النزعة الإنسانية في الأدب

النزعة الإنسانية في الأدب
د. نجم عبدالله كاظم
كلية الآداب / جامعة بغداد

“إن عظمة الكاتب تكمن في أن يكون بعضه فيلسوفاً، أو بعضه عالماً، أو بعضه أديباً، ولكن معظمه يجب أن يكون على الدوام إنساناً”
سلامة موسى
(1)
قبل نصف قرن طرحت مجلة (الآداب) البيروتية سؤالاً وجهته إلى عدد من الأدباء عما تراه من ضعف النزعة الإنسانية في الأدب العربي ، وعن سبب أو أسباب ذلك إن كان هو كذلك فعلاً . وقد جاءت الردود مختلفة ، وكان من الطبيعي أن تأتي مختلفة ، فمن الأدباء من قال يوم ذاك إنه بسبب “أن الأدباء العرب ما زالوا يتعالون على الشعوب التي يعيشون بينها ويأكلون لقمتهم من كد أبنائها ، بل أن منهم من يكرهون الفقراء”، ومنهم من علل ذلك في ما سماه كسل الأدباء في معالجة الفنون الأدبية التي تتجلى فيها النزعة الإنسانية ، ومنهم من علله بغير ذلك . واليوم حين نعود إلى ذلك السؤال نجد لزاماً علينا الرجوع قبلاً إلى ما يعنيه مصطلح (الأدب الإنساني) وعبر ما يرتبط به أولاً في أذهاننا وانطلاقاً من لفظة (الإنساني) تحديداً وما تعنيه لغة واستخداماً. هنا نتذكر ما أشار إليه الفريد نوبل في وصيته حول من تُمنح له الجائزة التي أوصى بها من الأدباء إذ قال :إنه من “قد أنتج أدبا هو الأكثر تميزا في اتجاه مثالي” ، فمن الطبيعة أن يعني الاتجاه المثالي من جملة ما يعنيه الجانب الأخلاقي ، مع أن الأكاديمية قد صارت في فترات لاحقة تتحرى في الأديب الذي تمنح له الجائزة أن يمتلك “قيمة أدبية عالية وذات أهمية لتطور الأدب . وهذا يعني أن الأكاديمية قد تجاوزت تفسيرها للأدب المثالي” ذي الدلالة الأخلاقية، وإذا كان هذا صحيحاً فمن الواضح أنها لم تتخل عن خاصية (الإنسانية) الأخلاقية ليكون واحداً من خصائص الأدب الذي تريد الأكاديمية.
المعنى الآخر للأدب الإنساني الذي قد يعنيه من يستخدم المصطلح هو العالمية كما قصدها الأديب الشهير غوتة وتوسعت لدى رائدة الأدب المقارن الفرنسية مدام دي ستال التي تمثلتها بشكل خاص من خلال اهتمامها بالآداب الأوربية معتبرة أن “ثقافات البلدان الأوربية هي ملك لكل الأوربيين”. وإذ لا يتطابق هذا بالطبع مع المعنى أو المعنيين السابقين فإنه لا يخرج بالضرورة عنهما أو يناقضهما ، بل هو قد يلتقي معهما انطلاقاً من أن الأدب إذ يلتزم أخلاقياً خاصة من خلال اهتمامه بالإنسان وشؤون الإنسان ، ويكون مثاليا فإنه يكون بالضرورة أكثر تأهلاًّ للعالمية . وهنا نقترب كما يقترب المصطلح تلقائيا من معنى أو دلالة أخرى ، تلك هي دلالة ما يسمى بالأدب الخالد الذي يتواتر ذكره في النقد والدراسات الأدبية ، وربما بشكل أكثر في الصحافة الأدبية ، ومعروف أن المقصود به الأدب الذي إذ يبقى ويعيش على مر الزمن مع بقاء تأثيره وعطائه فإنه يكون جزءاً من التراث القومي أولاً وغالباً التراث الإنساني الذي لا يموت . من هنا جاء تعريف البعض له الآتي وبما يجمع جل ما قلناه:
“ألأدب الإنسانيّ، هو أيّ نصّ ، شعرًا كان أم نثرًا ، بصرف النّظر عن الأدوات الفنّيّة الّتي يعتمدها ، يـحمل معانيَ إنسانيّة خالدة خلود الزّمان .. والـمكان .. والإنسان. وهو أيّ نصّ تُرْجِمَ إلـى أيّة لغة ، ولم يفقد رسالته الإنسانيّة ، ولو كان مغرقًا فـي الـمـحلّيّة”.
(2)
أخيراً نأتي إلى المعنى أو الدلالة التي تكاد بظننا تشتمل وبدرجات مختلفة على كل المعاني والدلالات السابقة وفي ظل ما قيل الكثير عنه واختُلِف فيه ، نعني التزام الأدب والأديب ، وهو الالتزام الذي ربط الأدب والأديب وتحت مفاهيم وآيديوليجيات وأفكار وفلسفات مختلفة بالإنسان وإنسانية الإنسان وما يتبع ذلك من قيم . وهكذا وجدنا من يقول عن (الأدب الإنساني) ، أو بالضرورة عن إنسانية الأدب والأديب:
“يختص هذا النوع من الأدب في الانحياز نحو التعبير عن إنسانية الإنسان، ويساهم في فضح الانتهاكات والتجاوزات على القيم الإنسانية وبالتالي فإنه يصنَّف إلى جانب قوى الخير. ويجد سلامة موسى أن الإنسانية في الأدب تعني مكافحة الظلم والجهل والفقر، والأديب الذي يتخذ هذا المذهب الإنساني تعود حياته أدباً لأنه مكافح . وهذا الاصطفاف للأديب مع القيم الإنسانية ، يؤدي إلى تعريض حياته إلى العديد من المشاكل ابتداءً من الفقر وانتهاءً بالتنكيل من قوى الشر التي تجد في هذا الاصطفاف خطورة تهدد مصالحها. ويعبر عن ذلك برنارد شو بقوله: ألم يصبح الأدب كفاحاً ، والكفاح أدباً ؟
“ويجد البعض أن اصطفاف الأديب إلى جانب القيم الإنسانية والعمل على الدفاع عنها، يعود إلى ضمير (الإنسان الأديب)، فكلما كان ضمير الأديب حياً كلما كان حراً في التعبير والدفاع عن قيم الخير. … إن الأدب هو التعبير عن الضمير الإنساني، والأديب هو ضمير العالم. وهناك من يجد أن الحرية الحقيقية التي يسعى إليها الأديب هي تعبير عن حرية الضمير، والأديب الذي يمنح ضميره إجازة في أي مرحلة من مراحل حياته، يفقد حريته وبذلك نجده يغير من اصطفافه لصالح قوى الشر. ويجد فولتير أن حرية العقل وحرية العقيدة وحرية الضمير هي أثمن ما يملكه البشر . وهنا تكمن عظمة الكاتب والمبدع والأديب الذي ينهل من القيم الإنسانية مادته ويصنع منها آليات وأسلحة مضادة ضد قوى الشر التي تسعى لفرض قيمها على سائر البشر. وبهذا يعبر الأديب عن إنسانيته، وبالتالي عن حريته التي دونها يفقد آلياته في التعبير. ويعبر سلامة موسى عن ذلك خير تعبير بقوله: إن عظمة الكاتب تكمن في أن يكون بعضه فيلسوفاً، أو بعضه عالماً، أو بعضه أديباً، ولكن معظمه يجب أن يكون على الدوام إنساناً. وبهذا فإن الأدب الإنساني، هو تعبير عن الحرية والضمير وقيم الخير والتصدي لقيم الشر المضادة”.
ويضيف صاحب الربيعي إلى ما عرضه السابق ما يجمع ضمناً أكثر من معنى أو دلالة من الدلالات السابقة للأدب الإنساني إذ يقول : “النتاجات الأدبية لا تعبر عن عظمة وحجم الأديب في عالم الأدب بل ماهية هذه النتاجات الأدبية ، فالتقييم للأعمال الأدبية لا يعتمد معيار عدد النتاجات وإنما قيمة هذه النتاجات وما تقدمه لرفد الحضارة الإنسانية”.
(3)
إذن لا نستطيع أن نستبعد ، ونحن نضع في أذهاننا المبدأ الإنساني المطلق ، وقضايا الإنسان وهمومه ضمن النزعة الإنسانية للأدب ، أيّاً من المعاني والدلالات السابقة تقريباً. والواقع أن الأدب العربي مع كل ما اشتملت عليه أجوبة بعض من سألتهم مجلة (الآداب) في الاستفتاء الذي أشرنا إليه، لم يكن بعيداً عن النزعة الإنسانية . وإذا كانت شواهد ذلك أقل وضوحاً في أجناس بعينها ، بحكم طبيعة هذه الأجناس ، وفي فترات معينة ربما عناها استفتاء (الآداب) لأسباب مختلفة ، وفي آداب أقطار عربية محدودة بفعل عدم تعرض هذه الأقطار لأزمات شديدة سياسية واجتماعية وثقافية ، فإن هذه الشواهد أعمالاً وموضوعاتٍ في أدبنا عموماً لتبقى أكثر من أن تُنكر. ولا بأس في أن نعرض باختصار لأبرز الموضوعات وهي :
أولاً : موضوعات الظلم الاحتماعي والفوارق الطبقية وما ينتج عن ذلك من فقر ومعاناة الطبقات المسحوقة . ولا نظن أن أديباً عربياً لم يتطرق إلى ذلك بهذه الدرجة أو تلك ، ولكن المعالجة الإنسانية المنحازة إلى الإنسان المظلوم هي التي تمثل النزعة الإنسانية ، وهذا ما لا نجده بالطبع إلا عند الأديب الذي يشكل الموضوع إحدى ثيمات اهتمامه ، والملتزم وصاحب الموقف بحدود تعلق الأمر بهذا الموضوع على الأقل . ولنا أمثلة على ذلك بعض أعمال السياب ، ونجيب محفوظ ، وغائب طعمة فرمان .
ثانياً : موضوعات القمع السياسي والسجون والمعاناة من ذلك ، ومعروف أن من أشهر من تناول ذلك بنفس إنساني واضح عبدالرحمن منيف ، ومن الآدباء الآخرين عبدالرحمن الربيعي ، وفاضل العزاوي ، وإلى حد ما برهان الخطيب .
ثالثاً : وتعلقاً بالموضوعات السابقة ، تأتي موضوعات الغربة ، خاصة الإجبارية الناتجة عن القمع السياسي بشكل خاص ، ومن أمثلة ذلك بعض أعمال غائب طعمة فرمان ، وعبدالرحمن منيف ، وعدنان الصائغ .
رابعاً : موضوع المقاومة والحرب ، وإذا ما كان الأدب العربي قد قدم مثل هذا الموضوع أو الموضوعات من خلال معالجاته لحروب العرب وإسرائيل ، وخاصة حربي 67 و 73 ، والحرب العراقية – الإيرانية ، فإن الموضوع أكثر ما تمثّل واضحاً ومؤثراً في أعمال عالجت المقاومة الفلسطينية ، كبعض كتابات غسان كنفاني ، ومحمود درويش . ولعل من جميل ما عبر عن هذا الأدب القول عن بعض أعمال القضية الفلسطينية الإبداعية العربية: “لقد كتبوا عن محمد الدرة في الوطن العربي مشرقه ومغربه ، ماذا تبقى منه ؟ لا شيء ! الذي يتبقي هو الأدب الإنساني . حينما نصل إلى درجة الزعيق فقد وصلنا إلي العنصرية التي نرفضها ، مفروض أن نتعامل بشكل حذر وفعال مع قضيتنا ليكون أدبنا ذا صبغة إنسانية مثل أدب أمريكا اللاتينية وأفريقيا !”.
خامساً : موضوع نحن والآخر ، وخاصة الغرب الغربيين ، ونعني تحديداً بالطبع تناول هذا الموضوع من خلال جانبين رئيسين هما التواصل مع الآخر ، ورؤية الآخر. ومن أمثلة هذا، وتحديداً التي تناولت هذه الموضوعة بواحد من جانبيها أو بهما معاً ، بنفَس إنساني بمعنى أنه يركز على النظر إلى الآخر من منظور الإنسان غير الرافض أو غير المعادي بشكل مسبق للآخر، أو على الأقل المنظور الحيادي. ومن أمثلة هذا التناول ما تعكسه بعض أعمال توفيق الحكيم ، وسهيل إدريس ، وعبدالرحمن منيف.
ولعل بعضَ ذلك يكون موضوعات مقالات مقبلة.
najmaldyni@yahoo.com

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *