جنوب من جهة أخرى

جنوب من جهة أخرى

ميسلون هادي
في بلد كالعراق كان يعتبر نفسه في حالة حرب مع اسرائيل، أو على الأقل عدواً لها ولا يزال، يصبح إشكالياً للغاية سرد أحداث معينة ليهود من الجنوب العراقي بكثير من التشويق والتنميق من أجل نصرة فكرة توحي إن هؤلاء وغيرهم من الصابئة والمسيحيين هم الوجود العراقي الذي سبق الجميع، ولما انفرط عقده حلت علينا المآسي من كل حدب وصوب؟. تلك فكرة بدأت تتغلغل في وجدان بعض المجتمعات العربية كمصر ولبنان والعراق وتعكس رد فعل تلك المجتمعات من بعض إحباطات العروبة وويلات الصراع داخل الدين.
عاشت الجالية اليهودية في العراق منذ أكثر من خمسة وعشرين قرناً، أي منذ العهد البابلي، وكانت حتى قيام إسرائيل 1948 تمتع بمكانة مميزة داخل نسيج المجتمع العراقي. وبلغ عددها قبل بدء الهجرة الى اسرائيل واوروربا وأمريكا مئة وأربعين ألف نسمة تبقّى منهم بضع عشرات فقط.
بعد خلو العراق من اليهود وبعد اتهام بعض يهوده العراقيين المتبقين بالتجسس واعدامهم في ساحة عامة في نهاية الستينات، وجد الروائي العراقي نجم والي في تلك الهجرة مادته لأعادة التاريخ من جديد ورواية قصص مجموعة بعينها من تلك الطائفة.. فدارت أحداث روايته (ملائكة الجنوب) حول تلك الهجرة أو التهجير القسري ومادار حولها من أحداث جسام في الخمسينيات والأربعينيات والستينيات وهي مسألة جعلها لنا والي، في حلوها ومرها، شديدة الحيوية عندما ضفرالوثيقة بالخيال مزوقاً شخصيات الواقع بالبريق.
شخصيات الرواية الرئيسة الثلاث هي (ملائكة) ابنة الطبيب اليهودي كباي و(نور) ابن الشيخ الصابئي يحيى و(نعيم) ابن الصابئية فتنة والمسلم عباس.. يحيط بهم موكب من الشخصيات الأخرى المحلية والاستعمارية التي تجعلك تخشى وانت ترى التاريخ محتشدا في مكان واحد أن تنفر من هذه الحشد وتدوخ معه.. ولكن صنعة (الأسطى) تجعلك تبحر معه الى النهاية….
(ملائكة) هي الصورة الجميلة للفتاة التي ينقشها نور الصابئي على علبة دبس العروس وعباس هو الذي يخترع لها اسمها (ملائكة الجنوب) … ثم يأتي هارون الراوي صديق الجميع وحفيد البستاني الذي كان يعمل في مقبرة الأنكليز ليستجمع قصاصات قديمة ويكتب أويخترع لنا روايات عن تاريخ أولئك الثلاثة مفتتحا الرواية بالدخول الى المقبرة الانكليزية ثم الإلتقاء بشبان يجتمعون قرب نفس البيت الحجري الذي دارت فيه الكثير من أحداث الرواية وتنتهي عنده أيضا..إنه روائي مهاجر عاد من الغربة بعد 23 عاما ليجد علبة دبس العروس (ملائكة الجنوب) أمامه وعلبة أخرى مبطنة بالقطيفة البنفسجي فيها 193 قطعة ذهبية نقش عليها الصائغ الصابئي نور صورة ملائكة الجنوب فيبدأ هارون محرضاً بتلك الصورة وصاحبتها الجميلة بتتبع أثر الثلاثة عبر 193 تخطيطاً سردياً يروي خلالها ماجرى في العمارة منذ الحرب العالمية الأولى ولحد الحرب الأميركية الأخيرة على العراق ،مستحضراً عساكر الأنكليز في أول دخولهم المقبرة جاعلا من أولئك الضباط يحملون أسماء شعراء مثل تي أس اليوت وعزرا باوند …كما لو أن نجم والي أراد أن يسخر من بريطانيا “العظمى” على طريقته الخاصة.
(ملائكة الجنوب)رواية مكتوبة بحرفية عالية مما يجعلها تمثل في ذهن قارئها كما لو أنها حدثت فعلا وهنا تكمن الإشكالية التي تجعل هذه الرواية جدلية بامتياز حيث تتقاطع الحقيقة مع الخيال وأحيانا تتسربل بالسياسة عندما يربط هارون الروائي بين مصيره ومصير نور الصابئي الذي تمرد على فوزي طاعون فقطعوا له أصابعه بعد أن ثار في سجنه على العمل المناط به للمجهود الحربي في نقش صورة ملائكة على التحف النادرة. ليسترجع لحظة عذابه هو الاخر عندما كان على الحدود يرتجف بسبب الخوف والبرد ويتوسل هذا المتمرغ في وحل الثلج حراس الحدود بلا حيلة ولاعون (كأنني اتحدث معهم باسم شخص اخر شخص استبدلته بشخصي بالضبط مثلما فعل نور في بغداد عندما رمي الى السجن ).
كانت طريقة التخطيطات قد انقذت مثل هذا العمل الطويل من الرتابة وفي تكرارها بشكل دائري مايوقظ ذاكرة القارئ حول مسارات الشخصيات ..ولكن هذه التخطيطات كانت تتوسع لتشمل شخصيات كثيرة شتتت انتباهنا عن القصة الرئيسية للثلاثي نور ونعيم وملائكة وكان بعضها غير ضروري لما احتواه من استطرادات تقاطعت مع انسيابية الرواية بينما تخطيطات أخرى أغنت الرواية بحضورها التراجيدي وكانت كالجداول التي تصب في نهر الرواية كشخصية (لالا) التي تعد نفسها في سخرية مريرة مناضلة وهي التي تقوم بجلب العاهرات من كل مكان لنقل الامراض الى الجنود الانكليزانتقاما منهم لتسببهم في مقتل زوجها نعيم طاووس. ولكن ،على مانرى في الروايات الكبيرة،فإن هذه الإستطرادات ضرورة من ضرورات العمل الموصوف بالعالمية والمعنية بالكم مثل عنايتها بالمضمون وهناك يجنسون الحجم الذي تكتب به الرواية العربية ب(النوفيلا) وليس ب(النوفل).ومن الجهة نفسها فأن ثيمات الرواية العالمية أخذت تبتعد عن إعتماد التجربة الذاتية لتقارب طبيعة البحث العلمي والتاريخي والأستقصاء الميداني عن العالم الذي تتناوله الرواية.. وياللمفارقة أن (يكون النسيان هو الطريقة المثلى للعيش في هذا البلد)وذاكرة نجم والي تختزن كنزاًمن التفاصيل تغطي الأجواء المرعبة لنصف قرن من الزمان …وبالتأكيد فإنه قد أدخل إلى محترف الرواية عناء سنوات عدة من جمع المعلومات والتأرخة والتوثيق لفترة طويلة من تاريخ العراق ..ولكن مايؤخذ على الرواية أنها جعلت بعض الشخصيات تتحرك وفق مسارات إفتراضية كما وروت الأحداث من وجهة نظر لا (تؤشكل) الخصم وإنما تلبسه لباس الشياطين المطلق . بينما تظهر كباي متفانياً في خدمة وطنه العراق ، راسمة شخصية اليهودي الأخير المتشبثة بالوطن رغم كل التحديات والمتفاني مع زوجته المسيحية من أجل الناس ولكن نهايته المأساوية يتحملها الوضع المضطرب للوطن العربي الذي حكم عليه الروائي بالسقوط التام..
أن تاريخ الطائفة اليهودية في العراق يكاد يختفي من الذاكرة الشعبية التي جايلت ماقبل الحرب العالمية الثانية وعاشت في عقابيلها وغير ذلك لايوجد سوى ماتحدثت عنه الأخبار من أرشيف الوثائق اليهودية الذي تم نقله الى الولايات المتحدة بعد دخول الجيش الامريكي الى العراق عام 2003، وهو الارشيف الذي تم العثور عليه في قبو احدى المباني وضم كتباً وصوراً ومخطوطات شبه غارقة في مياه الصرف الصحي التي كانت تغمر المكان بسبب أعمال التخريب والنهب.
وبين هذا وذاك يصبح من الأهمية بمكان أن تأتي الرواية لتدلو بدلوها في تاريخ هذه الطائفة وآثارها التي غادرت العراق مثل أصحابها الى غير رجعة فاختفى آخر أثر يدلنا على وجودها مثلما اختفت حقب أخرى من تاريخ العراق الحديث.ورواية )ملائكة الجنوب( حتى وإن كانت مخترعة في بعض جوانبها كما جاء في التوضيح (الذي لابد منه للقارئ) في الصفحة الاولى من الكتاب..فإنها محكومة بوعي جمعي وذاتي يفجره الدور الشخصي للروائي لترميم ذلك التاريخ والتأثير على مزاج القارئ في سيرة ذاتية غيرية اختلطت فيها الحقيقة مع الخيال واضعة ذلك القارئ أمام السؤال العاصف : أين هو الحد الفاصل بين اختراع حقيقة تفارق التاريخ وبين أختراع تاريخ على حساب الحقيقة.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

النصف الآخر للقمر

ميسلون هادي القادم من المستقبل قد يرى أعمارنا قصيرة، وعقولنا صغيرة، لأنها انشغلت بالصور المتلاحقة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *