاسباً بارعاً …