جبرا إبراهيم جبرا: البحث عن وليد مسعود
دراستي عن الرواية في كتاب “الرواية في العراق وتأثير الرواية الأمريكية”
تمثل “البحث عن وليد مسعود”– 1978– حلقةً أخرى ضمن حلقات تطور معالجات جبرا إبراهيم جبرا لقضية فلسطين والفلسطينيين، وبشكل أكثر تركيزاً للبطل الفلسطيني. ففي وقت كتابته لروايته الأولى، “صراخ في ليل طويل”، لم تكن تعني القضية الفلسطينية ما ستعني بعد ذلك أكثر ما تعنيه قضية شعب شُرّد من أرضه، فهو بالتالي يناضل في سبيل العودة إليها. ومن هنا لم تُعنَ الرواية بمثل هذه القضية ولم تقدم بطلاً فلسطينياً له مثل هذه القضية، بل ربما جاز أن نقول إنها قدمته صاحبَ قضية ذاتية، لا تعنينا إلاّ بمدى تعلقها بعالم الرواية ذاتها. أمّا بطل رواية “صيادون في شارع ضيق”، فهو البطل الفلسطيني المهاجر بعد تقسيم فلسطين، والقادم إلى مجتمع جديد نسبياً– هو في الرواية بغداد– باحثاً فيه عن مكان جديد– نميل إلى أن نعده كذلك وقتياً– ومكانة ينطلق منها نحو ما يهمه، شأنه شأن مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين لجؤوا إلى مختلف الأقطار العربية. في “السفينة” يبدأ البطل الفلسطيني بالتحرك نحو مركز المجتمع الذي يصبح، في مدلوله الأعم، المجتمع العربي– وإن لم يتحقق ذلك كلياً بشكل فعلي– وبالتحول أكثر فأكثر إلى رجلِ فعلٍ حقيقي. أما في الرواية الأخيرة، فإن هذا الفلسطيني يصبح مركزاً فعلاً، فيكون بطلاً عربياً حقيقياً بوصفه فرداً من جهة ورمزاً للمناضل العربي من جهة أخرى.
إن “البحث عن وليد مسعود” هي بلا شك أصعب أعمال جبرا وأكثرها تعقيداً من حيث انصياعها للتحليل المفصل ومن ثم وصولها إلى القارئ والناقد. ومثل العديد من أعمال جيمس جويس وفرجينيا وولف ووليم فوكنر مثلاً، أعتقد أنها تتطلب من القارئ أكثر من قراءة واحدة لاستيعاب فنها ومضمونها ومدلولها ومعناها. ومرد هذه الصعوبة الاستثنائية لرواية جبرا هو كونها ملأى بالأفكار والأحداث التي لم تقدَّم بشكل متسلسل تسلسلاً تاريخياً ومنطقياً أو حقيقياً. وربما كان من الضروري الإشارة هنا إلى أن النقاد الذين درسوا “البحث عن وليد مسعود” لم يحققوا إلاّ القليل في طريق تحليلها وتذليل صعوباتها والوصول إلى رموزها ودلالاتها المحتملة وتقديمها إلى القارئ؛ بل على العكس، لقد زادها بعضهم تعقيداً وغموضاً. وإننا لنأمل ألاّ نقع، في دراستنا التحليلية هذه، في مثل هذا الشرك، أعني زيادة الغموض غموضاً، بل أنْ نحل على الأقل بعض جوانب التعقيد والصعوبة. وأريد أن أقول أيضاً إنني لن أتعامل هنا مع (وليد مسعود)– بطل الرواية– كممثل لطبقة بعينها، كما لم ولا أفعل ذلك مع أغلب الروايات التي تعاملتْ وتتعامل مع فلسطين والقضية الفلسطينية إلاّ بالحدود التي لا يصبح معها مثل هذا التعامل، لسبب أو لآخر، مرتكزاً رئيسا للتحليل؛ ذلك لأن الفلسطيني هنا برأيي، كما هو في أغلب تلك الروايات، وكما أشرت مرة إلى ذلك، هو الشعب الفلسطيني، أو شخصية الفلسطيني المطلقة.()
تشتمل الرواية على مجموعة أحداث تلتف وتدور وتتطور كلها بعلاقتها أو حول حدث رئيس ومركزي، ذلك هو اختفاء شخصيتها المركزية، (وليد مسعود)، بصورة غامضة. والرواية، بعد هذا، تطرح مجموعة أسئلة فيما يخصّ هذه الشخصية واختفائها: من هو (وليد مسعود)؟ ماذا يفعل وماذا يقول؟ ولماذا اختفى؟ ومَن وماذا يمثل في الرواية ككل وماذا يمثل بالنسبة لكل شخصية من شخصياتها؟ بل مَن هو (وليد مسعود) خارج الرواية؟.. إن هذه الأسئلة، وربما غيرها، مبثوثة بين الأحداث، وفي دواخل الشخصيات، ووعيها ولا وعيها، وحواراتها ومناقشتها، ووجهات نظرها، فهل نجد أجوبتها مبثوثة بدورها فيها أيضاً؟
والواقع أننا لا نستطيع أن نتعرف على (وليد مسعود) ونعرف به جيدا قبل أن نطّلع على الشخصيات الرئيسة الأخرى المحيطة به ونعرف بها جيداً هي الأخرى، بل ربما ستبقى شخصيته، حتى بعد ذلك كله، غير واضحة تماماً. على أية حال، إن نظرة أولية إلى هذه الشخصيات، بعد القراءة الأولى للرواية، من الممكن أن تعطينا تصوراً تاماً عن الشخصية المركزية ومكانتها بين الآخرين داخل الرواية، بل حتى خارج الرواية. ولا بأس بدايةً أن نفترض هوية لها: فيبدو (وليد مسعود)– مرة أخرى– صورة للفلسطيني المطلق، أو لنقل رمزاً لفلسطين ولكل الفلسطينيين، ولا تناقض بين المدلولين بالتأكيد، وربما جاز لنا القول، بعد ذلك، إنه أيضاً القضية الفلسطينية. أمّا الشخصيات الأخرى، وهي المحيطة به كما عرفنا، وتمشياً مع هذه الصورة والمدلولات التي تتشكل لـ(وليد)، فإنها تمثل الكتل والاتجاهات العربية المختلفة التي تكشف عن هويتها– المستنتجة بطبيعة الحال– وطبائعها من خلال مواقفها تجاه الشخصية المركزية بما تمثله، بمعنى تجاه فلسطين والفلسطينيين والقضية الفلسطينية. ومن هنا يأتي تساؤل (مريم)– إحدى الشخصيات الرئيسة– في مكان متأخر من الرواية:
“هل أثار وليد ما أثار من اهتمام، من حب وربما من كراهية، بسبب كونه فلسطينيا، ولكون الفلسطيني يشغل حيزاً خاصاً من الضمير العربي اليوم؟”- الرواية، ص348.()
وهكذا فإن (وليد مسعود) هو البؤرة أو المنبع الذي تنبع منه وتصبّ فيه الرواية كلها بخطوطها الرئيسة وتفرعاتها. والواقع أن هذه الحقيقة الفنية هي انعكاس لحقيقة واقعية خارج الرواية، أي في المجتمع العربي، كون الفلسطيني في حقيقته أصبح قلب الوطن العربي وروحه، بغض النظر عن المواقف المختلفة للكتل والاتجاهات السياسية العربية العديدة من فلسطين. إن هذه الاتجاهات والمواقف والآراء تعكس علاقات روحية ومواقف أيديولوجية وارتباطات مصلحية، ومواقف رافضة، بل حتى عدائية أحياناً. إذن فالرواية هي، ككل، انعكاس لصورة الواقع العربي في حقبة أو حقب بعينها، ومن وجهة النظر الرئيسة للرواية التي هي إلى حد كبير الكاتب نفسه بطبيعة الحال، وهذا ما ينطبق على صور الشخصيات كما رسمها.
الشخصية الأقرب نفسياً وروحياً لهذا الجوهر الذي هو (وليد) هي شخصية الاقتصادي (إبراهيم السيد نوفل). ويتجسّد الارتباط الروحي لـ(إبراهيم) بـ(وليد)، بشكل واضح، في قول (كاظم)– شخصية رئيسة أخرى– وهو يتحدث عن (الأول):
“أمس رأيته عائداً من دار وليد وكأنه عائد من زيارة وليّ، أو بطل أسطوري”- الرواية، ص69.
وإبراهيم نفسه يقول عن (وليد) بعد اختفائه:
“افتقده كل ليلة، أذكره كل يوم، أراه في كل عين أبصر فيها نظرة حب. معي هو في حوار مستمر، وفي خصام مستمر. والخصام معه أطيب من الانسجام مع أي إنسان”- الرواية، ص307.
إن (إبراهيم السيد نوفل)، من وجهة نظرنا، يمثل القوى العربية التي أحسّت أنها قد فقدت أهمّ عناصر وجودها حين سُلبت فلسطين، ولكنها سرعان ما تكتشف أن هذا العنصر الحيوي قد نجا، بل هو أقوى من أن يختفي أو يذوب أو يُقضى عليه، فيربط نفسه به كليا، ويتشبث بوجوده، حتى وإن عنى ذلك أن يقف موقف الضدّ من كل من يعادي (وليد). يقول مناجياً إياه:
“… يعلمون أنكم القوة التفجّرية الرهيبة التي تنتظر الساعة المؤاتية. يعلمون أنكم الوحيدون الذين لا تنسون، وأن العالم العربي بدونكم لن يتحرك شبراً إلى الأمام. المشلولون المتحجرون يريدون منكم الشلل، والتحجر. يريدون للبركان أن يبلع نيرانه ويدفن في أحشائه حممه…”- الرواية، ص327.
وإبراهيم يشير هنا إلى القوى الرجعية العربية التي أحست نفسها مهددة بالفلسطينيين وبقضيتهم. إن هذه القوى ممثلة، في الرواية، بـ(الدكتور طارق رؤوف) الذي يقول:
“… يوم سمعت باختفاء وليد. أحسست كأن عبثا كبيراً قد أزيح عن صدري. ارتحت. أخيراً ارتحت… ولم يكن الشريط الذي أسمعنا إياه عامر عبد الحميد قبل أسابيع إلاّ ليؤكد لي أن غريمي القديم قد انسحب من الساحة فعلاً، مهما يكن التأويل والتعليل. وخُيّل إلي أنني أضحك في عبي هذه المرة.
“غير أنني لا أغفر لنفسي هذه الشماتة التي أظل أقول إنها لا تليق بي. ومع ذلك لا استطيع إلاّ الشعور بضرب من الراحة الغريبة، لأن وليد (اختفى) بشكل أو بآخر. أي أنه هزم. أي أنه أخيراً وقع قتيلا في المعركة الهلاسية التي التحمت فيها معه”- الرواية، ص173.
ربّما كان من غير الممكن تحديد ميل أو ولاء (كاظم إسماعيل)، الذي هو أحد أصدقاء (وليد)، بشكل دقيق. ولكن ربما أمكن الترجيح بأن يكون صورة مصغرة للقوى التي لا تمتلك مواقف ثابتة أو أيديولوجية من القضايا المختلفة، ومن ضمنها، بالطبع، القضية المركزية للعرب. إن هذه الفئات أو القوى، إذ لا تتخذ مواقف ثابتة أو لا تمتلك القوة ولا الفكر الذي تتخذ به مثل هذه المواقف، كما قلنا، تعمل مرة من أجل القضية، وتدير ظهرها لها مرة أخرى، بل حتى قد تعمل ضدها أحياناً. وربما أمكن القول أيضاً باحتمال أن يكون (كاظم) نموذجاً لبعض المحافظين العرب الذين يتحسسون أو يعون النهاية التي تنتظر مفاهيمهم، ولذا فهم يحاولون تجنبها، دون أن تكون لديهم الخطط أو الطرق التي تمكنهم من ذلك، فيتخبطون في الأفعال ورود الأفعال، فهذه اخته (سميرة) تقول:
“عقدة الاضطهاد. هذا ما يعاني منع كاظم. فيكون ردّ الفعل لديه هكذا: ضربات عشوائية ضد أصدقائه، ومحبيه”- الرواية، ص29.
وإذ تتقدم الرواية في أحداثها، يقترب (كاظم) تدريجياً من (الدكتور طارق) مبتعداً عن (وليد)، عن وعي وعن غير وعي، ويفجّر تجاهه موقفاً صريحاً بعدائيته حين يكتب سلبياً عن كتاب يصدره (وليد)، وهذا بظني يؤشّر رؤية (جبرا) لمصير القوى التي يمثلها (كاظم)، كما ستؤول إليه.
من أقرب الشخصيات إلى (وليد)، عدا (إبراهيم)، (عامر عبد الله)، وإذ لا ينكر (وليد) على (عامر) نضاله من أجل التغيير الاجتماعي، فإنّه، في الوقت نفسه، لا يتفق أيديولوجياً معه، فينكر عليه طريقته في النضال التي لا توصله إلى التغييرات الحقيقية، ولا تقرّبه مما يبغيه، فهو يقول له:
“أنت تفكر بالتغيير بموجب قوة تُفرض من فوق. إنه تغيير من عبودية إلى عبودية. أمّا أنا فأفكّر بالتغيير بقوة تنبثق من الداخل. من عبودية إلى حرية. من داخل الإنسان، يا عامر. كالقوة التي تحسّها أنت في دمك، في أحشائك، وتجعلك أقوى من كل من يحاول وضع النير على رقبتك”- الرواية، ص201.
ونستطيع القول إن (عامر) هو القوى الوطنية التقليدية التي، مع صدق نضالها ونقاء أهدافها، لم تجد بعد الطريق الأيديولوجي الصحيح الذي تؤمن به، ويمكّنها من تحقيق تلك الأهداف.
بين القطبين المتطرفين للمواقف من (وليد مسعود) ومن القضية، يبرز الموقف الوسط وغير المنحاز لـ(جواد حسني) بصوته الأكثر موضوعية بين أصوات الشخصيات، مع أن عدم ولائه هو من وجهة النظر المبدئية– أيّا كان منطلقها– يُعدّ مأخذاً عليه، ومن هنا فهو يكون موضع نقد (وليد) وعدم رضاه..
“… كان هو [وليد] أشد عنفاً مني في ردود فعله تجاه هؤلاء الرجال والنساء: كانت علاقاته تحتدم وتبرد بتلقائية فطرعليها، وأبقى أنا أداري تلك العلاقات بما كان يسميه عبقريتي الخاصة في منع التناقضات من الاصطدام، بل حتى في دمج التناقضات دون أذى لأحد، أو على الأقل للآخرين. كثيراً ما اتهمني بأنني لا بد غير موالٍ لأحد، إن كنت أستطيع الحفاظ على ولائي لكل هؤلاء الأناس، وهم الذين ينجذبون إلى المرء ويندفعون عنه بقوى مغناطيسية متقاربة، وأبقى أنا في الوسط، والشعرة بيني وبين كل منهم لا تنقطع”- ص12.
وإذا ما أتينا إلى علاقات (وليد) بالمرأة، وجدناها، في بعض جوانبها، امتداداً لعلاقاته بالرجال، خصوصاً من ناحية الزوايا التي ناقشناها، ولكن مع امتلاكها أبعاداً أخرى بالطبع. فللفعل الجنسي لـ(وليد)، على وجه التحديد، من مدلولات أكثر من الظاهر، إلى جانب أن هذه العلاقات مع النساء تضيف شيئاً أو أشياء أخرى لدلالته الرمزية التي اتضحت لنا أكثر جوانبها.
الشخصيات النسائية التي هي على علاقة بـ(وليد مسعود) هي زوجته (ريما) التي لا نعرفها في الرواية إلاّ مريضة مرضاً عصبياً، ولذا فهي لا تشكل عنصراً مهماً، ثم (جنان الثامر) التي لا تخبرنا الرواية الكثير عن طبيعة علاقتها بـ(وليد)، وهناك شخصيتان يمكن أن نعدهما ضمن الشخصيات الرئيسة للرواية، والمهمة لشخصيتها المركزية، وهما (مريم) و(وصال).
(مريم)، كما يقول عنها (الدكتور طارق رؤوف)، وهو طبيبها النفسي:
“… لم تكن مجرد (منجذبة) لرجل تعجب به، أو تحبه، بل إنها مهووسة به، وخصوصاً بطاقته الهائلة على الحب– على الجنس. لستُ أعلم إن كان وليد يدري أنها كانت على علاقة بأكثر من رجل، إلى أن التقت به، وأخذت تحاول امتلاكه لنفسها بشراسة لا تكلّ، وفي حوزتها كلّ ما تتمناه المرأة من أسلحة: جمال الوجه والجسد، طلاقة اللسان، ذكاء الحوار، وذلك الشبق الذي يود كل رجل أن يتصوره في معشوقته…”- الرواية، ص146.
إذن فـ(مريم) لم تكن تميل إلى (وليد) لما فيه هو نفسه بشكل أساس، بل استجابةً لما فيها هي أولاً، ومن هنا كان تنقّلها بين الرجال الذين أقامت علاقاتها معهم– زوجها (هشام) والآخرين– قبل أن تجد (وليداً). بعبارة أخرى إنها كانت تستجيب لشبقها الجنوني. في إحدى المرات، وبعد ممارسة الحب، فارت دواخلها،
“… وبغتة انفجرت الغرفة بي انفجارا مرعبا، وقذفت الصحن من يدي، وألقيت الغطاء عن جسدي ووثبت على قدميّ، وأنا أزعق لكي أُسمع صوتي من خلال زوبعة الموسيقى:
“وليد! أنت رهيب! أنت لعين! لعين! حطمتني، هشمتني! أريدك، أشتهيك، سأقتلك، وأقطّعك قطعاً صغيرة، وآكل كل قطعة فيك.”
“ووقعت على صدره، وأنا أخبط بقبضتي على صدره، وانفجرت ببكاء صارخ لم أبك مثله في حياتي، وجسمي ينتفض انتفاضات ذبيحة وهو ممسك بي بقوة بين ذراعيه، وأنا أنتفض وأعول في نشوة راعبة…”- الرواية، ص225-226.
وإذا أمكن القول عن (مريم) بأنها امرأة مستباحة، ولكن برضاها ولمن تريده، وما أكثر من تريدهم، فإن الشخصية النسوية الرئيسة الثانية، (وصال رؤوف)، لم تمنح نفسها إلاّ لـ(وليد)، وحبها له هو حب الاندماج الناضج والواعي الكلّي بالحبيب، وليس الحب الذي يذوب فيه أحد الحبيبين ليمتصه الآخر. فهي تقول عن هذا الحب في معرض مقارنته بعلاقاتها بغيره:
“… أما مع وليد فقد جاءني ذلك الكشف الغريب بأنني أندمج، أصير، أتداخل، وأعود وأنا غير ما كنته قبل ذلك. أحسست، وهو يتكلم ويناقش، يحاورني ويغازلني، أنني نفذت إلى بواطن إنسان آخر، كأن أحداً يسمح لي بدخول بيت كبير مظلم عجيب الغرف، وبيدي شمعة، أجول بين الأثاث والتحف… عرفته من الداخل، أدور في مداراته الذهنية، في مداراته النفسية والعاطفية. جعلت أعرفه وأحبّه، وأغار عليه. وساورني وَهْمٌ ألحّ عليّ بأن وليد هو.. أنا. جعلت أعرفه وأحبه كما أعرف وأحب نفسي”- الرواية، ص266.
ويجب أن نشير هنا إلى سمة مهمّة في هذه العلاقة وفي تميّزها عن علاقات (وليد) الأخرى بالنساء، تلك هي عذرية (وصال). وتبدو هذه العذرية متعمّدة، إذا ما عرفنا أنها العذراء الوحيدة بين نساء الرواية؛ وهذا يعني أنها نقيّة لم تُلوّث من الآخرين، وعليه فإن حبّها لـ(وليد) هو حب روحي وجسدي. ومن هذه الزاوية يمكننا أن نفهم قرارها الحاسم وغير المتردد، في النهاية، بالانضمام إلى منظمة فدائية والعبور إلى فلسطين لتنظمّ إلى (وليد مسعود)، بعد أن تأكد لها بأنه هناك.
بعد هذا النقاش التفصيلي لشخصيات الرواية، بمن فيها (وليد) نفسه، نسائل أنفسنا عن الكيفية والسبل التي يرتبط بها (وليد مسعود) بالرواية ككل، بعد أنْ قدّمنا تصورنا عن شيء من هذا في البداية، وضمناً حين تحدثنا عن البطل. فهل هو يمثّل الهوية أو الذات المركزية التي تبحث عنها معظم الشخصيات ويهرب منها البعض الآخر؟ أم هو البطل الذي يتطلع كل واحد لأن يكونه؟ ولِمَ لا يكون ضحية تصارع الآخرين؟ لا بأس أن نعود إلى بعض الشخصيات ونحن في سبيلنا للبحث عن أجوبة لهذه التساؤلات. ففي رؤية (إبراهيم) يُشبه (وليد) الإسكندر الذي بحث عن سرّ الخلود، وحين وجد إكسيره وملأ به قربته، ثقب غرابٌ القربة، والإسكندر نائم، فاندلق الإكسير ليرتوي منه الغراب وتنال الخادمة منه شيئاً وتسكب البقية على الأرض. هذه الصورة ترتسم في ذهن (إبراهيم) وهو يفكر بـ(وليد):
“وهذا كله يذكرني بوليد، مع الفارق بالطبع. سعى ما سعى، وحقق ما حقق، ليتمتع غراب هنا بما حقق، ولا يحصل هو حتى على قبر يعرف أحد بالتأكيد أنه قبره. ولا أشك أنه ترك أكثر من امرأة تبحث عنه في الآخرين، وتخشى أن يكتشف أحد أن أنفها من طين، ولكنها لا تكف عن البحث”- الرواية، ص309.
وهذا (د. جواد حسني) يحاول معنا أن يصل إلى فهم (وليد) فهماً كاملاً دون أن يوفّق في ذلك، فيكتفي بطرح التساؤلات، في نهاية الرواية:
“بعد أن يقول الأشخاص ما يقولونه، بعد أن يُبرزوا عن تصميم أو غير تصميم ما يبرزونه، ويُخفون عن تصميم أو غير تصميم ما يخفونه، يبقى لنا أن نتساءل: عمّن هم في الحقيقة يتحدثون؟ عن رجل شغل في وقت ما عواطفهم وأذهانهم، أم عن أنفسهم، عن أوهامهم واحباطاتهم وإشكالات حياتهم؟ هل هم المرآة وهو الوجه الذي يطلّ من أعماقها، أم أنه هو المرآة ووجوههم تتصاعد من أعماقها كما ربما هم أنفسهم لا يعرفونها”- الرواية، ص363.
ويبقى السؤال مطروحاً إلى ما لا نهاية، مع أن الإجابات ترد عليه، لكنها إجابات مختلفة أيضاً.
**
بناءً قسّم جبرا روايته إلى فصول روتها ثماني شخصيات، من ضمنها (وليد)، مستخدماً تقنية رواية الأحداث بوجهات النظر المتعددة. فتبدأ الأحداث باختفاء (وليد)، لنبدأ، بعد ذلك بالتعرف تدريجياً على الأزمة أو الأوضاع التي أدت إلى اختفائه، من خلال ما ترويه الشخصيات المختلفة وما تهيئه لذلك هذه التقنية. فمن خلال روايتها للأحداث، ومن خلال زوايا نظرها، وتعبيرها عن أفكارها وآرائها بالأحداث والشخصيات ذات العلاقة، تتشكل الحبكة. ومع كل ما يقال عن مقدرة جبرا ومهارته الكتابية، وهو صحيح جداً، فإن هذه الحبكة تبدو في بعض حلقاتها على شيء من تراخي التماسك؛ وربما يعود الكثير من ذلك إلى طبيعة الرواية التي يكتبها– نعني رواية الأفكار– وقد يعود شيء منه إلى أن الحبكة في “البحث عن وليد مسعود” لا تكتسب لدى المؤلف الأهمية نفسها التي هي لعناصر أخرى– اللغة، والشخصيات، والفكرة ووجهة النظر، والقيمة الرمزية… إلخ. ومهما قيل عن ذلك، فمن الواضح أن جبرا قد اعتمد، في بناء عمله، على خطّين غير ظاهرين من الأحداث: الأول، وهو الخط الرئيسي الذي ترتبط به معظم الشخصيات، ولكن من خلال ما يتعلق بالبطل، يتشكل من طرح أحداث الحاضر والماضي القريب– المدة التي سبقت اختفاء (وليد) وما تبعها مباشرةً. أما الخط الثاني فيتشكل من خلال تعامل المؤلف مع شخصيات بعينها، وتركيزاً على بطله نفسه، وهذا الخط يخدم، بشكل أساس، الخط الأول من خلال ما يرمز له أو يدل عليه. بمعنى أن قيمته تأتي من دلالته، إلى جانب جماليته الذاتية؛ وهو، نعني الخط الثاني، يغطي مدة محدودة من طفولة (وليد)، قبل تقسيم فلسطين ونضاله بعد التقسيم، مسلّطاً أضواءً، أثناء ذلك على مستقبله الذي هو في الرواية الحاضر، فهو يسهم، من خلال دلالته، في فك بعض الغموض الذي سيكتنف ذلك المستقبل– الحاضر– وبشكل خاص قضية اختفائه. ويجب أن نشير هنا إلى حدث مهم يقع في طفولته، مما يكون له تأثير كبير في فهمنا لشخصية (وليد) وللحدث المركزي الذي يتعلق به، نعني حادثة اختفائه، من خلال الربط الذي أشرنا إليه ضمناً بين خطّي الرواية. وبذلك يشكل هذا الحدث، في الخطّ الثاني، ما يمكن أن نسمّيه مقابلاً دلالياً للحدث الرئيس في الخط الأول:
يهرب (وليد) واثنان من أصدقائه الصبية من الدير طلباً لعبادة الله المطلقة تحت السماء. وبدايةً يذكرنا هربه هذا باختفائه في زمن متأخر من حياته، مع اختلافات مهمة تظهر في غايات الاختفاءين ودوافعهما وكيفية تطبيقهما ودلالاتهما، مع أن هذه الاختلافات المهمة لا تنفي الربط بينهما بقدر ما تدعمه. يهرب (وليد) طفلاً من أجل عبادة الله، وإيماناً برموز غيبية يسعى إليها ويؤمن بها وينتظر وصديقاه أن تستجيب السماء لمسعاهم عملياً ومادياً. ولكنهم يصابون بالإحباط، إذ لا تُنزل لهم السماء شيئاً ولا تستجيب لهم بالشكل الذي كانوا ينتظرون، ومن هنا فإن مغامرتهم المنطلقة من دوافع ولغايات غيبية تفشل بانكشافهم وإعادتهم إلى ذويهم. أما اختفاء (وليد) فيما بعد، وهو الفعل الواعي والناضج هنا، فيأتي مدفوعاً بأرضه التي يحلم بالعودة إليها أو إعادتها، ولا يعتمد على أية قوة ما ورائية، بل تختمر في رأسه فكرة ويطبقها عملياً، ويعتمد فيها على نظرة واقعية وعلى قوة الإنسان وإرادته– هو نفسه– فتنجح بالشكل الذي أراده لها.
لدعم الحبكة المطلوبة، وليكون قادراً على القفز أو التنقل بين الخطين الرئيسين لها، استخدم الكاتب مرة أخرى تقنيات تيار الوعي، (والفلاش باك) ضمن ذلك وبشكله التقليدي أيضاً، بصورة أساس. ولأنه قد اعتمد على طريقه رواية وجهات النظر المتعددة للشخصيات، كما عرفنا، فقد كان عليه أن يكرر– متعمّداً أو غير متعمد– بعض الأحداث تبعاً لزوايا النظر المختلفة لشخصيات الراوية لها. وهو، في تنقله بين الأحداث، كان يقفز أيضاً، عبر حواجز الزمن، في أزمان مختلفة، كون هذه الأحداث قد وقعت في أزمان مختلفة من حياة (وليد)، وتمتد على حوالي خمسين سنة. ومع أن الحوادث، التي انطلقت منها الرواية وصبت روافدها فيها، تنحصر ضمن مدة محدودة، فإن (جبرا) قد نجح في الانطلاق منها نحو امتدادات الزمن التي أتاحتها الخمسون سنة، ونفذتها الشخصيات في رواياتها للأحداث وتذكراتها، ولاسيما ما رواه (وليد مسعود) نفسه وما تَذكَّره، وما تداعى في داخله من أفكار لم يعقها زمن إلاّ بشكل محدود.
لقد أذاب جبرا ذلك كله بعضه مع البعض الآخر وصبه في قالب لغوي رائق، لم يقلّل شيئاً من رونقه إلاّ ما يطغي على اللغة نفسها، في بعض أجزاء الرواية، من نَفَسٍ بحثي– إن صح التعبير– وربما هو الذي كان العامل وراء عدم وصول لغة هذه الرواية مستوى سابقتها، كما قد يرى البعض، رغم كل ما يقال فيها إيجاباً. وفي المقابل، لعل أفضل أقسام الرواية لغةً هي تلك التي يتكلم فيها الكاتب عن فلسطين والأرض وأناسها، وتلك الأقسام التي تتعامل مع طفولة (وليد)، إضافة إلى استخدامات المؤلف للتداعي الحرّ– في عموم الرواية– كما انعكس ذلك بشكل خاص في الجزء الذي يقدم فيه الشريط الذي سجل عليه البطل التداعيات حرّة تماماً لأفكاره ومفردات لغته، قبل اختفائه التي سحبت بدورها اللغة فتداعت بمفرداتها، وبالعكس ساهمت تداعيات هذه المفردات أيضاً في سحب الأفكار إلى مزيدٍ من التداعي.
ومع أن رواية “البحث عن وليد مسعود”، بشكل عام أيضاً، لا تتجاوز، وربما لا تحقق ما حققته “السفينة”، فإنها تبقى واحدة من أفضل الروايات التي كُتبت في العراق، مثبِتةً في الوقت ذاته أن جبرا إبراهيم جبرا واحد من أفضل من أتقنوا فنهم.