الكاتبات العربيات وروايات الحرب – عزيزة السبيني

قضايا أدبية
الكاتبات العربيات وروايات الحرب ـــ عزيزة السبيني
الموقف الادبي
ساد اعتقاد لفترة طويلة من الزمن أن أدب الحرب هو في المقام الأول أدب ذكوري، لأنه يتعامل مع مشاهد الحرب من دم وقصف وهزيمة وقتال. لكن ظهور عدد من الروايات النسائية بعد هزيمة حزيران عام 1967 يؤكد مدى انهماك المرأة العربية في مصير بلادها وشعبها، ويفترض بهذا النوع من الأدب أنه أدب حرب، فالمسألة ليست في جنس الكاتب، وإنما هناك مسألة أكثر أهمية هي موقع هذا الكاتب في المجتمع، فالرجل هو المجتمع، والمرأة هي فئة من المجتمع، ولأن تجربتها تختلف تماماً عن تجربة الرجل فإنها تنتج أدباً مغايراً ومختلفاً.‏

في ما يتعلق بالرواية العربية، فإن حرب 1967 بين العرب وإسرائيل أطلقت وعياً جديداً. ما حدث كان زلزالاً هزَّ العالم العربي، في التناقضات المريرة التي سادت بعد الحرب في تمزيق المفكرين والكتاب العرب نساء ورجالاً. وقد يكون أول فارق ملحوظ بين الكتاب الرجال والكاتبات النساء هو أن الرجال سمّوا نتيجة الحرب “نكسة” بينما أسمتها النساء “هزيمة”، وقد أُطلق على كل الأعمال الأدبية التي كتبت عن حرب 1967 اسم “أدب النكسة”.‏

وكانت القاصة الفلسطينية سميرة عزام أولى ضحايا هذه الحرب حيث ماتت في أعقاب الهزيمة إثر نوبة قلبية، وعبرت فدوى طوقان في سيرتها الذاتية “الرحلة الأصعب” عن تقدير نادر للعلاقة بين حياة سميرة وموتها بقولها: إن سميرة كانت شخصية دراماتيكية في كل حياتها وموتها، وكانت فلسطين عاطفتها الأولى”.‏

واستطاعت كاتبات أخريات أن ينفحن الحياة بإحساسهن العميق بالإحباط الذي تحول إلى أعمال نثرية ملهمة، ومع ذلك بقيت تلك الأعمال في رأي البعض غير معتبرة جزءاً شرعياً من روايات الحرب. وتعتبر رواية “دمشق يا بسمة الحزن” للكاتبة إلفة الإدلبي في مقدم الأعمال الروائية التي اتخذت هذا المنحى، وقدمت من خلالها سيرة نضال الدماشقة ضد الاستعمار الفرنسي. والنقطة المركزية في الرواية هي حياة صبرية التي تتحمل عبء النضال القومي والنسائي، وتركّز الانتباه عبر مصيرها المأسوي القائم على نزاع أليم بين طموحاتها القومية والوطنية والسلطة الأسرية العميقة.‏

أما الروائية ليلى عسيران فترفض إطلاق تسمية “نكسة” على نتيجة الحرب، وتبدأ روايتها “عصافير الفجر” بقولها: “أكتب هذه القصة غداة هزيمة 1967”. والرواية في قسمين، يعالج الأول الصدمة وخيبة الأمل العميقة والاستنكار الذي تلقى به الشعب العربي خبر الهزيمة، بينما يدور القسم الثاني حول ردّ الفعل الفلسطيني على تلك الحرب التي بلغت ذروتها في ولادة المقاومة الفاعلة ضد الاحتلال الإسرائيلي.‏

وتتبنى الكاتبة بلقيس الحوماني في روايتها “سأمرّ على الأحزان” استراتيجية مختلفة من خلال جمع خيوط حياة عوائل عادية لتصبح كتلة من العلاقات والاهتمامات، تهدف في النهاية إلى مقاومة الاحتلال وتقويض احتمالاته المستقبلية داخل المجتمعات العربية.‏

بينما يأتي الإنذار باشتعال الحرب في رواية “الدوامة” للكاتبة قمر كيلاني عبر حلم تراه السيدة هنية، وتعبّر عنه ابنتها في لوحة رسمتها تمثل دوامة وامرأة بلا رأس تطوف وتطوف في دوائر، ومن ثم تشعل النار في المنزل وترحل بعد سقوط القنيطرة/ المدينة الحدودية السورية. وتتشبث سلمى بطلة رواية “وداع مع الأصيل” للكاتبة فتحية محمود الباتع، في عناد بالأرض، وبالحق في هذه الأرض، رغم مآسيها الشخصية التي تمثلت في فقدان زوجها وطفلها. وتبقى سلمى فخراً لفلسطين وفخراً للنساء العربيات اللواتي يحتقرن الثروة والجواهر والمال، بينما يعبدن تراب الوطن ونداء الواجب.‏

وتبدو رواية “تشرق غرباً” للروائية ليلى الأطرش العمل الأكثر طموحاً، إذ تحيط بالهزائم التي لحقت بالأمة ابتداء من تقسيم فلسطين، وحرب السويس، وانفصام الوحدة بين سوريا ومصر، وحرب الاستقلال الجزائرية، انتهاء بحرب حزيران. ووفقت الروائية في استكشاف الانعكاسات السياسية والاجتماعية لتلك الأحداث عبر دراسة مفصلة للعلاقات الأسرية والاجتماعية قبل الحروب وخلالها وبعدها، إلى درجة اعتبار هذه الرواية جزءاً حقيقياً من نسيج الحياة بكل نكهاته المألوفة والمتناقضة في آن واحد.‏

كما قدمت ميرال الطحاوي في “الباذنجانة الزرقاء” نصّاً يعيد صوغ النكسات والهزائم العربية والخيبات الأنثوية، على نحو يمزج مزجاً محكماً وموفقاً عن الخاص والعام، وبين السياسي والشخصي، وبين ما يحدث على مستوى الوطن وما يحدث على مستوى العائلة والفرد. وتقارب الموضوع في أسلوب رمزي غير مباشر يجعل من هزيمة 1967 “ولادة همجية” ذات طقوس صعبة ومرهقة. وتعتبر الروائية سحر خليفة أول من أسس لرواية نسائية تحررية سياسية، إذ ركزت في روايتها “الصبار” على واقع المرأة العربية في الأرض المحتلة، حيث تصبح الأساور بنك التوفير، وحيث تعتقل الفتاة وتدرك حينها أنها أصلب من الرجال في المقاومة، وحيث تؤدي ثورة الأهلين في الأرض المحتلة إلى تنوير العلاقات الاجتماعية.‏

وفي “عباد الشمس” تنضج شخصية المرأة الثورية لتخط طريقها في النضال وترفض السير كتابع وتسير كرفيقة وندّ، حتى لو هددت بالموت فهي قانعة بأن تعطي من حياتها مثالاً. وتقدم في رواية “باب الساحة” مكاشفة عن دور المرأة في الانتفاضة والمقاومة في الأرض المحتلة، فترى أن المرأة هي العمود الفقري للمواجهة الحقيقية مع العدو. بينما يضطر الرجال إلى الهرب أو الاختباء بعد كل عملية. وتناقش ضمن هذا الإطار المفهوم الاجتماعي للشرف والخيانة والحب والصمود.‏

وتعتبر روايتها “الميراث” الرواية الوحيدة التي ناقشت في جرأة وواقعية والتزام وشعور أكيد بالانتماء وإيمان بالمصير العربي ومستقبل الأمة، حيث ناقشت الاتفاقيات المنهارة التي لا تسترد أرضاً ولا حقوقاً ولا تحقق كرامة وعدلاً، وإن هذه الاتفاقيات مجرد وهم ولن تكون إلا وبالاً على من صادق عليها!..‏

وتأتي الحرب الأهلية في لبنان ضمن سلسلة حقب ودمار أصابت بيروت في كل مرة بلغت هذه المدينة حالة من الزهو والجمال لا تقاوم. ويتحمل جزءاً من اللوم الحكام العرب الذين خسروا حروباً عديدة لأنهم لم يتمتعوا بالذكاء والحنكة! وهاهي نجوى بركات في روايتها “يا سلام” تقدم كشفاً عميقاً ومؤلماً عن أبعاد التشويه الذي تتسبب به الحرب للنفس الإنسانية والأخلاق والعلاقات بين البشر، وتنفرد في تصوير خراب مدينة تملأها الجرذان، والعلاقات المعتوهة والتفكير الأناني الفردي وصور الخراب الأخلاقي الذي يصعب بل يستحيل إصلاحه.‏

ثم أصدرت هدى بركات روايتين: “حجر الضحك” و”حارث المياه” لتعود من خلالهما إلى التاريخ البعيد لمدينة بيروت ولتكشف أن الحرب الأخيرة ماهي إلا حلقة في سلسلة من الحروب وأوجه الدمار التي طالت المدينة. ويبدو لديها أن السبب الجوهري لتكرار حدوث الحروب هو استحالة الإفادة من تجارب الأقدمين، والبناء على ما قدموه لنا من دروس وحكم.‏

وتبدو رواية “ليلة المليار” للكاتبة غادة السمان أكثر ابتعاداً عن التقليدية إذ تعالج القضايا الخفية جداً في الحرب الأهلية التي حطمت لبنان، فتنتقل الكاتبة في أحداث الرواية مابين جنيف وبيروت، وليست الغاية تقديم وصف لما يحصل في لبنان بل سبر أسباب حصوله.‏

وتلتف الكاتبة رجاء نعمة في روايتها “صرير صاخب” بخيوط خفية لتجعل من الحرب اللبنانية المحور الأساسي الذي يحرّك شخصياتها ويقرر مصائرهم.‏

وأخيراً رواية “أوراق من دفاتر سجين” التي سطرت مي منسّى في أوراقها سبراً لما جرى للبلاد خلال الحرب، وأسباب ما جرى، فقدمت صورة عن إنساننا العربي الذي لم تعد تقهره السلطة الفوقية فحسب، بل تنوشه سلطات تحتية وحروب لا تفرق، ولا يعرف كيف يدافع عن نفسه، لكنه يتوقع الموت في أي لحظة.‏

كذلك كانت الحرب العراقية والحصار المفروض على العراق مادة خصبة لعدد من الكاتبات كما في رواية “مطر أسود، مطر أحمر” للكاتبة ابتسام عبد الله، وهي أول رواية عربية تكتب عن حرب الخليج، إلى رواية “عطر التفاح” لإرادة الجبوري، و”العالم ناقصاً واحداً” لميسلون هادي، ورواية “القهر” لسهيلة داوود سلمان. ودفعت القاصة الفلسطينية سميرة عزام حياتها ثمناً للهزيمة، كذلك الروائية حياة شرارة في روايتها “وإذا الأيام أغسقت” دفعت حياتها ثمناً نتيجة الضغوط السلطوية المفروضة على النخبة المثقفة. وأخيراً رواية “الغلامة” لعالية ممدوح التي لم تلجأ إلى وصف الحرب العراقية أو تفصيل أحداثها. بل صوّرت انعكاس ذلك على التناقضات والخراب الحاصل في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.‏

من هنا نرى أن الكاتبة العربية عايشت في عمق وشفافية الهموم الاجتماعية والسياسية العربية، وعبّرت عن كل الأزمات والحوارات والتداخلات التي تسود المجتمع، ويحقّ لكاتباتها أن يغدون جزءاً من الظرف التاريخي والاجتماعي والإنساني لحياة الناس.‏

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

الحياة السرية لوالتر متي

الحياة السرية لوالتر متي هدية حسينجريدة الصباحشباط 2025على مدى أكثر من أربعين عاما وأثناء عملها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *