اللغة العربية والتعليق الرياضي

اللغة العربية والتعليق الرياضي

د. نجم عبدالله كاظم
في خضمّ التوجهات الرسمية وغير الرسمية في العراق نحو توسيع معرفة الإنسان البسيط للغة العربية بمفرداتها وبقواعدها الأساسية وتعميق التزامه بها، وبحدود الاستخدام الضروري لها-في أقل تقدير- تسعى جهات وقطاعات كثيرة، وذات اهتمامات مختلفة، كلٌّ حسب اختصاصه أو اختصاصها وحسب المدى الذي تستخدم فيه اللغة، الى تجسيد هذه التوجهات من خلال الممارسة العملية للغة العربية، البسيطة غالباً ولكن السليمة. نلحظ ذلك بوضوح في القوات المسلحة، والصحافة، والإذاعة والتلفزيون، وفي دوائر الدولة، والجامعات، بل حتى في المدارس الابتدائية ورياض الأطفال، وإلى درجة لم نعد معها نستغرب أو نُفاجَأ بأولادنا بمختلف أعمارهم، وهم يتغنون ويتلفظون بالعربية الفصحى، أو لنقل بالفاظ وتعبيرات فصيحة، يكونون قد سمعوها وألِفوا استخدامها- والألفة هنا هي المهمة- في المدرسة وفي برامج الأطفال التلفزيونية.. وربما سمعوها مني ومنك ومن الآخرين.
والحق نقول إن جهات وقطّاعات عديدة قد اندفعت في هذا بإخلاص وبشكلٍ ما هو بالمتطرف فيكون ثقيلا تأبى الآذان استسغته، وما هو بالهين فلا يُنتبه إليه. وإذا كان من المهم الذي يذكر من هذه القطاعات، الفنية والخدمية والرياضية وغيرها، فإن الرياضية على وجه التحديد والتخصيص كانت واحداً من الأوساط الأكثر تاثيراً، وإن كان ذلك بحدود الميادين التي تدخلها. ولنا أن نذكر هنا ونثّمن جهود مؤيد البدري واندفاعه الصادق والجميل والمثمر، إذ عمد الى تعريب كلامه وتقويمه بأسلوب ينمّ عن رغبة وترغيب، لا تكلف وتغريب، فلم نعرف له، من مدة طويلة، إغفالا لقاعدة عربية أو لفظة فصيحة أو كلمة عربية أصيلة، إلا ما جاء سهواً، أو للمزاح، فكان بذلك مثالاً تمنّينا لو احتذاه الآخرون وساروا مساره. لقد فعل مؤيد البدري ذلك، وهو يعلم، ونحن نعلم معه، بطبيعة الجمهور المتلقي لمادته الذي هو في غالبيته من عامة الناس ممن لا يتعاملون كثيراً مع اللغة العربية الفصحى، فكان بذلك، وضمن هذا السياق، رجل فعل مؤثّر. هو في ذلك لم يستهن بالدور الذي يمكن أن يلعبه، كونَه وجهاً جماهيرياً، لإشاعة اللغة العربية الفصحى بديلاً عن استخدام الالفاظ والتعبيرات والمصطلحات الاجنبية والألفاظ والتسميات العامية، الشائعة على ألسنة غيره من المعلقين ومذيعي الرياضة، خصوصاً المصريين والخليجيين، مقتحما هذا الميدان بنَفَس طويل، إذ كان يعي أن جهوده لن تثمر قبل فترة طويلة، وهو ما تحقق فعلاً، فغزا برنامجه الأسبوعي وتعليقاته على المباريات الرياضية الجماهير بأسلحة اللغة السليمة، ليتحقق بذلك الكثير مما يحسب، وسيبقى يُذكر له، وقد انتقل إلى ألسنة الكثير من العاملين في الرياضة نفسها، وبشكل أكثر تخصيصاً ووضوحاً إلى رجالات الإعلام الرياضي، من نقاد ومقدمي برامج ومعلقين.
هنا نصل إلى بيت القصيد في موضوعنا، اذ يبرز وسط هذا كله من يهمل وربما يهدم- لا عن قصد بالطبع- ما بناه ويبنيه مؤيد البدري وآخرون ممن حذوا حذوه، ولنا أن نسمي، باعتباره مثالاً واضحاً على ذلك، المعلق طارق حسن. نحن لا يهمنا هنا تعليقات هذا المعلق الزائدة- مثل (داخل حدود الساحة)- ولا تعبيراته غير الدقيقة- مثل (ضربها بالمباشر)، ولا البديهيات التي يكررها بدون كلل- (مَسْكُ الكرة باليد في كرة القدم غير جائز). كما ليس من علاقة لموضوعنا حضور شخصية طارق المتحقق فعلاً في المجال الرياضي، بل الذي يهمنا هو(عربيته)، بعبارة اخرى لغة الرياضة التي يستخدمها لا الرياضة نفسها. إن طارق حسن باستخدامه الرديء للغة، خصوصاً في عاميتها وأجنبيها وغريبها ومهملها والميت منها- وكل ذلك عنده يتعدى حدود المقبول والمعقول- يكاد يكون صوراً مشوهة من الكابتن لطيف- رحمه الله وسامحه- الذي ما كان يستخدم جملة واحدة عربية سليمة، بل كان لسانه يتوزع ما بين العامية المصرية والتعبيرات أو الألفاظ الأجنبية. وربما كان طارق حسن سيصبح مبرزا بروزَ الكابتن لطيف لو أنه امتلك، في الاقل، حضوره الشعبي. ومرة أخرى لا يهمنا هذا بقدر ما يهمنا الاستخدام السيّئ للغة وإصراره عليه، على ما يبدو. فهو لا يكتفي باستخدام الأجنبي الذي كان شائعاً، مثل (البنالتي) و(الأوت)، ولا التعبيرات الخاطئة وغير الضرورية، مثل (برّه الملعب)، ولا التعليقات المملّة والمكررة، كالتي ذكرناها سابقا، بل هو يصرّ على استخدام الميت من الالفاظ العامية والأجنبية التي كانت شائعة قبل سنين، وقبل أن يقتلها البدري ومن سار مساره في إشاعة الفصحى، مثل الـ(أوف سايد) و(الكول والكوال) و( الطوبة)، بديلا عن الألفاظ العربية السليمة والجميلة: التسلّل، والهدف والأهداف، والكرة، بعد أن صارت شائعة من مدة ليست بالقصيرة، لا في المدارس ووسائل الإعلام فحسب، بل بين العامة والأطفال. فليس صعباً على طارق حسن أن يقول: (نحتاج إلى أهداف أخرى تعزز هدفنا)، بدلاً من (يرادلنا كوال نعزز بيها كولنا)، و(ضربة جزاء) بدلاً من (ضربة بنالتي).. إلخ.
نحن حين نقول ما قلناه هنا فإنما ننطلق فيه من الدور الذي يمكن أن تلعبه الرياضة في إشاعة صحيح اللغة وسليمها، ومرة أخرى لا نظنه صعباً أن يفعل نجوم الإعلام الرياضي ما يفعله نجوم برامج الأطفال مثلاً، خصوصا أن الرياضة تملك ما لا تمتلكه أي وسيلة جماهيرية أو غير جماهيرية أخرى من امكانية التوجه إلى أوساط عريضة من الناس. ولنا أن نأمل أخيرا من طارق حسن أو غيره أن لا يلغي (هدف) البدري بحجة (أوف سايد) غير صحيح.
مجلة (ألف باء)- بغداد، 1992

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

رعب كافكوي في قصص يحيى جواد

رعب كافكوي في قصص يحيى جوادقراءة لمجموعة “الرعب والرجال” في ضوء المنهج النفسيمنشورةأ د. نجم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *