آذار وبغداد وبديعة أمين

آذار وبغداد وبديعة أمين

ميسلون هادي
يؤلم قلبي أن أتذكر ذلك اليوم الحزين الذي هاجم فيه الأمريكان وطني، فدمروه من اليوم الأول لدخولهم إليه، وزادوه خراباً على خراب. كان الوقت ربيعاً وهو أجمل فصول السنة في العراق حيث يخرج الناس للتنزه في الهواء الطلق بين أجواء الخضرة والورود تحت سماء صافية. وقبل يومين من اليوم الذي أعلنه بوش موعداً أخيراً لضرب العراق، كنت عائدة مع صديقتي في سيارتها من دار الشؤون الثقافية في بغداد، وهي الدار الرسمية التي تُصدر الكتب والمجلات الثقافية في بغداد، ارتأت تلك الصديقة أن تقود سيارتها من طريق غير الطريق الذي اعتدنا عليه، وكان الطريق جميلاً ويحاذي نهر دجلة في منطقة سبع ابكار وتملؤه الشواطئ والمشاتل والبساتين. أستطيع الآن استرجاع لحظات السعادة التي شعرتُ بها يومئذ عندما توقفنا لشراء بعض الشتلات والسنادين، وكأن الحرب بعيدة جداً، بل لا يمكن لها أن تقع. لكن الناس الذي اعتادوا التهيّؤ للحروب كانوا يحفرون الآبار في حدائقهم ويشترون المؤن استعداداً للحرب القادمة. لم يكن بيتنا قريبا من بيت أهلي، فشعرتُ فجأة تحت وطأة حمى حفر الآبار التي اجتاحت الناس بأنني قد أخطأت عندما لم أحفر بئراً في الحديقة وبأنني وأولادي سنموت عطشاً إذا حدثت الحرب، فخرجت من البيت عدة مرات، في ذلك اليوم نفسه الذي عدت فيه مع صديقتي من المشاتل، لأشتري صناديق من الماء والعصائر المختلفة، ثم رحت، من شدة هلعي المفاجئ من احتمال نفادها أشتري أكياساً كبيرة من النايلون السميك ملأتها بالماء وكومتها في حوض الاستحمام .
فجراً، وكنت نائمة بالقرب من ابنتي في بيت عمتها، استيقظت على صوت أخت زوجي، وهي تقول لي بصوت باكٍ: “استيقظي، فإن الحرب قد بدأت”. وبالطبع هي سمعتْ ذلك من أخبار الإذاعات وليس من أصوات الصواريخ، لأن محافظة ديالى التي ذهبنا إليها ليلة الحرب لم يطلْها القصف، وظلّت هادئة طيلة أيام الحرب. لكننا أخذنا كل ليلة نصعد إلى سطح البيت فنرى الأفق باتجاه بغداد وهو يشتعل بالحمم التي تقذفها الطائرات والصواريخ على العاصمة فيصبح منظرها المشتعل، وهو يبدو لنا من بعيد، وكأنه الجحيم. كان ذلك منظراً لن أنساه ما حييت. كنا نرفض النزول من السطح وكأننا كنا نريد أن نتعذّب عذاب بغداد. بعد خمسة أعوام من ذلك اليوم وقد تحولت بغداد إلى مدينة لا تطاق من شدة خرابها لا يزال الأمل الخفي يراود الناس في أن يعود لبغداد وجهها الحقيقي الخالي من التعصب والانقسامات. أما العراقيون الذين اشتهروا بالوسامة في المنطقة العربية، وبالاعتدال والتحضر في نظرتهم إلى الحياة.. فتعالوا الآن وانظروا بأنفسكم إلى يأسهم وبؤسهم ووجوههم المتعبة، وكأن لسان حالهم يقول: كيف يتزيّن ويتعطر ويشعر بالأناقة من يخرج إلى شوارع تملأُها السواتر الترابية والجدران الكونكريتية والأنقاض؟ مع ذلك كله فإنه إذا لم يعد بإمكان بغداد أن تتباهى بجمالها، فعلى الأقل تتباهى بأبنائها الذين رفدوا كل البلدان العربية بعلمهم الغزير أيام المحن وغير المحن وفي شتى الظروف الأخرى، فذهبوا للجزائر والسعودية واليمن والأردن وليبيا من أجل التدريس وتقديم شتى الخبرات. واليوم بغداد في أمس الحاجة إليهم لكي يساعدوها على النهوض من محنتها ونفض التراب عن روحها وريحانها وبث الأمل في تفاصيلها اليومية التي إنْ كادت تنقرض من حياة المدينة، فإنها والحمد لله لم تنقرض من داخل البيوت، فقبل أيام كنت في زيارة للكاتبة المبدعة بديعة أمين في بيتها، فرأيت فيه تلك الألفة التي تجدها لا زالت تغمرك بحلاوتها في أي بيت من البيوت البغدادية التي تدخل إليها، بينما المكان حول تلك البيوت غير لائق لاسم بغداد الجميل ومتخلف عن مكانتها الغالية على القلوب. ومع أننا لا زلنا نحلم بأن ينتهي ذلك الخراب وأن يعود لبغداد سحرها وعطرها، فإن الخشية دفعتني لسؤال بديعة أمين، وهي الباحثة والمفكرة والأديبة والمترجمة والروائية عما تتوقعه حول ذلك قالت، ومزهرية الورد تضوي بيني وبينها: هذا الخراب سينتهي، ويبقى العراق. فنزلت كلماتها على قلبي باردة كالثلج واغرورقت عيوني بدموع الفرح.
جريدة الزمان. 2009

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

الأحلام لا تتقاعد

لو أنَّ حدّاداً تعب وهجر مهنته أو نجّاراً شاخ فتوقف عن العمل أو محاسباً بارعاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *