ميسلون هادي
القادم من المستقبل قد يرى أعمارنا قصيرة، وعقولنا صغيرة، لأنها انشغلت بالصور المتلاحقة على الشاشات، فأُصيبت الحياة الاجتماعية، التي جُبل عليها الإنسان، في مقتل. أما الذاهب للمستقبل، من حاضرنا هذا، فلن يرى الواقع إلا عبر الخيال الصرف الموجود في حضن متصل، أو غير متصل، مع الجسم الحقيقي للحاضر. الخيال هو حاسة أخرى غير السمع والبصر. هو فكرة مختلفة، أو أمنية غريبة عن المألوف. هو ما يحدث عندما ينام الإنسان ويصحو عن حلم لم يتحقق، غير أنه يبقى يتكلم ويتحرك بلا توقف في داخله.. وبهذا سيكون استشراف الأحداث المستقبلية كألوان الطيف السبعة التي تُشَاهد بعد المطر، وتتحقق رؤيتها بشكل مذهل، فهل هي حقيقة أم خيال؟ أو كالظلال التي تكتب أشباهاً لنا تجرها أقدامنا، فهل هي حقيقة أم خيال؟ أو كضباب الرأس الذي يخترع صوراً شتى، فهل هو حقيقة أم خيال؟. الخيالُ أمره مختلف تماماً. إنه قد يحدثنا عن حرب شعواء خاسرة يخوضها العالم مع الذكاء الصناعي، وهذا التوقع أجده ضعيفا أمام المقاومين من البشر، وأرواحهم التي قد تصل الصحوة، والعودة الى فطرتها السليمة.. لقد صنعتْ هذه الفطرة التاريخ الكامل للإنسان، وساهمتْ بعض الاكتشافات كالنار والكهرباء في توفير الراحة للإنسان دون أن تدمر سكينته وسلامه النفسي. حتى جاء عصر الأقمار الصناعية، واسمها وحده يبعث على الانزعاج، فجعل مستقبلنا يتسارع نحو العزلة والاكتئاب. ولكن الروائي أو الكاتب قد يستشرف هذا الوضع قبل أن يحدث، ويسرده عبر طلاقة الخيال المحلق فوق البيت الفعلي للواقع، ففي رواية (نبوءة فرعون) مثلاً يختفي الطفل يحيا داخل جهاز زجاجي اسمه (أجل) وأجل باللغة العربية تعني الموت، وتعني نعم. ولكن أمه تبقى تنتظره على شريعة النهر، وتسأل الغادي والرائح عن (يحيا)، فيجبيها الناس بحكايات شعبية من الموروث العراقي الجميل. هنا تقرر بلقيس أن تعود للبيت، لأن يحيا المفقود سيعود إلى هناك، إذا ما أمكنت عودته. عندما يكون الواقع مظلماً والآمال محطمة، فإنك تريد التوقع الأفضل، لكي تتحقق جنتك في الفلم أو الكتاب أو اللوحة. فترى النصف الآخر من القمر، وتلمس العشب والغرين على الأرض، وبالفعل يقع التعويض، ويحدث التطهر، لتبدأ علاقة من نوع خاص بينك وبين الأمل. وعندئذٍ تتشوق لما سيحدث في اليوم التالي، وتشعر بأن الزيغ يجب أن ينتهي، وأن الأمل يجب أن يبقى موجوداً، وسنصل إليه لا محالة، إذا ما أجهدنا أنفسنا أكثر، وأزلنا عنه أطواق الكسل التي تحيطه.
مجلة الأديب العدد 2 2025