جبرا يكتب عن شارع الأميرات والسنة العجائبية*
ميسلون هادي
زيارة كاتبنا الكبير جبرا إبراهيم جبرا في منزله… تشبه الانتهاء إلى رحابة تلك الأمكنة التي طالما قرأنا عنها في الكتب أو حملت لنا أخبارها الرحلات، والتي تعبق برائحة ارتباطها الحميم مع أصحابها الذين شغلوها حتى تحولت تلك الأمكنة إلى أرحام نادرة واستثنائية من الدفء.. لأنها تخص حيوات لها امتيازها الإنساني الرفيع.. وأي امتياز أرفع من أن يكون شاغل المكان هو الذي يمنحه المعنى وليس العكس.
يوحي هدوء الحي السكني الذي يقيم فيه “جبرا” بأن الوقت الذي يمضي في هذا المكان يكتسب أهميته من وجود “جبرا” فيه وأن هذا الإنسان الروائي الشاعر الرسام له هذه المقدرة الخفية على إضفاء مواصفات للمكان لم تكن لتوجد فيه لولا وجوده.
“جبرا” الذي احتفت الأوساط الأدبية في العراق بعيد ميلاده السبعين مؤخراً والذي وصفته الصحافة العراقية برجل الحرية والمهذب الكاسر والكاتب المتفرد، يبدو لي دائماً مثل نجم بعيد لا يعبأ بمن يراقبه أو ينظر إليه…
إنه يضيء وحسب.. وما يميزه عن الآخرين أن تواضعه الذي هو من أسرار قوته وسحره، شأنه شأن كل رجال المآثر الرائعة، قد أصبح طريقة حياة ينظر إليها بتوق، كل من يخطو إلى الأدب وعينه على الجمال.
أن “جبرا” يمنح وقته للآخرين بكرمٍ عجيب، وأي وقتٍ يمنحه “جبرا” للآخرين عن طيب خاطر هو كنز ثمين يجب أن لا يتحول، هكذا يحس الآخرون، إلى إغراء بالسرقة أو التجاوز أو الاعتداء على هذا الكنز.
يضحك “جبرا” وكأن الأمر لا يعنيه… فالكثير من كتبه خرجت ولم تعد… وجدران بيته المزينة بلوحات أشهر الرسامين العراقيين ترجع كل يوم صدى نقاشاته مع أولئك البشر الذين يأتون إليه طلباً للرأي… نقاده ودارسيه فيرد على هواتفهم بنفسه… ويفتح لهم الباب بنفسه ويستمع لهم لآخر المشوار بكل حماس ومحبة فيجعلهم يشعرون بأنهم يسدون له صنيعاً بذلك المجيء وهو الغني كل الغنى.
“جبرا” يقول أن في حياة كل البشر سنة عجائبية تحمل كل ألعابها السحرية في جيبٍ واحد مليء بالمفاجآت.. وأن هذه السنة العجائبية في حياته كانت سنة 1951 السنة التي استقر به المقام في بغداد والتي من بين سني شبابه قد عنت له الكثير لأنها شكلت الجذر الذي انطلقت وتشعبت منه كل محاور علاقاته ومفاصل حياته الرئيسة وأهمها علاقته مع وميلته لميعة التي أصبحت زوجته فيما بعد.
ومن شارع الأميرات، حيث يقيم، يكتب “جبرا” عن هذه السنة العجائبية في حياته ويكتب لهذا الشارع الذي صنعت أسمه أميرتان، تاريخاً جديداً سيصنع أسمه الروائي..
شارع الأميرات، سيكتسب من الآن فصاعداً خلوده الثاني الذي تمنحه عين الفنان.. ولطالما منح “جبرا” الأشياء معاني جديدة بحيويته المتجددة التي لم تنل منها متاعب الكتابة وحكمته الراسخة التي لا تمنحها الطبيعة إلا لكل حي نادر أصيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت هذه المقالة في تسعينيات القرن الماضي بمناسبة الاحتفال بميلاد الكاتب السبعين