أوبرا والدكتور فيل
ميسلون هادي
من حق كل إنسان أن يحصل على السعادة متى ما شاء. ولكن ما من شك أن المبالغة في إظهارها عند الحصول عليها ومحاولة القفز فوق هامش الحزن الإنساني الذي يربطك مع الكون بوشائج التأمل والتعبد والورع ، سيؤدي إلى رد فعل طبيعي عالمي تجاه هذه الحياة اللاهية والهوس الدنيوي الفاقع بالمأكل والملبس والمسكن وعمليات التجميل والنحافة والشباب وكل المتع التي يمكن الوصول إليها بأقصر الطرق وأقلها تعففاً دون مراعاة لأحزان أو مآسي باقي الشعوب. إن الثقافة الأمريكية (كما ينقلها إلينا الإعلام الأمريكي) تقدم الإحساس الفاقع بغرور الإنسان وبعده الشديد عن التواضع والهدوء والاتزان. فنبرة صوته عالية، وتصفيقه مبالغ فيه، والاحتفاء بالضيوف جنوني والتملق لهم غير واقعي، والضحكات صاخبة جداً، بل حتى طريقة المشي والتحدث والتحية صاخبة وبعيدة كل البعد عن التواضع، كما هو الحال مع الطريقة التي يهبط فيها المسؤول الأمريكي على سلم الطائرة قفزاً ومرحاً وبالكثير من الاستعراض والمبالغة والغرور، تلك هي صفات موجودة في صميم الشخصية الأمريكية، على ما يبدو، بل هي مقبولة بين مختلف فئات المجتمع بحيث لا يجدون غضاضة في التحلي بها أو الإعلان عنها.
إن مهمة التطور في الغرب جاءت كنتاج ومعطى من معطيات المكاشفة ومحاورة الآخر، وهي أمور تحرص المؤسسة التربوية في الغرب على تعليمها للأطفال منذ الصغر، فتراهم يفضفضون عما في دواخلهم ويُمنحون مطلق الحرية في التعبير عن أنفسهم سواء داخل صفوفهم الدراسية أو بين أهليهم في البيوت، بحيث لا يُردعون أو يُقمعون إلا عند الضرورة القصوى. وعندما يكبرون تكبر معهم ثقتهم بأنفسهم وقدراتهم على تقبلهم النقد وتوجيهه أيضاً إلى الآخرين فلا يعتبره الآخرون إنتقاصاً لهم ولا يتحسسون منه بل يتقبلونه أيضاً بروح موضوعية ورياضية، مما يجعل روح الديمقراطية، في النهاية، تسود بين الأفراد في حياتهم الإجتماعية قبل أن تسود في الحياة السياسية والقانونية والثقافية وباقي جوانب الحياة ومستوياتها. هذه القدرة الاستيعابية لما هو متأزم في المجتمع وإثارة الأسئلة وطرح القضايا والمشاكل بشكل صريح، يتحول في الاعلام الأمريكي عادةً إلى مادة إعلامية تستثمرها البرامج المختلفة لخلق الاثارة سواء بالمجان أو بدفع النقود للضيوف من أجل كشف الاسرار وفضح الخفايا. ولعل برنامج (أوبرا) ذا الشعبية المنقطعة النظير في أمريكا وجميع أرجاء العالم، هو مرآة كبيرة موضوعة أمام المجتمع الأمريكي وتعكس مجمل أهوائه وميوله ومبالغاته أو أسلوبه في الحياة بشكل عام. فكل ما يخطر على البال تتم مناقشته في هذا البرنامج، من المأكل والملبس والرشاقة والجمال والأزياء وديكورات البيت، إلى التجارب التراجيدية أو الانسانية الحية ذات الموضوعات الساخنة، والتي تُروى من أصحابها من الذين يعرضون أخطاءهم على الملأ أو يناقشهم فيها اختصاصيون في مختلف المجالات ومن ثم إظهار المسكوت عنه- إن كان مسكوتاً عنه في مجتمعاتهم أصلاً- أو جعله فرجة للعالمين وعلى الطريقة الأمريكية، باعتباره يعرض من باب التحرر من العقد المكبوتة وتجاوز الأحزان والمآسي والتجارب المريرة. إن هذه الأمثلة الحية التي تعرض من باب التطهر سرعان ما سيحولها الإعلام الأمريكي إلى مادة إعلامية دسمة باطنها الألم وظاهرها البهرج البراق، أما الشرور والفضائح التي يسيل لها لعاب المشاهدين، فهي التوابل التي ترش على هذه المادة. إن الحرية عندما تستهلك ستنتهي في النهاية إلى استهلاك نفسها، وستجعل الانسان يحترق في أتونها كما نلاحظه في برنامج الدكتور فيل الذي يعرض ماّسي الاخرين بطريقة تجعلك تتساءل أين أمانة الطبيب النفسي من أسرار مرضاه، وهل حقا سيشعر أولئك المرضى بالتحسن أو سيتماثلون للشفاء، إذا ما عرضوا اسرارهم على الملأ، وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا أعترضت بعض جمعيات الطب النفسي على هذا البرنامج. وليس هو الوحيد الذي يسوق هذا النمط المريض من التفكير، فقد ظهرت أخت المغنية المعروفة وتني هيوستن في برنامج (ذي انسايدر) أو (المطلع)، وهي تبيع للاعلام صورا مسيئة لاختها بطلة فيلم “بودي كارد” الشهير، تظهرها في مكان وسخ وفي حالة مزرية من البؤس وتعاطي المخدرات. وقالت تلك الاخت إنها تبيع الصور من أجل المال أولا، وثانيا من أجل الانتقام من اختها التي خطفت صديقها منها.
والمشكلة في هذا النمط المريض من التفكير أن أهله قد اعتادوا عليه لدرجة أن لايعتبروه كذلك، ولو تذكرون الحلقة الخاصة التي عرضت بمناسبة احتفال أوبرا بعيد ميلادها الخمسين، والملايين التي صرفت من أجل ذلك الاحتفال، لتجسدت بصورة أوضح هذه الفكرة التي أشير اليها. أي أن يصبح الهوس الدنيوي أسلوب حياة لايجد فيه الامريكي أي حرج أو غضاضة.