المنفى والآخر، نسخة معتمدة

المنفى والآخر
في رواية المنفى العراقية
د. نجم عبدالله كاظم
مقدمة
أود بدايةً التعرض باختصار لكتابٍ لي كتبته عن المبدعين العراقيين عموماً، ولكن بسبب طبيعة موضوعه كان لمبدعي الخارج أو المنفى الحضور الأكبر فيه. وإذ أعترف بأني أخرج فيه جزئياً من النقد إلى ميدان الدراسات الثقافية، ولكن دون مغادرة للأدب، فإني لأجد فيه مدخلاً لما سأتعرض له في تناولي لروايات المنفى. الكتاب هو “هومسك”([1])، وكان عناونه في الأصل “حب الوطن حين يكون أكذوبة في الإبداع”. وفي ظل ما أراه من ذاتية المبدع، أي مبدع، وحبه لنفسه أكثر من أي شيء في الدنيا، من عائلة وأهل وبلد، وجدتُ الكثير من المبدعين العراقيين، وإلى حد كبير العرب، أدباءَ وفنانين، لاسيما الذين تركوا الوطن مجبرين أو مختارين، في التعبير عن حب الوطن والحنين إليه، دون أن يؤدوا أي شيء له، في وقت يكون فيه بحاجة إليهم أكثر من حاجته لإبداعهم. ورأيت عوامل أو أسباب ذلك الآتية:
الأول: الحب الحقيقي للوطن، والمعاناة من الابتعاد عنه.
الثاني: إسقاط فرض حبّ الوطن ووجوب الإخلاص له.
الثالث: متطلبات المهنة وكسب الجمهور.
الرابع: التغطية على النرجسية وحب الذات.
الخامس: تأنيب الضمير، والإحساس بالتقصير تجاه الوطن.
في ضوء هذا الذي أعترف بأننا غالباً لا نتفق عليه، نتوقع أن يحاول المبدعون، وهم هنا الروائيون، رسم صعوبة الحياة في المنفى والتعبير عن معاناتهم فيه في رواياتهم، مما لا أراه تمثّلاً لواقع فعلاً، وإلاّ لماذا لا يعود أحد منهم إذن؟. سنحاول أن ننستقرئ بعض هذه الروايات، لنرَ هذا. ولكنْ قبل هذا، لأبدأ بالملاحظات الآتية التي أراها ضرورية منهجياً:
الملاحظة الأولى: شاعت في النقد العراقي تسميات أو مصطلحات مختلفة للأدب الذي تنتمي إليه روايات المنفى، فكان أدب المنفى، وأدب الغربة، وشاع أدب الخارج في مقابل أدب الداخل.
الملاحظة الثانية: نعني بروايات المنفى الروايات الصادرة لروائيين يعيشون في المنفى.
الملاحظة الثالثة: سيقتصر تناولنا على روايات العراقيين المقيمين في البلدان الأجنبية غير العربية.

تمهيد
مسيرة رواية المنفى العراقية، وصورة المنفى والآخر فيها
لكي نعرف أهمية هذا الذي نتناوله، وأهمية ما قد نتوصل عليه، نحاول أن نبيّن ابتداءً حجم روايات المنفى أو الخارج، ضمن الرواية العراقية، وتبعاً لذلك حجم الروايات التي قدمت المنفى والآخر منها، فمن هذا تكون مشروعية تمثيل هذه الروايات للرواية العراقية أو عدم مشروعيته.
في المرحلة الأولى الممتدة من النشأة التأريخية للرواية العراقية بين عامي 1919 و1921 إلى ما قبل صدور الرواية الفنية الأولى عام 1966، والتي صدرت فيها ما يقارب (150) رواية، لم يكن من روائي معروف في المنفى، وفي النتيجة لم تصدر رواية فيه، ولكن المنفى والآخر ظهرا مرتين. الهند والهندي في رواية الرائد محمود أحمد السيد “جلال خالد”- 1928، والإنكليزي وهامشياً أمريكا في رواية ذي النون أيوب “الدكتور إبراهيم”- 1939، بينما حضرت أفريقيا في المحاولة الروائية الأولى “الرواية الإيقاظية”- 1919- لسليمان فيضي التي هي ليست رواية تماماً.
في المرحلة الثانية الممتدة من صدور الرواية الفنية الأولى “النخلة والجيران” عام 1966، إلى عام 1980، التي صدر فيها ما يقارب (150) رواية أيضاً، هناك أكثر من (10) روايات لأدباء الخارج أو المنفى. ولكن المنفى والآخر لم يحضرا إلا في روايتين أو ثلاث فقط منها. لكنّ أهمية ما صدر يكمن بأن روايتين قصيرتين لسميرة المانع التي تعيش في بريطانيا، قدمتا أول تجربة مع المنفى، وتحديداً الغربي، بشكل عملي وفاعل، كونهما قدّمتا أول مواجهة بين الشرق والغرب في الرواية العراقية.
كان من الطبيعي، في المرحلة الثالثة، الممتدة من عام 1981 إلى ما قبل ااحتلال العراق عام 2003، أن تكون هناك طفرة في عدد الروايات الصادرة في الخارج، توافقاً مع عدد الروايات العراقية الصادرة من جهة، ومع حركات النزوح والهجرة والهرب التي بدأت مع شن النظام حملة قمع على القوى الوطنية المختلفة معه نهاية السبعينيات على القوى الوطنية، وازدادت كثيراً مع الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات، ثم تفجّرت في ظل الحصار غير المتحضر على الشعب العراقي. فمن بين ما يقارب (450) رواية صدرت خلال هذه الحقبة، كان ما يقارب (80) منها صادرة في الخارج، قدمت أكثر من (10) منها المنفى والآخر.
وتقدّم المرحلة الرابعة، الممتدة من احتلال العراق عام 2003 إلى الوقت الحاضر، عام 2015، المادة الحقيقية لأي دارس لرواية المنفى العراقية، مع عدم التقليل من أهمية المرحلة السابقة بطبيعة الحال، فضمن ما يقارب (700) رواية صادرة، زاد عدد ما هو لأدباء المنفى أو الخارج على (250)، ولا يقلّ عدد التي الروايات تمثلّت المنفى والآخر منها عن (50).
في جميع المراحل السابقة انشغل كُتّاب المنفى في رواياتهم بالوطن أكثر من انشغالهم بالمنفى وطناً للمنفي، كما تمثل ذلك في روايات وغائب طعمة فرمان، وبرهان الخطيب، وفاضل العزاوي، وجنان جاسم حلاوي وهيفاء زنكه، وغيرهم، وبما يعني انشغال الذاكرة لديهم باستعادة الماضي والتأريخ أكثر من انشغال الوعي بالحاضر([2]). لكنهم، على أية حال، تعاملوا مع المنفى، كما موسكو في “المركب”- 1986- لغائب طعمة فرمان، والأهم برأينا أمريكا في “طفل السي إن إن”- 1996- لإبراهيم أحمد، وروما في “محطة النهايات”- 1997- لعارف علوان، والسويد في “الإله الأعور، أو غزل سويدي” لسلام عبود، وقبل هذه كلها لندن في روايتَيْ سميرة المانع “السابقون واللاحقون”- 1972- و”الثنائية اللندنية”- 1979.
في الانتقال إلى المرحلة الأخيرة، الممتدة من 2003 إلى الوقت الحاضر، تأكّد وضع العراق بلداً طارداً تماماً لمواطنيه، فغادرتْه الملايين. وكان من الطبيعي أن يكون، ضمن هؤلاء، المئات من الأدباء والكثير منهم روائيون، وأن يكون عدد الروايات التي قدمت المنفى والآخر كبيراً. وسنتوقف عند نماذج من روايات هذه المرحلة، مع الرجوع أحياناً إلى بعض روايات المرحلة السابقة، لما بينهما من علاقة. إن استقراءً لهذه الروايات يكشف لنا عن أن صور المنفى وما يستتبعه من حياة المنفيّ أو المغترب فيه وعلاقته بالآخر، تتوزع على الأشكال الآتية: صورة المنفى مكاناً عدائياً، وصورة المنفى مكاناً جاذباً وربما بديلاً. وقد تحضر بقلّة صورة المنفى مكاناً حيادياً.

صورة المنفى مكاناً عدائياً
من الطبيعي، والفرد العراقي يهرب من الوطن مكاناً قاسياً ملؤه المآسي والمعاناة بكل أنواعها، أن يتجه نحو ما يحلم به مكاناً بديلاً مؤقتاً وربما دائمياً يِفترضه مصدر سعادة ومعيشة مريحة وأناس طيبين واكتفاء اقتصادي وحرية وتحضر، وقد يذهب وهو يحلم به وطناً بديلاً. لذا تكون الصدمة قوية حين يكون الحال غير هذا، وحين نقول هذا فإننا نعني ما يقدمه لنا الروائي ويرسمه، في الروايات، وليس المنفى على أرض الواقع، فنحن لا نعرف أصلاً إن كان هذا يلتقي مع ذاك أم يفترق عنه، خصوصاً وقد كثُر حضور المنفى في العديد من هذه الروايات بوصفه جحيماً آخر، أو على الأقل مكاناً طارداً آخر، في وقت لم نرَ فيه روائياً أو غير روائي، إلا نادراً جداً، صُدم فعلاً ببلد المنفى أو المهجر، فغادره وعاد إلى الوطن.
فحين يصل بطل رواية “أنا ونامق وسبنسر” لشاكر الأنباري إلى الدانيمارك، يقول له صديقه المغترب الآخر (نامق):
“لا تظن أننا نعيش هنا في جنة… قبل أسبوع تحول شارع نوربرو إلى جحيم، في مواجهات حامية بين الشرطة وأبناء الجالية العربية والمسلمة… ثَمّةَ عنصرية كامنة، عنصرية حضارية إن صح التعبير، لا تظهر في التعامل المباشر إنما بصور وأشكال ملتوية.”([3])
في كل الأحوال نحس أن روائياً مثل شاكر الأنباري حين يفعل ذلك ويرسم المنفى بصورة سلبية، فإنه يفعله ليس لأنه كذلك، بل لأنه يريده أن يظهر لنا هكذا. وهي صورة برأينا تقابل الصورة التي رأى إدوارد سعيد أن خطاب الاستشراق قد رسمها للشرق، كونه لم يقدّم الشرق الحقيقي بل شرقاً آخر يراه المستشرق أو الغربي عامةً أو ربما كما يريده أن يبدو([4]). فالمنفى في الروايات العراقية المعنية، وهو عادة غربي، وكما هو إلى حد كبير في الرواية العربية عموماً، يقدم غرباً هو ليس بالضرورة الغرب الحقيقي، بل غرباً آخر يراه الروائي أو ربما كما يريده أن يبدو، لغاية ما. لنقرأ كيف ينقل صديق بطل الرواية له ما حكته له ابنته (كارين)، عن حياتها مع أمها الدانيماركية وعشيق أمها اللبناني:
“ذات ليلة، وحين عادا سكرانَيْن من المدينة، نامت أمي مباشرة، وكنت أنام وحدي في سريري بغرفة مجاورة. فما هي إلا لحظة بين النوم واليقظة حتى شعرت بجسد يندس ورائي، وحسبتُها أمي في البداية، وهي كثيراً ما فعلت ذلك سابقاً. لكنني شعرت بيد خشنة ليست يد أمي تتسلل إلى لباسي الداخلي، وبقضيب صلب يحتك بمؤخرتي. قفزتُ من الفراش بقوة، وأضأت النور ووجدت سامر واقفاً قرب السرير عارياً إلا من لباسه الداخلي.”([5])
فهنا نتساءل هل معقول أن تتكلم بنت مع أبيها بهذا الشكل؟ ثم هل معقول أن ينقل أب عن ابنته هذا إلى صديقه، إن لم تكن هي من قصديةِ أن يرسم الروائي المنفى بالشكل الذي يريده هو؟
في رواية “تحت سماء كوبنهاكن”، لحوراء النداوي، تُصدم الطفلة العراقية بحالة المنفى مبكراً. في الواقع “لم تشعر الطفلة هدى بالاغتراب عن المكان الذي ولدت فيه ولم تكتشف ما يخبئه من مشاعر عنصرية موجهة ضد اللاجئين إلا ساعة رفض كلاوس الطفل الاشقر الدنماركي ان تنظم هدى الى فريقه في المدرسة”([6])، وكل ذلك يأتي مباشراً وصريحاً حين يقول كلاوس لها : “أنا لاأريد أن اكون معك”،وعندما تستفسر عن السبب يرد ببساطة :”جدتي تقول عندما تكبر لاتتزوج من السودوات..وأنتِ بشعر اسود،إذن انتِ سوداء.”([7])
وإذا ما أحس مغترِب حوراء النداوي بالعنصرية وبرفض الوطن أو المكان البديل المفترض والآخر له مبكراً ليكتسب بعض مصداقية، فإن مغترب الروائي إبراهيم أحمد في “طفل السي إين إين” يعبر لنا عن معاداة المنفى له بعد سنين طويلة من العيش فيه والزواج منه وإنجاب الأولاد، ليكون التساؤل المشروع: لماذا بقي إذن كل هذه المدة؟ وهذا التساؤل الموجّه إلى الشخصية المتخيَّلة في رواية إبراهيم أحمد، وفي روايات أخرى، يعيدنا إلى التساؤل الموجه إلى الشخصية الحقيقية المتمثّلة بالمبدع الذي كررناه كثيراً في (هومسيك): لماذا يبقى كل هذا السنين هناك إذن؟، والجواب بقسوة الوطن الأصلي مثلاً، لن يكون مقنعاً، وتحديداً حين نرى العراقي في منفاه مهاناً ومرفوضاً، وكما ينقل لنا بطل الرواية:
“بعضهم ينظر إليَّ شزراً. ثمة جماعات في أمريكا صارت كراهيتهم للعرب شيئاً بديهياً. موضة شائعة، متداولة كالهيرويين والماريجوانا وبنطلونات الكاوبوي الممزقة من الخلف”([8])، خصوصاً أن واقع المنفى هذا ونظرة الآخرين للمنفيّ السلبية الرافضة له تأتي الزوجَ العراقي الأصل الأمريكي الجنسية من الزوجة الأمريكية بعد أكثر من عشرين سنة من الزواج ليبدو هذا مفتعلاً تماماً. إذن هو تعبير عن شيء آخر غير هذا، هو عندنا نوع من تأنيب الضمير الذي لا يكفّ عن مضايقة الروائي على الخدر الذي لا شك أنه، شأنه شأن الكثيرين من المهاجرين العرب المقيمين في أوربا وأمريكا، يعيشه بعيداً عن الوطن بأزماته وعموم معاناته، فيجعله ينقل لنا أن المنفى قاسٍ وأن المنفيّ يعاني فيه.
أما محمود البياتي فيواجه عنصرية الآخر بشكل مباشر وقاس وغير حضاري، “فالمهاجرون الشرقيون في رواية (رقص على الماء)، وهم هنا العرب أو العراقيون في السويد، يُوضَعون في مجمعات سكنية معزولة عن مجمعات المواطنين وأحيائهم السكنية.”([9])
في ظل واقع المنفى هذا، كما يعبّر عنه المتخيل الروائي العراقي، كان من الطبيعي أن يعلن بعض المغتربين والمنفيين عن رفضهم له، وطناً بديلاً كان أم لم يكن، ولكن في المتخيّل وليس على أرض الواقع، ليأتي الحنين إلى الوطن والرغبة بالعودة إليه. لكن مثل هذا، برأينا، حنين مفتعل، ما كان ليقنعَنا وأمام المغترب، روائياً كان أم شخصية روائية متخيّلة، إمكانية العودة إلى الوطن، على الأقل في فترات معينة أو بشكل مؤقت. ولعل أحد أكثر التعبيرات الصادقة عن زيف مثل هذه الرغبة يرِد في رواية، وهي “فندق كويستيان”- 2014- لخضير الزيدي، حين تقول إحدى الشخصيات عن واقع عاشه العراقيون ورأيناه من مبدعي المنفى ومثقّفيه العائدين: “جرثومة البلد تصيبهم بخيبات كبرى، ثم سرعان ما يعودون الى أوطان المنافي، مختصرين بذلك اجازاتهم”([10]). فالعودة لم تتحقق على أرض الواقع، لكن رواياتهم قدمت ذلك تعويضاً عن التقصير وتأنيب الضمير الذي لا يكفّ عن مضايقتهم.
في رواية جنان جاسم حلاوي “شوارع العالم”، “ثمة واقع قاسٍ يتمثّل في الحرب العراقية- الإيرانية من جهة، وفي قمع النظام آنذاك وحروبه الداخلية من جهة أخرى… شخصيات تبحث عن الأمان في شوارع العالم، وخارج حدود الوطن، حتى إذا فشلت في العثور عليه، تعود إلى الوطن…”([11])، لتقول الرواية إن (شوارع العالم) لا يمكن أن تكون بديلاً من الوطن، مع أن مؤلف هذه المقولة، نعني الروائي، وجد البديل واستقر فيه، وهو ما لا يستطيع أن ينفيه قول روايته التعويضي: “الابن الأكبر للأسرة، الذي شارك في الحرب، يهرب من العراق… فيُمنَح [في منفاه السويدي] سكناً موقتاً حتى صدور القرار في شأنه. في انتظار ذلك، يُمضي وقته متسكّعاً في الشوارع… من خلال هذا التسكع، وبعينَي سالم وملاحظته، تُضيء الرواية جوانب من الحياة في السويد، وما يكتنفها من حرية فردية شبه مطلقة، ونظام صارم يهتم بالإنسان أيّاً كانت جنسيّته، و[لكن مع] نظرة استغراب وكراهية للآخر مشوبة بالعنصرية.”([12])
وإذ نكتفي بهذه النماذج من الروايات، نشير فقط إلى أعمال أخرى تلتقي معها، ومنها: “كم بدت السماء قريبة” (2001) لبتول الخضيري، و”ديسكولاند” (2010) لأسعد الجبوري، و”ملائكة الجنوب” (2009) لنجم والي، ومعظم روايات محمود سعيد العديدة التي يحضر فيها المنفى والآخر، إن لم نقل جميعها.

صورة المنفى مكاناً جاذباً أو بديلاً
إزاء الصورة الغالبة للمنفى مكاناً عدائياً، يحضر أحياناً مكاناً جاذباً، وإن لم يكن بالضرورة وطناً أو جنةً إزاء جحيم الوطن، هو يأتي، في بعض الروايات في أقل تقدير، منقذاً من جحيم الوطن، ومستقَرّاً إنسانياً للعراقي المُعاني. فيأتي التلميح غير المباشر أو الحيي للوطن البديل، في بداية وصول بطلة إنعام كجه جي، في “طشاري”- 2013، إلى فرنسا. والحقيقة ربما جاز لنا أن نقول إن إنعام كجه جي أكثر من قدم المنفى بما يقترب من الصورة المتوزانة، وتحديداً في مقارنته الصريحة أو الضمنية بالوطن. يقول راوي “طشاري” من وجهة نظر بطلتها (وردية) الواصلة حديثاً إلى فرنسا لاجئةً:
“ذهب ساركوزي وجاء غيره، مثلما جاء البابا وجاء غيره. لم تتبدل شروط الضيافة المتّبعة مع كل اللاجئين. سكنٌ رخيص وتأمين صحّي ومنحة تغطّي معيشة متقشّفة… ترى في النشرات رعباً يومياً صار معتاداً، أعطنا دمنا كفاف يومنا. بلد فذٌّ ضربته لعنة الفرقة فمسخته وحشاً. تُصلّي له فلا تستجيب السماء. سماؤنا الطيبة الحنون التي لم تردَّ لها يوماً طلباً.”([13])
وإذا ما حضر هذا المكان البديل المريح بشكل غير مباشر وحيي هنا، فإنه يحضر بشكل صريح وبدون مواربة أو تردّد، في روايات قليلة، ومنها “المحبوبات” لعالية ممدوح، “فبطلة الرواية، المرأة العراقية (سهيلة)، وهي في وضع صحي صعب في المستشفى بباريس، تحاط بمجموعة صديقات ذوات هويات أو جنسيات أو خلفيات مختلفة.. ولكي لا يُنظر إلى فعل الصديقات هذا على أنه مجرد تعبير عن علاقة صديقات بصديقة تعيش ظرفاً غير عادي، تدعم الرواية البعد الإنساني للغرب، بشخصية الفرنسية (انجليك) جارة البطلة (سهيلة)- التي تعرض عليها، قبل هذا، الإقامة في بيتها الريفي بقريتها في الجنوب الفرنسي.”([14])
لكننا يجب أن نشير إلى أن اكتمال تحقق المكان البديل وطناً حتى حين يتم، فإنه يبقى منطوياً على منغصات ونواقص.. فإحدى أكثر الروايات تصريحاً بالوطن البديل، “الحفيدة الأمريكية” لأنعام كجه جي، تعلن عن (الخلل) في هذا الاكتساب للوطن البديل، أمريكا، جنسيةً وعيشةً وانخراطاً في الجيش، حين يستيقظ في البطلة، وهي تحضر مع الجيش الأمريكي إلى وطنها الأصلي (العراق)، الانتماء الأصلي فتكون الإشكالية والصراع الداخليان.
وإذا ما كانت المقارنة بين الوطن (البديل) بصورته الإيجابية والوطن (الأصلي) بصورته السلبية، في روايات مثل “محبوبات” ضمنياً غالباً، فإن روايات أخرى لا تتردد في أن تقدم الصورة المطلقة في سلبيتها للوطن الأصلي، بل المشوَّهة له أحياناً، مقابل مثالية المهجر ليكون وطناً (بديلاً) مأمولاً أو متحقّقاً، وكما يفعل صموئيل شمعون ذلك لا بالعراق فقط بل بالعرب جميعاً، وبقسوة وبلا وجع قلب- على حد التعبير العراقي. وتقترب من هذا قليلاً سميرة المانع في “شوفوني شوفوني”، فتنقل الصورة الآتية لوضع المرأة في الغرب، مع استحضار صورة المرأة في الوطن (الأصلي):
“أتعرف أن العجوز شبه مقدسة في الشارع البريطاني؟ تذكرتُ جارتنا العجوز ببغداد، عندما خرجتْ مرة من بيتها، اشتكت من معاملة الناس لها، صاح جابي الباص بها عندما تأخرت في النزول من الحافلة: (ما الذي أخرجك يا أم شيبة؟). يتصورونها انتهت ما دامت غير صالحة للمضاجعة.”([15])
بل إن الكاتبة أكثر من ذلك تشوه صورة المرأة البغدادية في حقبة معروف للجميع أنها بين أكثر الحِقب إنصافاً للمرأة، لا في العراق بل في الوطن العربي والشرق عموماً، نعني السبعينيات:
“أخبرتْهُنّ في يوم من الأيام أنها دخلت للغداء في المطعم الفلاني. شهقن ودُهشن لجرأتها: (هذا للرجال فقط! احذري المرة القادمة). اشتكتْ مستغربة: (ولماذا لا آكل فيه وقد سبق أن فعلتُ هذا بالماضي؟)، أجابت الصديقات بصوت واحد: (هذا بالقديم، أما الآن، فنحن في تراجع… لا يحق لها ارتياد المحلات العامة، خصوصاً بمفردها).
“لا زالت تلبس السواد حزناً على وفاة زوجها. تضع قلادة ملوّنة للتقليل من إزعاج منظرها البائس للرائي… حين أمسك أحدهم بكتف صاحبه… كان ينبّه عليها سائرة بمحاذاتهما، سمِعَتْه يستدير بكامل ثقله نحوها، معلّقاً على مرآها: (انظر. أظن هذه قحبة).”([16])

الخاتمة
عدا الصورتين السابقتين، تتمثل بعض الروايات العراقية المنفى حيادياً، ونعني أنه لا يعبّر عن موقف محدد للشخصية أو الراوي أو الروائي، وهو نادر، وبما يعني أن كل روائي مغترب إنما يعبّر في كتابته عن موقفٍ ما اجتهدنا في تأشيره، وهذا يقودنا إلى النتيجة التي خرجنا بها، وهي أن الصورة الغالبة، أو المهيمنة للمنفى ومعه الآخر هي صورة المكان السلبي الذي كثيراً ما يقترب من أن يكون جحيماً آخر إلى جانب جحيم الوطن الأصلي.


[1]) د. نجم عبدالله كاظم: هومسيك، الوطن في غبار المبدعين، بيروت، 2009.
[2]) انظر فاطمة المحسن: الرواية العراقية المغتربة رحلة مضادة إلى الوطن، موقع (الحوار المتمدن)، 17/6/2002. http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=1762
[3]) شاكر الأنباري: أنا ونامق وسبنسر، دار الجمل، بيروت، 2014، ص32.
[4]) إدوارد سعيد: الاستشراق المعرفة، السلطة، الإنشاء، نقله إلى العربية كمال أبو ديب، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية، ط4، 1995.
[5]) شاكر الأنباري: أنا ونامق وسبنسر.
[6]) مروان ياسين الدليمي: رواية للكاتبة حوراء النداوي: “تحت سماء كوبنهاكن”.. عندما يُصبحُ اغتِرَاب اللاجىء أشبه بعوَقٍ يَتأقلم مَعهُ، موقع (رأي اليوم)، http://www.raialyoum.com/
[7]) حوراء النداوي: تحت سماء كوبنهاكن. عن المصدر السابق.
[8]) إبراهيم أحمد: طفل الـ CNN، دار المنفى، السويد، 1996، ص98.
[9]) د. نجم عبدالله كاظم: نحن والآخر في الرواية العربية المعاصرة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2013، ص120.
[10]) خضير فليح الزيدي: فندق كويستيان، رواية، دار الحريري للنشر والتوزيع، بيروت، 2014، ص25.
[11]) سلمان زين الدين: جنان جاسم حلاوي متسكعاً في “شوارع العالم”، جريدة (الحياة)، لندن، 24/1/2013.
[12]) المصدر السابق.
[13]) إنعام كجه جي: طشاري، دار الجديد، بيروت، 2013، ص251.
[14]) د. نجم عبدالله كاظم: نحن والآخر في الرواية المعاصرة، ص153.
[15]) سميرة المانع: شوفوني شوفوني، مؤسسة الانتشار العربي، 2002. ص14.
[16]) المصدر السابق، ص77-80.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *