جبرا إبراهيم جبرا، الغرف الأخرى
نص دراستي للرواية في كتاب “كافكا والكافكوية”
( 1 )
بالانتقال إلى جبرا إبراهيم جبرا، نكون مع أحد أكثر الكتاب العرب تعاملاً مع الآداب الأجنبية قراءة ودراسة وترجمةً وبالتأكيد تأثراً، وكل ذلك بفعل نشأته وتربيته، ودراسته، وقضائه بعض الوقت في بريطانيا دارساً، وتخصّصاً وتدريساً جامعياً. ولد جبرا إبراهيم جبرا في بيت لحم بفلسطين سنة 1920، وانتقل مع والديه، وهو في سن الحادية عشرة، إلى القدس، ليقضي فيها مرحلة صباه. ولهاتين المدينتين تأثير عميق في شخصية الأديب وتربيته، وبعد ذلك في نتاجاته. يقول جبرا نفسه عن هذه المرحلة من حياته: “هذه المرحلة، مرحلة المراهقة قبل السفر إلى الخارج، كانت مرحلة انفتاح على العواطف الحارة الجارفة والمليئة بالحلم. فرسمتُ وكتبت وترجمت الكثير، وأنا بين سن الرابعة عشرة والتاسعة عشرة، (…) وترجمت قصصاً لأوسكار وايلد وأميل زولا، وترجمت شعراً لجون كيتس (…) وغير ذلك كثير.”(). وبعد دراسته في الكلية العربية في القدس، سافر إلى إنكلترا ليقضي خمس سنوات دارساً للآداب ومتوِّجاً إياها بحصوله على شهادة الماجستير، ليعود بعدها إلى القدس. وبعد نكبة تقسيم فلسطين سنة 1948، هاجر جبرا إلى بغداد، واشتغل مدرساً للأدب الإنكليزي في إحدى كلياتها، مبتدئاً في الوقت ذاته حياته في العراق التي امتدت إلى وفاته سنة 1994، والزاخرة بالنشاط الثقافي المتنوع كتابةً ورسماً وترجمةً ونشراً.
جبرا متنوع التخصصات والاهتمامات، فنشر العشرات من الكتب في الفن والشعر والنقد والقصة القصيرة والرواية، وبعض ذلك بالإنكليزية. وإن تمثلاً شاملاً لأعمال الأديب القصصية والروائية تُظهر بوضوح صعوبة إدراج نتاجه الأدبي ضمن اتجاه فني أو أدبي محدد. فهو قد استقى من الرومانتيكية والواقعية والرمزية والمستقبلية، ومن اتجاهات ومدارس وحركات أدبية أخرى الكثير، لينعكس جل هذا، ممتزجاً مع بعض غالباً، في أعماله. وقد توزّعت الموضوعات والشخصيات، في أعماله الروائية، على مجالين أساسين مترابطين: الأول فلسطين والفلسطينيون كونهما لا يمثلان وطنه وشعبه فحسب بل هما يكونان وجهات نظر ومنطلقات أيضاً؛ والثاني الثقافة والمثقفون. وهو إذ يعطي الأفكار أهمية كبيرة، فإنه يفعل الأمر نفسه مع أصحاب هذه الأفكار أو الناطقين بها في رواياته وقصصه، نعني الشخصيات. وهو ينطلق دائماً، سواء أكان ذلك ضمن موضوعة فلسطين أو ضمن موضوعات الأفكار والثقافة عموماً، من دواخل أبطاله، ولذا فقد روى كل رواياته بصيغة ضمير المتكلم؛ وغالباً باستخدام تقنية الرواية بطريقة وجهاتْ النظر، أي بروايتها عن طريق أكثر من شخصية ومن أكثر من جهة نظر. والواقع أن الشخصيات تستحوذ على أكبر نصيب من اهتمام أي دارس أو ناقد لأعمال جبرا، وذلك لما اكتسبته من خصوصية قد لا تشترك معها إلا جزئياً شخصيات جميع الكتاب الآخرين عراقيين وعرباً بشكل عام. إن أبطاله هاربون، ضائعون، باحثون عن هوياتهم وعن الطريق لتحقيق أهدافهم، إنهم يعيشون، بشكل عام، في منفى روحي أو عزلة روحية؛ والروايات تنقل لنا مساعيهم للخروج منهما.
في العودة إلى علاقته بالآداب الأجنبية، بدأ جبرا قراءاته الغزيرة وغير الاعتيادية للآداب الغربية طيلة حياته كما كتب قصصاً وأشعاراً ورواية باللغة الإنكليزية. وكان، في فترة مبكرة من حياته، بدءاً به وهو في فلسطين وازداد حين ذهب إلى إنكلترا، بقراءة الآداب الأجنبية، كما أشرنا، بل هو قد جرّب الترجمة، وهو يقول: “فضلاً عن بلزاك وديستويفسكي وفلوبير وتشيخوف، أحببت كثيراً: ألدوس هكسلي، د. هـ. لورنس، فرجينيا وولف، جيمس جويس، وليم فوكنر، إرنست همنغوي (الأخير لفترة معينة فقط). وهؤلاء قرأت فيما أظن معظم كتبهم، إنْ لم أقل كلها (…) وكان لي اهتمام خاص منذ حداثتي بشكسبير (…) وشعراء العصر الإليزابيثي، والعصر اليعقوبي Jacobean، وبخاصة جون دن، وكان لي ولع بدرايدن ومسرح الاستعادة Restoration Comedy وإلكسندر بوب، وإلى اهتمامي العميق بالحركة الرومانسية كلها. فقد عشقت، على مرحلتين من شبابي، شيللي، ثم جون كيتس (…) وأولعت أيضاً بتوماس بيكوك.. ولا بد أنني، كمعظم أفراد جيلي، تأثرت بتي. أس، إليوت، وباوند، وديكن توماس، وأودن، وكان لي إيثار خاص للشاعر مكيتس.”() وضمن هؤلاء كان لكافكا وكامو وفوكنر حضورهم، المتميّز برأينا، في بعض أعمال الكاتب، كما في أعمال كتّاب عرب آخرين قد يلتقون بجبرا وقد لا يلتقون، وكما رأينا بعض جوانب ذلك فيما سبق من فصول التناول المقارن لأعمال عربية. ففي روايته “صراخ في ليل طويلاً، مثلاً، يكتشف (أمين) “أنه ليس المنفرد بهذه الوحدة والمتاهة، فقد رأى جموع الناس وقد امتلأت بهم الشوارع، هائمين على وجوههم مثله. وعلى هذا النحو يتحول جهد الإنسان الضائع إلى صراخ في ليل طويل، صراخ يائس لا أمل.”( ) ويرى السعيد الورقي أن شخصيات “السفينة” الأربع الرئيسين “هاربة من ماضيها وخارجة منه وساعية من خلال الإبحار في السفينة إلى تحقيق وجود هو فعل الخروج من الماضي (…) حاول جبرا إبراهيم جبرا في روايتيه: (صراخ في ليل طويل)، و(السفينة)، اكتشاف الوجود فرآه عالماً من الارتباك والتشويش والتخلخل، يعيشه الإنسان الكادح ذو الجهد الضائع صورة من سيزيف في الأساطير اليونانية، وكما رآه كامي ممثَّلاً للإنسان الذي بذل حياته دونما شيء يتمه، فكانت حياته من ثم صرخة يائسة بلا أمل للإنسان.”()
ومع كل الذي استعرضناه عن جبرا وحياته وثقافته وعلاقته بالآداب الأجنبية، وعن قراءته لكافكا، ضمن قراءته للعشرات من الكتّاب الغربيين، لا يمكننا أن نقول إنه كان، قبل روايته المتأخرة “الغرف الأخرى”- 1987، قريباً من هذا الكاتب، لا في موضوعاته ولا في أسلوبه ولا في عوالمه، لكن كافكا يظهر في لمحات محدودة في بعض أعماله. والواقع إذا كان الدكتور مصطفى ماهر، في تقديمه للترجمة العربية لرواية “القضية”، يقول: “الرواية في تصور كافكا تدور في مجموعها وسط إطار من الحلم أو الخيال أو اللاواقع وتقوم في عناصرها ووحداتها على الواقع.”()، كما مرّ بنا سابقاً، فإن هذا ما نكاد نجده في بعض تجارب بعض الروائيين العرب ومنهم جبرا إبراهيم جبرا. ففي تغريبات روايته القصيرة “الغرف الأخرى” ولا معقولية بعض مفردات عالمها وأحداثها وحركة بطلها، وإلى حد ما عموم شخصياتها، يبدو جبرا لنا كأنه يفعل ذلك إلى حد كبير. ومع أنه في روايته هذه كان متأخراً في تأثره بكافكا مقارنةً بمسيرته الفنية الطويلة، التي قدم خلالها قــبل “الغرف الأخرى”، ضمن ما قدّمه، خمس روايات ومجموعة قصصية، فإن روايته “السفينة “-1970– تبدو وكأنها تمهد مبكراً لتمثُّل الكاتب لتجربة كافكا الفنية مستقبلاً. يقول (الدكتور فالح عبد الواحد حسيب)- إحدى شخصيات “السفينة” الرئيسة: “من عادة كافكا في مذكراته أن يصف تجربة ما، ثم يعود فيها فيصفها على نحو آخر، ثم يكرر الوصف على نحو ثالث، ويستمر في ذلك أحياناً لأربع أو خمس مرات، لعله يحاول كل مرة أن يوجد لتجربته الوصف الأفضل”(). أما في هذه الرواية الأخيرة، فإن حضور كافكا والكافكوية أمر واضح، بل من جميل ما تتركه قراءتنا فينا أنها تذكرنا ببعض طبيعة وأجواء الروايات العربية المتأثّرة بكافكا التي تناولناها أو سنتناولها في كتابنا، مثل روايات جورج سالم ومحي الدين زنكنه وإلى حد ما فاضل العزاوي. هذا كله دعانا إلى أن تكون موضوع دراساتنا المقارنة لها مقارنة ببعض أعمال كافكا، في ما يأتي.()
( 2 )
ابتداءً، لا نذهب إلى ما ذهب إليه الناقد عبد الجبار عباس حين قال: “إن المؤسسة في (الغرف الأخرى) تقوم مقام الأب في أدب كافكا.”() فهذا عندنا تحميل للرواية غير ما تحمله، ومع أن علاقة كافكا بأبيه كانت، وكما عرضنا بشكل شبه تفصيلي، وراء الكثير من العقد والثيمات والعلاقات في حياته وفي بعض أعماله، فإنها لم تتجسد في أعماله الروائية، إلا بشكل محدود، كما في رواية “المسخ” القصيرة. ولكن عدم ذهابنا إلى ما ذهب إليه عبد الجبار عباس، لا يتنافى مع قولنا بحضور كافكا في هذه الرواية، ولاسيما في (سقوط) بطلها في ما يشبه “متاهة من غرف مغلقة دون مفاتيح أو نافذ في رحلة ليست غريبة عن أجواء (المحاكمة) [القضية] والرحلة العميقة بين الكاتب والبيروقراطية.”() في الواقع أن رواية “الغرف الأخرى” ترسّخ ما نلحظه من التقاءٍ كثيراً ما ذكرناه وتناولناه بين بعض الأعمال الروائية العربية وروايات كافكا، خصوصاً أن هذه الرواية تكاد تنفصل في طبيعتها وموضوعها وتجريبيتها عن كل أعمال الكاتب السابقة التي لم يحضر فيها من كافكا وعوالمه وكوابيسه ولا معقوليته وحالة الخوف، كما أشرنا، إلا بشكل محدود. ومن هنا بالطبع يأتي تخصيص هذا الفصل لجبرا وروايته. فعلى خلاف رواياته السابقة، يحضر في هذه الرواية الاعتقال والملاحقة وبعض ملامح عوالم اللامعقول وما يستتبع ذلك كله من وقوع الفرد ضحية الجور والظلم والقمع والمطاردة، ولا ننسى ما ينتبه عبد الجبار عباس نفسه مصيباً إلى أنه “منذ البدء نلمس هذا التأكيد المتكرر على توحّد الشخصية وتفرّدها الرافض للذوبان في الجماعة.”()، وفيها يرى الناقد “وُلدت أول التنويعات على (ثيمة) قصصية أثيرة ترسم- خلال جو حلمي أو كابوسي- صورة المجابهة اللامتكافئة بين حلم فردي صغير وعادل في التحقق الوجودي، وقوة طاغية كبرى مفتوحة الشهية لالتهام ذلك الحلم وإذابته في هيمنة كلية، حيث تبدأ الصورة بالتمرد والاتهام لتنتهي بانسحاق الفرد وتشوّهه أو بالفرار والمطاردة.”() والرواية في شيء غير قليل من ذلك تنغمر في الفكر الوجودي ورؤاه وطروحاته، وضمن ذلك الزمن الوجودي، وهكذا، “إذا عرّفنا الزمن الوجودي على أنه إحساس الإنسان بالزمن في اللحظة الراهنة الآنية التي يعيشها، واثر هذا الزمن فيه، نجد أن رواية (الغرف الأخرى) هي خير ما يمثّل هذا النوع من الزمن، وذلك لأن أحداث الرواية تدور ضمن إطار الزمن الحاضر، الذي هو ليلة واحدة، لكنّ الأحداث التي تدور خلال هذه الفترة القصيرة أكثر بكثير من أن تستغرق ليلة واحدة فقط. ولكن على الرغم من الجو الغرائبي الذي تتمتع به الرواية، فليس ثمة شيء متخيّل أو غير ممكن، إذ تبدأ الرواية بإشاعة جو من الغرابة والوحشة على المكان الذي وقفت فيه الشخصية الرئيسة في الرواية. ولم يكن المكان وحده موحشاً بل الوقت الذي اختاره كان لا يقل وحشة عن المكان.”() وإذ يُقذف بالبطل حيث لا خيار أمامه، “أنا ما جئتكم هذه الليلة إلا مرغماً متعثّراً، ولو كان بوسعي أن أرفض المجيء، لرفضت، والله!”- الغرف الأخرى، ص97، فإنه يجسد مقولة (الارتماء) الكافكوية. والبطل في هذا وفي ما يواجهه ويمر به من دهاليز وغرف وممرات، يستدعي في أذهاننا ما يواجه أبطال كافكا لاسيما في “القصر” و”المحاكمة”. فحين يجد نفسه مرغماً عنه في غرفة، تكون فيها واحدة من المواجهات الكافكوية اللامعقولة:
“لم يتغير في الحجرة شيء عندما فتحتها، فأسرعت إلى الستارة، وسحبتها جانباً، عسى أن أستطيع لفت نظر من في الساحة إليّ، غير أن الستارة انسحبت عن جدار أصمّ. لم تكن هناك نافذة.”-الغرف الأخرى، ص42.
فكأننا هنا ببطل “القضية” وهو في حجرة المصور، حين يحس نفسه شبه مختنق فيحاول اللجوء إلى نافذة:
“سأل ك: أما يمكن أن نفتح النافذة؟
“فقال المصور: لا، فليست هذه النافذة سوى لوح من الزجاج ثابت في مكانه، لا يمكن فتحه.”- القضية، 204.
وتعلّقاً بهذه الصور التي تسجل الالتقاء ما بين جبرا وكافكا، نقرأ من جميل ما كُتب عن “الغرف الأخرى، وجهة النظر الآتية، التي من المفارقة والغريب أنها تأتي غفلاً من اسم كاتبها:
“إن الدخول مع جبرا في هذه الغرف الأخرى، تجربة ستترك بصمات واضحة في نفوس القراء، غرف مظلمة، موحشة، مفزعة كما الكابوس يطبق بخناق النيام، غرف هُندست على الطراز الكافكوي، فيها ما فيها من ظالمين ومظلومين تحت سقف واحد، والبطل، الذي جعلوه ينسى اسمه، ينقلونه هنا وهناك وهو كالأبله لا يلوي على شيء، إذ ما جدوى أن يرفض وهو المسيّر لا المخيّر، يلعبون به كما يشاءون؟”().
ففعلاً أن غرف جبرا الأخرى هي غرف مصممة على الطراز الكافكوي، ولأنها من النوع الذي يبدو وكأننا لا نراه إلا بالأحلام أو في عوالم كافكا، التي هي نفسها عوالم حلمية، إن لم نقل كابوسية، فقد كانت انتباهة ذكية من الدكتور خليل الشيخ حين التفت إلى اللقاء ما بين أحلام جبرا وكافكا، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك في فصل سابق. وأكثر من ذلك هو يقارن ما بين رواية “الغرف الأخرى” نفسها، وأحلام كافكا.
انتقالاً إلى الموضوعة الأهم عندنا، لأنها أكثر ما يجمع ما بين كافكا ومَن نتناولهم من الروائيين العرب، تعتقد أن “الغرف الأخرى”، تعكس، ومن خلال عوالمها وموضوعاتها ومنها معالجة موضوعة (السلطة والبطل المطارَد) وما تستتبعه من وقوع الفرد ضحية الجور والظلم والقمع، تأثّر جبرا بالأديب التشيكي، وغالبية مفرداتها تأتي ضمن أجواء كابوسية فصلتْ الرواية عن كل رواياته السابقة. فبطلها- بتعدد أسمائه الذي يعني ضمناً أنه ليس شخصاً عادياً بقدر ما هو فرد يتجاوز، في دلالته، فرديته- ملاحقٌ من شخص آخر لا يمنحه اسمه الصريح الشعبي (عليوي) ما يميزه عن (الآخرين) الذين يظهرون في بعض الأعمال المتأثرة بكافكا، بل هو لا يعني شيئاً، كما أن أسماء (الآخرين) في أعمال كافكا نفسه لا تعني غالباً شيئاً. بعبارة أخرى لا يُكسِب الاسمُ حاملَهُ سمة أو هوية واضحة، مع ما قد يُظن لأول وهلة. فمن هو (عليوي) هذا الذي يلاحق البطل؟ ومن أو ماذا يمثّل؟ ولماذا يلاحق البطل؟ لا يجيبنا جبرا كما لا يجيبنا بطله على هذه الأسئلة، بما قد يعني ضمناً أن لا يكون إنساناً له وجود حقيقي، ولا تكون مطاردته حقيقية. وهذا يقودنا إلى أن نرى ذلك على أنه في الحقيقة أزمةَ البطل التي لا يمكن أن تكون أزمة عادية، مما قد تعرِض لأيٍّ منا في حياته اليومية، بل هي أزمة مركبة من حالة الاغتراب الداخلي الذي يعيشه البطل وحالة الاضطهاد والملاحقة التي يجد نفسه فيها أو يحسها مجسِّدةً، من ناحية أخرى وكما نرى حين نتجاوز فكرة تغييب المؤلف ونستحضر جبرا في قراءتنا، حالة الإنسان الفلسطيني الذي سعى الكاتب، في أعماله دائماً، إلى تمثُّل جوهره وطبيعته، وضمن ظروف أو مراحل بالتحديد من حياته وصراعه، وربما جاز لنا أن نفهم أنها تعبير عن حالة الاغتراب التي عاشها الفرد العربي وحتى الفرد عموماً ولا يزال يعيشها في عالم اليوم. وهذه تكاد تكون، في جوهرها، هي أزمة بطل كافكا، مع فرق مسبباتها التي تكلمنا عنها في مكان آخر من هذه الدراسة. ولأن بطل جبرا في ذلك يعكس، كما هو شأن بطل كافكا، ظاهرة اجتماعية ينطلق منها”(…) ويعبر عنها الكاتب لا لكونه فرداً وإنما لكونه ينطق باسم الجماعة”()، فإننا نجد منطبقاً على هذا البطل ما يراه إدوين موير في حديثة عن كافكا وروايتيه “القضية” و”القصر”، إذ يقول: إن “البطل في الروايتين هو أيما شخص، وقصته هي قصة أي شخص”().
( 3 )
تحضر الغربة في “الغرف الأخرى” معبّراً عنها بأشكال مختلفة، تقترب من أن تكون استلاباً يتيه في خضمه بطلها ويتيه من بين يديه كل شيء حتى ذاته بحيث لا يكاد يعرف نفسه:
“رأيت خيالي فيها [في المرآة]، فقلت: غريب، هل هذا أنا؟”- الغرف الأخرى، ص24.
ليدخل في دوامة تبدأ ولا تنتهي،
و”لا يعرف فيها تماماً من يكون هذا الذي هو هو:
“- أنا أعرف أنك تقول إن اسمك عادل الطيبي. لعل لك غرضاً في ذلك. هذا من شأنك، ولن أتدخّل في خصوصياتك.
“- وإذا قلت لك إن اسمي ليس عادل الطيبي؟
“- صادق. لأنك نمر علوان.
“- ولا نمر علوان.
“- كما تريد. لن يؤثر ذلك في قناعتي الشخصية.
“- راسم عزت.
“- أتعرف يا دكتور راسم أنني لا أهتم بقناعتك الشخصية؟”- الغرف الأخرى، ص24.
وتتواصل هذه السلسلة من الأسماء التي لا نعرف حقيقة هل هي لشخصية واحدة أم لشخصيات.() ولذا، فالبطل لا يعرف حتى إن كان ينتمي إلى هؤلاء الذين يحيطون به أم لا، مع ميل إلى الاقتناع بأنه ليس منهم حقيقةً، شأنه في ذلك شأن أبطال بعض الروايات العربية التي نتناولها، مثلاً، ومن قبلهم أبطال كافكا في “القضية” و”القصر” و”أمريكا” الذين يريدون الانتماء إلى أولئك الذين من حولهم، ولكنّ فجوات تفصل بينهم وبينهم، لا يوفّقون في تخطّيها غالباً، كما أنهم مرة أخرى يريدون انتماءً إلى أناس يعرفونهم وليس من لا يعرفون لهم هوية. يقول بطل “الغرف الأخرى”:
“أنا ما جئتكم هذه الليلة إلا مرغماً، متعثّراً. ولو كان بوسعي أن أرفض المجيء، لرفضت، والله! ذلك لأنني أتساءل بإلحاح، لماذا تريدون أن أكون ضيف الشرف لديكم.”- الغرف الأخرى، ص97.
فمثل هذا التناقض بين أن ينتمي بطل جبرا إلى الآخرين، وبين أن يرفض ذلك، نجده تقريباً في جل أبطال كافكا. إن (جوزيف ك)، في “القضية”، يسعى، من خلال مركزه في البنك، إلى أن يكون واحداً مبرزاً من الآخرين، ولكنه يحاول التخلص من حالة الإخضاع القسري التي تمارسها دواوين المحكمة. أما بطل (القصر) فمع وضوح هدفه كما عرفناه، يبقى متوزّعاً ما بين المجموع- القرية والقصر- وخارجهما، تقول صاحبة الحان له:
“أنتَ لست من القصر، وأنت لست من القرية، أنت لست شيئاً، ولكنك للأسف مع ذلك شيء، أنت غريب، أنت شخص زائد، شخص في الطريق، شخص تنشأ بسببه المتاعب.”- القصر، ص80.
وفي كل تلك النماذج، نعني النموذج الجبراوي والنماذج الكافكوية لا يتوفر أي وضوح لأي علاقة ما بين أبطالها والآخرين، خصوصاً حين يحضر الانفصال عنهم والرغبة في الانتماء إليهم مرة والخوف منهم مرة أخرى حد أن يجدوا أنفسهم- حقيقةً أو تخيّلاً أو إحساساً- ملاحَقين منهم، ليعني ذلك غالباً عدم انسجامهم مع العالم من حولهم وأناس ذلك العالم، بل رفضهم له، وهو ما ينطبق على مطاردة (عليوي) مجهول الهوية لبطل جبرا. يخاطب البطل جثة صديق ينتحر:
“نحن أيضاً مثلك نرفض مثل هذا العالم، ولكنّ رفضنا عجز حتى عن بلوغ الذروة الشاهقة التي تطالب بكل شيء، تطالب بحياة المرء نفسها.”- الغرف الأخرى، ص96.
ومع سعي بطل جبرا للخلاص مما لا نعرف، بل لا يعرف هو نفسه أي ورطة هو فيها، شأنه شأن بطل كافكا- مرة أخرى- فإنه يبدو أكثر انقياداً منه للآخرين الذين “ينقّلونه هنا وهناك، وهو كالأبله لا يلوي على شيء، إذْ ما جدوى أن يرفض وهو المسيّر لا المخيّر، يلعبون به ما يشاؤون؟”- الغرف الأخرى، ص46.
ومع هذا هو، وإن بدا مخيّراً ظاهرياً، يلتقي مع بطل كافكا في هذا، حين تكون الدواوين والآخرين وجهات مختلفة أخرى متاحة أمام هذا الأخير للجوء إليها، لكنه عملياً لا يستطيع أن يفعل شيئاً ولا تفعل هي له شيئاً، ولا يكون هو إلا مسيّراً هو الآخر بأدوات السلطة ورموزها.
وإذا ما بدا بطل جبرا ظاهرياً مفترقاً أحياناً، في أزمته وحيرته، عن أبطال كافكا، فإنه في حقيقته وفي تأمل بعض الملامح التي لا يبخل جبرا في إضفائها على بطله وعلى الورطة غير العادية وغير المعقولة التي يجد نفسه فيها، سرعان ما تؤكد اللقاء بينهما، فحتى حين يُدعى خطيباً في حفل، يفاجئه رئيس الحفل بالقول:
“يبدو يا دكتور أن الأمر اختلط عليك. فأنت أتيت هنا خطيباً- وهذا أمر لا نقاش فيه- ولكنك ترفض الاعتراف بأنك هنا أيضاً للمحاكمة.”- الغرف الأخرى، ص34.
وبما يعني أنه بشكل أو بآخر معتقل، وأن اعتقاله هو من ذلك الاعتقال الغريب الذي يتعرض له بطل كافكا في “القضية”، فما أشبه هذا الذي يوجهه بطل كافكا هنا بما يواجهه بطل كافكا حين يقول له أحد الذين يقومون باعتقاله:
“أنت معتقل ، هذا شيء ما فيه شك، ولكن لا ينبغي أن يعوقك هذا عن القيام بوظيفتك. كذلك لا ينبغي أن يعوق ذلك مجرى حياتك العادية.”- القضية، ص31.
وكما يدخل بطل كافكا في متاهة الحلقات الإدارية والبيروقراطية، غير الواقعية، التي لا يخرج من إحداها إلا ليدخل في أخرى وكلها لا تحقق له غير الإغراق أكثر فأكثر في المتاهة، فإن بطل جبرا يُقاد بدوره في متاهات من أروقة الأبنية والقاعات وتتالي الموظفين، كما يغرق بين الأوراق والملفات.. ليقول له (عليوي):
“أترى كيف نحفظ أوراقنا؟ ملايين الأوراق! ألف سنة لن تنال من ورقة حفظناها هنا! عندنا موظفون عديدون، لكنني قليلاً ما أحتاجهم.”- الغرف الأخرى، ص87.
أما محامي (ك) في “القضية”، فيقول عن قضية موكّله حين تصل إلى مرحلة ما:
“وهناك لا تفيد أحسن الصلات بالموظفين أدنى فائدة. فالموظفون أنفسهم لا يعرفون شيئاً. لقد وصلت القضية إلى مرحلة لا يكون فيها لأحد أن يقدم عوناً، حيث لا يصل إليها أحد ولا يكون في استطاعة المحامي الوصول إلى المتهم. ويعود الواحد منا في يوم من الأيام إلى البيت فيجد على المنضدة المذكرات التي ألفها بجد ونشاط، والتي وضع فيها أجمل الآمال، أعيدت إليه لأنها لا يصح أن تُرفع إلى المرحلة الجديدة التي وصلت إليها القضية، أُعيدت إليه لأنها أصبحت مجموعة من الأوراق التافهة.”- القضية، ص106.
ولكنْ مع ذلك كله يبدو كأن جبرا لم يرد لبطله تلك النهاية التي انتهى إليها (ك)، فإذ ينتهى هذا بالموت، لم يقدم جبرا بديلاً حاسماً عن ذلك، فينقاد بطله لإرادة الآخرين، ظاهرياً على الأقل، ولكن ضمن مسار مفتوح على ما يصعب التكهن بنهايته. وفي كل الأحوال، فإن الروايتين أو التجربتين أو لنقل على الأقل، في التقائهما وافتراقهما، يحتملان اختلاف الفهم والقراءة وصولاً إلى الدلالة؛ فإذ يرى البعض كما أشرنا سابقاً، في موت بطل كافكا نوعاً من الرفض، قد يكون في صرخة بطل جبرا صرخة بوجه الاستسلام لإرادة (الآخرين).