جريمة في بغداد

جريمة في بغداد

ميسلون هادي
عندما كتبتْ أجاثا كريستي روايتها “جريمة في بغداد” وروايات بوليسية أخرى تدور أحداثها في بعض مناطق العراق الأثرية، فذلك لأنها كانت تعيش فعلاً في بغداد برفقة زوجها الآثاري الإنكليزي “ملوان” الذي كان يعمل في مجال التنقيب عن الآثار، ومعه يعمل علماء بريطانيون آخرون في هذا المجال ومجالات أخرى، كالتنقيب عن النفط، ليساهم هؤلاء، ومنذ دخول الإنكليز إلى العراق في الكشف عن الكثير من الكنوز الأثرية وآبار النفط والمعادن الأخرى. وقبل ذلك، وعندما دخل نابليون بونابرت إلى مصر في حملته العسكرية الشهيرة، حملت سفنه الحربية القادمة من شواطئ أوربا، مجموعة من العلماء الكتّاب والمفكرين، فأسهمت حملته العسكرية تلك في إطلاق النهضة التي ستساعد بعد حين في دفع المجتمع خطوات إلى أمام. وبالرغم من أن المصريين اختلفوا قبل أعوام بالذكرى المئتين لهذه الحملة عمّا إذا كان يجب الاحتفاء بها حقاً وبمنجزاتها، أم الوقوف بالضد منها بوصفها تجربة استعمارية. إلا أنهم في النهاية أحيوا هذه الذكرى وأقاموا الكثير من الأعمال التي تعترف بها. أما السيد جورج دبليو بوش فعندما أرسل قواته العسكرية إلى العراق و”حررنا” بالدبابات والقاصفات والصواريخ والبساطيل العسكرية التي كان حتى سفيرهم المدني يرتدي واحداً منها، ودون سبب معروف، فإن أول ما دشن به حملته تلك هو إحراق المكتبات وتدمير المتحف العراقي ودكّ أبواب البنوك وفتحها للصوص كي يعبثوا بها ويحيلوها إلى خراب.
هكذا بالغت أمريكا، التي آذت الشعب العراقي كثيراً منذ 17/1/1991 في الحديث عن اهتمامها بالشعب العراقي وحرية الشعب العراقي وسعادة الشعب العراقي. وعندما جاءت إلى العراق وجاء أوان فتح العلب، خرج الصفر عملاقاً ومرعباً وصادماً لملايين العراقيين الشرفاء الذين كانت قلوبهم تنزف دماً وهم ينظرون إلى ممتلكات الدولة وهي تنهب المخطوطات النادرة وهي تُحرق وآثار أعرق حضارة في العالم وهي تُسرق وتُهرّب إلى خارج البلاد، ثم تُرك العراقيون بلا كهرباء ولا خدمات ولا نظافة ولا نظام مروري يراعي أبسط قواعد الأصول واللياقة، ثم أصبح الأمن المفقود الهاجس الأكثر رُعباً من بين كل تلك الهواجس التي تقضّ مضاجعهم فامتلأت أدراج الطب العدلي بجثث القتلى الذين ترديهم رصاصات المجرمين من أجل سلب أموالهم وسياراتهم، وطالعتنا الصحف في كل يوم جديد بأسماء جديدة لأطباء معروفين وأساتذة جامعيين وصحفيين ومسؤولين سابقين ولاحقين، ورجال دين قُتلوا أو خُطفوا على أيدي مجهولين.
بعد تلك الأيام العصيبة، وفي صيف قائظ، وخلال أسوء محنة كهرباء مرت على شعب من الشعوب على وجه الكرة الأرضية، شهدنا صبراً عراقياً غير مسبوق على تلك المحنة.. ودعا رجال الدين الناس إلى الانتظار والتروّي وعدم اللجوء إلى العنف.. وأشهد أن الناس امتثلوا للدعوة، وتروّوا وانتظروا، فاطمأن الجنود الأمريكان إلى ذلك، ودفع البعض منهم إلى الترجل من الآليات والنزول إلى الشوارع لتناول المرطبات أو الدخول إلى المحلات للتبضّع وشراء ما يجدون ثمنه رخيصاً من الكهربائيات والسلع المختلفة الأخرى. كما كانت الدبابات تمر وجنودها يلوحون بالتحية إلى الأهالي ويضحكون، فيرد الكثير من الأطفال على التحية ، ويجرّبون النطق بمفردات إنكليزية يعرفونها للتقرب والتحبب دون خوف من بندقية قد تُصوّب عليهم فترديهم قتلى في الحال.
وكان ذك التروي والانتظار هو الفراغ الذي كان يجب أن يملأ وعلى الفور بالنظافة والكهرباء والماء والأمان وزرع الورود ورفع والأنقاض. فقد ساد الجو سكون عجيب، ولم يصدر عن الناس، وهم العراقيون أية ردة فعل سريعة غير هذا السكون. كانت أيام تشبه في سكونها أيام الجمع الشتائية الباردة.. أو أيام العطل الرسمية.. لا أحد يأتي.. ولا شيء يحدث.. ولا حكومة تعمل.. ولا قانون يُخشى منه.. ولا شيء على الإطلاق. فقد استيقظ الناس في صباح العاشر من نيسان على بلد بلا ساعات ولا أيام ولا قوانين. التواريخ أصبحت تنطح بعضها البعض ولا تمحوها، وإنما تجاورها في تناقض صارخ وفريد من نوعه في التاريخ الحديث. فهنا تُقام الفاتحة على روح الملك فيصل الثاني، وهناك تُقام الفاتحة على روح الثوار الذين ثاروا عليه. وهنا مدينة صدام يتحول اسمها إلى مدينة الصدر، وهناك ساحة الغريري يتحول اسمها إلى ساحة عبد الكريم قاسم. وهنا “14 تموز” يوم حداد لأنصار الملكية، وهناك “14 تموز” ذاتها يوماً وطنياً للثوار على الملكية. ولم تسلم التماثيل من هذا الانفجار التعبيري فتبخر أحمد حسن البكر، والعقداء الأربعة شهداء أم الطبول، وعبد المحسن السعدون، وأزال الجمهور الغاضب كل ما وصلت إليه اليد من رموز التاريخ والسياسة، في حين لم يلتفت حتى اللصوص منهم إلى إزاحة تمثال شاعر أو سرقة نصب فنان، فأفلتت من هيستريا الغضب الجماهيري لأنها لم تكن أصلاً المقصودة بالغضب.
في تلك الأيام التي تأخر فيها تشكيل (مجلس الحكم) تأخراً غير طبيعي بسبب التناحر والخلافات والصراعات بين أعضائه، كان الإحباط قد أخذ يدب ويفعل فعله بين الناس، والصدمة التي ظنّوها عابرة وقابلة للتصحيح، تتعمق وتتحول إلى صدمات، والصفر يتحول إلى أصفار. وجاء اليوم المشهود الذي ظهرت فيه أقطاب المعارضة السابقة على الشعب العراقي ليطرح كل واحد منهم نفسه على أساس عرقي وقومي وديني وطائفي ليعلنوا وهم يضحكون يوم سقوط بغداد يوماً وطنياً وعطلةً رسمية. حدث ذلك بينما الدبابات الأمريكية تجوب الشوارع بلا انقطاع، وطوابير العسكريين السابقين تحت شمس تموز اللاهبة تمتد من ساحة الفارس العربي قرب معرض بغداد الدولي إلى مطار المثنى قرب ساحة دمشق، وذلك ليستلموا رواتبهم بشق الأنفس، وطوابير الوقود تمتد وتمتد وسائقو السيارات يبيتون في محطات البنزين. والناس بلا كهرباء ينامون داخل البيوت على بلاط الأرض أثناء الليل بحثاً عن لسعة برد في صيف تتجاوز حرارته الخمسين، ولا أحد يعرف لماذا تأخر تصليح الكهرباء في تلك الايام التي اتسمت بالتروي والانتظار.
أعوام تهاوت، وأرقام سقطت بلمح البصر، وأصبحت الواجهات فارغة والتلفزيون شاغراً، بينما الشوارع أقفرت إلا من نداءات تجوب وتلعلع عن ضرورة التعاون مع دول التحالف، وفرص عمل جديدة توفرها دول التحالف، ومساعدات غذائية توزعها قوات التحالف، انضم إليها مذيعون مغتربون يلفظون القاف كافاً ويدعوننا إلى المواطنة الصالحة، وعدم رمي النفايات في الشوارع والتزام حسن السير والسلوك.. تطور الأمر بعد فترة من ذلك الخطاب الخامل إلى خطاب آخر فيه استعلاء وغرور تدعو فيه أصوات مغتربة عراقية، جرى تأهيلها في الخارج، أصوات الداخل إلى إعادة تأهيل نفسها بعد النظر إلى مؤهلاتها السابقة بانزعاج، ثم التجرؤ على الارتياب بسلامة حسها وحسن إدراكها ما دامت قد عاشت ردحاً من الزمن في عصر الطاغية. كما ظهر عراقيون في مواقع المسؤولية الجديدة ينظرون إلى ثقافة (الداخل) بعين واحدة فوصفها أحدهم بأنها منحطة. ورأى آخر أنها خراب، وعبّر مثقفون قادمون من الخارج عن صدمتهم بالألوان الكالحة للبيوت العراقية والأزبال المكدسة في شوارعها، ثم سفّطوا أغراضهم وعادوا أدراجهم منضمين إلى آلاف المثقفين الذين اعتادوا الشقق النظيفة والألوان البهيجة، ففضلوها على بغدادهم الجريحة التي ستظل تنزف إذا ما استمر الحال على هذا الحال، وبدلا من طي صفحة الماضي والانطلاق الى صفحة جديدة فيها التسامح والمحبة والغفران أخذ الإعلام الجديد يتبنى صيحات النصر والظفر، ولغة الفوز والخسارة، ويستعير الخطاب الإعلامي نفسه للنظام السابق لمحو ما لا يعجبه هو من الذاكرة والعراقية واعتبار ما جاء به هو الحق، وكل ما عدا ذلك باطل، وعدم إبداء التفهم الكافي لمواقف الذين لا يرون في الغزو الأمريكي تحريراً للعراق وإنما احتلالاً وتدميراً له. عدا ذلك كله، وعندما كان العراقي متعباً وحزيناً فيما مضى، فإن الأمل الخفي في داخله كان يحركه ويدفعه دائماً إلى أمام بانتظار أن يأتي الفرج بعد الشدة، وأن ينبلج الفجر بعد ليل كالح وطويل. أما الآن وقد جاء (الفرج)، فليس ثمة في الأفق سوى انتظار آخر لمستقبل غامض لا أحد يعرف قراءته ولا حتى فتاحي الفال. والمصائر عندما تصبح أكثر غموضاً تُضفي على الجو مزيداً من الكآبة وخيبة الأمل.
هكذا عاش العراقيون امتحاناً بعد امتحان بعد امتحان، حتى حلّ الامتحان الأكبر عندما وضعت أمريكا العراقيين داخل صندوق زجاجي يتفرج عليه العرب، ويستخلصون منه العبر، فضحك علينا من ضحك وبكى علينا من بكى، وكف أصحاب الضمائر الحية عن النظر إلى الأخبار القادمة من بغداد لكي لا يقتلهم الألم.. ووحدهم أبطال العالم بالقلوب السعيدة ينظرون إلى فوضانا من خلف الفاترينات ويتفكرون كيف يحولون هذا الصندوق إلى بطارية عملاقة لإدامة أمنهم وسعادتهم. ففي مثل هذا الوقت من السنة، ومنذ خمسة أعوام مضت لم يبذل السيد بوش جهدا ًأخلاقياً بسيطاً لكبت ضحكته التي خنقتها دموع الفرح بعد إعلان انتصار بلاده في المعركة التي ظنها محسومة سلفاً بالنصر لقواته، بينما لا الضحك ولا الفخر لهما مكان لائق في التاريخ عندما بغداد الجميلة تحترق ولازالت تحترق بعد ألفي يوم من أيام الفوضى والموت والدمار وآلاف اللافتات السود والبيض التي تنعى الضحايا وقتلى الانفجارات الذين تتبعثر أشلاؤهم في كل مكان وجرد وصوب فلا يتبقى منهم أثر ولا يستدل عليهم احد. فأين ومتى هو العراق الجديد؟ أما لهذا الليل من آخر؟
2008

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

الأحلام لا تتقاعد

لو أنَّ حدّاداً تعب وهجر مهنته أو نجّاراً شاخ فتوقف عن العمل أو محاسباً بارعاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *