جائزة نوبل
هذا العام وكل عام
د. نجم عبدالله كاظم
مع الإعلان عن أسماء الفائزين بجوائز نوبل في كل العام، وخاصة جائزتي الأدب والسلام، ينطلق الكلام واللغط في العالم العربي ودول العالم الثالث بشكل عام مؤوّلاً ومهاجماً ومشككاً بالنزاهة التي يفترض أن تتوفر في اللجان المسؤولة عن مثل نوبل من جوائز ومسابقات، ونحن نعرف قبلاً ضعف هذه النزاهة حتى حين تمنح الجائزة لواحد من العالم العربي أو العالم الثالث وسابقاً من الدول الاشتراكية. وقد يتطرف الكلام في فهم هذه الجائزة ومؤسستها ولجانها ونتائجها إلى حد تجريد بعض الحائزين عليها من كل ما يمنحهم أهلية الفوز بها.
وابتداءً ننطلق في التعرض لجوائز نوبل بشكل عام ولجائزة الأدب منها بشكل خاص من اختلاف في الموقف منها مع التطرف ولكن لا لنكون ضد أصحابه تماماً، بل للدفع نحو موقف نريده أكثر موضوعية. فليس من المقنع ولا المنصف القول عن أي من الحائزين على الجائزة إنه لايمتلك ما يؤهله لنيلها أو إنه ليس بعالم أو ليس بأديب… إلخ مما نسمع منه بقدر أو بآخر، حتى حين يسجل الفوز أوالإعلان عنه أحياناً مفاجأة، إذ أن أغلب هذه المفاجأة إنما تأتي لا من عدم الاستحقاق أو ضعف الموهبة أو فقر الاتتاج، بل من وجود من هم أفضل أو أحق من الحائزين عليها. ولنعترف هنا بأن مثل هذا يقع مع كل الجوائز والمسابقات والمنافسات، خاصة تلك التي تعتمد الموضوعات والنتاجات التي لا يمكن الحكم فيها وتقييمها بحسم كالأدب مثلاً. من هنا ربما يكون إلقاء نظرة على المشترك بين الحائزين عليها من العالم الثالث والبلدان الاشتراكية السابقة كفيلاً بوضع اليد على ما هو فعلاً وراء المنح من موضوعية أو انحراف عنها، وتبعاً لذلك يكون وضع اليد على مبررات وشروط الاستحقاق الحقيقية المعلنة وغير المعلنة التي تعتمدها المؤسسة ولجانها ، خاصة حين تتكرر مفاجآتها.
بمراجعة قائمة أسماء الحائزين على جوائز نوبل المختلفة وخاصة جائزة الأدب، من العالم الثالث والدول الاشتراكية السابقة وضمنهم العرب، أمثال باسترناك وماركيز والسادات وزويل ومحفوط ونايبول…، وهم بالطبع محدودون عدداً مقارنة بالعدد الكلي للحائزين عليها، نجد أن غالبيتهم إن لم نقل جميعهم، هم ممن اختلفوا مع حكوماتهم أو قومياتهم أو أديانهم أو نظمهم المختلفة… بغض النظر عن أحقية هذا الاختلاف أو عدم أحقيته، وصحته أو عدم صحته، ومالؤوا وحابوا ضمناً أو صراحة ما يقابل ذلك من حكومات أو قوميات أو أديان أو أنظمة غربية، وربما أكثر من ذلك حابوا من يقال إنه اللاعب المهم في ما تتوصل إليه لجان الجائزة من قرارات، نعني اليهود والصهيونية، أو وجهوا مجاهر أنشطتهم ونتاجاتهم نحو ما قد يبدو بؤر تخلف وتردٍّ وقسوة وفضائح في بلدانهم مما يصب في النتيجة في كفة الغرب من ميزان الصراع بين الشرق والغرب، إذا ما اعترفنا بان هناك نوعاً ما من هذا الصراع. ولكي نكون منصفين هنا نشير إلى أن اتصاف هؤلاء الفائزين ومواقفهم المعلنة غالباً وأنشطتهم ونتاجاتهم ببعض ذلك وبكله لا يعني بالضرورة أنهم يقصدون هذا الذي يحققه من إساءة لبلدانهم ومحاباة للغرب وربما خدمة له واحياناً خدمة للصهيونية أو على الأقل عدم معاداتها. فمع كل ما عكسته أعمال ماركيز مثلاً في واقعيته السحرية من سوداوية في الحياة الكولومبية في بعض عهودها واقعياً وفنطازياً، فمن الواضح جداً أن ما أرادته أعمال الكاتب إنما هو الجمال والسحر. وما عبر عنه باسترناك إنما هو التعبير عن معاناة إنسان أو أناس من ممارسات نظام غير إنسانية. وإذا ما أتينا إلى العرب، ومعه نضطر إلى عدم الاقتصار في وقفتنا على من حازوا على جائزة الأدب، بل نشمل في ذلك كل جوائز نوبل، لأنهم لم يحوزوا كما نعرف إلا على جائزة أدب واحدة، فإننا سنجد هذا الذي ذكرناه، وبمعزل عن نية أصحابها. فالسادات ليس بحاجة بالتأكيد إلى تشريح شخصيته و(إنجازاته) التي تصب في ما يريده الغرب، وإسرائيل والصهيونية. أما زويل فمعروف أنه لم يفز بجائزة الفيزياء قبل أن يكتسب الجنسية الأمريكية ويقيم علاقات مع مؤسسات إسرائيلية ، بل يفوز بجائزة مركزها تل أبيب. أما نجيب محفوظ فمعروف أنه لم ينل الجائزة، بالرغم من استحقاقه لها من مدة ليست قصيرة إلا بعد أن سمعنا تصريحاته ومواقفه الجديدة من إسرائيل والسلام التي لم تكن ضد القضية الفلسطينية والقضايا العربية المختلفة، إلا أنها شكلت تحولاً يُعدّ، مقارنة بمواقف الرفض العربي والنضال العربي التقليديين ضد إسرائيل والصهيونية، كبيراً ويلبي مرحلياً بعض ما تتمناه إسرائيل من المفكرين والمثقفين العرب. فمع أننا لن نقول إن الأديب الكبير مُنح جائزة نوبل بسبب هذه المواقف والتصريحات إلاّ أنها قد أزاحت برأينا عقبة لا يمكن لأحد، خاصة من العرب، ان ينال الجائزة بوجودها.
من هنا واسترجاعاً لما مر، واستشهاداً بأسماء الحائزين على جوائز نوبل، من العرب بشكل خاص ، والعالم الثالث بشكل عام، نستطيع أن نتلمس شروطاً ثلاثة يجب أن يتوافر عليها الأديب أو المفكر أو الشخصية وخاصة من العرب للفوز بالجائزة، وهي:
أولاً: أنْ يكون كبيراً في تميزه وضخامة إنتاجه ودوره الفاعل في الأدب القومي أو في دعم السلام، وهذا بحدود تعلق الأمر بالعرب وأمم العالم الثالث عموماً، وهو ما يبدو واضحاً جداً في شخص نجيب محفوظ وآخرين بالطبع، لكن بعض التحفظات تثار بشأن أدباء ومفكرين وشخصيات مثل التريندادي نايبول والمحامية الإيرانية الحائزة على جائزة السلام ، ونظن أن معظمهم يُنسَوْن سريعاً.
ثانياً: أنْ يعكس أدب الأديب وجهود المفكر أو الشخصية المعنية الجوانب السلبية لمجتمعه وتراثه وقوميته ودينه… سواء قصدها الكاتب أو لم يقصد، وإذا ما كانت أعمال أدباء مثل ماركيز أمثلة تثير جدلاً، فإن ما فعلته بعض كتابات نايبول لهي أوضح من أن تثير مثل هذا الجدل. أما أعمال نجيب محفوظ مثلاً التي تكاد تمجد الوطن والمجتمع والتاريخ القومي، فإنها تشكل استثناءً لهذا الشرط مع هذا لا يتم التنازل عنه إلا بحضور الشرظ الثالث ، والعكس صحيح إذ لا يتم تجاوز الثالث إلا بحضور الشرط الثاني، وفي كل الأحوال الحرص يبقى على حضور الشرطين معاً.
ثالثا: أنْ تتفق نتاجات الأديب أو نشاط المفكر أو الشخصية مع وجهة النظرالغربية، أو على الأقل لا تصب في وجهة النظر الشرقية، ضمن مسار الصراع بين الشرق والغرب وربما الإسلام والغرب، كما تمثّلَ مثلاً في تعريض أعمال نايبول بالإسلام والإساءة إليه، وربما أنْ تتماشى مع وجهة النظر الصهيونية إذا كان الأديب من العرب، أو على الأقل أنْ لا ترفض الوجود الصهيوني أوتعرّض به، وقد أشرنا قبلاً إلى ما نعنيه بذلك لكي لا تساء وجهة نظرنا تجاه فوز نجيب محفوظ.
وانطلاقاً من وجهة النظر الشخصية نرى أن الكثير من أدبائنا ومفكرينا الكبار الذين حلموا أو يحلمون بالجائزة، ومن حقهم أن يحلموا بها إذ يعون هذه الشروط فإن بعضهم يسعى إلى أن يتوافر عليها على الأقل بالشكل الذي توافر عليها نجيب محفوظ. وفي ضوء هذا نرى أنهم يتوزعون في قربهم من الجائزة أو بعدهم عنها على فئتين. الأولى فئة الأدباء والمفكرين الذين أسقطوها على ما يبدو من حساباتهم لأنهم غير قادرين على المهادنة فيما يؤمنون به، من أمثال عبدالرحمن منيف وسعدي يوسف ومحمود درويش. والثانية هي فئة الأدباء والمفكرين الذين يحاولون المغازلة ولكنهم قد يبقون دون التوفر على الشرط الأول الأساس، أو أحد الشرطين الآخرين، من أمثال أدونيس في تمثل ما يسمى بحركة السلام في الشرق الأوسط، وإبراهيم الكوني في شحن كتاباته بما يبحث عنه الغرب من مضامين، وأدوارد سعيد وبعض الشخصيات الفلسطينية الأخرى في تبني ما قد تسمى بالنظرة الواقعية، وقبلهم كان عبدالوهاب البياتي في تلبس لبوس المعارضة في زمن يبحث الغرب فيه عن المعارضة في بلدان العرب والمسلمين. وإذ لم يحقق عبدالوهاب البياتي في أيامه الأخيرة المطلوب لأنه لم يكن بقادر على أن يكون موالياُ للغرب أو مستجيباً لما يريده فلم يقترب من الجائزة، فإن أدوارد سعيد، و بالرغم من بعده عمن يحسبون على الجانب المتشدد من الفلسطينيين والعرب بشكل عام، قد مثّل العقل الذي إذ يعرف كيف يفكر الغرب وعليه يعرف كيف يتعامل مع قضايا الأمة والصهيونية وإسرائيل، فكان علمياً وموضوعياً في ذلك بحيث صب فكره في النتيجة في ما لا يرضي إسرائيل والصهيونية، ففقد برأينا فرصة الحصول على الجائزة، بينما يبقى آخرون من أمثال إبراهيم الكوني، وفقاً لأحجام نتاجاتهم وأدوارهم في حركة الأدب العربي أو في حركة السلام كما يراها الغرب وإسرائيل بعيدين عن الجائزة، ليبقى بعد هذا أدونيس الذي نتوقعه الأقرب إليها. فإذ توفَّرَ بالتأكيد على الشرط الأول، فإنه اقترب من الشرط الثاني كثيراً، فنحن نعرف ما تثار حوله في هذا الشأن من تشكيك وتكفير وتجريح، وهي وبمعزل عن مدى صحتها أو عدم صحتها وموضوعية ما يدفع إليها تلبي الشرط الثاني في حدوده الدنيا، بينما تأتي مغازلة الغرب من خلال الالتقاء جزئياً على الأقل مع بعض نظرة هذا الغرب إلى مشاكل الشرق الأوسط لتلبي الشرط الثالث. وذلك كله يجعلنا نرى أنه إذا كان العديد من العرب قد لبوا متطلبات جائزة نوبل للسلام للأسباب المعروفة، فإننا لا نرى لغير أدونيس منهم فرصاً للحصول على جائزة الأدب.
شاهد أيضاً
رعب كافكوي في قصص يحيى جواد
رعب كافكوي في قصص يحيى جوادقراءة لمجموعة “الرعب والرجال” في ضوء المنهج النفسيمنشورةأ د. نجم …