جبرا إبراهيم جبرا: السفينة
دراستي عن الرواية في “الرواية في العراق وتأثير الرواية الأمريكية”
“السفينة”– 1970– الرواية الثالثة لجبرا بعد روايتيه المبكرتين، “صراخ في ليل طويل”-1955- و”صيادون في شارع ضيق”- 1960. وإذا كان من الصعب تلخيص محتوى هذه الرواية في أسطر قليلة، فيمكننا، قبل الدخول في تفحص التفاصيل، أن نقول بشكل عام أن “السفينة” تتعامل مع البحر– وهو هنا الأبيض المتوسط ولعله يمثل الكون أو الماحول الواسع، والسفينة– هيركوليس– وهي هنا المكان الخاص والمحدود الذي يجمع عليه العنصر الثالث، وهو الشخصيات التي هي عموماً هاربة، كلُّ من شيء أو أشياء معينة. وجبرا هنا يعزل أبطاله عن العالم بوضعهم في هذا المكان المحدود- السفينة- وسط كون واسع- البحر. وهو في هذا يسعى إلى استبعاد أي مؤثر مباشر حالي وآني فيهم عداهم ليكونوا في مواجهة بعضهم بعضاً من جهة، ومواجهة أنفسهم من جهة أخرى، بعد أن يكونوا قد فشلوا قبل، وبحدود متباينة، في مواجهة واقع مجتمعهم أو مجتمعاتهم. وبعضهم، على أية حال، يسترجع داخلياً هذا الواقع، عبر الاسترجاع الخارجي، وينجح في مواجهته عن بعد في محاولة للوصول إلى حل أو خلاص، أو، في الأقل، تحديد موقف منه. ولعل بالإمكان القول أيضاً إن “السفينة”، روايةً وعنصراً وأداةً رئيسة تتحرك عليها الشخصيات وتقع الأحداث فوقها أو يتم تذكر بعض الأحداث منها، إنما هي صدى للوضع العربي أو الأوضاع السياسية، وربما الاجتماعية أيضاً، التي سادت الوطن العربي، قبل نكسة حزيران 1967. والكاتب، إذ يصور مثقفي ذلك الجيل، يقول مبرِّراً تحديد هذه الفترة منطلقاً كتب منه روايته، ومبرِّراً اختيار هذه الشخصيات المثقفة بالذات:
“يعود السبب الأول لهذا الاختيار إلى ما قلته سابقاً، فأنا لا أكتب عن شيء إلاّ إذا خبرته بنفسي. وبحكم عملي أو حياتي الثقافية، فإن أكثر الناس الذين اتصلت بهم كانوا من المثقفين. وكما قلت سابقاً أيضاً، فإنني أرى أن المثقف هو الذي يقوم بدور كبير في التغيير أو في التمهيد لهذا التغيير… ثم إنني أريد أن أكتب عن تجربتي الشخصية… فأنا لا استطيع تصوير بعض الشخصيات أو الفئات التي يتقن غيري من القصاصين تصويرها”().
وبسبب أن الشخصيات الرئيسة، ومعظم الثانوية منها أيضاً في الرواية، هي شخصيات هاربة، فقد وضع الناقد حليم بركات “السفينة”، مع رواية نجيب محفوظ “ثرثرة فوق النيل”، في خانة روايات اللامواجهة Novel of Non – Confrontation. “فالروايتان تلتقيان في كونهما تصوران العربي في الزمن المعاصر وهو يعيش دائماً في حالة هروب من الواقع”(). وتبدو معظم شخصيات الرواية هاربة، بشكل مباشر أو غير مباشر، من ماضيها، ومن الناس، بل حتى من أشياء لا يعرفها الهاربون أنفسهم أحياناً، لكن يبقى الشيء الأكيد، والذي لا خلاف حوله هو ما يقوله أحدهم، “كلّنا هاربون…”- الرواية، ص92(). وربما أمكن النظر إلى هذه (الهروبية) التي تسود الرواية وشخصياتها من زاوية نظر أخرى، لا تُعدّ من خلالها هرباً مجرداً بل بحثاً عن مستقبل أو واقع جديد أيضاً. ونتيجة لمثل هذه النظرة أو الرؤية أو الفهم، وكما سنوضح ذلك عندما سنأتي إلى تحليل الشخصيات، فإن هذه الشخصيات كلها تكون في حالات من الاغتراب الروحي أو النفسي الذي لا يمكن حدّه بحدود قاطعة وواضحة.. يقول بركات: “إن شخصيات (السفينة) في حالة هروب يائسة لأسباب متنوعة كثيرة، شاملة بشكل عام الفشل: (أ) في الحب، و، أو الزواج، أو المعارك القومية، أو توكيد الذات، أو انشغالات شخصية أخرى؛ و(ب) في البقاء صامتة في زمن الظلم والهيمنة”(). وعلى أية حال، يجب أن نشير هنا إلى أن هذا الهروب يحمل أيضاً نوعاً من الرفض، فهذه الشخصيات الهاربة ترفض القيم الاجتماعية القديمة، أو فقدان الأرض وضياعها، أو الواقع غير السوي، أو الاضطهاد والقمع السياسي والاجتماعي. إن تحليلاً لهؤلاء الهاربين يمكن أن يكشف للدارس، وهذا ما يتضح لنا على الأقل، مراحل متسلسلة في تطور أو مسيرة تجربة كل واحد منهم، والتي ستكون، في الوقت ذاته، مراحل تحليلنا نفسه. فبدايةً هناك واقع، أو حالة أو، وضع معين في مكان وزمان بالذات، وهو واقع، من وجهة نظر الشخصية، خاطئ أو غير سوي أو لا يتجاوب مع متطلبات الظرف أو العصر أو الناس والشخصية نفسها، وعليه فهي ترفضه. وبسبب من كون هذه الشخصية غير قادرة، على الأقل في وقت معين أو ظرف بالذات، فإنها تهرب منه؛ وهي لا تعرف غالباً خطواتها التالية بعد هذا الهروب، لكنها تواجه نفسها، فيما بعد، وتحلل وتدرك وتعي وتواجه الواقع، عن بُعْد غالباً، من خلال المواجهة للنفس والاحتكاك بالآخرين؛ وأخيراً تأتي النهاية أو النتيجة أو المصير الأخير للهارب، والتي هي أمور مختلفة تبعاً لكل شخصية ولما تمثله هذه الشخصية من فئة أو طبقة أو شعب.
- *
تقتسم الرواية شخصيتان رئيستان، هما (عصام السلمان) و(وديع عسّاف). والأول مهندس عراقي، نعرف من البداية أنه في سفره ينشد الانعزال عن الناس.. “… أريد الخلوة. أريد ألاّ يعرفني أحد باسمي، أو وجهي. واحد من مليون. عابر سبيل يصطدم به المارة ولا يرونه”- الرواية، ص7-8. ويبدو واضحاً لنا من قصته، أن الماضي بكل ما ينطوي عليه هو وراء مأزقه الحالي، وهروبه من كل من يعرف وكل ما يمت بصله إلى واقعه وماضيه. فأبوه كان قد قتل، من زمن مضى، شخصاً يُدعى (جواد الحمادي) الذي هو عم حبيبته (لمى)؛ ومع أن حادثة القتل كانت قد وقعت قبل زمن طويل، وليس لـ(عصام) يد فيها، ومع أنه أساساً ضد كل (قتل)، مهما كانت مبرراته، فإن الحادثة قد تركت آثارها الكبيرة على كل حياته، حتى وهي ذكرى:
“… وتذكرت عندما ما كنتُ دوماً أتخوف من ذكراه: ما فعله أبي وأنا طفل صغير. القتل؟… لماذا قتل أبي جواد الحمادي وأنزل لعنة ما زلت أعانيها؟ تمرّد، وقتلَ، ثم عاش منفياً عنّا. الكل قال: حسناً فعل. لقد رفع رؤوسنا. لا بأس. ولكن الآلهة ظلت تطالب بالانتقام، وعلى نحو مهين. فرضت عليه الحياة بعيداً عنا، وجعلت منه مجّرد أسطورة. ولم تستنكف من أن تفقدني المرأة الوحيدة التي أحببت– وتبقيني معلقاً بها من بعيد”- الرواية، ص76.
لقد دفع (عصام) الثمن غالياً عمّا فعله أبوه– دون أن يكون له هو أي ذنب في ذلك– ففقد (لمى) بزواجها من (الدكتور فالح عبد الجواد)، وهما يسافران الآن معه على السفينة نفسها. وإذ يبدو هذا في البداية السبب الوحيد لأزمته فإننا نبدأ باستكشاف احتمال أن تكون هناك أسباب عديدة أخرى، ربما يعتمد تحديدها وإبرازها على فهم كل قارئ للشخصية وللرواية وفكرها ككل. فنحن نرى أن مما يشارك السبب المباشر لأزمته، تلك المرحلة المضطربة التي مرّ بها العراق بعد السنة الأولى تقريباً من عمر ثورة تموز 1958، وهي المرحلة التي شهدت صراعات عنيفة ودموية بين القوى السياسية المختلفة. فقد أثرت تلك الأوضاع بلا شك في كل شيء وكل فرد. ومن هنا نستطيع أن نفهم جزءاً من مأزق أو أزمة (عصام) ومسبباتها، وبالتالي يمكن أن تُفهم هروبيته؛ مع أن هذه الهروبية تركزت، ظاهرياً على الأقل، على أشياء محدّدة ومحدودة بالنسبة له، مع اضطرابها وقلة وضوحها أحياناً بالنسبة له أيضاً. فهو يقول لـ(لمى):
“لكنكَ أفسدت عليّ كل شيء. أنا هارب منك، منك بالذات. ألا ترين؟ أنا هارب من أشياء كثيرة. من الجنون، من الطوفان، من كل ما كان جزءاً من تركيبي الداخلي. كنتُ طيلة السنين أحلم بالثورات، ولما وقعت الثورة وأنا في لندن، شعرت أنني ضحية تدبير خفي أبعدني عن الشيء الوحيد الذي كنتُ أحلم بأنه سيحقق المعجزات. غير أنني عندما عدت إلى بغداد، لم استطع التحمل، وأنت في مكان لا يأتيني منه إلا صوت راعش على أسلاك التلفون مرة كل شهر أو شهرين… وعندما استطعت الهرب، دبرت ملاحقتي حتى في هزيمتي. لمى، إنك رهيبة”- الرواية، ص176.
ولكن، كأي هروب من الوطن، فإن هروب (عصام) من بلده، بحثاً عن الحرية من الأشياء التي هي وراء أزمته، ربما هو خطأ كبير. إن بقاءه في بلده لفعل ما يراه صحيحاً ولإصلاح ما يراه خطأ كان سيكون هو الحل الأجدى. وهو، على ما يبدو، يدرك ذلك في النهاية حين يستمع لـ(وديع) بشبه إذعان وتأييد لما يقوله له هذا الأخير:
“- هنا يا عصام بلغت أسطورتك حدّها، ثم تبددت. انكسر الطوق من حولك، وما عليك إلاّ أن تخطو فوق الحطام والردم– إلى حيث توجد حريتك.
“- في بغداد؟
“- نعم في بغداد. حريتك لن توجد إلاّ فيها. إنها لن توجد في الـ”هناك” الضبابي، الوهمي، المغري، في أوربا أو غيرها. هناك التلاشي في التفاهة. هناك الهزيمة الحقيقية. أتعلمين يا لمى أن عصام ادّعى أنه كان هارباً منك؟ أما أنا فأقول إنه كان هارباً من مدينته، من أرضه، وحريتُه لن تكون إلاّ في مدينته، في أرضه. أتسمع يا عصام؟ في أزقة بلدك، في بساتينه، في صحاريه، حريتك هي في أن ترفض الهرب، في أن تجابه…”- الرواية، ص237.
لقد بدأ (عصام) رحلته ساعياً إلى الابتعاد عن بلده، بينما بدأ (وديع) الفلسطيني، وهو الشخصية الرئيسة الثانية، رحلته ساعياً باتجاه بلده. ولنسلط الضوء على الفرق الجوهري بين الشخصيتين، الذي يبدأ بالتجلي لنا من المراحل الأول للرواية. نقرأ الحوار الآتي بينهما حين يقول (وديع):
“- المهم هو أن الأرض بقيت لكم.
“- القليل منها.
“- وها أنت الآن…
“- نعم، أهرب منها. أرفضها. أرفض ذلك الصراع الماحق، الأسود، العقيم.
“- عجيب يا عصام. أنا، حيثما ذهبت، ومهما توهمت، فإنني أركض باستمرار في اتجاه أرضي التي أحاطوها دوني بألف كيلومتر من الأسلاك الشائكة. أركض نحوها وفي يدي قنبلة، وأنت ترفض أرضك؟
“- بعتُ معظمها، فرحاً، طرباً، غير نادم”- الرواية، ص83.
ويمثل (وديع)، في الرواية، الفلسطينيين الذين أُجبروا على ترك بلدهم سنة 1948، وعليه فهم يدركون بوعي أهمية ومكانة الوطن للإنسان أكثر من غيرهم ممن لم يمرّوا بظروف أو محن تغرس فيهم مثل هذا الإدراك إلاّ بدرجات محدودة. البعض يعتقد أن الفلسطينيين قد باعوا أرضهم بأنفسهم وبرضاهم، لكن (وديع) يرفض ذلك رفضاً قاطعاً بطبيعة شخصية وبسلوكه وبفكره؛ وهو، في الرواية وفي ما يدل عليه، الفلسطيني بالمعنى المطلق، وهدفه هو فلسطين، الوطن الذي ضاع وما ضاع، وهو أرضه الوحيدة. صحيح أنه قد فقدها، مؤقتاً، ولكنه لم يضطر إلى التخلي عنها، دون صراع أو مقاومة. ومع أن الفقد كان أكثر من مرة، فإنه لم ييأس، ولم يكفّ عن المقاومة، والتطلع دوماً للعودة إليها. فهو يقول:
“… خساراتي كثيرة، ولكنني لا أقبلها. لم أقبل إخراجي من القدس بالرصاص والديناميت. لم أقبل رؤية فايز [صديقه القديم الذي استُشهد دفاعاً عن الأرض] يتضرج بدمه بين يديّ. لم أقبل رؤية الخيام تتشبث بجوانب التلال فوق رؤوس أهلي. لم أقبل التنقل من بلد إلى بلد بحثاً عن لقمة عيش مزرية، عن سقف أقيم تحته أبي وأمي. لم أقبل أن ينظر أحد إليّ نظرة الشفقة أو التأفف– خسارات كثيرة، قامرت وأقامر دائماً للتعويض عنها. والخسارات الصغيرة التي أُمْنىَ بها كل يوم: هذه أيضاً لا يمكنني السكوت عنها. قد أسكت قولاً، إلاّ أنني لا أسكت فعلاً. أقاوم، على مهل، بعناد، على طريقتي…”- الرواية، ص45.
و(فايز) الذي قُتل على يد الصهاينة، يبقى الخيط الذي يربطه بالماضي ويجرّه إليه والى القضية التي ضحى صديقه وغيره بأنفسهم من أجلها. وهذه القضية هي حلم (وديع) الدائم طوال الرواية.
لا أجد أن شخصية (وديع) تمثل طبقة أو فئة بعينها، بقدر ما تمثل نوعاً من الرجال الذين اختاروا الرفض والنضال وعدم الاستسلام، وهو ما يمكن- وهو شخصية فلسطينية- أن يمتد ليغطي الفلسطينيين الذين أكدوا ذلك وعملوا به، بغض النظر عن انتماءاتهم وانحداراتهم، ومن هنا قلنا إن (وديع) هو الفلسطيني المطلق. وهو تحديداً الذي اكتسب، بالتحديد في الستينيات، رمز النضال في الوطن العربي. وقد اكتسب هذا الرمز من منبعين: الأول هو طبيعة شخصيته بحد ذاتها، والثاني المأساة التي عاناها الفلسطينيون وواجهوها. وتتمثل شخصية (وديع) هاتين السمتين فعلاً، ومن هنا أدركنا لِمَ استحقّ أن يوصف، من بين شخصيات (السفينة)، بأنه رجلُ فعلٍ. فهو، من أجل الوطن، يترك حتى حبيبته (مها). فحبّه هذا لا يعني شيئاً حتى يلتقي مع هيامه ورغبته في القدس، فهو يقول لـ(مها) حين تقرّر أخيراً أن تكون معه في القدس:
“- إذن، سنذهب إلى القدس، ونستقر فيها؟
“- وهل غير القدس لي مدينة، وأنت فيها؟
“- أكملي، أكملي، بدأت أحب صوتك أنا أيضاً”- الرواية، ص236.
وهو الوحيد، من بين كل العرب الذين على ظهر السفينة، الذي يسعى باتجاه الأرض. وهو، رمزاً للفلسطيني، روح العرب ومركزهم. إنه يجذب الآخرين إليه، بل يسحرهم؛ يقول (عصام) عنه:
“… ولو قال لي: اقفز في البحر، لقفزت، لأنني كنت بذلك سأنجو من أشياء كثيرة. ولكني– وهل لي أن أنكر ذلك؟– كنتُ أيضاً في بحران من النشوة. ذلك النوع الخطر، عندما تجد في نفسك استعداداً لتقبل كل شيء حتى لمهانة، إبقاءً على النشوة. كنتُ أراه كبيراً، مهمّاً، ضرورياً للحياة. لماذا، كيف؟، لست أدري. رجل مثله لا يمكن أن يكون هارباً. إنه يُقبل، ولا يُدبر. رجل كذاك، كنت أراني أقول، يمشي نحو فوّهات البنادق والمدافع، وتعجز كلها عن إصابته”- الرواية، ص101.
ولعل هذا يفسّر سر الموقف غير الودي لـ(فالح عبد الواحد) منه؛ فـ(فالح) رجل مهزوم، ويشعر كأنه سائر نحو المقصلة التي لا يستطيع أن يهدمّها، ولا حتى أن يتجنّبها. ونحن نستشعر إحساسه العميق المتأصل بالاستسلام والهزيمة والانسحاق والهلاك المحتوم في كل ما يقوله، كما يبدو ذلك في الحوار الآتي الذي ينقله لنا (وديع):
” )إننا في حالة يُرثي لها،( يقول.
” )ولكن تغيير هذه الحالة رهن بنا(، أقول.
” )تتفاءل، ونحن في طريقنا إلى المقصلة؟( يقول.
“)”أتفاءل، لأن أمامنا مهمة هائلة يجب أن ننجزها( أقول.
” – والمقصلة؟
“- نهّدمها.
“- لأن المهمّة الهائلة في انتظارنا؟
“- كميناء نحن مسرعون إليه.
“- أحلمْ.
“- لا بأس أن أحلم…”- الرواية، ص117.
لكن أزمة (فالح) تبقى، مع ذلك، غير واضحة أسبابها تماماً، رغم ما يمكن افتراضه بشأنها. فربما هو يمثّل فترة الانتكاسات التي مرّ بها الوطن العربي، حين سادت حياةَ العرب اللاعدالةُ والظلم والتراجع والكبت والقمع والاستلاب. فـ(فالح) يرفض هذا العالم أو الواقع، مع أننا يجب ألاّ ننسى هنا مشكلته الذاتية– علاقتيه بزوجته وبعشيقته– التي تتضح تدريجياً:
“إني أرفض العالم الذي لا يتيح لي أن أرفع صوتي محتجاً، أو مطالباً، أو مصّراً على إنسانيتي، دون أن يضربني على رأسي”- الرواية، ص117.
هو يكره العيش في عالم مثل هذا، يسوده كل ما يحرمه من كل ما يعبّر به عن إنسانيته كما يريدها بوصفه إنساناً؛ وإذا كان رفضُ مثل هذا العالم أمراً طبيعياً، فإن الهرب منه يعني استسلاماً وانهزاماً، وهذا ما تعكسه هذه الشخصية في كل ما تفعله في الرواية، وفي كل أحاسيسها، بما في ذلك الموقف من الحياة. إن (فالح) يصل في أزمته وفي موقفه من هذه الحياة ورفضه لها أن يكره حتى الوقت القليل المتبقّي له، بعد أن يكون قد قرّر وضع حدٍّ لحياته.
“- أما أنا، فلم يبق لدي إلاّ وقت قليل. ولكن حتى هذا القليل الذي لدي كثير، كثير”- الرواية، ص189.
لذا فهو يقدم على تنفيذ قراره وينتحر، بعد أن يتيقن تماماً من عجزه عن الاستمرار في العيش في عالم يرفضه. إن هذا الشعور، وهذا الإحساس الرهيب بثقل الزمن يذكرنا بأحاسيس (كوينتن) في أواخر ساعات حياته، في (الصخب والعنف)، كما قد نأتي إلى هذا فيما بعد.
من الشخصيات الأخرى في الرواية (لمى). ومع أن (لمى) امرأة متزوجة من (الدكتور فالح)، فإنها تصعد على ظهر السفينة وتنضم إلى رحلتها لكي تكون قريبة من حبيبها القديم (عصام). وهي في النهاية، وبعد موت زوجها، تسترجع هذا الحبيب الذي يقرر مصاحبتها مع جثمان (فالح) والعودة إلى بغداد. ومن الشخصيات الأخرى الأقل أهمية هناك (إميليا)، الفتاة الايطالية التي تحب (فالح)، و(محمود الراشد) ضحية القمع السياسي، و(يوسف حداد) الشاعر، و(جاكلين) الفتاة الفرنسية، و(فيرناندو) الأسباني، و(مها) حبيبة (وديع)، و(فواز) صديقه القديم، قبل فقدان فلسطين. تتركز أهمية هذه الشخصيات أو وظيفتها، مرة أخرى، وكما أرادها الكاتب، في ثلاثة جوانب: الأول، هو الجانب الفني المتعلق ببناء الرواية وحبكتها؛ والثاني، كونها وسائل مساهمة في إكمال رسم الشخصيات الرئيسة؛ والثالث، إكمال جزئيات صورة وطن، واضح أنه الوطن العربي، يبدو أن الكاتب قد أراد تقديمها أو عكسها في عمله.
إن تعامل جبرا مع الشخصيات قد سمح بتقديمها تدريجياً، دون أن يكون للمؤلف، غالباً، تدخل مباشر أو منظور. مع ذلك يبقى هذا الكاتب خلف بعض هذه الشخصيات– كما أشرنا في مكان سابق إلى ذلك– ولكن دون أن يسلبها حريتها في الحركة والتفكير إلاّ بحدود ضيقة جداً، مما أسهم في منحها الحياة وفي النتيجة إسهامها في تقديم الرواية بالشكل الفني والفكري غير العادي، خصوصاً أنه قد اعتمد طريقة وجهات النظر المختلفة القائمة على الشخصيات بالطبع فقُدمِّت، كما عرفنا، عن طريق أكثر من شخصية، وهو الأمر الذي فعله جبرا في روايتين أخريين له، وبصيغة ضمير المتكلم، وهي الصيغة التي قدم فيها الكاتب كل رواياته؛ فقُدمت خمسة فصول من (السفينة) برواية (عصام السلمان)، وأربعة برواية (وديع عساف)، ولأمر ما– ربما لإزالة بعض الغموض الذي غلّف بعض جوانب شخصية (فالح عبد الواحد)– روت (إميليا) فصلاً واحداً.
لخصوصيات الرواية هذه كلها وهذا التعامل الفني، ولطبيعة شخصياتها ودواخلها، كان لتقنيات تيار الوعي دور رئيس فيها، ونحن نعرف أن رواية تيار الوعي “تقدم نص ما يحدث في ذهن الفرد تحت تأثير عدم استقرار مؤقت”.() فمع أن رواية “السفينة” ليست مما يمكن أن نصنفها ضمن هذا النوع من الروايات، فان جبرا قد اعتمد على تقنيات تيار الوعي في تعامله مع دواخل الشخصيات، فقدم ما يحدث في أذهانها وأفكارها ووجهات نظرها المختلفة، ولاسيما ما يخصّ من ذلك الشخصيتين الرئيستين. ولقد أتاحت هذه التقنيات للكاتب أيضاً التنقل بالأحداث والمشاهد، من خلال وعي الشخصيات، بين الحاضر والماضي. ولقد جعل ذلك، بدوره، من الزمن عنصراً مهماً مكّنه من تغطية مساحة زمانية ومكانية واسعة. فمع أن الخط الرئيس للرواية، في ظاهرها، قد امتد، زمنياً، أسبوعاً واحداً، فإن الكاتب قد انطلق منه نحو آفاق الزمان والمكان غير المحدودة، إلاّ بما يضعه الكاتب نفسه بإتقان وانسيابية قلّما تحسّ وراءها قصداً أو تكلفاً ولا إقحاماً لهذا الانطلاق أو التنقل. ومن المفيد أن نشير هنا إلى مثال واحد لاستخدام وتوظيف هذه التقنية، وتحديداً ذلك الذي ينتقل الكاتب فيه، ومن خلال ذهن (وديع) وهو يراقب السفينة في عبورها مضيق كورنيث، في الحاضر، إلى القدس في أيام مضت، وكل لك بطريقة يصعب جداً أن ينتبه القارئ معها إلى هذه الانتقالة وهذه، بل وأنت تراقب وديع، أو بالأحرى ما يراقبه واقفاً على ظهر السفينة، تجد نفسك معه و(فائز) وهما صبيان في القدس قبل رحلة السفينة بسنين طوال.() إن مهارة جبرا، التي تتجلى في روعتها هنا، هي من مهارة جويس وولف وفوكز. وحتى اللغة في هذا المقطع جميلة وأحياناً شاعرية منسابة بانسيابية الحدث أو المشهد، خاصة والكاتب يتعامل فيه مع انفعال بطله وانتقاله إلى فلسطين، وذلك ما ينطبق أيضاً على عموم الرواية إلى حدّ كبير، فاللغة في جماليتها تتصاعد، بشكل خاص حين يتعامل الكاتب مع انتقالات (وديع) الذهنية إلى وطنه في الماضي، سواء أكان ذلك في الوصفية منها، أم في متابعتها للأحداث. حقاً أن اللغة واحدٌ من العناصر الرئيسة التي تجعل من (السفينة) رواية متميزة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإذ تتراجع هذه الخصائص والسمات في أعمال جبرا الأخيرة، فإنها لا تختفي، بل ربما أمكن القول إن بعضها يتعزز، كما في “السفينة”، خصوصاً فيما يتعلق بشخصياتها: قتل أبي (عصام) لعمّ (لمى)، واللعنة التي يحسّ (عصام) أنها تلاحقه نتيجة ما حدث في الماضي، والتي تذكرنا بتلك التي تلاحق الكثير من الشخصيات الفوكنرية الجنوبية. وذلك ينطبق إلى حدّ كبير أيضاً على أحاسيس (فالح عبد الواحد) ومعاناته وأزمته، وانتحاره في النهاية. ومع أننا، مرة أخرى، نعتقد أن ذلك كله يعكس اهتمام جبرا المستمر بعوالم فوكنر وأسلوبه، واستفادته الناضجة منه، فإننا نسجل تحفّظاً واحداً مع ذلك، وهو احتمال تأثّر جبرا واستفادته من ينابيع أخرى غير أعمال فوكنر. بل ربما أمكن القول إن ذلك أمر حتمي، دون أن يقلل هذا من أهمية الينبوع الفوكنري، فلنا أن نتحسس، في بعض شخصياته التي أشرنا إليها مثلاً وفي المشاهد والأحداث المرتبطة بها، الانطباعات والأحاسيس والطبائع التي يثيرها العديد من شخصيات فوكنر مثل (جو كريسميس) Joe Chrismas في “ضوء في آب”. ومن الأمور الطريفة التي نستذكرها هنا مما قد يعكس نقاط التقاء جانبية، بين جبرا وفوكنر، حادثة اصطحاب فرنسي على السفينة لزوجته الميتة، إذ هو ينقل جثمانها في صندوق حديدي يصرّ على وضعه في قمرته طوال الرحلة- ينظر السفينة، ص106. فهذه الحادثة، أو الموقف، تذكرنا بموضوعة “بينما استلقي محتضرة” أو خطّها الرئيس. فرواية فوكنر “هي قصة عائلة في رحلة جنازة، تستمر مدة ستة أيام، خلال حرٍ وفيضان ونار.() إضافة إلى ذلك يبرز استخدام الزمن والتنقلات بين أزمنة مختلفة ومراحل متباينة من أعمار الشخصيات، في كلا روايتي جبرا، “السفينة” و”البحث عن وليد مسعود”، ضمن استخدام الكاتب، في الغالب، لتقنيات تيار الوعي، وهي الجوانب التي تعكس الكثير من تلك التي تبرز في روايات فوكنر، مما يجعلها تحتاج ربما إلى دراسات منفصلة للتحقق منها أكثر، والخروج منها بنتائج نقدية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول آرثر ميزنر: “إن شكل (الصخب والعنف) تجربة جريئة في استخدام الحوار الداخلي، وإن واحداً من أغراض ذلك هو أعطاء كثافة درامية لرواية مأساة عائلة تُغطي أربعين عاماً ولها أصداء أبعد من ذلك إلى حدود سنة 1699. ولقد استطاع فوكنر أن يختصر الزمن الحاضر للرواية إلى أربعة أيام، من خلال فرض تقييد صارم للزمن الذي يحتاجه المنلوج الداخلي في القصة. وبالإضافة إلى هذه الأيام الأربعة في الزمن الحاضر للرواية، التي تعطيها الشخصيات بالطبع بالتفصيل في حواراتها الداخلية، فإن ذكرياتها تتمحور حول بضعة أحداث درامية تقع في ماضي العائلة”().
ويبدو هذا هو ما يفعله جبرا، إلى حدّ كبير، في روايتيه الأخيرتين– مع اختلافات جزئية– حين يعمد إلى الانطلاق، عبر استخدامات التداعي والحوارات الداخلية وتقنية الفلاش باك، من الحدود الزمنية الحاضرة للعمل نحو امتدادات قريبة وبعيدة في الزمن الماضي. فـ”السفينة” هي قصة رحلة بحرية أمدها أسبوع واحد هو يشكل الحاضر الذي تنطلق الرواية منه وتتبوأر ضمنه. ولكن الكاتب، باستخدام التقنيات التي أشرنا إليها، ينطلق نحو الماضي، وغالباً عن طريق وعي الشخصيتين الرئيستين للرواية، ليغطي عشرات السنين يتعامل من خلالها، غالباً، مع خلفيات هاتين الشخصيتين، (وديع عساف) و(عصام السلمان). وجبرا يغطي في رواية “البحث عن وليد مسعود”، ومن خلال الوسائل نفسها، حوالي خمسين سنة تمتد رجوعاً من حاضر الأحداث التي هي أسابيع أو أشهر معدودة. فتنطلق الشخصيات الأساسية من هذا الحاضر نحو ماضيها متركزة، في الغالب، حول ما يتعلق بـ(وليد مسعود). من هنا يتضح أن تقنيات تيار الوعي هي التقنيات الأساسية التي اعتمدها جبرا إبراهيم جبرا. وتفرّعاً من ذلك يبرز الماضي مهماً في بناء الرواية وفي تطور أحداثها وفي رسم شخصياتها، إلى حدّ يمكن أن يُنظر معه إلى ذلك على أنه واحد مما يميّز أعمال الكاتب. كما أن إحساس الشخصيات بالزمن واضح جداً في عموم هذه الأعمال، وفي الروايتين اللتين نُعنى بهما. في “السفينة” يقول (وديع عساف):
“الزمن هو العدو، عش، ابق في قيد الوجود ما استطعت، ولن يكون لك غير ذلك” و “… هذا البحر الرائق المقمر غير حقيقي. وغير حقيقية هذه الزرقة وهذا الانسياب وهذا الليل الحاني على الدنيا كالعاشق السهران. إنما الشيء الحقيقي هو ذكراي له. الذكرى تتحول إلى ما يشبه الموسيقى. تبتعد الوقائع عنك في دهاليز الزمن، وتخّلف أمواج النغم في ذهنك. الكل زائل سوى هذه الأمواج.. لا مجازاً بل فيزيائياً أيضاً”- الرواية، ص18 و20.
ونحن نعرف “أن العدو الرئيس والعتيد لـ”كوينتن” هو الزمن– زمن الساعة الجدارية، وزمن التقويم– وهو يحاربه طوال يومه في الثاني من حزيران 1910″(). وتعلقاً بعلاقة (كوينتن) هذه بالزمن ، ربما أمكن أن نجد شيئاً من إحساسه هذا به في شخصية أخرى من شخصيات “السفينة”، مع أنه ليس مطابقاً له تماماً، وهي شخصية (فالح) الذي يقول:
“- أما أنا، فلم يبق لديّ إلا وقت قليل. ولكن حتى هذا القليل الذي لدي كثير، كثير”- الرواية، ص189.
والواقع أن (فالح)، في أزمته، يقابل (كوينتن)، لا في إحساسه بالزمن فحسب، بل في أوجه عديدة أخرى، فهو كما يقول عنه (وديع عساف):
“ومن الواضح أن الطبيب ناقم على الحياة، لأسباب خاصة به. ولكنه يُسقط نقمته علينا جميعاً حتى في هذه السفينة الصغيرة… فالح بيوريتاني، متزمّت، يخشى اللذة. ولكنه أصرّ على الزواج من امرأة توحي بالحرية، والانفلات، واللذة”- الرواية، ص116.
وإزاء تحطّم الكثير مما يحبه أو يؤمن به، وتمزّق العالم الذي يعيش فيه، كما يراه عبر منظاره هو، يُقدم على الانتحار. والواقع أن هذا يكشف عن أن (فالح) يلتقي في الكثير من ذلك، وليس في الإحساس بالزمن فحسب، مع (كوينتن) الذي يختار أن يُنهي حياته بعد تحطّم (المثال) الذي يؤمن به. وإذا لم يكن الكثير من ذلك قد انعكس في “البحث عن وليد مسعود”، فإن أشياء أخرى قد طغت على سطح هذه الرواية مما يمكن أن يكون فيها صدى لعوالم فوكنر وأسلوبه، كما حاولنا بيان بعضهما، ولكنها لم تصل، على أية حالها، إلى ما وصلت إليه في “السفينة”، لذا يكفي هنا ما تعرضنا إليه في فقرتنا المقارنية الأخيرة هذه.