حبيب عبد الرب سروري، ابنة سوسلوف، نسخة قصيرة

رواية “ابنة سوسلوف”
تجربة فرد.. تجربة بلد
منشور
د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
تنطلق رواية “ابنة سوسلوف”()، لحبيب عبد الرب سروري، من تجربة، هل هي تجربة الكاتب نفسه؟ أم هي تجربة شخص آخر؟ أم هي تجربة متخيّلة تلبّسها الكاتب حد التماهي معها؟ ليس من أهمية لهذا هنا بقدر أهمية أنك تحسّها تجربة إنسانٍ فرد، (عمران)، ومن خلالها تجربة بلد- اليمن- في حِقب زمانية مرّ بها، ليكون بطلها الراوي هذا شاهداً عليها، وبالتالي مانحاً لها مصداقية لا تكاد تشك بها. تبدأ الرواية في عدن باسترجاع أحداث سياسية من أيام الستينيات، ولاسيما الكفاح ضد الاستعمار، والتظاهرات في سبيل استقلال اليمن الجنوبي. وهي بداية يُلمّح البطل الراوي فيها مبكراً إلى بداية العنف الذي سيكون فيما بعد كما سنراه في الحاضر حين تصل بنا الرواية إليه، وكما ربما نراه على أرض الواقع. ولا يتعارض وصف ما يجري بالعنف، مع كونه يأتي متمثّلاً بوقائع الكفاح ضد الاستعمار حين كانت الجماهير تهتف:
“عنف بالعنف لولا العنف الإقطاع ما مات، ولولا العنف ما العالم تفجّر بثورات، ولولا العنف ما سقطت جميع الحثالات.
فهو استقراء مبكر، من خلال ما يقع في ماضي خط الرواية، لما سيأتي متأخراً في حاضره، كما ينقله إلينا الراوي. وهو، من جهة أخرى، يوحي أو يصرّح بأنْ سيكون هناك ربطٌ ما بين المرحلتين أو الزمنين ومرحلة توحيد اليمن بينهما بانتصراتها ونكباتها. ولكن هل سيكون ذلك على المستوى السياسي أم على مستوى خط حدثي متخيّل يتعلق بالشخصية؟ نظن أنّ اعتماد الخيار الأول كان سيعني الوقوع في فخ الوثيقة والتسجيل، كما يحدث لبعض الروائيين، وتحديداً حين يصطادهم التأريخ وإغراء الوثيقة والواقعة الجاهزة وربما قضايا المرحلة، والتعبير عن وجهة النظر التي قد يتبنّاها تجاه ذلك كله على أرض الواقع. الواقع أن الكاتب رسم خطّاً متخيلاً جميلاً لم يكن بموازاة الخط التاريخي السياسي القائم على خط التاريخ الحقيقي تماماً، بل هو يأتي مضفوراً به، بحيث صار بطله وشخصياته الأخرى أجزاءً من الخطين اللذين يصيران خطاً واحداً.
( 2 )
واضح إذن أن الرواية مبنية على خطّين متوازيين من جهة ومتداخلين من جهة أخرى. (عمران) مواطن مثقّف يمني يعايش، على امتداد حياته من نهاية الخمسينيات وحتى العقد الثاني من القرن الحالي، تاريخ اليمن ويشهد على وقائعه وخفاياه. هذا الامتداد أو المسار لحياة هذا المثقف يشكل، وهو المتخيّل، خط الرواية الرئيس، أما الخط الثاني، والذي يوازي الخط الأول ويتداخل معه، فهو خط التاريخ اليمني الحقيقي في أصله ولكن الخاضع هنا لوجهة نظر بطل الخط الأول والراوية وراويها. وحين يعايش هذا البطل تاريخ اليمن فإنه يفكّكه انطلاقاً من وعيه به، بدءاً بمرحلة الاستعمار، ومروراً بمرحلة الاستقلال وتأسيس جمهورية اليمن الجنوبي، ثم الانقلاب الماركسي الماوي وتأسيس جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التي ينخرط، كما هو حال جل شباب البلد، في مؤسساتها وتنظيماتها، ثم مرحلة اليمن الموحد التي يصوّر فيها اليمن الشمالي وهو يأكل اليمن الجنوبي ليدخل البلد بذلك مرحلة الحكم الدكتاتوري الذي تهيمن عليه قوى الظلام والطغيان والتطرف الديني المتخلّف، وصولاً إلى ثورة الربيع العربي.
وكأن الكاتب أراد انغماراً أكثر في المتخيّل من جهة، وابتعاداً عن المرحلة الرديئة التي صاغتها وتصوغها السياسة ويقدمها التاريخ عملياً من جهة أخرى، يتعالى الكاتب شكلياً حتى على الحكي لشهود المرحلة المشاركين في صياغة الواقع الرديء، ويجعل راويه البطل، بدلاً من هذا، يروي حكايته لملك الموت، أو من يسمّيه (هادم اللذات) ويعني به عزرائيل بالطبع. ولأن الرواية، في ذلك كله، قائمة على تجربة الكاتب أو بعض من يعرفهم، فإنها تميل، شكلياً وجزئياً، إلى أن تكون سيرة روائية، وربما لهذا كان مقنعاً ومعزّزاً لمصداقية التجربة أن تُروى بضمير على لسان بطلها (عمران). وليبرر ذلك لنا ويسوّغه فنياً، يُخبرنا هذا الراوي، الذي غالباً ما سنفترضه أو نتخيله الروائي نفسه، بأنه سيحكي لنا حياته وشهادته على مرحلة أو مراحل من تأريخ اليمن الحديث، بدءاً بمرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية منتصف السبعينيات حين تهيّأ له، وقد صار الآن بطل الرواية، التمتع بمنحة دراسة في باريس، وأكثر من ذلك عن مرحلة التحوّل من الانتصار واليسار والاستقلال والحكم الوطني والانفتاح، إلى الحكم الديني والسلفي والتخلف والرجوع إلى القرون الوسطى وما قبلها، وكل ذلك من خلال التجربة اليمنية، التي قد لا تبتعد كثيراً عن تجارب بلدان الربيع العربي، بكل ما فيها من إبهارات وعنفوان ونكبات في الوقت نفسه.
إن تجربة البطل السياسية، تعلّماً وتلقّياً وصداماً، ومقاربات مع الماركسية في الماضي، ومع الحياة في الغرب في الحاضر، وانكشاف الحقائق والزيف، كلها تأتي مقنعة، حين استطاع الروائي قد أن يزن ما يقوله بميزان حِرفي روائي، لم يُخرج عمله عن الحوارية والتعديدة. وربما يصبّ في هذا أنْ جاءت أيام ومراحل انتشار اليسار وحركاته ومفاهيمه ونظرياته وتنظيراته حين كان الشباب المنتمي، والبطل يعيش نشوة الإيمان و(الانتصارات) أو الأكثر من ذلك كله الحلم بالانتصار وبتحقيق الأهداف وظهور المجتمع (المثالي)، وغالبية ذلك كانت عادة ما تبقى أحلاماً فقط، بل حتى أوهاماً، ونحن نعرف كيف أن السياسة، ولاسيما اليسار والماركسية والشيوعية، قد صارت بين الشباب والمراهقين في الوطن العربي بين الخمسينيات والسبعينيات أحلاماً هي أقرب إلى الموظة. ينقل لنا البطل المنتمي والمؤمن بالهدف الرومانسي لليسار اليمني واشتراكية الماركسية كيف ينتهي الحلم نهاية ساخرة، فبعد أن يقوم هو ورفاقه في الحزب بفتح دورة لرفع وعي العمال وثقافتهم، ويحس كأنه حقق الثورة، يقول:
“عندما عدتُ إلى البيت في حدود العاشرة مساءً كانت تنتظرني مفاجأة. كل النساء اللواتي حاولتُ تعليمهن القراءة والكتابة مكتظّات في إحدى غرف بيتنا، تتنقل أمي بينهن لتهدئتهن بعطف ورحمة. يبكين ويطلبن من أمي أن تتوسط عندي لكي أعفيهن (وأعفي الرجال أيضاً) من حضور هذه الدروس، دون أن أقطع رواتبهم”. الرواية، ص22-23.
وكما نرى هنا، وتوافقاً مع أحلام المراهقة السياسية، يغلب على الكثير من مفاصل الرواية أسلوب السخرية، ولكنه، وكما يأتي كثيراً في الأدب، يعالج قضايا مأساوية أو سلبية، فتأتي مشحونة بألم الذات ومعبّرة عن الكفر بكامل تجارب رجال السلطة على اختلاف أشكالها.
( 3 )
وحين يصل بنا الراوي إلى أيام الثورة الشعبية (الربيع العربي في اليمن) وساحة التغيير، تبدو لأول مرة لنا، وكما هو ربما للراوي البطل نفسه، ملامح نصر أو، على الأقل، تغيير من نوع ما أو تحقيق شيء، هو في الحقيقة كنّا نحسه، ومع هذه الملامح نحسه، وسنبقى نحسه بشكل ما، في مسار الرواية. لكن الصدمة تأتي سريعةً لتغتال فينا كما ربما في البطل أي أمل حين تخترق هذا التغيير ما يمكن أن ندعوها تغييرات بثورية شكلية وبحقيقة مضادة فعلية، ومن ذلك حين يدخل خط صديقة أخت البطل (أمة الرحمن)، على رأس جمهور نسائي سلفي داعم للثورة ظاهرياً، ومخيف حقيقةً، خصوصاً وأننا سنعرف أن (أمة الرحمن) هي نفسها (فاتن) أو (هاوية)، كما كان البطل يسميها حين كانت مراهقَيْن أيام الثورة والاشتراكية، ولكنها بنسخة ملائمة للمرحلة. وبرأينا هنا لا يستطيع الراوي أن يحافظ على حياديته التي تلائم الكتابة الروائية، فيعادي ويسخر، ومن ورائه الكاتب، من الإسلامويين والسلفيين، وهو على أية حال لا يُخفي عداءه وسخريته على امتداد الرواية. وهنا لا يأتي الكاتب أو الراوي، وفي النتيجة الرواية، بشيء غريب، بل هو محايثة للثورة التي عرفنا أن الالتفاف عليها، على أرض الواقع، قد جرتْ فعلاً بوسائل مختلفة. في النتيجة يأتي التغنّي بالثورة، ثم الأسف عليها ورثاؤها، والتغنّي بعدن وكأنها أندلس ضائعة، وبشكل موازٍ لذلك يأتي ما قد يكون معبراً عنه على مستوى الخط الخاص للبطل الراوي، وهو التأسف على (هاوية) التي تبدو، وهي (أمة الرحمن) قد ارتضت ما هي فيه.
ومن الطريف أن تتمثل هنا المفارقة الحقيقية التي عادةً ما نراها على أرض الواقع المتمثّلة في أن النساء هن أكثر من الرجال دفاعاً عن اضطهادهن من الرجل والسلطة ودين السلفيين. والواقع أن الروائي، في ذلك، يُدخل المرأة أيضاً وسيلة للتعبير عن الموقف من اليمن وما جرى له سياسياً وتأريخياً. لماذا؟ نعتقد لأن المرأة أحد أكثر الوجوه التي انعكست عليها الصراعات ما بين اليسار واليمين، وبين الانفتاح والانغلاق، وبين التحضّر والتخلف. وكما كانت تلك الفتاة الصغيرة (فاتن) أو (هاوية) ببراءة سنيّها الإحدى عشرة، تمثل، و(عمران) يرقبها بنقاء، مرحلة الرومانسية السياسية اليسارية البعيدة عن الواقع منتصف السبعينيات، ستمثل (أمة الله) التي ستكونها (فاتن)، بعد ثلاثة عقود ويزيد، قبحَ الواقع وقسوته حين تصير نموذج التخلف والانسياق إلى مظاهر الدين الزائفة المتشددة وانجرافها في حياة الجنس في الوقت نفسه.
بقي أن الرواية، ومع كل ما انطوى عليه عالمها وخطّها من ألم وقسوة ورداءةِ زمنٍ وتشوّهِ أناسٍ وسوداوية، جاءت بأسلوب سردي رائق.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *