بريد المطابع وفناجين القهوة المرة
ميسلون هادي
انتقد الباحث والمترجم الأمريكي المعروف روجر ألن عدداً من الروائيين العرب ممن حققوا شهرة واسعة، مثل علاء الأسواني وأحلام مستغانمي ورجاء الصانع، من ناحية تواضع المستوى الفني لأعمالهم واعتمادها على جانب الإثارة، وقال في حوار منشور على موقع(منبر الحوار والإبداع) الإلكتروني: إن عناوين روايات الكاتبة أحلام مستغانمي مثل (ذاكرة الجسد، وفوضى الحواس، وعابر سرير) مثيرة، وتساءل قائلاً: ما معنى هذه العناوين؟
الدكتور روجر آلن، وهو واحد من بين خمسة مختصين رئيسين في الأدب العربي على مستوى الولايات المتحدة الاميركية، صنّف البلدان الاوروربية التي تهتم بالأدب العربي وتترجم له كما يأتي: فرنسا تأتي في المرتبة الاولى، تليها المانيا، ثم إيطاليا، فإسبانيا، بينما تأتي انجلترا بعد كل هذه البلدان، مشيراً إلى أنّ “تلقّي الأدب العربي في الغرب ضعيف جداً، والسبب يعود إلى عدم معرفة الجمهور في الغرب بالعالم العربي، وعدم وجود فرص نشر الكتب المترجمة. كما أن سيطرة الاوساط الإعلامية وغيرها المعادية للعرب تمنع انتشار الأدب العربي في أميركا”.
ولم يكتفِ الناقد والمترجم الاميركي بنقده للكُتّاب العرب “ذوي المستوى الهابط” ، بحسب قوله، بل انتقد القراء العرب أيضاً بقوله “قرّاء الرواية العربية يقرأون الرواية الهابطة، ولا يقرأون الروايات المتميّزة فنيا، فالروايات الممتازة تتمتع بعناصر وجماليات، لا تتوافق مع القراءة الشعبية”، متسائلاً “بعد نجيب محفوظ من يقرأ الروايات في كل الاقطار العربية؟”.
ونحن بدورنا نتساءل ونقول: هل حقق نجيب محفوظ نفسُه بعد نوبل ما حققه غابرييل غارسيا ماركيز مثلاً بعد فوزه بالجائزة نفسها.. فالحقائق تشير الى أن كُتب ماركيز قد حققت مبيعات مليونية في شتى اللغات التي ترجمت إليها، بينما حققت بعض روايات محفوظ مبيعات كبيرة ومنها (أولاد حارتنا) التي ترجمت إلى (أولاد الجبلاوي) Sons of Gabalawy، ولكن بشكل عام، كان القارئ الغربي أقل إهتماما بأدب نجيب محفوظ من أدب ماركيز.. وثمة أسباب جوهرية بنيوية تحول دون تحقيق هذه الحفاوة المليونية للكثير من الكتاب العرب الذين تترجم أعمالهم إلى اللغات المحتلفة..
يشيرالمترجم البريطاني المعروف أنتوني جوزيف كالدربانك في حوار منشور له إلى أن القراء الإنكليز أصيبوا بخيبة أمل في الروايات المترجمة من العربية، وأن عوائق الترجمة نفسها غير موجودة، فكل جملة في العربية قابلة للترجمة إلى الإنجليزية بطريقة أو بأخرى، ولكن المشكلة تكمن أكثر في مدى تقبل القارئ الإنجليزي للرواية المترجمة. فتقاليد الأدب العربي تختلف عن التقاليد الإنجليزية من حيث تطور الأشخاص وسلسلة الأحداث وتركيبها، وسمعت من قراء إنجليز قرأوا روايات مترجمة من العربية تعبيرهم عن “خيبة أملهم” من ضعف الشخصيات وأيضاً مما يسمونه إفراطاً في العاطفية، وقد يعود ذلك إلى خبرة القارئ الإنجليزي مع الرواية منذ قرون وحداثة سن الرواية العربية.
لقد أستأنست بدوري برأي بعض المعارف من القراء الذين يقرأون الروايات الأجنبية بجانب الروايات العربية، وسألتهم عن رأيهم بكلام المترجم انتوني كالدربانك، فأكدوا وجود هذا الإفراط في العاطفية واللغة الإنشائية بما لا يتلائم مع فن الرواية كمفهوم، كما أشاروا إلى أن دواخل الشخصيات غير عميقة، والمقطع المقدم من الحياة في الرواية العربية لا نعرف له ما قبل وما بعد، بينما في الرواية الأجنبية التجربة مُشبَعة بجميع تفاصيلها، وحتى وإن كانت الرواية خيالية أو أبطالها من التنينات أو الديناصورات مثلاً، فإن ثمة بناء واقعي محكم داخلها يجعلنا نصدقها تماماً.. أي يمكن القول إن المشكلة ليست في ثراء اللغة الشعرية، وإنما ثراء التجربة الحياتية.
من هذه الجهة، أي جهة التجربة الثرية، فالجودة وحدها قد لا تكفي لترجمة روايات عربية تستحق الترجمة، إنما هناك حاجة ملحة إلى ظروف ملائمة تساعد في ذلك، ومن هذه الظروف أن يكون المترجم أجنبياً لكي يُستقبل اسمه بشكل أفضل، وأن يكون البلد الذي ينتمي إليه الكاتب العربي منفتحاً غير شمولي، ويسمح للأجانب بالتواجد على أرضه، وبالتالي يقضي المترجم فترات من حياته في بلد الكاتب فيتماس بشكل مباشر معه ومع بيئته، وهذا ما حصل مع دنيس جونسون ديفيز وجوناثان رايت وهمفري ديفيز، وهم من أشهر مترجمي الأدب العربي إلى الانكليزية، والذين أقاموا في عواصم عربية مختلفة قبل أن يستقروا في القاهرة، وقد أنجزوا ترجمات عديدة لأبرز الاسماء المصرية والعربية كنجيب محفوظ والطيب صالح وتوفيق الحكيم ويحيى حقي وزكريا تامر وسلوى بكر وغيرهم، ويجد دينيس نفسه في ترجمة القصص القصيرة أكثر من الروايات، ويميل إلى الأعمال المغرقة في المحلية سواء بلغتها أو بأجوائها، ولهذا يفضل ترجمة أعمال محمد البساطي، وسعيد الكفراوي، وغسان كنفاني. كما قدم عدداً من الكاتبات العربيات مثل لطيفة الزيات وليلى بعلبكي وحنان الشيخ وبثينة الناصري وعالية ممدوح… أما انطوني كالدربانك، المقيم في السعودية، فبدأ في أوائل التسعينيات بترجمة القصص القصيرة. وأخذ في الآونة الأخيرة يترجم قصصاً لمجلة “بانيبال” المتخصصة بنشر الأدب العربي الحديث في بريطانيا. أما على صعيد الرواية، فترجم لنجيب محفوظ وميرال الطحاوي وصنع الله إبراهيم ويوسف المحيميد وغيرهم.
لربما من الأسباب الأخرى المساعدة على الوصول إلى القارئ الأجنبي أنْ يكون الكاتب مقيماً خارج بلده، ويستطيع التواصل بسهوله مع الأوساط الثقافية في البلدان الأخرى كما حدث لماركيز مثلاً الذي قضى فترات طويلة من حياته في أوربا، أو أن يكون محلياً بحتاً في كتاباته كإبراهيم الكوني الذي نال حظاً واسعاً من الترجمة بسبب تناوله البيئة الصحراوية الليبية، أو أن يكون محلياً في كتاباته، ولكن يمس بيئته بطريقة نقدية تغازل الصورة النمطية أو الستريو تايب للعرب لدى الغرب، وهذا ما يفسر الإقبال على بعض الأعمال النسوية التي تركز على اضطهاد المرأة العربية، أو التركيز على أجواء الحريم التي نقلها المستشرقون الأوائل إلى الغرب..
من الأسباب المساعدة الأخرى أيضاً أنْ يكتب الكاتب مباشرة بلغة البلد الذي يقيم فيه كما حدث مع أمين المعلوف من لبنان، وخالد الحسيني من أفغانستان، والحسيني تناول في أعماله تداعيات الحرب الأمريكية على أفغانستان، وهي تجربة مماثلة للتجربة العراقية الساخنة، إلا أن ما تحقق لرواياته كان لافتاً للنظر، ليس لأن خالد الحسيني يكتب باللغة الانكليزية فقط، ولكن لأنه قريب من آليات النشر والتسويق الأمريكية، وهي آليات رأسمالية تعتبر الأدب صنعة تستدعي شبكة من العناصر الاحترافية التي تحيط بالكاتب من خلال ووجود الوكيل الأدبي والمحرر الأدبي والناشرين الذين يقومون بالتسويق الجيد للكتاب بعد نشره، وهذه الآليات نفتقر لها جميعها مع الأسف، فالروايات العربية تخرج من المطابع إلى الظلام، أو تقودها الصدف والجوائز الى الأضواء الساطعة.
وحول هذا القصور التسويقي للكتاب العربي يخبرنا المترجم دينيس جونسون ديفيز، ومن جراء تجربة طويلة مع دور النشر والمؤسسات الثقافية العربية، أنها “تتصور أن عملية النشر جوهرها أن تكون لديها مطبعة تنتج لها الكتب، وتتجاهل جوهر عملية النشر بمفهومها الحديث، والذي يدور حول عملية التوزيع بمعنى توصيل الكتاب الى أوسع قطاع ممكن من القراء.”
إذن نتجرّأ فنقول إننا ضيعنا المشيتين/ كما يقول المثل، فلا نحن نعامل الكتاب كسلعة رأسمالية يتحكم فيها العرض والطلب، ولا قامت مطابع المؤسسات الرسمية والحكومية بالدور الذي كانت تقوم به الدول الاشتراكية في دعم الثقافة والمثقفين. ومع وجود كل هذه التحديات تبقى الرواية العربية تتلمس طريقها الصعب من المحلية إلى العالمية وثمة مشاريع متعددة للترجمة نهضت بها جهات رسمية في بعض البلدان العربية، بعضها أصابها فيروس الأدلجة، فراحت تترجم الخُطب والأدبيات التي تخدم الأنظمة.. وبعضها مشاريع فردية أعتبرها الأهم في تسويق الأدب العربي للعالمية، لأنها عبرت عن شغف أصحابها بإيصال الأعمال العربية للعالمية، ومن هذه المشاريع أذكر مشروع الشاعرة الفلسطينية سلمى الخضراء الجيوسي، ومشروع مجلة بانيبال للروائي العراقي صموئيل شمعون وزوجته البريطانية مارغريت أوبانك.. والمشروع الأخير يمتلك خاصية عدم التبعية لجهة ممولة، والاستقلالية في اختيار النصوص وتسويقها للقارئ الإنكليزي، ولا ننسى دور الجوائز العربية في التسويق العالمي للرواية العربية كجائزتي نجيب محفوظ والبوكر في السنوات السابقة وجائزة كاتارا في الوقت الراهن . كما لا ننسى الناشر الرئيس للأدب العربي المعاصر باللغة الإنكليزية، وهو الجامعة الأمريكية بالقاهرة إذ ترجمت الجامعة جميع أعمال نجيب محفوظ. و بالرغم من تركيز الجامعة على الأدب المصري، فإنها لم تهمل أدب بقية العالم العربي. وبالتأكيد هناك مشاريع أخرى في لغات أخرى، ولكني تحدثت عن اللغة الإنكليزية لعدم متابعتي وإلمامي باللغات الأخرى.