النقد العربي بين النظرية والتطبيق
د. نجم عبدالله كاظم
عدد كبير من الأعمال الإبداعية العربية تظل بمنأى عن التناول النقدي، إذ تخفق في لفت أنظار فرسان النقد لتناولها بالتحليل والتقويم والاستنطاق، لأسباب قد لا تتعلق أحياناً بالإعمال نفسها أو بالأجناس الأدبية التي تنتمي اليها، بل بالنقد والنقاد، وهذا تحديداً هو موضوع مقالنا. فاذا كانت بعض الاجناس لدينا، وبالتحديد الشعر، بمستطيع الاستغناء، وقتيا على الأقل، عن مثل هذا التناول النقدي، كوننا نمتلك تراثاً ضخماً منه يتوزع على عمر طويل ترسخت خلاله تقاليد وقيم ونظريات مسّت وتعمّقت في كل جانب منه، فإن معظم الأجناس الأخرى، ولا سيما السردية، القصصية والروائية، يختلف الأمر معها. فهي لمّا تزل في ما يشبه مراحل التبلور والتأسيس ولم تكوّن لها بعد تقاليدها وهويتها، وبالتالي فهي تحتاج إلى النقد الذي يستنطقها ويقوّم تجاربها وربما يأخذ بأيدي بعض ممارسي الكتابة فيها ويتلمّس وإياهم طريقها. واذ تبرز مثل هذه الحاجة إلى النقد، والنقد التطبيقي تحديداً، تسود مجلاتنا وصفحاتنا الثقافية ومنذ سنوات ظاهرة جاءت على حساب مثل هذا التطبيق، فإذ هي قدمت جزئيا بعض ما اغنى الحركة الثقافية فإنها غالبا ما أصبحت عبئاً على هذه الحركة نفسها، وعلى الإبداع منها بشكل خاص. فقد اغتالت جل ما كان للنقد ان يقدمه لهذا الإبداع حين، انشغل فرسانها، في عزوفهم هذا، بالتنظير النقدي الذي يتمخض عن نصوص قائمة بذاتها، إنْ أغنت المفاهيم النظرية، وغالبا بشكل محدود، فإنها لاتقدم لحركة الثقافة والإبداع إلا القليل. ونحن لسنا، حين نقول ذلك ضد مثل هكذا نصوص ومثل هكذا ممارسة، بل إنها ممارسة إيجابية حين تسهم في إغناء ميدان نقد النقد، ولكن مما يقلل من قيمتها مرحليا أنها لا تسهم في إغناء الإبداع إلا بشكل محدود، كما قلنا، مما لا يتلاءم وحاجة الإبداع في آداب معظم الأقطار العربية، في هذه المرحلة.
ويبدو أن السبب الرئيسي وراء هذه الظاهرة هو انجرار بعض نقادنا الى الموجات والتيارات و(الصراعات) الغربية باستسلامية لا بانتقائية. إنها انعكاسات، أو ردود أفعال، أو معالجات، لواقع إبداعي أو ثقافي وفكري قد لا يكون له ما يلائمه عندنا. فتبدو، وهي تُنقل إلينا بهذه الآلية ولا تجد لها مجالا للتطبيق، ربما الا بشكل مفتعل، عائمةً لا أرضية تقف عليها، وبالتالي تفقد الفائدة التي يمكن أن تقدمها للثقافة والإبداع المحليين، وتكون نصوصاً قائمة بذاتها أحياناً، وموضوع نقاش وتباهٍ في حلقات الشغوفين بها لذاتها، وهذا ما يشكل وجها رئيسا من أوجه هذه الظاهرة.
إن النقد الذي يحتاجه الإبداع لدينا، القصصي والروائي بالتحديد وفي هذه المرحلة من تطوره، هو النقد الذي يضع اللبنات مع المبدعين، ويصحح البناء، ويرمم الانكسارات، ويتلمس الطرق الأنسب لأشكال الإبداع المختلفة. ولنا أمثلة على هذا من قبل نقد علي جواد الطاهر وجبرا إبراهيم جبرا وعبد القادر القط ومحمود أمين العالم وعبد الجبار عباس وعموم النقد الاكاديمي، في الفترة الممتدة من منتصف الستينيات إلى منتصف الثمانينيات، بينما يسقط الكثير من نقد السنوات العشر او الخمس عشرة التالية في شرك التنظير المجرد الذي يمارسه نقاد كان بعضهم قد قدم من قبل الكثير لحركة الإبداع، فانحرف عن هذا السبيل. ومما زاد من تاثير هذا الانحراف انصراف البعض حتى عن هذا وتحولهم الى نَقَلَةٍ للنظريات والتيارات الحديثة بتبعية، مبتعدين كلياً احياناً، عن ميدان التطبيق، ففقد الإبداع عاملاً من عوامل دعمه وتطويره في وقت لم يكن فيه لتنظيراته هؤلاء بالطبع دور في النظريات التي انجروا اليها، بجانب اولائك الذين وضعوها او تخصصوا فيها في مواطنها. وذلك أمر طبيعي، فما الذي يمكن ان يقدموه إلى مفهوم (موت المؤلف) وللبنيوية ولمفاهيم جومسكي وللسرديات ولنظرية الرواية؟ لا شيء تقريبا، عدا أنْ يكون خوضهم في هذه المفاهيم والنظريات إيصالاً لها أو تعريفاً بها، أو ربما ممارسة هواية الشغف بكل ما هو أجنبي أو غريب أو جديد على الآخرين. أما إذا كانت مثل هذه الممارسات تعبّر عن طموحات أصحابها في الإسهام في بلورة نظريات نقدية فهم إذن لواهمون غالبا فيما يظنون أنهم سيحققونه في هذا المجال. فأنْ تفعل هذا لا يتوقف فقط على ان تقرأ و(تحفظ) مقولات وأسماء ولا حتى على الفهم والاستظهار ومن ثم الكتابة في الموضوع أو النظرية. فإن النقد عملية عقلية إبداعية مركبة ومعقدة، بمعى آخر هو ليس كالكثير من أشكال الإبداع التي تعتمد، في نسبة عالية منها، على الموهبة وتوهج العاطفة، مع انحسار نسبي للعقل والفكر. ولذا لم يكن لهذه العملية العقلية المركبة أنْ تزدهر إلاّ ضمن مراحل تطورية حضارية متقدمة تمر بها المجتمعات، وتبعا لذلك آدابها، لأن للعقل فيها الدور الاساس، ولنعترف هنا أن المرحلة التي تمرّ بها أمتنا، ليست منها. إذن ليس غريباً أن تشهد الأمم الازدهار النقدي وظهور النظريات النقدية في مثل هذه الاطوار، بينما لا تكاد تخلو أية مرحلة تطورية، بما في ذلك البدائية، من مبدعين.. شعراء ملحميين او غنائيين او مسرحيين، وربما قصاصين والى حد ما روائيين. فلم تعرف الحضارات القديمة مثلا نقداً حقيقيا ناضجاً ونظريات نقدية، عدا ما قدمه الإغريق، اذ كانوا قد قطعوا ما لم تقطعه من تطورات من الامم الاخرى، بينما لم تخلو حضارة أي امة من تلك الامم من شكل او اأثر من أشكال الإبداع المتميزة. وتطبيقا لهذا على تاريخ الأدب العربي فإننا اذ نلحظ خلو العصور الجاهلي والإسلامي والأموي– وهي عموما عصور بداية وتحوّل وانتقال – من النقد والنقاد تقريباً، فلا نحظى منها إلا بشذرات نقدية إن بدت ناضجة أحياناً، فإنها لا تنطلق من نظريات ومفاهيم متكاملة، بينما زخرت العصور نفسها، بمبدعين كبارٍ، من الشعراء بشكل خاص، بل مهدت بوادر تجديد وتأسيس في بعض مجالات الإبداع، ومنها النثرية. في مقابل هذا زخرت القرون التالية، خلال العصر العباسي، بالنشاط النقدي النظري والتطبيقي، وفي ظل ما شهدته تلك القرون من نقلات حضارية نوعية في المجتمع العربي.
أما في العصر الحديث، فإذ نرى مبدعين في كل آداب العالمن مثل إليوت وبيكيت وتشيخوف وديستوفيسكي وتولستوي وكافكا وفوكنر وماركيز وناظم حكمت والسياب ومحفوظ، فإننا لا نكاد نجد، إلاّ في بلدان بعينها قطعت اشواطاً حضارية متطورة، لم تقطعها البلدان الاخرى، نقاداً كباراً من أمثال إليوت وفورستر وويلك وجينيت وباشلار. قد يسأل سائل: وهل يعني هذا أن تترك النظرية والتنظير اذاً؟ نقول، كما قلنا ضمناً، لا بالطبع، فالنظرية مهمة ومهمة جدا، خصوصاً حين تكون منقولة للتعريب بها وشرحها ومن ثم تطبيق طروحاتها على ما يمكن تطبيقها عليه من الإبداع المحلي، وبما يقود إلى فهم أعمق واستنطاق أوسع للنص، والكشف عن مستوياته التي قد لا نتمكن من كشفها بدون بعض هذه النظريات، وما ينفرز عنها من مناهج. فالإبداع، والتنظير في ضوء ما يقدمه هذا الإبداع، وتوظيف ما يتلاءم معه من النظريات والمناهج هو الاهم والأجدى بالعناية، وإلا ما فائدة النظرية ذاتها مرحلياً؟ لذا كانت محاولات البعض، كالدكتور محسن الموسوي مسؤولا ثقافيا وناقدا لإعطاء النظرية اهتمامه على حساب الإبداع ضرباً لهذا الإبداع أكثر منه إغناءً له وللثقافة والفكر، مع ما في هذا الاهتمام والعناية من فائدة بالطبع. عدا هذا نكون متجنّين على الثفافة والفكر، بل حتى الإبداع، إن رضينا أن نكون بمعزل عن النظريات والتيارات والمفاهيم الحديثة. ولذا كان دخول البعض لهذا الميدان، أعني ميدان النظرية، صائباً إلى حد بعيد. ولنا في الناقد المتميز فاضل ثامر، مع ما لنا عليه من مسايرة هذا التيار النظري أحياناً، مثالاً على ذلك، اذ امتلك القاعدة الفكرية والثقافية والنقدية، النظرية والتطبيقية، والتجربة غير القصيرة والإمكانات الذاتية ما تؤهله لمثل هذا الخوض ولتقديم ما يعجز عنه آخرون تورطوا في الخوض فيه.
وحين نذكر الناقد فاضل ثامر– وبالتاكيد لا نقصده هو فقط– فلأنه، إضافة إلى ما قلنا فيه، لم يتلق النظريات والتيارات والمفاهيم الجديدة باستسلام وآلية، بل بانتقائية وأحيانا بتحاور فكري ونقدي معها يجعله يكيف بعضها لما يفيد الإبداع المحلي والتعامل معه، وربما يكيف هذا الابداع نفسه لها. كما أنه يختلف عن آخرين انغمروا حتى الغرق في هذا الميدان، في كونه يعي جيداً ما يفعله. ولذا فهو لم يقلب صفحة النقد كما عرفناه مثلاً، بل حاول أن يمازج أحياناً بينه وبين التيارات الجديدة بما يرى أنه يأخذ بهذا النقد– ولا ضير في أن يكون بذلك مخطئا أحيانا لأنه سيصيب غالباً– لا بما يلغيه أو ينسفه، كما سعى الآخرون إلى الحد الذي جعلهم يظنون، واهمين بكل تأكيد، أنهم الرواد الحقيقيون للنقد العراقي. وربما يتجسد الكثير مما نراه في فاضل ثامر ومما لا نراه في الآخرين في قوله: “إني لست ممن يميل إلى مصادرة حق الآخرين في التعبير. فأنا في الجوهر أؤمن بأهمية تعددية القراءات والمقاربات والتأويل. لذا فلا أؤيد مسألة تجاهل فاعلية أو أهمية بعض المقاربات التي سبقت الموجة الحالية، متجنباً تسميتها بالاتجاهات التقليدية، لأنها هي الأخرى اتجاهات حديثة بهذا القدر أو ذاك”، مع أننا لا نجد في تسمية تلك المقاربات والاتجاهات بالتقليدية سُبّةً لها.
جريدة (الجمهورية)- بغداد، 1993
شاهد أيضاً
دراسة عن دروب وحشية
تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …