الناقد العربي وخصوصية المقترب الحداثي
الناقد العراقي نموذجاً
( 1 )
نتذكر أننا كنا، ونحن نتهيأ في نهاية السبعينيات من القرن الماضي لدراسة الدكتوراه، على معرفة بواحد من مناهج وتيارات النقد الحديث أو الحداثوي، ذلك هو النقد الجديد New Criticism الذي تبنيناه منهجاً لأطروحتنا الأكاديمية. والواقع أننا لم نكن حينها على معرفة جيدة بغير هذا المنهج، بما في ذلك الشكلانية التي تكاد تتداخل معه، إضافة إلى أننا كنا معجبين حد القناعة التامة به كونه كان، على الأقل بحدود وعينا حينا، أول منهج ينقل مركز الاهتمام مما هو خارج النص أو مما حوله إلى النص نفسه، ليبدأ بذلك مسيرةً ستصل بالنقد، بعد ما يقارب العقدين، إلى عد النص مستقلاً بنفسه، والمبالغة والتطرف في ذلك على يد البنيويين. وعلى أية حال كانت نتيجة تبنّينا لهذا المنهج أننا وجدنا أنفسنا عملياً لا نستطيع ونحن نسير في منهجيتنا، إلا أن نحيد، بهذا القدر أو ذاك، عن توجيه النقد الجديد ضد الاهتمام بالمؤلف والبيئة والتاريخ الأدبي، وضد تدخل العلوم الإنسانية، من تاريخ واجتماع ونفس وفلسفة، في دراسة الأدب، فكنا نخرج من النص إلى ما هو حول النص، ولكن لنعود بالطبع إلى النص متجنبين هيمنة ذلك الخارج على اشتغالنا النقدي. وبعد بضع سنوات من تلك التجربة المنهجية، انتبهنا إلى ظاهرة في الدراسات الأدبية والنقدية العربية المتعاملة مع المناهج الحديثة أو الحداثوية، ذكرتنا بخروجنا ذاك عن محددات المنهج وصرامته وخطواته الإجرائية، وهي ما أسميها بظاهرة عدم إخلاص الناقد للمنهج المتّبَع. بمعنى أن الناقد عندنا إذ يطّبق منهجاً نقدياً ما في دراسة ما فإنه لا يستطيع غالباً إلا أن يخرج بشكل أو بآخر وبدرجة أو بأخرى عنه، لينفي ذلك ما قد نسمّيه (النقاء المنهجي).
من هنا تحديداً تأتي دراستنا هذه التي نحاول أن نقدم أو نوصل من خلالها وجهة نظر نسعى إلى تجسيدها من خلال التعرّض لتجربة الناقد العراقي تحديداً مع نقد الحداثة، وبشكل خاص معه في تأرجحه بين المقاربه الخاصة من نقد الحداثة والابتعاد عن هذا النقد. وقد بنينا وجهة نظرنا هذه على تجارب عدد معين من النقاد خلال فترة بعينها من تاريخ النقد العراقي. وهكذا من حوالي خمسين ناقداً عراقياً لهم درجات مختلفة من الحضور خلال الربع الأخير من القرن العشرين، الذي نجده الفترة التي شهدت الانفتاح الحقيقي للنقاد العراقيين على النقد الحديث، اعتمد مختبرنا على بعض تجارب عشرة نقاد أو أكثر بقليل. وهنا إذ نتفحص تجارب هؤلاء النقاد فإننا سنتوسع في تعاملنا هذا ليتعدى المناهج إلى المفاهيم وأساليب التعامل مع النصوص والمقتربات الدراسية والنقدية وريما إلى أصول الدارسة والبحث، منوّهين بأن ما نعنيه بالمناهج الحديثة أو الحداثوية، هي تلك التي بدأت بالشكلانية فالنقد الجديد، ومروراً بالبنيوية وما بعد البنيوية، وانتهاءً بنقد القراءة، والتأويل.
( 2 )
بدايةً يمكن تقسيم النقد العراقي أو النقاد العراقيين تحديداً، في ضوء العلاقة بالمناهج الحديثة، التقسيم التقليدي والمقنع الذي يُتَّبَع عادة مع تقسيم كل مجموعة علمية أو أدبية أو نقدية أو لغوية.. إلخ وفقاً لمراحل التغيير والاتصال بالآخر والتحول المجتمعي والسياسي والثقافي. ووفقاً لذلك يكون التقسيم إلى: نقد تقليدي أو نقاد تقليديين، ونقد حداثي أو نقاد حداثويين، ونقد توفيقي أو نقاد توفيقيين يجمعون ما بين التقليد والحداثة. لكننا نميل إلى شكل آخر قد لا يخرج عن هذا إلا في الصورة وفي ما نريد أن نوصله ضمن وجهة النظر التي نسعى إلى التعبير عنها في هذه الدراسة. وهكذا نقسّم النقاد العراقيين، وفقاً لقربهم من نقد الحداثة وبعدهم عنه، إلى:
أولاً: نقاد أخلصوا للمناهج الحديثة بشكل شبه مطلق وتام، مثل محمد صابر عبيد، وعباس عبد جاسم، وعبدالله إبراهيم. ويكاد جميعهم يشتركون في الحرص على تقديم هذه المناهج نظرياً، لا سيما قبل تطبيقها، بينما تتمثل غالبية الاختلافات فيما بينهم في ديمومة تطبيقهم لها في تجاربهم النقدية، وفي درجات نجاحهم في هذا التطبيق.
ثانياً: نقاد انفتحوا على المناهج الحديثة، ولكنهم توزعوا في التعامل معها بين مجموعتين متشابهتين، وإن ليستا متطابقتين. المجموعة الأولى حرص أصحابها على الالتزام بها ولكن وفق اجتهادات في تطبيقها وبما قد يعني عدم التسليم بكل طروحاتها وخطواتها الإجرائية، مثل شجاع العاني، وحاتم الصكر؛ وجبرا إبراهيم جبرا. المجموعة الثانية عمل أصحابها على تبني هذه المناهج، ولكنهم لم (يخلصوا) إليها الإخلاص الذي يعني التبعية المطلقة والالتزام بعدم الخروج عليها عند التطبيق، مثل فاضل ثامر، وياسين النصير، ونجم عبدالله كاظم، وصالح هويدي.
ثالثاً: نقاد لم يتحمسوا للمناهج الحداثوية، فاستفاد قسم منهم من بعضها، مثل علي جواد الطاهر، وعبد الجبار عباس، وسليمان البكري، وعبد الواحد لؤلؤة، وانغلق القسم الآخر عنها انغلاقاً كاد يقود بعضهم إلى الوقوف منها موقفاً مضاداً أحياناً، مثل عبد الإله أحمد الذي عاداها تماماً، وعبد الجبار البصري الذي أهملها، وحسين سرمك حسن الذي التزم بوعي واضح بمناهج سبقتها. أما أحمد مطلوب وعلي عباس علوان، وباسم عبد الحميد حمودي، وسليم عبد القادر السامرائي، وسليمان البكري وآخرون، فلم يظهروا حماسةً لها.
وباستثناء نقاد المجموعة الأولى كان لكل ناقد من نقاد المجموعتين الأخريين شأن مع المناهج الحديثة، ولكن بنوع أو آخر من الخصوصية. وإذا ما تجاوزنا الفهم الخاطئ للمنهج المعنيّ وما قد يستتبعه من تداخل في المفاهيم وتداخل ما بين المناهج، ووجود التداخل والالتباس في المصدر الأجنبي، فإن الاختلاف في الفهم، وهو يختلف عن الخطأ فيه، وعدم الإخلاص للمنهج هذا إنما يقع في الخطوات الإجرائية، وما قد يصاحبها من اجتهاد من الناقد المطبّق للمنهج، وهذا هو ما نجده مصدر الخلاف وسوء الفهم في تقويم التجارب النقدية للنقاد العراقيين، وربما النقاد العرب عموماً، وهي ما نريد أن نتوقف عندها بشكل أساس هنا. وبدايةً يفوت على الكثيرين أن الاختلاف في الفهم وما قد يستتبعه من اختلاف في التطبيق قد يعود أحياناً إلى الأصول الغربية للمناهج، وهو حقيقةً مما يتمثل في الكثير مما يواجهه إنسان العصر وأديبه ومفكّره وناقده. يقول ليونيل ترلنك: “من جملة المشاكل التي تواجهنا عند دراسة العصر الحديث هي أنه لا توجد كلمة واحدة تحدد سمات هذا العصر، لقد استعملت كلمة (الحداثة) من حين لآخر مرادفة للرومانسية، واستعملت كذلك في وصف الأجواء العامة للأدب الأوربي في القرن العشرين بوجه عام، أما النقاد الماركسيون فيعدونها نوعاً من البرجوازية الجمالية المتأخرة النابعة من الواقعية، لقد استخدم هذا المصطلح ليغطي مجموعة من الحركات التي جاءت لتحطيم الواقعية أو الرومانسية، وكان ديدنها التجريد، حركات مثل الانطباعية، ما بعد الانطباعية، التعبيرية، التكعيبية، المستقبلية، الرمزية، التصويرية، الدوامية، الدادائية والسريالية، مع ذلك ليس هناك ما يوحد هذه الحركات، بل إن بعضها جاء ثورة كاسحة على البعض الآخر”([1]). في هذا المجال، ينسى الكثيرون أن أمر الاختلاف والتجديد والافتراق في التنظير والتطبيق قد يتعدى، في الغرب، حدود الاجتهاد الحقيقي إلى ما يكون في أصله خطأً أو اقتراقاً غير واع أو غير متعمد، ومع هذا نحن نتقبله ونقتنع به، وربما نسهم في التنظير له لأنه آتٍ من الغرب، مصدر العلم والنظرية والتجديد والاكتشاف. وهو أمر قد يقع أو يحدث حتى عندنا، ولكن في ميادين أخرى أو في أزمان أخرى، فنستقبله ونتقبله. هنا نتذكر حكاية طريفة قد تنفع في تشبيه ما يفعله كل من الناقد الغربي والناقد العربي في تعاملهم مع المناهج النقدية حين يخرجان عن محدداتها. الحكاية تتعلق بأحد رواد المقام العراقي الذي يقال إنه أخطأ يوماً في غناء أحد أنواع المقامات، وعندما انتبه مستمعوه من العارفين بشؤون المقام العراقي وأصوله ونبّهوه إلى ذلك، ويبدو أنهم أحرجوه، ادّعى أنه إنما يؤدي مقاماً جديداً يُسمى البهرزاوي نسبة إلى بلدته بهرز. هذه الحكاية تكاد برأينا تنطبق على بعض ما يفعله نقاد الغرب مع بعض المناهج فيدّعون أنهم يعون خروجهم عليها أو أنهم يفرّعون منها مناهج أو مقتربات خاصة، أو ما إلى ذلك، فنتقبل نحن العرب منهم ذلك. ولكن حين يفعل ناقد عربي مثل هذا أو يقع فيه نتهمه بعدم فهم المنهج أو بالانحراف عنه.. أو بالخطأ في خطواته الإجرائية.. وما إلى ذلك. إننا هنا، برأيي، ننسى أو لا نقّدر الجرأة في التعامل مع كل شيء، وهي الجرأة الضرورية أحياناً في العمل النقدي، بما في ذلك دخول المغامرات القائمة على تجاوز المحاذير والممنوعات والمرفوضات، وعلى التجريب، وعلى الخروج- بحدود ووعي- على النظريات، والأطروحات المناهج، خصوصاً حين يكون ذلك في مراحل تطبيق هذه النظريات والأطروحات، كما فعل في الغرب غولدمان في بنيويته التكوينيه، وكما فعل في النقد العربي حميد لحميداني مثلاً في “أسلبة الرواية”؟. وتأمل طروحة غولدمان أو حتى إلقاء نظرة سريعة وعامة عليها تكشف لنا كيف يمكن للتوليف أن يكون غير المستهجن، بل مقنعاً ومثمراً، حتى حين يكون هذا بين ما قد تكون نظريات أو رؤى أو مفاهيم متناقضة أو متضاربة في انطلاقاتها وطروحاتها. فتتلخص رؤية غولدمان في بنيويته التكوينية في أن أي عمل أدبي يعبر عن الوعي الطبقي للفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها مبدعه أكثر منها عن هذا المبدع نفسه أو رؤيته الفردية الخاصة. بمعنى آخر هو ليس نتاجاً فردياً بل هو نتاج وعي جماعي. هذا من جهة، ولكن لهذا العمل، من جهة ثانية، بنية دلالية كلية تختلف عنها في أي عمل أدبي آخر. المهم وفقاً لغولدمان، “أننا من “الممكن أن نجد تناظراً بين بنية الوعي الجماعي من ناحية والبنية الدلالية من ناحية أخرى، كأنهما حلقتان يمكن لهما الالتحام. بمعنى أننا في قراءتنا الأعمال الأدبية، ننحو إلى إقامة بنية دلالية كلية تتعدل باستمرار كلما عبرنا من جزء إلى آخر في العمل الإبداعي. وعندما ننتهي من القراءة، تتكون لنا صورة عن بنيته الدلالية الكلية. إن نقطة الاتصال بني البنية، والوعي الجماعي الطبقي، هي أهم الحلقات عند غولدمان والتي يطلق عليها مصطلح (رؤية العالم). فكل عمل ادبي يتضمن رؤية للعالم، ليس العمل الأدبي المفرد فحسب، لكن الإنتاج الكلي للأديب، ولعصر معين”([2]).
( 3 )
وهكذا وجدنا القراءة قراءتين، والبنيوية بنيويتين وربما ثلاثاً، بل إن أوجه النقد الجديد الأمريكي كادت تكون بعدد نقاده الرواد. فـ”مع أن النقد الجديد الأمريكي قد تطور بشكل مستقل، فإنه يُدعى أحياناً بالشكلي، لأنه، مثل الشكلانية الأوربية [أو الروسية]، يؤكد على أن تحليل العمل الأدبي، بوصفه شيئاً، مكتفياً بذاته، ومستقلاً عن أي إحالة إلى عالم أو تاريخ اجتماعي وأدبي خارجي. وهو أيضاً يعتبر الشعر صيغة mode خاصة من اللغة تُعرّف صورها المميزة من ناحية تعارضاتها مع اللغة الاعتيادية أو العلمية”([3]). نقول، مع هذا كله، ضمّت حركة (النقد الجديد) أعلاماً قد يكونون في حقيقتهم مختلفي المشارب، كما هم مختلفو الأزمان تقريباً، ولعل أشهرهم: جون سبينجارن Joen Spingarn في كتابه “النقد الجديد”- 1911، وجون كرو رانسوم في كتابه “النقد الجديد”- 1941، وكلينث بروكس، وألين تيت، وبلاكمور، وبيرك، وروبرت بن وارين، ووليم أمبسون، وديفيد ديتشس، وكارل ومزات، وستيفن سبندر، وإدمون ولسون وغيرهم. “والذي يجمع هذا العدد الكبير من النقاد أنهم جميعاً رفضوا تدخل العلوم الإنسانية من تاريخية واجتماعية ونفسية وفلسفية في دراسة الأدب. وذلك أن هذه العلوم جميعاً تهتم بما يقوله العمل الأدبي، وهم يريدون الاهتمام بالطريقة التي يقول فيها العمل الأدبي نفسه، أي بالشكل والأسلوب. أما المعنى أو المحتوى فهو عندهم غير محدد وعلينا أن نرجئ البحث فيه مؤكدين أن الألفاظ تُستخدم في الأدب استخداماً مختلفاً عن استخدامها في العلوم. فهي، في العلوم، ذات دلالات محددة، أما في الأدب فإن لها إيحاءاتها التي تخرج بها من حدود القاموس”([4]). والمهم هنا هو أن اتفاقهم في هذا كله لم يمنع أن يختلفوا فيما بينهم في غيره بما في ذلك في ما أفرزته اشتغالاتهم من مقتربات متعددة، وأن اختلافاتهم لم تمنع عدّهم منهجيين. وإذا ما تجاوزنا هذا الاتفاق وهذا الخلاف فيما بيني النقاد الجديد، فإنا نجد الاتفاق والخلاف حتى بين نقاد وباحثين حول النقد الجديد والنقاد الجدد مجتمعين. فهذا رامان سلدن وزميلاه مثلاً يقدمون، في كتابهم “دليل القارئ للنظرية الأدبية”، وجهة نظر مختلفة عن بعض ما هو معروف عن الشكلانية والنقد الجديد، وهي وجهة نظر، حتى وإن لم تكن مقنعة لبعضنا، لها تبريرات منطقية.
وكما هو حال (النقد الجديد) وتوزعه أو تفرعه أو خضوعه لوجهات نظر ورؤى مختلفة باختلاف أعلامه والمتعاملين معه، تبدو البنيوية كذلك لمن يتحرر من عقدة الصرامة ووحدانية الدلالة والمفهوم والفهم والتطبيق. لقد شهدت مسيرة هذا المذهب أو النظرية اختلافات عديدة في المداخل والمسارات والنتائج، بل حتى الخروجات عن مساراتها العام. فـ”هذا نورثروب فراي الذي آمن بالبنيوية ذات يوم، نراه يشق له طريقاً خاصاً ويؤسس اتجاهاً نقدياً عُرف به، يقوم على الزج أو المزاوجة بين النقد الأسطوري والنقد الجديد القائم على تحليل الصورة والرمز”([5]). ولا يتردد روبرت شولز في خطو خطوة غريبة أو، في الواقع، جريئة، نظن لو أن ناقداً عربياً خطاها أو أقدم عليها لثار البعض عليه واعتبروه متجاوزاً ومتخبطاً. فهو رأى إمكانية الجمع بين ثلاثة مقتربات سيميائية من النصوص القصصية، “في منهجية واحدة هي الآتية: 1- مقترب تزفتان تودوروف، كما أوضحه في كتابه (قواعد الديكاميرون)؛ 2- مقترب جيرار جينيت في كتابه (الخطاب السردي)؛ 3- مقترب رولان بارت في كتابه (س/ز)”([6]). وهذا يعني عندنا أولاً أن المناهج النقدية المختلفة غير منغلقة على نفسها من حيث فهمها وطروحاتها، ولا ممتنعة عن الالتقاء بغيرها ولاسيما في التطبيق؛ وثانياً وتبعاً لذلك وتعلقاً بالتطبيق خصوصاً، أن لا وجود لما قد يُعبَّر عنه بالنقاء المنهجي الذي يعني أن التطبيق المنهجي لا يكون إلا بصارمة اعتماد مفهوم أو طرح أو مقترب أو منهج بعينه. فالكل يختلط بالكل بقصدية أو حتى بدونها، ببساطة لأن ما من شيء يأتي أو ينبثق أو ينشأ من فراغ. وما دام الأمر كذلك فلا يمكن لهذا الذي يظهر أو ينبثقن- وهو هنا المنهج أو المفهوم أو التيار- أن يكون في ما يأتي فيه نقياً مما قد يبدو أنه قد غادره أو هجره أو حتى انتفض عليه. ونقاد الغرب هذا ويقرون ويقولون به، كما يفعل مثلاً توريل موي حين يقول، في خضم بحثه في الأنثوية، بأنه بعد التاريخ غير القصير من الكلام والبحث والكتابة والدعوات للكتابة الأنثوية والنقد الأنثوي، “ليس هناك من فضاء نسوي أو أنثوي خالص نستطيع أن ننطلق في الكلام منه، بل إن كل الإفكار، بما في ذلك النسوية، هي بمعنى ما (ملوثة) بالأيديولوجية الباتريارتيكية (الأبوية)”([7]). ومرة أخرى، على عكس غالبية نقادنا العرب، الذين حتى حين يعون هذا فإنهم لا يقرون به عملياً، يعيه النقاد الغربيون ويقرون بتطبيقه صارحةً وضمناً، هو ما يقودهم إلى مواقف يتبناها الواحد منهم حين يأتي إلى التطبيق، بدون تردد، سواءٌ أكانت تبنياً لمنهج بعينه، أو لأكثر من منهج، أو لتجاوز بعض ما تقول به تلك المناهج. وهم إذ يعرفون بالطبع بأن هناك مرجعيات في القراءة النقدية، فإنهم يعون ويجدون أنفسهم في خضم اختيار بين منهج بعينه قد يفرض عليهم، ظاهرياً على الأقل، قراءة محددة، وصعوبة تجاوز صرامة القراءة المحددة أو تفادي القراءة الشاملة.
ولا يقتصر أمر التداخل والاختلاف في الفهم والتفسير والتطبيق في الغرب، قبل أن يكون لدينا، على المناهج والنظريات، بل يتعداه حتى إلى المصطلحات والمفاهيم. فقد تداخلت الحداثة مع ما بعد الحداثة، وصارت (وجهة النظر) إنكلوأمريكية وفرنسية وألمانية، وتعددت أوجه المنهج الواحد وتطبيقاته بتعدد البلدان، وتعددت المصطلحات وتداخلت. فهذا أحد دارسي المصطلحات مثلاً يرصد مثل هذا فيقول: “الفعل أو أحداث القصة والرواية action والحبكة plot والبناء structure: تستخدم هذه الاصطلاحات الثلاثة جميعاً بطرق محيرة في تنوعها بحيث لا يمكن مناقشتها في هذا المجال… ثمة كثير من المحاولات للتفريق بين (الفعل) و(الحبكة)”([8]). ولم يجد أحدٌ في ذلك كله بأساً، كما لم يجد أحدٌ مثل هذا في أن يقول محرّرا الأنثولوجيا الأدبية جوليا ريفكين وميشيل ريان، وهما يتكلمان عن شيء واحد: السرد أو السرديات، هكذا بكل بساطة([9]). وأعتقد أنه لو قال أحد من كتّابنا أو نقادنا مثل هذا لاتهمه البعض بعدم الدقة. ولعل الأمر أكثر وضوحاً مع مصطلحين آخرين. فبعد أن يكون هناك (Novel) و(Narrativ)، فيُكتب ويؤلف تحت كلًّ منهما يما يعني أو يوحي بأنهما مختلفتا الدلالة، كما يفعل أستاذ الأدب الحديث فرانك كيرمود مثلاً سنة 1972 في محاضرة تظهر بعدها بكتيّب صغير تحت عنوان (Novel and Narrative)، ينتشر خلال العقدين الأخيرين استخدام الكلمتين أو المصطلحين من الكثير من النقاد والباحثين والمؤلفين على أنهما مترادفان، أو على الأقل يقتربان من أن يكونا كذلك.
فلماذا ننسى، إذن، أو لا نقدّر الجرأة في التعامل مع كل شيء في العمل الأدبي، بما في ذلك دخول المغامرات القائمة على تجاوز محاذير وممنوعات ومرفوضات، والتجريب، والخروج على نظريات، وطروحات مناهج حين يكون ذلك في عملية تطبيق تلك النظريات والطروحات، وحين يكون بوعي وانطلاقاً من مبررات حتى وإن لم نقتنع بها نحن؟ لماذا لا نفعل، كما فعل في الغرب، غولدمان في بنيويته التكوينيه، وكما فعل، في النقد العربي، حميد لحميداني مثلاً في “أسلبة الرواية”؟ لعل هذا يرجعنا إلى واحدة من بديهيات النقد ومعالجة النصوص، وهي القول “بإمكان الناقد أو بإمكاننا أن نرى نقاداً مختلفين يعالجون نفس النص بأساليب مختلفة دون أن نشعر أنهم خرجوا عن المنهجية التي نحن نطالب بها”([10]). وإذ نعي جميعاً أن ليس هناك قراءة واحدة للنص الإبداعي الواحد، فإن ما يؤيد تعدد المعالجات، وتعدد التطبيقات النقدية على النص الواحد، “أن طبيعة النص هي التي تحدد المنهج الذي يجب أن يطبقه الناقد على ذلك النص، لكن مسؤولية الناقد هي أن يكون مثقفاً ثقافة عميقة وأن يكون مطلعاً على كل هذه المدارس والمناهج لكي يمارس مع نص معين منهجاً معيناً، وطريقة معينة”([11]). وإذا كان على الناقد أن يعي المناهج المختلفة، وأنّ لكل نص منهجاً أو مناهج تناسبه، وأن لكل ناقد أن يختار، للتطبيق، من المناهج ما يقتنع به وما يراه مناسباً للنص أو النصوص التي يتناولها، كما أن لكل ناقد أن يتنقل من منهج إلى آخر بانتقاله من نص إلى آخر. وإذا كان منطقياً قول الدكتور سلمان الواسطي من أن “على الناقد أن لا يكون متنقلاً وتوليفياً في المناهج”([12])، وقول الدكتور جابر عصفور: “يمكنني أن أقول إنني لست مع الأخذ من كل مدرسة، فهذه تلفيقة تؤدي إلى الفوضى وتضارب المفاهيم”([13])، فإن ما قد يختلف كلياً أو جزئياً عن ذلك قد لا يعني لا منطقيته، كما هو حال قول الدكتور عناد غزوان: “لا يشترط في الدارس أو الناقد أن يكون صاحب منهج واحد في البحث والدرس والتحليل، ولكن حذار من اللامنهج”([14])، بل قول آخرين، في حالات ومبررات معينة، بإمكانية الجمع أو التوليف ين المناهج والمقتربات حين يكون هو ذاته ممنهجاً كا فعل في الغرب غولدمان وشولز وغيرهما، خصوصاً إذا ما ارتضينا بمن يرى “أنها كلها مناهج نسبية في فاعليتها، كلها قراءات قد تضيء جانباً، أو جوانب، من النص، وقد تتعرف على بعض أسراره الداخلية، ولكنها تعجز جميعاً عن الإحاطة به واستيعابه لكه والتوصل إلى حقيقته النهائية، إن كانت له مثل هذه الحقيقة”([15]).
( 4 )
إذن ليس من عيب في أن يختلف النقاد العرب في اختيار المنهج الذي يقتنعون به، وليس من عيب في أن يختلفوا في تطبيق المنهج الذي يختارونه، ولا نجد من عيب في أن يجتهد الواحد منهم في تطبيق ذلك المنهج، أو أي مقترب ضمنه. ولعلنا نتخطى هذا القبول لنستغرب، إن لم نستهجن، إنْ لم يحاول كل ناقد أن يجتهد في تطبيق هذا المنهج أو ذاك. “فكل ما أعان القارئ على أن يرى جوانب متعددة من حياة الأثر الأدبي كان نقداً ذا أثر… الفن شيء موضوع للتجربة، ومهمةُ النقد على الجملة أن يسعف على بلوغ تلك التجربة”([16]). المهم هنا أن نعي القول: “هناك طريقتان لتقويم أي نص أدبي: الأولى هي الطريقة التحليلية، والثانية هي الوصفية. ويعبر بعض النقاد عن هاتين المدرستين باستخدام مصطلح وصف الأدب من (الداخل)، أو وصفه من (الخارج)”([17]). وكما كان للنقد الوصفي، الذي كان هو المهيمن، إن لم يكن الوحيد، لمئات السنين، مداخل وطرق تطبيق قد لا تُحد ولا تحصى، فإن النقد التحليلي، الذي كاد يصير بعد ذلك هو النقد فقط، لا يعني أن يتفق نقاده، على الأقل تطبيقياً، على طريقة واحدة في التبني والاختيار والممارسة. هذا ينسحب- وهذا أمر طبيعي في ميدان مثل ميداني الأدب والنقد- على مذاهب الأدب وطرق كتابته، وعلى مناهج النقد وطرق تطبيقها. وتوافقاً مع هذا كان التداخل ما بين الفروع من مذاهب ومناهج ومقتربات. ولعل مما يقلل من احتمالات الاضطراب، الذي قد يسببه التداخل أحياناً بين المناهج والأساليب والنظريات في ميادين معرفية أو علمية مخلتفة، أن مثل هذا التداخل، في النقد والتطبيق النقدي، بين المناهج النقدية المعاصرة، من شكلانية ونقد جديد إلى بنيوية وتفكيكية أو ما بعدها، أنها جميعاً تقريباً تعترف أو تقوم على الإقرار بالآتي: أولاً- إن موضوع النقد هو النص، وليس ما هو خارج النص؛ ثانياً- إن المرجعية اللسانية قادت إلى رؤية النص الأدبي على أنه ذو طبيعة لغوية قبل كل شيء؛ ثالثاً- الحرص على علمية التعامل النقدي مع النصوص. هنا نجد أن نجتهد في فهم منهج ما أو في تطبيقه، ما دامت تنطلق من وعي بما يفعله الناقد لهو أجدى، في عملية التعامل مع النصوص وفي الوصول إلى النتائج، من التبنّي الصارم والمبالغ فيه للمنهج والنظرية ومن الإيمان بما قد يُسمى النقاء المنهجي. ربما من هنا نلحظ الكثير من الإخفاق لدى نقاد عرب يستعيرون المناهج والمفاهيم والرؤى الغربية المختلفة المصاغة في ضوء تحليلات ودراسات وتطبيقات على روائع غربية بعينها، فيطبقونها على أعمال هي، مستوىً وطبيعةً وغنىً ونضجاً، لا تتلاءم مع تطبيق مثل تلك المناهج والطرق مع ضمان تحقيق النتائج. وهذا الإخفاق كثيراً ما نجد أمثلة عليه عند الكثير من النقاد المغاربة، مع روعة ما فعلوه وقدموهه للنقد العربي الحديث من تعريف بمناهج وتيارات ومصطلحات.
فهذا أحد أعمدة النقد العراقي، فاضل ثامر، لم يولّف بين منهجين على علاقة ببعضهما فحسب، بل ذهب أبعد من ذلك حين كان له في لقاء قصير تصريح لم ينتبه أحد لصراحته وجرأته الواثقة وغير العادية، إذ اعترف بوعي وقصدية بأنه لجأ إلى توليف بين مناهج متعارضة خرج منه بما سماه منهجاً شخصياً، فقال: “إنني حاولت أن أتجاوز لحظة الانبهار بهذه المناهج [الحداثية] واجتراح منهج نقدي هو توليفة بين منظورين متعارضين، الأول هو التحليل السوسيولوجي للنص الأدبي الذي ينتمي إلى المقاربات الخارجية والمنظور الشكلاني، وينتمي إلى إطار المقاربات الداخلية والنصية. وقد حاولت من خلال هذا المنهج الشخصي أن أتفحص البنى الداخلية للنص الأدبي بطريق المناهج الحداثية، ولكني لم أسقط الدراسة الاجتماعية ولم أهمل المحمولات المعرفية الخاصة بالمعنى والدلالة للنص الأدبي”([18]).
والواقع أن فاضل ثامر كان من أوائل النقاد العراقيين الذي انفتحوا على المناهج الحديثة، وعرف مرجعياتها وأطروحاتها والكثير من الجدل الذي رافق نشأتها وتطورها وأعلامها ومطبقيها. وهو ما فعل ذلك منها مترجمةً فحسب، بل أحياناً منها في لغاتها أو منها منقولة إلى اللغة الإنكليزية التي يجيدها، وأكثر من ذلك أنه قدم بعضها للقارئ العربي وناقشها وربما نظّر فيها حين تجاوز تلقي آخرين السلبي لها. وهكذا هو استفاد في تعامله مع النصوص الأدبية وخاصة السردية، من البنيوية والألسنية والأسلوبية وغيرها، ولكن من خلال ما يراه ملائماً منها وربما ما يستطيع أن يكيفه أو يولّفه منها مع غيرها. وهو يصرح بوعي وثقة وعدم خشية ممن قد يرفض موقفه النقدي فيقول: “إن رؤيتي النقدية تندرج ضمن مسعى نقدي عربي يحرص على المزاوجة بين المنظورين الجمالي والاجتماعي في خطاب السرد العربي الحديث، وهو يمثل مواصلة لتجربتي النقدية خلال أكثر من ثلاثة عقود”([19]).
وإذا لم يتواصل ياسين النصير مع فاضل ثامر، في مثل هذه المسيرة، فإنه في تعامله مع المناهج والتيارات النقدية الحديثة لم يتخلّ عن الاجتهاد والتطبيق الخاص، وكما يمكن رصد بعضه في الكثير من كتاباته، مع ما قد يؤخذ على بعض آخر من كتاباته من مبالغة في تحميل النصوص ما تحتمله، من جهة، ومن سرعة تخلًّيه عما يتبناه.
من المهم هنا تثبيت أن المواقف والاشتغالات النقدية الخاصة، كما جسدها فاضل ثامر، وبشكل غير مطرد ياسين النصير، لا يأتي من فراغ أو عدم وعي ولا من انفتاح مجرد أو سطحي، بل هو يأتي غالباً من تخطي هؤلاء النقاد، الذين تجرؤوا على التبنّي أو الاجتهاد، لمستوى الانفتاح المجرد على المناهج الحديثة إلى ما هو أبعد من ذلك. ولكن المفارقة أن هذا التبنّي لم يحل دون بقاء بعض هؤلاء على علاقة بالمناهج القديمة أو التقليدية بهذه الدرجة أو تلك. ومن هؤلاء الناقد الكبير شجاع العاني، الذي نعدّه من أكثر النقاد العراقيين تميّزا، مع كل ما يُثار حوله من خلاف أحياناً، ومن أكثرهم إيماناً بالنقد الحداثوي بالرغم مما عرفناه له من كتابات تنتمي نقدياً إلى المناهج التقليدية. فمع أن الناقد كان تقليدياً بشكل شبه مطلق في كتابه “المرأة في القصة العراقية”، كان مقنعاً فيه تماماً وقدم من خلال ذلك واحداً من الكتب اللذيذة عن القصة العراقية. ومع ما قد نأخذه نحن وغيرنا عليه في ذلك، فإنه لم يتبرأ، عن وعي أو غير وعي، من بعض مهيمنات ذلك النقد في كتب أخرى طبق فيها مناهج حديثة، مثل كتابه “البناء الفني في الرواية العربية في العراق”. فقد تبنى فيه منهجاً نصّياً هو المنهج البنيوي الذي كان يعني ضمن ما يعنيه، وكما تعني بقية المناهج النصية، التعامل مع النص وجماليات النص ولغته، وإبعاد كل ما هو خارج النص من العملية النقدية التحليلية. في الواقع أن تجربة هذا الناقد إنما تجسّد مساراً نقدياً مقنعاً، فقد بدأ شجاع العاني في الستينات ناقداً سياسياً، بينما يقول عن الفترة التالية: “لكن مع السبعينيات أو بداياتها ثم في الثمانينيات اكتشفنا جميعاً فُقْرنا في دراسة الجوانب الفنية والجمالية. وصادف هذا الاكتشاف مع هبوب رياح البنائية على مجتمعاتنا، وربما كان الوضع السياسي عاملاً مساعداً في الانكفاء داخل إطار البنيوية الهيكلية والإنشائية. ولاحظْ أنني لم أسمِّ كتابي عن الرواية بالبنيوية بل بـ(البناء الفني)، وهو مختلف بعض الشيء عن البنيوية، إنه يفيد من كشوفات البنائية من دون أن يتبناها بالكامل… [وهو تبعاً لذلك يقول:] يمكن أن أصنف نفسي بأنني قومي عربي ماركسي (ولكني ليبرالي) أفخر بانتسابي إلى الثقافة الإسلامية”([20]). في بعض كتبه، مثل “البناء الفني في الرواية العربية في العراق”، الذي أراه شخصياً الممثل المكتمل والنموذجي لشجاع العاني ناقداً قديراً ومتميزاً وصاحب رؤى أساء البعض فهمها، ينوّع الناقد مرجعياته النقدية النظرية بجرأة ووعي، فيعتمد مناهج ومقتربات ومفاهيم، كلاً حسب الجانب أو العنصر الفني الذي يتناوله تطبيقياً. ويبدو أن الناقد، وبعد تجربة قرائية وبحثية معروفة بسعتها، قد اكتشف ما سماها “الهوة الكبيرة بين خطابنا النقدي والقضايا الفنية والجمالية من جهة، وبين هذا الخطاب والخطاب النقدي الحديث ومناهجه ومقترباته. ذلك أن معظم الدراسات التي تناولت القص في الأدب العربي الحديث في العراق، بأشكاله الطويلة والقصيرة، اقتصرت على مضامين هذا القص وقضاياها التاريخية، وأهملت إلى حد كبير الجوانب الفنية والجمالية، وخضعت للمناهج الذوقية والانطباعية والبيوغرافية والاجتماعية، التي لا زالت سائدة في نقدنا الأدبي بصورة غير منظمة، ولاسيما في دراستنا النقدية الأكاديمية”([21]).
كأن الصكر يقف محتاراً بين المناهج المختلفة، حين يجتاحها متنقلاً من واحد إلى آخر وكأنه في حيرة، ولكنها ليست متاهة، نقدية أو قراءية، إن صح التعبير، ليستقر أخيراً عند مناهج القراءة والتلقي التي نقلت القراءة من التلقي السلبي إلى الفعل النقدي الإيجابي من خلال اندماج الذات القارئة وفعلها بالنص للوصول إلى المعنى أو ربما تحقيق المعنى، وفيه “تحليل النص تستند على نحو الأساس إلى (فعل) المتلقي في إدراكه لعمل أدبي ما”([22]). وقد كان للناقد قبلاً موقف يثير عندنا الفهم والتفهّم لا عدم الفهم والرفض كما قد يفعل البعض، فهو بعد أن يثبّت ما قد يكون حقيقة بالقول: “ولعل أهم انتقالة متأثرة بالمنهجيات الحديثة هي التي نقلت ميدان النشاط النقدي إلى النصوص ذاتها، بعد أن كانت الكتابة النقدية التقليدية تكتفي بالشرح والوصف والتفسير ثم تطلق المعيارية التي يحركها الانطباع غالباً”، يضيف بالتفاتة واعية وخاصة: “ولكن ذلك لا يعني أن النقد العربي الجديد يرفض فهم الحياة من خلال الأدب، لكنه يرى أن ذلك يتم عبر (فهم النص) وليس العكس،أي أن الخلاف هو حول (كيفية) النظر إلى العالم. فالنقد يبدأ من فهم العالم ليفهم النص، بينما يقوم النقد الجديد برؤية عكسية تماماً”([23]).
وهي قد أتاحت له، على ما يبدو فسحة من الحرية والاجتهاد في قراءة النصوص، دون تضحية صريحة وحقيقية بالالتزام المنهجي، والتي يبدو كأنها قد عززت سياحة الصكر مع التنوع في القراءة والنقد، وأبعدته عن الجمود والتعلق الدوغمائي الذي أوقع الكثير من النقاد العرب بمطب الصح والخطأ الذي لا يتواءم غالباً مع طبيعة الأدب، وتبعاً لذلك مع الميدان المعرفي التطبيقي الذي يتعامل مع الأدب، نعني النقد.
ووإذا ما كان كاتب هذه السطور قد خرج ابتداءً من عباءة أستاذه الدكتور علي جواد الطاهر، الذي سنأتي عليه بعد قليل، فإنه قد تبنى بشكل أكثر وضوحاً، أو على الأقل حاول أن يكون اكثر وضوحاً بعض مناهج النقد الحديث. ولكنه إذ تبنى، في كتابه الذي هو في الأصل رسالة دكتوراه “الرواية في العراق 1965- 1980 وتأثير الرواية الأمريكية” النقد الجديد وكما يتمثل في أفكار بعض أبرز أعلامه، ريتشاردز وإمبسن، وهو النقد الذي كان ضمن أبرز طروحاته الانطلاق من النص من دون آراء مسبقة و” “، يعترف بأنه لم يستطع إلا أن يخرج هنا وهناك عن النص إلى ما هو خارج النص، وكل ما استطاع أن يفعله إزاء ذلك الذي كان يعيه، ولتجنب الخلل الذي قد يقع، هو العودة إلى النص مع تمنّع عن أن يكون لذلك الذي يذهب إليه، مما هو خارج النص، هيمنة في تحليله.
( 5 )
وإذا كان للنقاد الذين انفتحوا على مناهج حديثة وحداثوية أو تبنوها مثل هذه الاجتهادات الخاصة، فلنا أن نتوقع أن يكون التعامل مع تلك المناهج بحرية أكثر لدى النقاد الذين رفضوا أصلاً التسليم لأي منها، كما هو حال الدكتور علي جواد الطاهر وعبد الجبار عباس.
إن التوقف عند أبي النقد العراقي الحديث الدكتور الطاهر، يضعنا أمام تجربة فريدة ولها خصوصية مقرونة بموقفين من نقاد نقده قد يبدوان متناقضين في بعض جوانبهما. الأول يقيّمه على أنه من بين أوائل التحديثيين، إن لم يكن أولهم على الإطلاق، في النقد العراقي الحديث، والثاني ينظر إليه على أنه تقليدي وصفي وربما معياري. وإن دل هذا على شيء، فإنه يدل، عندنا، على أنه بدرجة أو بأخرى من أولئك الذي انفتحوا على النقد الحديث، ولكنه الانفتاح الذي يعود إلى خمسينيات القرن العشرين وستينياته. ولكن بالرغم من أنه لم ينغلق عن التواصل مع مسيرة النقد التحديثية في مصادرها في الغرب وفي انتقالها إلى العرب، فقد كانت له وقفات تحفظ على الكثير من حلقاتها ومناهجها. ويبقى صحيحاً إلى حد كبير القول: “إن الذهنية النقدية للطاهر تتحرك في إطار مرجعي بلاغي غير معياري، بل ذوقي وانطباعي في المقام الأول، كشف فيه عن أسلوبه النقدي غير الوصفي للنص، بل القيمي والتأثري والانطباعي. وكان هذا دأبه منذ بواكير عمره النقدي”([24]). ومع ما قد يبدو في هذا من تناقض محدود، فإن ما يفسره هو ما قلناه ابتداءً عن تجربة هذا الناقد الكبير، وكما قد يوضحه موقفه من سلطات النقد وما يتربت على كل واحدة من مقاربة واشتغال مختلف، كما هو حال موقفه من المؤلف مثلاً. يقول أحد دارسيه محقّاً:
“موقف الطاهر من سلطة المؤلف تحدده اعتبارات لعل من أهمها أنه لم يلغ جميع المقتربات التي تربط بين المؤلف ونصه. فقد كان الناقد ممن يدعون إلى (قراءة) الواقع، ولكنه كان يريد من تلك القراءة ألا تكون ناسخة، بل واعية تعمل على كشف الظواهر الحياتية والتمثيل بها بما يناسب عمقها وشكل مستوياتها بالاستناد إلى قدرة المؤلف الخاصة بإدارة العمل إدارة ذكية، فضلاً عن أنه لم يبالغ في توجيه هيمنة المؤلف نحو قصصه لأنه يعتقد أن خروج القاص عن نفسه يمكنه من الحديث عن الآخرين وكأنه غريب عنهم بل يمكنه من الحديث عن نفسه وكأنه شخص آخر”([25]).
وعموماً، يجمل الطاهر بنفسه موقفه من النقد الحديث ومناهجه عموماً، وتبعاً لذلك اشتغاله النقدي، حين يقولك:
“الخلاصة أن قناعتي التامة أني لا أنطلق من أي من المناهج الكائنة والتي ستكون، ولا يمنع هذا من الإلمام بالمناهج والإفادة منها على مدى ما تعمق أو تقرب من السر، ولكن لكل ناقد منهجه الذي يتكون لديه ثمرة لتجربته وممارسته وتأمله وعلمه وشخصيته، وليست الانطباعية المثقفة المتأنية العالمة بسبّة وأنها لتبلغ الموضوعية حين تأتي ثمرة للعلم. فهي تبدو انطباعية بمقدار ما يمتلك صاحبها من قلم يسهّل الصعب ويجتذب الصديق وغير الصديق”([26]).
ولعل عبد الجبار عباس يقترب كثيراً من الدكتور علي جواد الطاهر الذي يجد أن مقالة عباس النقدية بما يستجمعه فيها من “الذوق السليم والتأني والتأمل والغوص وسبر الغور وبلوغ القرار واستثمار المواد… ذاتية من دون أن تفارق الموضوعية، ذاتية فيما تهب نفسها من أصالة واتساق مع طبيعة العمل المنقود بعيداً عن المؤثرات الخارجية، بعيداً عن مقولات الآخرين ومناهج الآخرين، فما كان عبد الجبار عباس ليتعامل مع الأعمال المنقودة بما يفرضه عليها من الخارج مرة باسم فلان وفلان ومرة خضوعاً للمنهج الفلاني والمنهج العلاني…، على أنه يرحب بما يمكن أن يتسق طبيعياً من الخبرات التي استصفاها الزمن مع النص المنقود… إنه أولاً ليس ذاتياً مطلق الذاتية وفي المعنى السيّئ للذاتية حين تستحيل غرضاً شخصياً وعاطفة شخصية واستجابة للسرعة والتزييف والعشوائية والدعاوة… وهو ليس موضوعياً بالمعنى العلمي للموضوعية، إذ يقف الناقد جامداً ينظر في مادة جامدة… لأن النص الأدبي أوسع وأعمق وأعظم من يقيده منهج من تلك المناهج”([27]).
بقي تعلقاً بالنقاد العراقيين، والعرب عموماً، من أمثال الطاهر وعبد الجبار عباس وآخرين نقول إنصافاً: يحدث كثيراً أن يوصف هذا الناقد أو ذاك بأنه في الستينيات كان ناقداً انطباعياً، والحقيقة أن كل النقاد العراقيين كانوا، قبل منتصف السبعينيات، على علاقة ما بالانطباعية. فمنهم من كان انطباعياً، ومنهم من كانت الانطباعية تهيمن على شغله النقدي، ومنهم من كانت لها حضور، بدرجة ما، في شغله الذي قد لا يكون في عمومه انطباعياً، أو هو يحاول أن يتبنى أحد المناهج الحديثة ضمن النقد التحليلي. ولذا ليس صدفةً أن يكون لأبرز النقاد العراقيين- علي جواد الطاهر، وعبد الجبار عباس، وفاضل ثامر، وشجاع العاني مثلاً- في عملهم النقدي، علاقة حميمة بالذات والانطباع مرةً، وبما أسميناه الاجتهاد في التعامل مع المناهج الحديثة والحداثوية مرةً أخرى. ولعلنا سنكشف عن بعض هذا حين نتناول أحد هؤلاء النقاد في الموضوع القادم.
[1]) ليونيل ترلنك: ما وراء الحضارة، لندن، 1966، ص23. عن إبراهيم محمد جواد: الحداثة في الفكر والأدب، مجلة (النبأ)، ع57، أيار 2007.
[2]) د. صلاح فضل: مناهج النقد المعاصر، أفريقيا الشرق، 2002، ص49.
[3]) M. H. Abrams: Glossary of Literary Terms, Canada, 1981, p167.
[4]) إبراهيم محمود خليل: النقد الأدبي الحديث من المحاكاة إلى التفكيك، عمّان، 2003، ص78-79.
[5]) البحث عن منهج في النقد الأدبي: د. عبد الستار جواد، جريدة (الثورة)، بغداد، 31 تموز 1986.
[6]) Robert Scholes: Semiotics and Interpretaion, Yale University, 1982, p87-109.
[7]) Toril Moi: Feminest, Female, Feminine, in Catherine Belsey and Jane Moore (ed.): The Feminist Reader, London, 1997, p105.
[8]) س. دبليو. دوسن: الدرامه والدرامي، ترجمة د. عبد الواحد لؤلؤة، موسوعة المصطلح النقدي، بغداد، 1981، ص140.
[9]) Julia Rifkin and Michael Ryan, Literary Antholog, p54.
[10]) المصطلح والمنهج وجهان لإشكالية النقد المعاصر، ندوة الأقلام، مجلة (الأقلام)، بغداد، ع2، شباط، 1987، ص27. ص17- 29. والكلام لجبرا إبراهيم جبرا.
[11]) المصدر السابق، ص28. والكلام لسلمان الواسطي.
[12]) المصدر السابق.
[13]) د. جابر عصفور: آفاق، 1986.
[14]) عناد غزوان، القادسية، 1986.
[15]) سامي مهدي: سلطة النص وسلطة القارئ، جريدة (الدستور)، عمّان، 11 كانون2 2008، ص4.
[16]) ديفيد ديتشس: مناهج النقد الأدبي، ص599.
[17]) د. عدنان خالد عبدالله: النقد التطبيقي التحليلي، بغداد، 1986، ص14.
[18]) فاضل ثامر: تجاوزت مرحلة الانبهار بالمدارس النقدية الغربية، حاورته رحاب الهندي، جريدة (المشرق)، بغداد، 29 كانون1 2004.
[19]) فاضل ثامر: المقموع والمسكوت عنه في السرد العربي، دمشق، 2003، ص6.
[20]) فاضل ثامر: حوار د. قيس كاظم الجنابي، جريدة (الأديب)، بغداد، ع69، 27 نيسان 2005، ص18- 19، ص18.
[21]) د. شجاع مسلم العاني: البناء الفني في الرواية العربية في العراق، 1- بناء السرد، بغداد، 1994، ص5.
[22]) ناظم عودة خضر: الأصول المعرفية لنظرية التلقي، دار الشروق، عمّان، 1997، ص148.
[23]) حاتم الصكر: الكتابة النقدية في ضوء المنهجيات الحديثة، من كتاب: حركة النقد الأدبي في الأردن، أوراق ملتقى عمّان الثقافي الثالث 22-25 آب 1994، عمّان، 1994، ص60. [24]) ناظم عودة: الطاهر بين ثقافة باريس وميراث الرواد، جريدة (الأديب)، بغداد، ع83، 3 آب 2005. ص18- 19، ص18.
[25]) د. فاضل عبود التميمي: سلطة (المؤلف) القصصي عند علي جواد الطاهر، جريدة (الأديب)، بغداد، ع83، 3 آب 2005. ص16.
[26]) . د. علي جواد الطاهر: منهجي أنني ضد المنهج، حوار عدنان الصائغ، مجلة (حراس الوطن)، بغداد، ع3، نيسان 1988، ص30-33، ص32.
[27]) عبد الجبار عباس: الحبكة المنغّمة، إعداد د. علي جواد الطاهر وعائد خصباك، بغداد، 1994، ص15-16.