قراءة في رواية “بلقيس والهدهد” لعلي خيون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سحر بلقيس أو قوة الخرافة؟
ميسلون هادي
يلتقط الروائي العراقي علي خيون، في روايته "بلقيس والهدهد"، شخصية سلبية غير سوية مصابة بهوس مطاردة النساء والتنقل بشكل جنوني من امرأة إلى أخرى بحثاً عن عن حلم مستحيل، أو هرباً من ماض غامض. الشخصية التي يضع الكاتب مواصفاتها في دائرة الضوء من الصفحات الأولى للرواية هي شخصية (سعود)، الرجل الذي يخون أخاه السياسي ويتسبب في موته وموت أمه، ثم في مقتل زوجته فتاة الليل (حياة) وعشيقها الشرطي (زغير) الذي كان يمده بالأموال والمكافآت لقاء التقارير التي يكتبها (سعود) ويشي من خلالها بأي شخصي يريد أن يزيحه من طريقه أو يخفيه من الوجود.
تدور أحداث الرواية في أواخر الخمسينيات، وبعد قراءة فصولها الأولى نجد هذا الرجل، الهارب من جرائمه في بغداد إلى السماوة، يُرمى إلى جريمة أخرى حين يقتل صديقه (وهاب) زوج (بلقيس)، ثم يضيع مع مجموعة من البدو الرحّل مضطراً إلى الزواج من واحدة منهم هي (مياسة)، ضاربة الودع، ثم سرعان ما يتركها بحثاً عن تعويذة عظم الهدهد التي يقال له إنها تفعل الأعاجيب مع النساء، وإنه يستطيع بواسطتها استمالة أية امرأة تستعصي عليه، إذا ما تمكن من فرك ذلك لعظم بقطعة من ملابسها.
وبعد أن يعثر على ذلك العظم السحري تبدأ رحلته بحثاً عن (بلقيس) التي منّى نفسه بها من اللحظة الأولى التي وقعت عيناه عليها وهو يصل إلى محطة القطار في السماوة مع زوجها (وهاب).
من خلال تلك الرحلة يعمد الكاتب إلى إعلاء قدره ذلك الرجل على إغواء النساء اللواتي وضعهن القدر في طريقه. ويعمد أيضاً إلى تحييد وعيهن إلى درجة الصفر بحيث يتساقطن أمامه بسرعة وسهولة عجبيبتين وكأنهن مجرد حملان مطيعة ومسلوبة الإرادة ولا تملك من أمر أنفسها شيئاً. وإذا ما افترضنا أن غزيرة الخوف تمنع حتى الحملان الوديعة من تقديم رؤوسها طائعة لمدية الجزار وأنها تهرب من مطاردها طلباً للنجاة إذا ما شعرت بالخطر، فإن المؤلف بذلك يصبح في حالة تماه مع تلك التعويذة الخرافية ويجعلها تبدو فعلاً ذات قدرة واقعية وحقيقية على تسهيل مهمة ذلك الرجل المفترس الذي لا يتوانى عن ارتكاب أية معصية من أجل الفوز بامرأة.
وظاهرياً تبدو (وجهة النظر)التي تقدمها الرواية، وهي ليست بالضرورة وجهة نظر البطل، ليست في صالح أولئك النسوة، سواء أكنّ واقعات تحت تأثير تلك الخرافة السالبة للإرادة أم كن يفعلن ما يُرضي البطل بمحض إرادتهن. هذا ما يبدو ظاهرياً، ولكن المؤلف عمد منذ البداية إلى تعرية بطله الشرير وعزله عن القارئ وجعله في موقع المدان المستنكَّر في كل ما يقوم به من أعمال خارجة عن المألوف حتى يمكننا القول إن علي خيون قد عامل بطله كحشرة ضارة يجب أن تُسحق بلا رحمة ما دامت هذه هي الطريقة الوحيدة للتخلص من شرها. ومن جهة أخرى فإن كل التسهيلات التي قدمها المؤلف لبطله (سعود)، وهو يصطاد ضحاياه من النسوة، كانت برأيي من أجل إعلاء شأن الحلم (بلقيس) التي أراد أن يظهرها النموذج الإيجابي الوحيد بين بنات جنسها في الرواية. وهي فكرة مثالية لم يكن المؤلف مضطراً للصعود إليها من خلال سلم شنيع من النساء المتخاذلات، اللهم إلا إذاكان يريد لنهاية (سعود) التراجيدية أن تكون على يد المرأة التي لم يتمكن من امتلاكها أو النيل منها.
لعل ما يُؤخذ على الرواية، كونها قدمت سيرة رجل شرير، أن القارئ لا يتعرف من خلال هذه السيرة على السبب الحقيقي في انحراف هذا الرجل وسقوطه إلى هاوية الرذيلة. وعندما حاول المؤلف إضاءة ذلك من خلال اعترافات (سعود) الشخصية، أو من خلال ما يرويه بعض الرواة عنه في نهاية الرواية، فإننا لا نتبين سبباً مقنعاً يدفعه إلى ذلك الانحراف، وإنما نتعرف على النتائج التي نعرفها سلفاً عن البطل، وهو أنه رجل تعود الكذب والخديعة وخرق المحرمات، ولم يتمكن هذا البطل كسب أية مشاعر ودية من القارئ خلافاً لمايحدث مع بعض دونجوانات السينما الذين بالرغم من سلوكهم الشرير يحظون أحياناً بمحبة المشاهد وتعاطفه من خلال شحنة من الرومانسية قد تكون موجودة في البطل الفالنتايني أو لظروف مأساوية تحيق به وتجعلته ينعطف عن جادة الصواب ويسقط في الهاوية.
لا بد أخيراً من الإشارة إلى أن المكان الذي دارت فيه أغلب احداث الرواية، وهو البادية، قد وفر للكاتب فرصة نادرة لاقتحام هذا العالم ووضعه في دائرة الضوء، إلا أن علي خيون قد فرط بمفردات كثيرة في حياة هذه البادية وطقوسها وعاداتها وتقاليدها، فمرّ بها مرور الكرام مستعجلاً دفع البطل إلى مصيره المحتوم، في الوقت الذي كان يمكن لهذه الرواية أن تكون أغنى، لو أن أنه توقف عند تلك المفردات ملياً وحاول فرشها أكثر على الورق ليمنح تلك الفرصة التي امتلكها مساحتها الواسعة وعمقها المطلوب، خصوصاً أن موضوعاً مثل هذا لا يحتمل أن يتناوله الكاتب المديني أكثر من مرة، وعليه فحري بالمرة الأولى أن تكون وافية وكافية لتتلافى أن يؤخذ عليها هذا إذا ماكانت الأخيرة.