المحافظة الموعودة 1

المحافظة الموعودة
ميسلون هادي
قد يكمن في اضطراب العراق سرٌ من أسرار الأمل الأكيد يجب الانتباه إليه بقوة، وهو ذلك الحس الثقافي الوطني المتنامي في مواجهة عدة جهات تتربص بالروح العراقية، بعضها عن سابق إصرار وترصد، وبعضها بحكم الجهل أو الغفلة أو حسن النية، والنتيجة هي أن البناء العمودي للثقافة العراقية ظل برجاً قائماً رغم الخراب، بينما الموجات المضادة للثقافة ظلت محتفظة بطابعها الأفقي العريض.. والصعود صعب كالنزول.. ولكن الأصعب منه أن يحصر المثقف نفسه بين قوسين من الصمت في مثل هذه الفاصلة من تاريخ العراق..
من هذا الباب يحلو النظر إلى القلوب الجميلة لبعض المثقفين العراقيين داخل العراق وخارجه ممن تحاول بكل ما أوتيت من قوة إشعال شمعة في الظلام والتصدي لكل محاولات التجهيل وغسل العقول التي تريد أن تعود بالعراق قروناً إلى الوراء. إن هذه الأصوات العالية لمثقفين وأدباء وصحفيين وفنانين لم تصمت لحظة واحدة في مواجهة هذه الموجة التي صاح منها العراق الغوث. وكل سطر يسطره كاتب نبيل في هذا الاتجاه هو صوت هادر في معركة الشرف التي لن تنتهي ما دامت الأصوات تصدح بالغناء المبرح.. وهاهو ابن البصرة التي طفح بها الكيل، وشاعرها الأصيل طالب عبد العزيز يكتب في الرد على الدعوة الى المحافظة المسيحية الموعودة.. قائلاً بين التهكم والأسى في موعده مع سهل نينوى:
“إذا قُيّض للمشروع هذا النجاح، فلنأخذ بالحسبان أن المحافظة هذه ستكون ملاذا آمنا لكل من تضيق به الحياة، من أبناء شعبنا، في المحافظات الأخرى، لذا فليدخل ضمن قانون تشريعها، أن الرقعة هذه تقبل المسلم وغير المسلم، العربي وغير العربي، لأن كثيراً من المسلمين السنة على سبيل المثال في البصرة والجنوب سيحلمون بالعيش هناك، وكثيراً من المسلمين الشيعة في الرمادي والموصل وربما العرب في كركوك، وربما الصابئة في العمارة والناصرية سيحلمون أيضا.
ستفرز المحافظة (الحلم) هذه طموحات كثيرة، إذ وبسبب من التضييق الديني- السياسي-الاجتماعي- الثقافي- الحضري.. الذيي يعاني منه المثقف الحر، العلماني، ابن المدينة، الخارج من العشيرة، المنبوذ من طائفته، الكاره للحكومة… يتوجب على القانون هذا أن يجد حلا لهؤلاء جميعاً، إذ ليس المسيحي أو الأيزيدي أو الشبكي… من يجد الحرج بالعيش في مكانه، كل هؤلاء يجدون الحرج والضيق والتهديد والمعاناة، فهم يشعرون بوجودهم غير الآمن في ديارهم… [حيث] الموت في الحركة والسعي والسلوك والزي والأكل والشرب والنوم والصداقة وحرية الكلام والاحتجاج”.
الفرار من هذا الوضع الحرج يعني أن تكون هناك فدرالية لإولئك المقموعين في ظل العراق الديموقراطي الجديد الذين يجدون سقف حريته يصطدم برؤوسهم كل مرة يعودون فيها إلى نقطة الصفر للدفاع عن حقوق المرأة والطفل والانسان.. فقد أصبح غاية غايات هذا الإنسان هو أن يعود إلى بيته سالماً، ولا يهم بعد ذلك أن يُحاط بالأزبال والأنقاض والموؤودات اللواتي يُحجبن منذ سن السابعة والثامنة…. أين الفرار من كل هذا الخراب سوى بإنشاء فدرالية كلية تجمع أصحاب الذوق الرفيع من المثقفين الأحرار والعلمانيين الذين ضاقوا بالعيش في مدن تحت الأرض، فراحوا يبحثون عن ضالتهم في أية محافظة متحضرة راقية لا تسيطر عليها الطوائف المتناحرة.. محافظة لا مكان فيها للأحزان ولا للأحقاد والكراهية، ولا يموت فيها الإنسان وهو على قيد الحياة… ستكون هذه الفدرالية سابقة ينضم إليها كل الباحثين عن الجمال والساعين إلى الحرية والهاربين من المر إلى ماهو أمرّ منه، حيث يرحب بهم شاعرنا بمرارة اليأس قائلاً لهم:

  • مرحبا بكم في سهل نينوى كان الأمل ولا يزال يحدونا في أن يكون كل العراق هو هذه المحافظة الموعودة، ولتجتمع كلمة المثقفين وتعلو أصواتهم أكثر وأكثر من أجل ان لا يتحول هذا الحلم الحلو إلى كابوس.

جريدة الناس 2011

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

الأحلام لا تتقاعد

لو أنَّ حدّاداً تعب وهجر مهنته أو نجّاراً شاخ فتوقف عن العمل أو محاسباً بارعاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *