رواية “الأنهار” لعبد الرحمن مجيد الربيعي
ورواية “وتشرق الشمس ثانيةً” لإرنست همنغوي
كما أشرنا، وكما هو معروف، فإن مصر ولبنان، والى حدّ ما الشام، كانت أولى البلدان العربية التي اتصلت بالعالم الغربي وفتحت نوافذها الثقافية عليه، مما يعني أنها كانت، بلا شك، أولى البلدان التي تعرفت على الآداب الغربية قراءةً وترجمةً ثم تقليداً لذلك الذي عرفوه وقرأوه وترجموه. كان ذلك مع بداية القرن الماضي، وتطور وتقدم خلاله، ثم بشكل أكثر نضجاً ووضوحاً وسعةً خلال القرن الحالي. وابتداءً من بعد الحرب العالمية الثانية، نشطت حركة الترجمة عن تلك الآداب إلى اللغة العربية، وترسخت مكانة القاهرة وبيروت، المركزين الرئيسين للترجمة والطباعة والنشر. وكان واضحاً أن الرواية قد احتلت مركزاً طيباً في ذلك، ومن ثم فقد انتشرت في الوطن العربي. ومن الجدير بالذكر أن المكانة المتقدمة التي كان قد احتلها الأدب القصصي الفرنسي خلال الثلاثينيات والأربعينيات كان آخذاً بالتنحي جزئياً، فاسحاً المجال للآداب القصصية الإنكليزية والأمريكية، فيما حافظ الأدب القصصي الروسي على مركزه السابق إلى حدّ بعيد، على الأقل خلال الخمسينيات. ولقد كانت الرواية الفرنسية، بالطبع، مقروءةً بشكل من الممكن جداً أن نقول إنه كان واسعاً، وبشكل خاص في الأقطار التي كانت فيها الفرنسية هي اللغة الأولى بعد اللغة الأم، كالجزائر وتونس وسورية. ولكن تبقى الرواية الإنكليزية والأمريكية على ذات الانتشار غير الضيق نسبياً، في الوطن العربي بشكل عام، لتأتي بعدهما الرواية الروسية... إلخ. ولقد أصبحت معروفة جداً أسماء مثل: جان بول سارتر، وألبير كامو، وتشارلس ديكنز، وجين أوستن، وجيمس جويس، وإرنست همنغوي، وجون شتاينبك، وإرسكين كالدويل، ووليم فوكنر، وليو تولستوي، وفيدور دستويفسكي، وأنطون تشيخوف، وماكسيم غوركي.
ومع أواسط الستينيات، أخذت عواصم عربية تحتل، مواقع متقدمة ومتصاعدة إلى جانب القاهرة وبيروت في مجال النشر، ابتداءً ببغداد ودمشق، ثم تونس والجزائر والخرطوم وطرابلس وغيرها. لقد قاد هذا التوسع والشمول إلى أمرين مهمين، فيما يخص موضوعنا، أصبحا أكثر وضوحاً في أواخر الستينيات وخلال السبعينيات. أولهما حقيقة ازدياد عدد الروايات المطبوعة، وثانيهما تنوع مصادر الترجمة، وتنوع الكتب المترجمة. فإضافة إلى الكُتّاب الفرنسيين والإنكليز والأمريكان والروس، الذين أشرنا إلى أهمهم، بدأنا نألف أسماء مهمة أخرى مثل فرانز كافكا التشيكوسلوفاكي، وألبرتو مورافيا الإيطالي، وتوماس مان الألماني، ونيكوس كازنتزاكي اليوناني.
وبالرغم من أن غالبية الكتاب الذين ذكرناهم، كانوا افتراضاً مقروئين من القراء العرب وضمنهم الكتّاب، فإن هذا لا يعني، بالطبع، أنهم جميعاً قد أثروا في هؤلاء الكتّاب. سنحاول فيما سيأتي أن نرسم بعضَ أهم الخطوط العامة لما نراه أكثر التأثيرات وضوحاً ومن خلال أعمال أهم هؤلاء الكتاب العرب، دون التوغل في التفاصيل، انطلاقاً من أن التأثر العراقي، الذي سنأتي إلى تفصيلاته فيما بعد، سيكون، بشكل أو بآخر، جزءاً من الصورة التي سترسمها هذه الخطوط.
وإلى جانب كافكا يبرز، ضمن المؤثرين الرئيسين، البير كامو، في رواياته "الغريب" L'etranger و"العصيان" L'homme revolte، و"السقطة" La Chute؛ وسارتر في "الأيدي القذر"Les Mains Salls، وكولن ولسون في "اللامنتمي" The Outsider، ووليم فوكنر في "الصخب والعنف" The Sound and the fury.
وإذا كان هؤلاء الكتاب هم من أبرز المؤثرين في كُتّاب المشرق العربي بشكل خاص، فإن هناك، بلا شك، كتّاباً مؤثرين آخرين قد فعلوا ذلك بدرجات أقل خلال العقدين الأخيرين، مثل تشيخوف، وديستويفسكي، وميخائيل شولوخوف، وسيمون دي بوفوار، وروب غرييه، وميشيل بيتور، وألدوس هيكسلي، وجويس، وولف، وغراهام غرين، وجون شتاينبك، وهمنغوي، وأرسكين كالدويل، وويليام سارويان، ومورافيا، ونيكوس كازنتزاكي. وإذ تتفاوت تأثيرات هذه المجموعة، إضافة إلى من ذكرنا قبل ذلك في كتاب المغرب العربي، فإن ظاهرة طريفة تُرصد هنا، تلك هي أنه بالرغم من أن اللغة الفرنسية كانت إلى وقت غير بعيد اللغة الأساس قبل العربية أو إلى جانبها بلدان المغرب العربي، مما يدفع إلى التوقع بأن تحتل القراءات الفرنسية المكانة الأولى في قراءات الكتاب، وفي النتيجة أن تكون مؤثرات الأدب الفرنسي هي المهيمنة، "فإنها لحقيقة غير عادية أن يتأثر الروائيون الجزائريون بالكتاب الأمريكان والإنكليز أكثر من تأثرهم بالكتاب الفرنسيين"([1])، كما تشير إلى ذلك عايدة أديب في دراستها المتميزة عن الرواية والقصة الجزائرية، والتي وجدت أن مولود فرعون مثلاً كان متأثراً بهنغوي ودوس باسوس، بينما تأثر العديد من الكتّاب الآخرين بلورنس ووولف وربما فوكنر.
إن اتصال العراق واحتكاكه بالأقطار العربية، إضافة إلى ما وفرّ للعراقيين من اطلاع على الأعمال العربية وقراءتها والتأثر بها أحياناً، قد قاد إلى التعرف والاطلاع بشكل أوسع أيضاً على آداب أجنبية مختلفة. فقد كان طبيعياً أن يختلف كل قطر عن القطار الأخرى– لأسباب ذوقية أو اجتماعية أو سياسية أو ظرفية– في اختياره لما يقرأ ويترجم عن الآداب الأجنبية، فكانت النتيجة أنْ ابتدأ الكتّاب في العراق، كما هو حال غيرهم بالطبع، خلال الخمسينيات يحصدون ثمار هذا التنوع في الآداب الأجنبية التي كانت وراء أنواع مختلفة من التجديد والابتكار التي عُرفت خلال العقدين السادس والسابع.
ويعكس عبد الرحمن مجيد الربيعي، في قراءاته، ما يمكن تصورُّه عن بعض قراءاتِ مَن لا يجيد لغة أجنبية من الكتاب وعن طبيعة هذه القراءات، ومن هنا ربما كان من الضروري الاستعانة، في دراسة التأثيرات، بالترجمات إضافة إلى النصوص الأصلية. يقول الربيعي:
“أُعجبتُ كل الإعجاب بالرواية الروسية التي كتبها تولستوي وديستويفسكي وبعدهما شولوخوف. كما قرأت الرواية الأمريكية وشدتني أعمال إرسكين كالدويل وإرنست همنغوي وجون شتاينبك ووليم فوكنر، والأخير بهرني في تقنيته العالية وخاصة في روايته (الصخب والعنف) و(سارتوريس). كما قرأت الرواية الإنكليزية والإيطالية والفرنسية، وتوقفت طويلاً عند كتابات جان بول سارتر وخاصة (دروب الحرية)؛ وكذلك ألبير كامو الذي وجدتْ كتاباته صدًى عميقاً في داخلي بما فيها من مسحة حزن وشاعرية… وقد قرأت روايته (الغريب) عدة مرات…”([2]).
لم نكن لنتوقع بالطبع أن تؤثر كل هذه الأعمال، التي ذكرناها أو ذكرها الكتّاب العراقيون في الرواية العراقية. ولكن من الممكن، استئناساً بما عرضناه سابقاً وبالمصادر التي تناولت الموضوع، أن نقول إن التأثيرات الأساسية في الرواية، وربما القصة بشكل عام، في الخمسينيات والستينيات تتركّز، إضافة إلى ما للرواية العربية– غير العراقية– من دور، في الرواية الفرنسية والأمريكية، وبدرجة أقل الروسية والإنكليزية، بينما يمسّ هذه الحقيقة بعض التغيير في نهاية الستينيات والسبعينيات. وإذ يهمنا أن نتناول هذه المدة بالذات في دراستنا، فإننا سنلقي ما نستطيع إلقاءها من أضواء على التأثيرات العالمية المختلفة وبشيء من العمومية على رواية هذه الحقبة راجعين، بالضرورة، إلى الخمسينيات التي شهدت البداية لأغلب تلك التأثيرات، ليكون ذلك مدخلاً إلى تبيّن مكانة الرواية الأمريكية في ذلك قبل دراستها في الفصل التالي. والواقع أن التأثير الحقيقي والناضج للآداب الغريبة قد بدأ فعلاً في الخمسينيات وربما سبقت تمهيداتُه ذلك بقليل، بعد أن أتاح الانفتاح الحضاري والثقافي، الذي تلا الحرب العالمية الثانية، للمثقفين فرص الترجمة والقراءة والاطلاع، وتنويع مصادر ثقافاتهم أحياناً، خصوصاً لمن كان يجيد منهم لغة أو لغات أجنبية. كما “قادتهم هذه المعرفة في أحيان أخرى، إلى التعرف على ألوان من القصص غير ألوانها التقليدية المعروفة، هيأت لهم إمكانية تطوير هذا الفن، واستخدام طرائق جديدة في التعبير، حققوا فيها ريادة تُذكر لهم، كما يتضح ذلك على سبيل المثال في محاولة استخدام طريقة المنلوج الداخلي أو تيار الوعي في عرض قصصهم تأثراً بكتابات جيمس جويس منذ الأربعينيات”([3])، وهو الأمر الذي صبغ نتاجات العديد من كتابات الخمسينيات، واستمر بشكل أو بآخر في الستينيات والسبعينيات، حتى ما كدنا نجد كاتباً خلال العقدين الأخيرين إلاّ واستخدم هذا الأسلوب في كتاباته.
كما شهدت الخمسينيات إعجاب العراقيين بالكتّاب الواقعيين الروس والأمريكان، وعلى وجه الخصوص كتابات ماكسيم غوركي وروايات كالدويل وجون شتاينبك وهمنغوي، والتي ترجمت بشكل واسع خلال تلك المدة، تاركةً آثارها في العديد من الكتاب، مثل غائب طعمة فرمان الذي حمل تأثّراته طيلة مسيرته الروائية، مع التغيّرات الجزئية والجوهرية بين رواية وأخرى.
ومن أهم المدارس والاتجاهات، التي تلفت نظر الباحث في مكانتها لدى الكتّاب العراقيين خلال الخمسينيات أولاً ولتستمر وتتصاعد في الستينيات والسبعينيات، الوجودية ممثلةً بسارتر وكامو. وربما كان فؤاد التكرلي واحداً من أوائل الكتاب الذين تأثروا بها إلى جانب بعض كتاب القصة القصيرة، مع أننا يجب أن لا ننسى هنا أن الحديث عن الكتّاب الذين تركوا بصماتهم على كتابنا ينسحب إلى خارج حدود هذه الدائرة ليضم جيمس جويس وفرجينيا وولف وكاترين مانسفيلد وفرانز كافكا وإرنست همنغوي وماكسيم غوركي وفيدور ديستويفسكي وربما غيرهم. وقد أصبحت تأثيرات هؤلاء الكتاب الأمريكيين والأوربيين أكثر وضوحاً من منتصف الستينيات وتواصلاً خلال السبعينيات. فامتداداً لما كان موجوداً في الخمسينيات، وبسبب استمرار انتشار الأعمال الوجودية، لسارتر وكامو وغيرهما، في الوطن العربي عامة، فإن تأثير كتّابها قد ترسخ أكثر، وإن كان ذلك في القصة القصيرة أكثر منه في الرواية. لقد ظهرت هذه التأثيرات، متلازمة غالباً مع آثار الكتابات الفردية وكتابات اللامعقول وتيار الوعي وموجة الرواية الجديدة، في روايات مثل “الأخطبوط”- 1959- و”السجين”- 1961- لأنيس زكي حسن، و”الزقاق المسدود”- 1965- و”كما يموت الآخرون”- 1965- لياسين حسين، و”الوشم” لعبد الرحمن الربيعي، و”الحبل”- 1972- لإسماعيل فهد إسماعيل، وغيرها.
وفي محاولة لتحديد نصيب الروايات الأمريكية بين التأثيرات الغربية، نجد أن روايات العشرينيات والثلاثينيات الأمريكية – ما تسمى بفترة ما بين الحربين – لها التأثير الأكبر. ويمكن للباحث بالتأكيد أن يجد تأثيرات لمنغوي وشتاينبك وكالدويل، وربما دوس باسوس وسارويان، إضافة إلى صاحب التأثير الأكبر، وليم فوكنر. فلقد أثر هؤلاء الكتاب أو معظمهم في معظم الكتاب العراقيين، خاصة جبرا والربيعي وفرمان والتكرلي والمطلبي.. فهؤلاء هم الكتاب الأكثر تأثراً واستيعاباً لهذا التأثير ونضجاً في عكسه في كتاباتهم، مع التباين في ذلك فيما بينهم بكل تأكيد.
إن وجود تشابهات في عملين أدبيين ما، وما أكثرها، لا يعني بالضرورة تأثير أحدهما في الآخر. والواقع أن الاعتماد على حقيقة أو ظاهرة منفردة، كهذه التشبهات، للتدليل على وجود التأثير هو عندنا خطأ منهجيّ كثيراً ما يستتبع نتائج خاطئة، دون أن يعني، بالتأكيد، أن اعتماد هذه التشابهات بحد ذاتها خطأٌ في الدراسات المقارنة، لكن المهم أن تكون من الكثرة والأهمية في العمل الذي تظهر فيه، أو أنْ تقرن بدلائل ومؤشرات ساندة أخرى، أو أن تكون هي ذاتها ساندة لظواهر ومؤشرات رئيسة أخرى. لذا نسعى، على هذا الأساس، إلى استخدام ما نعتقد أنه وسيلة عملية لإثبات التأثيرات، وهي قائمةٌ على اتباع خطوات أو إجراءات معقولة ومقبولة في الدراسة المقارنة تنطلق مما يمكن أن نسميها الدائرة الواسعة التي تحيط بالأدب وتمر بدوائر تقترب منه تدريجياً لتنتهي بالدائرة الأضيق التي تهمنا بشكل مباشر، نعني الأعمال الأدبية- وهي عندنا الروائية بالطبع- التي ندرسها مقارنياً. وأولى هذه الخطوات، وهي مما نتّبع فيها المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن بشكل خاص، دراسة العوامل أو الاستدلالات الخارجية، كالتشابهات في الأحوال الاجتماعية والسياسية العامة والظروف المختلفة التي مرّ بها العراق والولايات المتحدة، دون أن نعني أن هناك ما يربط بين الاثنين، من أيديولوجيات أو فترات نضال أو تطورات اجتماعية في مراحل من تاريخيهما. كما ويدخل ضمن هذه النقطة أو الخطوة تفحّص مدى انتشار الأدب الأمريكي بشكل عام، والرواية بشكل خاص، في العراق، مع تأشير أهم الكتاب وأكثرهم شعبية في القطر خلال العقود الأخيرة. وتأتي ثانياً العوامل المرتبطة بكتّاب معينين في العراق والولايات المتحدة والخصائص والاتجاهات المتشابهة أو المشتركة: شخصياتهم، مهنهم، نزعاتهم الفكرية والأولية، الميول، التجارب المختلفة. وهنا نأخذ بنظر الاعتبار أيضاً نوع الأدب والأدباء والأعمال التي أُتيحت للكتاب العراقيين المعنيين في فترات بعينها، وملتفتين إلى من كان يجيد من هؤلاء الكتّاب العراقيين لغات أجنبية، خاصة الإنكليزية، لما يشكّله ذلك من نوافذ جيدة يُطلّون منها على الأدب الأمريكي. كما أن لآراء هؤلاء الكتاب، الموثّقة في المقابلات والحوارات والتصريحات والرسائل، حول الموضوع أهمية هنا. وفي الخطوة الثالثة، سنلتفت إلى العوامل والمؤشرات المتعلقة بالروايات العراقية والروايات الأمريكية التي نحن بصدد دراستها والمقارنة بينها، شاملين في ذلك، بالإضافة إلى التشابهات الأساسية، التي تبقى في كل الأحوال أهم عناصر المقارنة، أية إشارة إلى الروايات الأمريكية ومؤلفيها تتضمنها وتتضمنهم أعمال الكتاب العراقيين أنفسها، وكذلك الأهداف التي يصبو إليها أولئك الكتاب في هذه الأعمال.
إن الإحاطة بهذه المجالات والعوامل ودراستها ستتبعها مناقشة للروايات المزمع المقارنة بينها ودراستها نقدياً وتحليلياً، مع الاستعانة بالاضاءات التي يمكن أن تُلقيها على ذلك كله دراسات ونقود الباحثين أنى كان ذلك ممكناً أو متاحاً أو ضرورياً.
وبداية، لا نريد أن نخلق تشابهات مفترضة أو مصطنعة بين المجتمعين العراقي والأمريكي، لأن تلك التشابهات غير موجودة على وجه العموم، إلا بشكل محدود. لكنّ المثقفين العراقيين قرأوا بالتأكيد الأدب الأمريكي، كما رأينا في الفصل السابق، بشكل ملفت، ابتداءً من عقابيل الحرب العالمية الثانية، وأوائل الخمسينيات، وتصاعداً مع أواخر ذلك العقد وخلال الستينيات. والحقيقة أن العوامل والمؤثرات الكامنة وراء هذا الميل لقراءة الأدب الأمريكي ليست واضحة تماماً، ولكن ربما كان ذلك، جزئياً، نتيجة للاتجاهات الطبيعية والواقعية للكثير من الكتاب الأمريكيين، ممن ظهروا وكتبوا بعد الحرب العالمية الأولى، وبينها وبين الحرب العالمية الثانية بشكل عام، إذ يبدو أنها قد وجدت صدى في نفوس العراقيين الذين أخذوا يعززون ميولهم الواقعية على حساب الاتجاه الرومانسي تدريجياً، إلى جانب تسلل الاتجاهات الأخرى التي أشرنا إليها سابقاً. وربما كمن جزء من أسباب التوجه لقراءة الأعمال الأدبية الأمريكية في طبيعة هذه الأعمال المجدِّدة والانتفاضية والمتمردة أحياناً حدّ (الثورية)- بالمعنى العام للثورية- والتي ازدهرت ضمن المدة التي أشرنا إليها، والمقدمة في كتابات طبيعية ووثائقية وتسجيلية وواقعية.
وإذا كان التوجه المتنامي للمثقفين والكتاب العراقيين نحو الواقعية قد دفع بهم، جزئياً، نحو الأعمال الروائية والقصصية الأمريكية، إلى جانب الروسية، كما قلنا، فإن هذا التوجه نفسه لقراءة الأعمال الواقعية الأمريكية، قد عمل بدوره على تعزيز هذا التوجه، وتحديداً من خلال تأثير أعمال كالدويل وشتاينبك وهمنغوي وإلى حد ما آخرين، وعلى لفت أنظار القراء والكتاب العراقيين إلى الأدب الأمريكي عموماً، وعدم التوقف عند أعمال الكتاب الذين لفتوا الأنظار.
وتبرز اللغة الإنكليزية، باعتبارها اللغة الأجنبية الأولى في العراق، واحداً من العوامل التي كانت وراء انتشار الرواية الأمريكية، والآداب الأجنبية الأخرى. واحتلالها هذه الأهمية قد مكّن الرواية الأمريكية من الانتشار بين المثقفين، والكتّاب بشكل خاص، عن طريقين. الأول: حركة الترجمة في القطر التي نقلت للقارئ العراقي بعض الأعمال إلى جانب الأعمال المترجمة الوافدة من الأقطار العربية الأخرى. والطريق الثاني: قراءة الأعمال بلغتها الأصلية لكون الكثير من المثقفين والكتاب كانوا يحاولون، إن لم يكونوا مجيدين للغة أصلاً، تعلم الإنكليزية والقراءة بها.
ولعدم توفر إحصاءات أو ببلوغرافيا بالروايات الأمريكية المترجمة إلى العربية، فإننا نستفيد هنا مما قاله الباحثون والدارسون والنقاد الآخرون، وتصريحات الكتّاب أنفسهم، مرة أخرى، بالإضافة إلى تقصّينا الخاصة، في محاولة الوصول إلى معرفة الروائيين الأمريكيين الذين عرفهم العراقيون، وأيّ من أعمالهم كانت أكثر شعبية وانتشاراً خلال العقود الثلاثة الماضية. ولقد ظهر لنا، من بحثنا، مع الاستعانة بالمصادر المساعدة الأخرى المشار إليها، أن أكثر الكتاب الأمريكان، المهمّين ضمن الأدب الأمريكي وعالمياً، كانوا بشكل عام معروفين ومقروئين في العراق، بدرجات متفاوتة بطبيعة الحال. ويبدو لنا أن من أكثر هؤلاء شعبية، وربما تأثيراً، كان: إدغار ألين بو، ومارك توين، وهنري جيمس، وإرنست همنغوي، ووليم فوكنر، وجون شتاينبك، وأرسكين كالدويل. أما أهمّ الروايات وأكثرها انتشاراً فربما كانت: "صورة سيدة" لجيمس، و"وتشرق الشمس ثانية" و"وداعاً للسلاح" و"الشيخ والبحر" لهمنغوي، و"الصخب والعنف" لفوكنر، و"عناقيد الغضب" و"كانري رو" لشتاينبك، و"طريق التبغ" و"أرض الله الصغيرة" وبيت في المرتفعات" لكالدويل؛ بالإضافة إلى أعمال أخرى كانت تحتل مكانات خاصة لبعض الكتاب العراقيين دون آخرين.
والواقع بالازدياد المطّرد لقراءة الرواية الأمريكية والتعرف على تشعباتها وكتابها واتجاهاتها، بعد الحرب العالمية الثاني وأوائل الخمسينيات، أصبح من الممكن العثور على بعض التأثيرات التي تبعت ذلك، وبشكل خاص ابتداءً من أواسط الخمسينيات ونهايتها حين أصبح الاتجاه الواقعي هو المهيمن في الكتابة القصصية في العراق. يقول الدكتور عبد الإله أحمد، عن بعض هذه الكتابات الواقعية العراقية: "جاء عدد من قصص هذا الاتجاه، وهي تستعير أجواءها، مما كان يقرأُه القصاصون من قصص تصوّر الطبقات الشعبية المسحوقة، خاصة قصص غوركي وروايات إرسكين كالدويل، وجون شتاينبك، التي تُرجمت بكثرة في الخمسينيات"([4]). ويذكر الباحث أن كُتّاباً مثل سافرة جميل حافظ وعبد الملك نوري تأثروا بكتّاب أمريكان مثل همنغوي وكالدويل ودوس باسوس وشتاينبك. ولقد استمر التأثير الأمريكي، مع وضوح وبروز أكثر، خلال بداية الستينيات وأواسطها. وكان هذا الوضوح والبروز في القصة القصيرة أكثر منه في الرواية، كما يتمثل ذلك في بعض قصصِ جيان، وصلاح حمدي، وشاكر خصباك وآخرين، وهو أمر يكاد يكون طبيعياً، إذ لم تكن الرواية العراقية قد بدأت نهضتها الحقيقية المتُصاعدة فنياًّ. وبالرغم من التأثيرات المتصاعدة لاتجاهات عامة مختلفة، كالرواية الوجودية وحركة الرواية الجديدة، وأدب اللامعقول، وكتابات تيار الوعي، وهي الاتجاهات التي كانت أكثر ملاءمة لظروف العقد السابع، كما أشرنا إلى ذلك ضمناً وصراحةً فيما سبق، فإن مما يلفت النظر أن الأعمال الروائية الأمريكية، وكما أتّضح لنا، كانت من بين الأعمال الأقوى تأثيراً، سواء أكان ذلك ضمن بعض تلك الاتجاهات نفسها أم خارجها، في الرواية العراقية ضمن المدة الممتدة من سنة 1965 إلى سنة 1980. وكان ذلك في أعمال كُتّاب مثل الربيعي والتكرلي وفرمان وجبرا وإسماعيل والمطلبي بشكل خاص. ولقد توزع هذا التأثير في وضوحه وبروزه على التقنية والبناء والسرد والشخصيات والموضوعات والأفكار، والمعالجات والمداخل الفكرية أحياناً. وإنه لمن الضروري أن نذكر هنا أن أسماء العديد من الروائيين الأمريكان ممن أصبح الكثير من أعمالهم مألوفاً لدى أغلب الكتّاب إن لم نقل كلهم، حتى بتنا نجدها ترد في كتاباتهم، بل حتى أثّرت في عناوين بعضها، مما يوضح مدى توطّد مكانة الرواية الأمريكية خلال المدة التي تُعنى بها دراستنا. ومع أننا لم نطرح لحد الآن التأثيرات الفنية، وهي التأثيرات التي سنناقشها بشيء من التفصيل في الأماكن المخصصة لدراسة تأثير روائيين أمريكان بعينهم، فإن نتيجةً عامة نستخلصها قبل تناول هذا التأثير لهؤلاء الروائيين، وهي أن العراقيين، والعرب عموماً، قد وجدوا، على ما يبدو، في الأعمال القصصية والروائية الأمريكية ما يفتقدونه ويبحثون عنه، ذلك هو اهتمام الأدباء أو أعمالهم بعوالم الفقراء والبائسين، ومعالجة الصراع الطبقي إلى حدّ ما ضمن المعالجات الواقعية الحديثة عموماً. وكوننا قد حددنا تناولنا للرواية الأمريكية بنتاجات ما بين الحربين، فإننا سنتناول فيما سيأتي بعض روائيي هذه المرحلة، كنماذج أولاً، وباعتبارهم من أهم الكُتّاب الأمريكان عموماً تأثيراً، وفق ما استطعنا أن نتوصل إليه من خلال البحث ثانياً. وإذ سنتناول وليم فوكنر، وهو الذي يحتل مكانة متقدمة في ذلك، في فصل خاص، فإننا سنركز في هذا الفصل على روائي آخر، قد لا يقل في بعض الجوانب، وبالنسبة لبعض الكتاب العراقيين، أهمية عن فوكنر، ذلك هو إرنست همنغوي، بينما سنتناول تناولاً عاماً جون شتاينبك وإرسكين كالدويل بعد ذلك. ويبقى بعض هؤلاء وآخرون بحاجة إلى تناولات أكثر تركيزاً في دراسات منفصلة لا يمكن لكتابنا أن ينهض بها.
إرنست همنغوي
مما لا جدال فيه أن إرنست همنغوي واحدٌ من أهم الكتّاب الأمريكان وأكثرهم انتشاراً في العراق، وفي الوطن العربي كلّه. وهذا ليس، بالطبع، أمراً غير اعتيادي، إذ أن هذا الكاتب كان ولا يزال واحداً من أكثر الكتاب انتشاراً وشعبيةً في أمريكا والعالم، رغم ما يسجله بعض النقاد على فنه. إذ إن هذا لا يؤثّر في مكانته بوصفه كاتباً عالمياً مقروءاً جداً؛ بل يتعدى أمر الاهتمام به وتقدير النقاد والقراء إلى كبار الكتاب أنفسهم مثل وليم فوكنر الذي يعدّه من المبدعين المتقدمين على أكثر معاصريهما([5]).
إن مراجعة عامة للببلوغرافيا الشاملة عن إرنست همنغوي التي أعدها أندري هانيمان تُرينا المكانة التي يحتلها هذا الكاتب في العالم. وإذ لا نحتاج هنا إلى التوسع في هذا الجانب، كونه واضحا أولاً، كما أنه لا يهمنا بشكل مباشر في دراستنا ثانياً، فإن مما يجدر أن نذكره أن أغلب أعمال الكاتب القصصية والروائية كانت ولا تزال مقروءةً بشكل واسع في العراق. وربما أمكننا، استناداً إلى بحثنا المتواصل ومتابعاتنا وإلى تصريحات الكتاب العراقيين، أن نقول إن أكثر روايات هذا الكاتب انتشاراً وشعبية، بالإضافة إلى العديد من قصصه القصيرة، كانت الآتية: “وتشرق الشمس ثانية” The Sun Also Rises – 1926، و”وداعاً للسلاح” A Farewell to Arms – 1929، ولمن تُقرع الأجراس For Whom the Bell Tolls – 1940، و”الشيخ والبحر” The Old Man and the Sae – 1952، وهذه الأعمال هي، في الوقت نفسه، أكثر أعماله شهرةً في العالم، كما في في الولايات المتحدة الأمريكية. ولهذا ليس غريباً أن تُظهر لنا ببلوغرافيا هانيمان أن هذه الأعمال كلها كانت من بين أعمال الكاتب المترجمة إلى العربية ما بين سنتي 1956 و 1962، وأن بعضها قد ترجم أكثر من مرة من أكثر من مترجم وصدرت عن دور نشر مختلفة وفي بلدان مختلفة([6]). لقد كان ذلك، بالطبع، وحتى حين نُشر لأغراض تجارية، بسبب من شعبية الكاتب وأعماله بين القراء العراقيين والعرب عموماً. المهم الذي نستطيع أن نستنتجه هنا هو أن ذلك لا بد أن يكون قد دفع أولئك الذين يجيدون لغة أجنبية، وخاصة الإنكليزية، من الكُتّاب والمثقفين العراقيين، لقراءة المزيد مما كتبه هذا الروائي مما لم يترجم، بلغتها الأصلية.
لقد أثّر همنغوي، بشكل أو بآخر، في العديد من الكتاب العراقيين لتظهر ثمار هذا التأثير، في النتاجات الروائية خلال المدة الممتدة من سنة 1965 حتى سنة 1980. ولكن من المفيد أن نشير إلى أن بعض تأثيرات الكاتب قد ظهرت مبكرة، في القصص القصيرة بشكل خاص، كما في كتابات شاكر خصباك، وجيان، وفؤاد التكرلي، وربما شاكر جابر. لكن هذه التأثيرات المبكرة كانت في غالبها عامة وربما باهتة، بينما تأثيره في الكتابات التالية، المتمثلة بروايات وقصص المدة المذكورة، تمس جوانب مهمة وأكثر وضوحاً. ونعتقد أن أكثر كتاب هذه الفترة تأثّراً بهمنغوي كان غائب طعمة فرمان، وعبد الرزاق المطلبي، وإسماعيل فهد إسماعيل، وعادل عبد الجبار، وفؤاد التكرلي، وبالطبع عبد الرحمن مجيد الربيعي الذي سنركز عليه هنا. فتأثّر الكاتب الأخير يبدو واضحاً، كما في واقعية بعض أعماله، والحوار، واستعمال الجمل القصيرة القوية، والوصف الخارجي للأشياء والشخصيات، والاستخدام المحدودة للعامية في الحوار، والإحساس الذي يسود بعض الروايات وشخصياتها باللاجدوى وبعبثية الحياة وحتمية بعض الأشياء، وصراع الإنسان مع قوى الطبيعة، والإحساس بالمكان… إلخ. واستدراكاً نجد لزاماً علينا التأكيد على أن معظم الكُتّاب العراقيين المتأثرين بالكاتب الأمريكي، من خلال الأوجه أو الجوانب التي أشرناها، لم يكن تأثرهم فيها غالباً بهذا الكاتب وحده، بل بكتابات أدباء آخرين أمريكان وغير أمريكان. وكوننا نتعامل مع الأدباء الأمريكان ونركز على فترة معينة من تاريخ الرواية الأمريكية، فإننا سنتعرض للكتّاب العراقيين الذين تأثروا بهمنغوي أكثر من غيره، وضمن أعمال بعينها. وعلى هذا الأساس، فإن أول اسم يبرز هنا، كما قلنا، هو عبد الرحمن مجيد الربيعي.
وقبل أن نناقش العلاقة الفنية– التطبيقية– بين الكاتبين، نجد من المهم أن نتطرق إلى بعض التشابهات الطريفة واللافتة للنظر بين الكاتبين فيما يخصّ شخصيتيهما، وحياتيهما، ومسيرتيهما الأدبيتين، لما قد يكون في ذلك من أسس وعوامل لبروز التأثير والتأثّر الفني والمضموني في أعمالها.
لقد ابتدأ كل من همنغوي والربيعي حياته الأدبية بكتابة الشعر والقصة القصيرة، ونشر كلاهما في بعض الدوريات كما عملا في الصحافة. وحين نشر همنغوي مجموعته القصصية الأولى– وهو أول كتاب له – In Our Time سنة 1924 فإنه سجل به بدايته الحقيقية في عالم الأدب بخصائصها الفنية والمضمونية المتميزة وأعطى، في الوقت نفسه، جوهر فنه، إلى حدّ أن قال أحد النقاد بعد حوالي ستين سنة من ظهور المجموعة، وهو يتحدث عن همنغوي: إن “كل شيء هام في همنغوي، إلى حدّ ما، قد حواه كتابه الأول للقصص القصيرة (في زمننا) الذي هو اليوم حي كما كان حين نُشر أول مرة سنة 1924″([7]). وحين نشر الربيعي مجموعته القصصية الأولى “السيف والسفينة” سنة 1966، أشّرت المجموعةُ بدايةَ الكاتب الناجحة، التي سرعان ما عُرف الربيعي بها بعد أن أصبحت واحدة من أكثر المجاميع القصصية شهرة وأهمية. وإذ حققت رواية همنغوي الأولى “وتشرق الشمس ثانية” سنة 1926 نجاحاً باهراً، فإن الربيعي قد حقق، بنشر روايته القصيرة الأولى “الوشم”– 1970-، تقدماً متميزاً في مسيرة الرواية العراقية. وبعد نجاح رواية الكاتب الأمريكي الأولى وظهور عمله الروائي المُبهر الثاني “وداعاً للسلاح” سنة 1929، دخل همنغوي مرحلة تراجع فني مقارنة بما سبق– مع استثناء “لمن تقرع الأجراس”– 1940– نشر خلالها ما عده الكثيرون إخفاقه الرئيس “عبر النهر وبين الأشجار”– 1950. أما الكاتب العراقي فبعد ظهور روايته القصيرة الجميلة الثانية “عيون في الحلم”– 1974– دخل مرحلة تراجع هو الآخر– نستثني فيها روايته الناجحة نسبياً “الأنهار”– 1974– وصلت أقصاها بنشر روايته “الوكر” عام 1980. وبينما أخذ فن إرنست همنغوي يستأنف تألقه بنشره لروايته القصيرة “الشيخ والبحر”– 1952([8])، فإننا لا نعرف بما يخبّئه لنا الربيعي في مستقبله الأدبي، فيما أن كان استمراراً للتراجع الفني أم استئنافاً لمسيرته المتألقة التي توقفت أو كادت من سنوات. وإذ تبدو التشابهات، كما قد يشاركنا القارئ في ذلك، على شيء غير قليل من الطرافة والأهمية في الوقت نفسه، فإن من الطريف أيضاً أنّ الربيعي نفسه يقول:
“… أُعجبت كبير الإعجاب بهمنغوي ووليم فوكنر، ولم أترك عملاً لهما إلاّ وقرأته… كما أنني قد أعدت قراءة همنغوي (وداعاً للسلاح) و(الشيخ والبحر) و(وستشرق الشمس ثانيةً) وكل رواياته وقصصه القصيرة. وقد قرأت كل رواياته في وقت مبكر في أوائل الستينيات وأعدت قراءتها مرات، ولا تنسَ بأنني قد عملت صحفياً محترفاً منذ سنوات طويلة سواء في الصحافة الأدبية أو السياسية، وهذا جعلني قريباً من تجربة همنغوي نفسه، لأنه كان أيضاً كاتباً صحفياً ومراسلاً حربياً”([9]).
إن نظرة عامة في عالم الربيعي وفنه تُمكّننا من ملاحظة أن طابع همنغوي وبعض جزئيات عوالمه تظهر بدرجات من الوضوح في أعماله، وبشكل مبكّر ابتداءً بـ”الوشم”، مع أنها في هذه الرواية لم تكن صريحة تماماً كما ستكون عليه في الأعمال التالية، “عيون في الحلم” و”الأنهار”، وبدرجات أقل في “القمر والأسوار” و”الوكر”. وإذ يبدو تأثير همنغوي عموماً إيجابياً في كتابات الربيعي المبكرة مثل “عيون في الحلم”، فإن الربيعي ينحو نحو شيء مما نراه سلبية، بل سطحية أحياناً، في تأثّره في كتاباته اللاحقة. وإذا هو قد استطاع أن ينقذ “الأنهار” من مثل هذا التأثّر السلبي بشكل كلي، فإنه قد أخفق في أن يفعل الشيء نفسه مع روايتيه الأخيرتين، ففقد التأثّر خصائصه العميقة، ولم يبق، في الغالب، إلاّ مظاهر خارجية لا تغني العمل الفني بشكل حقيقي.
إذن، فآثار همنغوي تظهر بوضوح في “عيون في الحلم، و”الأنهار”. وقد كان وضوح هذه التأثيرات في الموضوع، وتحديداً في الطريقة التي يقدم فيها الكاتب المواقف السلبية، وأحياناً السوداوية، للإنسان، وإحساس الشخصيات بالضياع، وأيضاً في معالجة الأحداث اليومية، وفي طريقته في تصوير الشخصيات عن طريق الوصف الخارجي، والحسّ بالمكان، ووصف الماحول، وربما الأكثر أهمية في اعتماد الكاتب على الحوار أكثر من اعتماده على السرد، واللغة الجميلة واستعمال الجمل القصيرة والقوية فيها. وأجدني، لتوضيح رأيي حول النقطة الأخيرة– اللغة واستعمال الجمل القصيرة والقوية فيها– استعير رأي فورد مادوكس عن همنغوي والذي أجده ينطبق، إلى حدّ كبير، على لغة الربيعي، وتحديداً في “عيون في الحلم”، وفي بعض فصول “الأنهار” أو مقاطع منها، إذ يقول:
“إن كلمات همنغوي تؤثّر فيك، كما لو أنها حصىً صقيلٌ أُخرج تواً من قاع جدول. إنها تستقر وتتألق، كل واحدة في مكانها. لذلك فإن صفحاته تمتلك تأثيرَ قاعِ جدولٍ تنظر إليه من خلال الماء المتدفق (أو الجاري). إن الكلمات تشكّل مرصّعات من الفسيفساء، كل واحدة بجانب الأخرى بشكل منظم”([10]).
لكن، مما يؤسف له، أن لغة الربيعي قد أخذت تفتقد مثل هذا التألق والتأثر في أعماله الأخيرة، كما سبق أن بينا ذلك في فصل سابق.
ويمكن أن نقول بثقة، ومن خلال ما يظهر لنا من تحليلنا لأعمال الربيعي، إن “وتشرق الشمس ثانية” أهم أعمال همنغوي وأكثرها ظهوراً في مسيرة هذا الكاتب العراقي، خصوصاً في مرحلة اهتمامه بموضوعات المعاناة والإحباطات وضياع الأفراد. والأمر يبدو، من هنا، طبيعياً، ونحن نعرف “أن (والشمس تشرق ثانيةً) تُدرس عادة من ناحية اللاجدوى أو عبثية الحياة التي تصورها. أهميتها تكمن في طريقة همنغوي في التصوير، وهو لا يُسهب في الأحاسيس، كما يبتعد (أو ينفر) من استخدام الأفكار المبطّنة. إنه يهتم بشكل أساس بكلام وأحداث شخصياته”([11])، إضافة ما يمكن لرؤى وقراءات أخرى أن تجده فيها من موضوعات وأفكار ومعالجات عُرفت عادةً عند همنغوي. وإذ تشكل شخصيات هذه الرواية وشخصيات معظم أعمال الكاتب الأخرى واحداً من العناصر الرئيسة، فإنها أيضاً عناصر مؤثّرة أساسية في أعمال عبد الرحمن الربيعي ولاسيما “عيون في الحلم” و”الأنهار”، إلى جانب عناصر أخرى مثل اللغة والحدث.
حين كتب الربيعي “عيون في الحلم” كان لمّا يزل بعدُ مخلصاً إخلاصاً كلّياً لفنه وأسلوبه ذي الطابع الشعري، ولكن غير المُسرف في شاعريته. ومع صعوبة تقصّي مؤشرات التأثير في الجانب اللغوي وإثباته عادةً، كونه ينتقل من لغة إلى لغة أخرى، فإن بالإمكان أن نتحسس إيقاع أسلوب همنغوي ونَفَسِهِ ونحن نقرأ “عيون في الحلم”. ونعود للأوجه الأكثر اتضاحاً لنقول إن الشخصيات وتصويرها تبرز رابطاً أساسياً بين هذه الرواية القصيرة و”الأنهار” من جهة، ورواية همنغوي “والشمس تشرق ثانية” من جهة أخرى، مع أن الربيعي لا يتبنى بشكل مطلق أيّاً من شخصيات همنغوي في روايته هذه ولا في رواياته الأخرى. فالروائي الأمريكي يتعامل بشكل مركز مع شخصيات مليئة دواخلها بالإحساس بعبثية الحياة ولا جدواها وبالضياع الذي يسود علاقاتها وجو الرواية عموماً، بينما يتعامل الربيعي في عمليْه المذكورين مع شخصيات إيجابية متحركةً إلى الأمام في الغالب، ولا تبرز شخصيات وأجواء ومواصفات على النقيض من ذلك إلاّ بشكل ثانوي، مما يعني أنها لا تختفي. وعلى أية حال أيّاً كانت أوجه الاختلاف، فإن اللقاء ما بين الكاتبين وعمليهما الذي نزعم أن الكثير منه إنما هو نتيجة تأثير همنغوي في الربيعي ليستحق دراسة مستقلة قد تُتاح لنا فرصة القيام بها في المستقبل القريب. وحتى ذلك الحين سنمر بهذا كله بشيء من التركيز فيما يأتي.
من أوائل علائم الإحساس باللاجدوى والضياع، والاستسلامية أحياناً، التي ظهرت في أعمال الربيعي التي هي، إلى حد ما، من مشاعر وأحاسيس شخصيات همنغوي في “وتشرق الشمس ثانية”، يمكن أن نتلمسها في “عيون في الحلم”. والربيعي يبدو، في روايته القصيرة هذه، وكأنه كان يعي تأثير همنغوي فيه، وهو يكتب الرواية، بل إن اسم الكاتب الأمريكي يرد أكثر من مرة على لسان أبطال الرواية. في إحداها يقول راويه على لسان بطله (سالم عباس)، وهو يتكلم عن شخصية أخرى من زملاء (سالم) في المدرسة:
“عبد الجبار رجل غائم.. يتوق للسفر إلى أسبانيا ليسمع موسيقى الأسبان ويرقص بلا قيود ولا عيون (لقد أفسدني همنغوي) هكذا يعلن إن اشتد به الحلم”- الرواية، ص93([12]).
ومع أن همنغوي قد كتب، كما نعرف، عدة أعمال عن أسبانيا، فواضح أن شخصية الربيعي هنا تشير إلى “وتشرق الشمس ثانية”، بشكل خاص. والربيعي يذكر الرواية، على أية حال، بشكل صريح في الحوار الآتي الذي يجري بين مجموعة شخصيات “عيون في الحلم” في جلسة شرب:
“الكؤوس بين مدّ وجزر.
“- بلاد الشمس والحب هناك خلف البحر، وأنا هنا في هذه القرية!
“نوري يتساءل:
“- أية بلاد تقصد يا أستاذ عبد الجبار؟
“- عجيب! ألم تر الخارطة؟ ألم تسمع بأسبانيا؟ اقرأ (الشمس تشرق غداً) وستعرف؟
“رشيد يعلّق:
“- أما أنا فلا أُتعب دماغي بحلم أكبر من حجمه. ولم يدِرْ بخلدي أنْ أعبر جسر المدينة بعد. حتى مجيئي إلى هذه القرية كان على نفقة نوري، فهو الذي دفع أجور السيارة”- المجموعة، ص96-97.
واضحٌ أيضاً أن “الشمس تشرق غداً” هي “وتشرق الشمس ثانية”، أو ربّما هو عنوان إحدى ترجماتها. والواقع أن هذه المجموعة من الشخصيات تجسّد، ومن أوجه عدّة؛ في حواراتها، وأفكارها، ضياعَها المرحلي وأحياناً تطلعاتها الحلمية والواقعية، وفي سلوكها وتصرفاتها وجلساتها، الجوَّ العام لرواية همنغوي وإيقاعَها، مع فرق رئيس واحد، ذكرناه ضمناً فيما سبق، ذلك هو أن الربيعي يقود بطله، الضجِر والقلِق والمملوء مللاً وسخطاً، في طريق غير طويل باتجاه الوعي السياسي الذي يبدأ بالتسلل إليه، كما عرفنا في فصل سابق، من لحظة وصوله القرية، مع إضفاء مثلِ هذا الوعي والنضج على شخصيات أخرى في القصة ابتداء، مع مقدرة على الفعل الإيجابي واتخاذ القرار ورؤية الهدف، في حين لا نتلمس مثل هذا في رواية همنغوي. أما في طريقة تصوير الكاتب لشخصياته عموماً، وبغض النظر عن مواقفها وسلبياتها وإيجابياتها، وفي حواراتها وردود أفعالها، وعلى مختلف المستويات، فإنها انعكاس لما موجود في “وتشرق الشمس ثانية” إلى حدّ كبير([13]). لكن هذه السمات الأخيرة تظهر بشكل أكثر وضوحاً في رواية الربيعي الأخرى، “الأنهار”.
- *
مع أننا مرة أخرى، لا نجد الربيعي في “الأنهار” مقلِّداً لهمنغوي، إلاّ أن تأثره قد أخذ يفقد نسبياً بعض إيجابياته بما يعني ضمناً أنه احتفظ، بدرجة من الإيجابية. ولدراسة رواية “الأنهار” ورواية همنغوي التي تأثر بها أكثر من غيرها، “والشمس تشرق ثانية”، دراسة تطبيقية مقارنة، يجدر بنا أولاً أن نقارن بين شخصيتي رواية الربيعي الأكثر خضوعاً لمثل هذه الدراسة، (صلاح) و(هدى) وعلاقتهما من جهة، وشخصيتي رواية همنغوي، (جاك) و(بريت) وعلاقتهما من جهة أخرى. ومن المفيد أن نشير إلى مفارقة عدم وجود تشابهات كثيرة بين (جاك) و(صلاح) كشخصيتين مستقلتين عن علاقتيهما، فبطل “وتشرق الشمس ثانية” رجل محبط، لا يجد طعماً لأي شيء يحيط به، وذلك يعود بشكل أساس إلى عنّته إلى ألمّت به نتيجة إصابة قديمة في الحرب، والى إحساسه العميق بعبثية الحياة ولا جدواها. لكن هذه الأحاسيس، وفي مفارقة أخرى، لا تؤثر في موقفه الحميم تجاه أصدقائه والمحيطين به، ولا في شعوره وحبه النقي والمتجرد من الغاية الذاتية لـ(بريت) رغم كل تصرفاتها اللامسؤولة والعابثة أو غير المستقرة. في الجهة المقابلة نجد بطل (الأنهار) رجلاً متفائلاً طموحاً وذا كبرياء، ربما مبالغ فيه أحياناً، وقد يكون وراء أنْ جاء في الوقت نفسه أنانياً ومغروراً ومتبجحاً، وخشناً أحياناً، ولاسيما في علاقته مع (هدى). ومع كل هذه الاختلافات بين (جاك) و(صلاح)، فإننا لا يمكننا إغفال تأثير معالجة همنغوي لشخصية (جاك) في معالجة الربيعي لشخصية (صلاح)، وذلك ما سنأتي إليه في بحث وتحليل علاقتي (جاك– بريت) و(صلاح– هدى) بعد قليل. ويبدو لي أن الربيعي قد تعاطف مع بطله بشكل خرج عن الموضوعية أحياناً إلى الحدّ الذي أثر في تصويره لشخصية (هدى) في محاولة لإظهارها فتاةً غير محبوبة ورديئة الطبع، وربما فاسدة، وهو يستعير، في محاولة تصويرها بهذا الشكل، الكثير من صفات (بريت) مع خلاف عضوي يكمن في أن همنغوي، على خلاف الربيعي، لم يكن يحاول، عن قصد واضح، خلع مثل هذه الصفات على بطلته، ولذا فقد كان مقنعاً دائماً في تعامله معها وتصويره لها. فلنحاول، قبل التوسع في هذا، أن نرى أي نوع من الفتيات هي (بريت)، كما تُفهم من سلوكها بشكل خاص. تبدو (بريت) فتاةً ضائعةً لا تعرف ماذا تريد بالضبط، تماماً كما لو أنها قد فقدت رغبتها وشهيتها بالحياة وبكل ما فيها، وهي لا تستطعم شيئاً ولا يعرف الاستقرار طريقاً إلى حياتها ولا إلى أي شيء تحبّه أو تفعله، حتى وإن بدتْ، ظاهرياً وفي انطلاقها وبحثها عن اللهو والعبث والمتعة، غير ذلك في كثير من الأحيان. فهي لا تميل إلى شيء أو تحبه إلاّ لتعود فتملّه وربما تبغضه بعد مدة قصيرة، وذلك واضح في سلسلة علاقاتها الطويلة بالرجال بشكل خاص. فهي امرأة متزوجة، لكنها تحب (جاك) الذي لا يستطيع أن يلبي حاجاتها الجنسية، كما نعرف، لذا فقد وجدت ذلك عند أشخاص آخرين، فتكون على علاقة بـ(الكونت ميبيو بولس)، ويدرك (جاك) بعد ذلك أنها كانت على علاقة قصيرة بـ(كون) كما تخطط للزواج بـ(بيل)، لكنها سرعان ما تقع في حب (بدرو روميرو) الأسباني الذي لم يستمر، هو الآخر، معها لتعود أدراجها إلى (جاك) الذي وجدتْه ملجأها وصديقها المملوء حباً وحناناً، كما هي تجده متى ما تحس بالوحدة والضياع.
ولنا أن نتوقع من الربيعي، وهو يتعامل في روايته مع مجتمع يختلف عن مجتمع “والشمس تشرق ثانية”، أنْ يرسم صورة (هدى) بشكل مختلف عن صورة (بريت) بالتأكيد، وذلك ما فعله فعلاً وما أشرنا إليه سابقاً. لكن الذي يهمنا هنا أنه قد استعان بالكثير مما أضفاه همنغوي على بطلته، في رسم شخصيته، فكانت (هدى) الطالبة في أحدى الكليات على علاقة حب بزميلها (صلاح)، لكننا نعرف مع سير الرواية أنها كانت ترتبط بعلاقات عديدة سابقة مع عدّة رجال في مدينتها بعقوبة، قبل أن تدخل الكلية. وحين تضطرب علاقتها بـ(صلاح) تُخطب بسرعة لرجل غني يُدعى (محمد الثامر) لكن الخطوبة لا تدوم، وسرعان ما تُفسخ بعد أن يعرف خطيبها بماضيها. وفي الفصول الأخيرة من الرواية، وكأنّ الروائي لم يرد أن يفّوت فرصة دور طعنه لبطلته، يخبرنا (حسين عاشور)، إحدى الشخصيات الثانوية، بأنه هو الآخر كان قد أقام علاقة قصيرة معها بعد انتهاء علاقتها (بصلاح)، لتنقل بعده إلى طالب آخر، ثم آخر… وهكذا. ومع وضوح الهوية العراقية في بطلة الربيعي، كما قلنا، فان التشابهات تبدو كبيرة وعديدة بينها وبين بطلة همنغوي.
وإذا ما درسنا العلاقة بين (صلاح) و(هدى) لوجدنا خطوط الارتباط بينها وبين علاقة (جاك) و(بريت) كثيرة، مع فوارق في مواقف الكاتبين لا تنفي التأثّر الذي نعتقده بقدر ما تعززه. فمن الفصول الأولى من رواية الربيعي نعرف بالعلاقة القائمة بين (صلاح) و(هدى)، وبأنها علاقة حب معروفة جداً بين الآخرين، ولكن قبل أن نعرف أكثر عن متانتها وحياتها وديمومتها نقرأ رأي (خليل الرازي) بها حين يقول:
“- علاقة محيّرة، ولا أدري لماذا لا أتفاءل لها؟
“وردّت عليه سامية سعيد بصوت ناعم:
“- ولكنهما قررّا الزواج.
“وأطرق إسماعيل ثانية ليتم رسم صورتها وهو يقول:
“- هل يكفي القرار وحده”؟- الرواية، ص30.
ونحن نعرف بأن ليس القرار وحده في هذه العلاقة، بل هناك الحب، ولكنه الحب الذي يبدو أن الكاتب قد حكم عليه من البداية بالفشل والموت، على الأقل لأنه وبطله يريدان ذلك. وإذا ما ذكّرنا هذا بما فعله همنغوي إذْ اصطبغت علاقة بطليه (جاك) و(بريت) بالموت، عندما جعل بطله عاجزاً جنسياً، فإن الربيعي بدلاً من أن يجعل سبب فشل العلاقة بين بطليه بايولوجيا أو ظرفياً، سعى إلى تشويه شخصية (هدى)، محاولاً أن يظهرها فتاةً فاسدة ومشاكسة؛ فطبيعي مثلاً، في العراق، أن لا نتوقع زواج رجل مثل (صلاح) من فتاة مثل (هدى) يحمل عنها فكرة سيئة ويتعامل معها بطريقة يجسدهما الحوار الغريب الآتي:
“- صلاح
“ورفع إليها وجهه مجيباً: نعم.
“- أتعرف بأنني قد حذفت من قاموسي كلمة سمعة منذ أن عرفتك؟
“- وهل كنت تعرفينها جيداً؟
“وزفرت بانتكاس: لماذا لا تكف عن اهانتي؟”- الرواية، ص40.
ونشير هنا إلى أننا نجد مثل هذا الحوار بين (جاك) و(بريت)، ولكن ربما مرة واحدة، عندما كانا يستعدان فيها لرحلة إلى أسبانيا بعد إنهاء (بريت) لعلاقتها القصيرة بـ(كون):
“نظرت إليَّ بريت وقالت: أريد أن أقول: هل سيشترك روبرت كون في هذه الرحلة؟
“- نعم، لماذا؟
“- إلا تجد أن ذلك سيكون مؤلماً له بعض الشيء؟
“- ولماذا يكون كذلك.
“- ومع أي شخص تعتقد أني قد سافرت إلى سان سيباستيان؟
“فقلت: تهنئتي لك.
“واستمرينا في سيرنا.
“- لماذا قلت ذلك؟
“- لا أدري.. ماذا كنت تودين أن أقول؟
“- لقد ظننت، في الواقع، أن ذلك سيكون مفيداً له.
“- ربما أنت تمارسين الخدمة الاجتماعية.
“- لا تكن خشناً”([14]).
لكن مثل هذا الحوار لم يتطور ولم يتكرر في رواية همنغوي، كما لم يغطّ بما فيه على شعور (جاك) وموقفه من (بريت)، كما حدث في رواية الربيعي.
ومن الأمور المهمّة بخصوص البطلتين أن كلتيهما ضائعتان وبائستان؛ يقول (إسماعيل العماري) في (الأنهار):
“- أما هدى فأهلٌ للحب، لأنها ضائعة منسحقة دفعتها ظروفها المرتبكة إلى هذا الوضع المتعب”- الرواية، ص90.
بينما تعبّر (بريت) عن نفسها وإحساسها عندما تقول لـ(جاك):
“آوه. حبيبي، أني بائسة جداً”([15]).
وبسبب موقف الربيعي غير الموضوعي وغير المبرر من شخصيته (هدى) فإن بطله لا يتفق رأياً وموقفاً مع موقف (إسماعيل العماري) المتعاطف مع الفتاة، بل هو حتى لا يقترب منه ولو بدرجة بسيطة. هو لا يكاد يألو جهداً في تحطيمها وإسقاطها تماماً، حتى حين تستجدي منه العطف والحب، وهو الذي يفترض أن يكون حبيبها في كل الأحوال. فلنتأمل مثلاً موقفه ورد فعله وهو يسمعها تلتمس منه ذلك في المقاطع الآتي:
“- أنا إنسانة بائسة يا صلاح، فهل تستطيع أن تعوضني عن كل ما فاتني من مباهج وأفراح؟ عاملْني كطفلة، اشترِ لي الحلوى والدمى، امسح بيدك على شعري، اطرد عن حياتي كل الأحزان، أبعد عني الألم واليأس.
“ثم خّرت على الأرض كالمصلّي، ومدَّ أنامله لتمسح الدمع.
المنحّدر عن عينيها. وهبّ من مكانه. وتقدم بخطوات عريضة باتجاه باب الكلية… بعد ذلك سأله إسماعيل:
“- إلى أين؟
“- لا أدري، لن استطيع أن أمكث في الكلية.
“وتمتم إسماعيل بخفوت لم يسمعه: أيّها الهارب من ظلّه”- الرواية، ص161.([16])
هو هارب فعلاً، من أية مسؤولية أو مواجهة، بل هو يهرب من أقل المواقف خطراً أو صعوبة أو مسؤولية كأي جبان. أمّا حين تلتمس بطلة همنغوي (بريت)، مساعدة (جاك) في نهاية “وتشرق الشمس ثانية”، فإنه يستجيب لالتماسها ويهرع إليها بدون أي تردد، رغم بعده مسافةً غير قليلة عنها، ورغم كل ما كان قد جرى منها مما آلمه وربما جرحه.
وواضح أن تأثير رواية همنغوي يمتد إلى أبعد من ذلك، حتى يطال الشخصيات الأخرى في الرواية والجو السائد في الكثير من مشاهدها كتأثير الأجواء التي نتحسسها في فصول “وتشرق الشمس ثانية” الأخيرة في فصول “الأنهار” التي تتعامل مع الماضي. فالطريقة التي يقضي بها الطلاب الأصدقاء في رواية الربيعي أوقاتهم، والأجواء التي تسود لقاءاتهم والأحاديث التي تدور بينهم أثناءها، في البارات والمقاهي، تُشبه كثيراً ما يسود تجمعات شخصيات همنغوي وجلساتهم وأحاديثهم في مقاهي أسبانيا. بقي أن نشير إلى أننا نحسّ روحَ إحدى شخصيات همنغوي في واحدة من شخصيات “الأنهار” الثانوية، الأمر الذي يستحق الإشارة هنا. فـ(حسين عاشور) شخصية ضعيفة، همّه منصب أساساً على إقامة علاقة مع أية فتاة، ولكن دونما نجاح، إلى أن نعرف في نهاية الرواية بأنه قد أقام علاقة مع (هدى) سرعان ما انتهت بعد أن استبدلته بطالب آخر. فهو، في هذا، يماثل كثيراً (كون) في “والشمس تشرق ثانية” الذي نعرف أن (بريت) قد أقامت معه علاقةً من نوع ما لبعض الوقت، والذي يقول عنه (جاك):
“لقد تحدد أفق حياته بشكل مطلق بزوجته، خلال أربع سنوات. وخلال ثلاث سنوات، أو ما يقارب الثلاث سنوات، لم يعرف أبداً غير (فرانسيس). إني لواثق أنه لم يعرف الحب، طيلة حياته”([17]).
**
وإذا كان من الصعب أن نتعدى، في نقاش التأثير والتأثّر بين الربيعي وهمنغوي، رواية “وتشرق الشمس ثانية” إلى روايات الكاتب الأمريكي الأخرى، ونحن نضع في بالنا تأشيرَ تأثيراتٍ تمتلك الجوانب المختلفة في تنوعها ومستواها وتطورها التي وجدناها سابقاً، فإن بالإمكان إعطاء خطوط عامة لذلك دون الدخول في تفاصيل ربما لا تعطينا إلا أقلّ النتائج.
فتعلقاً برواية “الشيخ والبحر” القصيرة، لم تؤدّ شهرتها وانتشارها الواسع في العراق إلى تأثر واضح ومهم للكتاب العراقيين بها، خاصة في المجال الروائي، بل لا أظن أن باستطاعة القارئ أن يتلمس شيئاً مهماً من ذلك في أعمال الكتّاب، ومنهم الربيعي، مع أننا سنحاول وضع بعض الاحتمالات عن ذلك فيما بعد. وفي المقابل يمكن القول إن “وداعاً للسلاح” هي أكثر أعمال همنغوي، بعد “وتشرق الشمس ثانية”، تأثيراً في الكتاب. فنحن نجد في أكثر من شخصية من شخصيات الكاتب العراقي ظلالاً لشخصية (فردريك هنري) Fredric Henry خصوصاً في سلبيته. ولعل أكثر هذه الشخصيات التي تذكرنا ببطل همنغوي هذا هي شخصية (صلاح كامل) في “الأنهار”، في بعض جوانبها بشكل خاص، فمثلاً إذ “يقوم فردريك بأداء دور الجندي البطل بعض الأحيان، لكنه لا يؤديه بشكل جيد”([18])، فإن (صلاح كامل) يحاول أن يلعب دور البطل الثوري الذي أراد الكاتب أن يخلعه عليه، لكن (صلاح) يخفق في إقناعنا ببطولته. وبينما يهرب بطل همنغوي من الحرب، فإن بطل الربيعي يهرب من أية مجابهة ومن أي نشاط سياسي فعلي وحقيقي، كالمظاهرات. ومثل (فردريك هنري) الذي لا يعمل شيئاً لحبيبته التي تموت، يرفض (صلاح) تحمّل مسؤوليته لإنقاذ حبيبته (هدى) من مصير قاتم، بل لعله يشارك في دفعها إليه. وتبدو لي منطبقةً على (صلاح)، في مواقف وحالات عديدة، وجهةُ نظرِ ي. وايلدار عن (فردريك هنري) التي يعبّر عنها بقوله: “إنه توقع الكثير دون أن يقدم أي شيء بالمقابل”([19]). ولا أظن أن تأثيرات رواية همنغوي تتعدى هذه النقاط كثيراً، وهو الأمر الذي يمكن أن يقال عن القليل الذي تركته هذه الرواية في أعمال الربيعي الأخرى مثل “الوشم” و”عيون في الحلم” اللتين يصعب تحديد نقاط تأثرهما بشكل دقيق. بقي أن نقول إننا نستطيع أن نتحسّس نَفَس همنغوي بين حين وآخر في هذه الأعمال.
[1]) A. A Bamieh: The Development of the Novel and Short Story in Modern Algerian Literature, (Thesis), SOAS, London 1971, P. 98. See also: P. 98-101.
[2]) من محاضرته في جامعة السوربون الجديدة. انظر الهامش (1) من الفصل الرابع، القسم الأول.
[3]) د. عبد الإله أحمد، الأدب القصصي في العراق، ج2، ص18؛ وانظر أيضاً: ص50-51.
[4]) د. عبد الإله أحمد: الأدب القصصي في العراق، ج2، ص96. انظر أيضاً الهامش في نفس الصفحة، وص189.
[5]) See Meriwether and Millgate: Lion in the Garden, Interviews with William Faulkner 1926-1962, New York, 1968, P. 90-91.
[6]) See See A. Hanneman: Ernest Hemingway, A comprehensive Bibliography, New Jersey, 1987.
[7] ) Walter Allen: The Short Story in English, Oxford, 1981, P. 149.
[8]) يراها البعض واحدة من أعمال الكاتب الرئيسة التي قادته إلى جائزة نوبل التي حصل عليها عام 1954.
[9]) د. نجم عبدالله كاظم: حوارات في الرواية، ص67.
[10]) Walter Allen: Tradition and Dream, London 1964, P. 94.
[11]) Dorothy Nyren: A Library of Literary Criticism, New York, 1960, P. 230.
[12]) عبد الرحمن مجيد الربيعي: عيون في الحلم، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1954. [13]) انظر، على سبيل المثال: ص110-112 من “عيون في الحلم”، وP186 من Ernest Hemingway: A Farewell to Arms, Great Britain, 1982.
[14]) Ernest Hemingway: The Sun Also Raises, Great Britain, 1982 P. 70-71.
[15]) The Novel, p. 96.
[16] ) انطلاقاً من إحساس ورأي شخصيين، أود أن أقول، وأنا أتفهم أن يتفق معي البعض وأن لا يتفق آخرون، بمن فيهم الروائي، إنني لم أرَ كاتباً، في كل ما قرأت من أعمال قصصية وروائية وغيرها، كان قاسياً مع شخصية من شخصياته كما أجد الروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي مع بطلته (هدى)، الأمر الذي يجعلني أفكر بدراسة هذه الظاهرة عند الكاتب في وقت ما، وأقول عند الكاتب وأنا أجده يفتقد الموضوعية في التعامل مع غالبية شخصيات غالبية أعماله وليس مع بطلته هذه فحسب، ولكنه جسد هذه اللا موضوعية هنا كما لم تتجسد فيه في تعامله مع أي من الشخصيات الأخرى وفي أيًّ من أعماله الأخرى. وحين أقول أفكر بهذه الدراسة فإنني أعني أن أفعل هذا تحديداً من منطلق المنهج النفسي سعياً ومحاولةً للوصول إلى تفسير هذه الظاهرة غير العادية.
[17]) The Novel, p. 10.
[18]) E. Wylder; Hemingway’s Heroes, USA, 1969. P.73
[19]) Ibid, P. 86.