القصة القصيرة جداً من ساروت إلى الأدب العربي
والبحث عن جنس أدبي جديد
ورقة مقدمة إلى مؤتمر النقد الأدبي الخامس، كلية الآداب، جامعة اليرموك، إربد- الأردن، من 14-16/4/1994، ومنشورة ضمن كتابنا “في الأدب المقارن.. مقدمات للتطبيق”، دار أسامة، عمّان، 2001، وعالم الكتب الحديث، إربد- الأردن، 2008.
د. نجم عبدالله كاظم
أستاذ النقد والأدب المقارن والحديث
كلية الآداب – جامعة بغداد
(1)
أتيح لي قبل بضع سنوات أن أطلع على مناقشات وكتابات نشرتها بعض الصحف، خلال مجموعة من المقالات والدراسات، عن (القصة القصيرة جداً). وأمام ما وجدته- من وجهة نظري بالطبع- من فوضى وخلل وافتقار للعلمية غلبت على جل تلك المناقشات، وانطلاقاً من ملاحظات تكونت لدي عن ذلك فكرت في حينها بكتابة موضوع، أسعى فيه إلى الوصول إلى تحديدات أكثر نضوجاً وأزعم أنها موضوعية وعلمية، عن دلالة المصطلح غربيا وعربيا إن كان هناك فعلاً مثل هذا المصطلح، وعن واقع المتحقق من الكتابات العربية مما عدها البعض “قصصاً قصيرة جداً” مع مسعى للخروج بإجابات عن أسئلة رئيسية هي: ماذا يعني هذا الذي يسمى بهذا الاسم أو المصطلح؟ وهل هو نوع أدبي مستقل؟ وأين نضع المنجز عربيا مما يندرج تحته؟
هنا أعود إلى هذا الموضوع بعد تبلوره لأقدمه من خلال هذه الصفحات. وإذا كان هذا هو المبرر الأول لهذه الدراسة، فإن مبررها الثاني هو ما وجدته من وهم يقع فيه بعض كتابنا إذ يعتقدون، بمجرد كتابة ما يختلفون فيه جزئياً عما كتبه أو يكتبه غيرهم، باستحداث أشكال جديدة من الكتابة، وانطلاقاً من رغبة غير موضوعية بالتجديد، وهي رغبة قادت غير قليل منهم إلى طرق عقيمة. أما المبرر الثالث فهو تحفظنا على جل ما كتب من نماذج نقداً- أو تنظيراً- عن الموضوع، والسعي انطلاقاً من هذا لمناقشة الأطروحات والمتحقق إبداعا في هذا الميدان.
(2)
بدايةً، لا نكاد نجد لمصطلح أو تعبير(القصة القصيرة جداً) تعريفاً أو مفهوما واضحاً أو صريحاً في مصادر المصطلحات والأجناس أو الأنواع الأدبية والنقد الأدبي، الإنجليزية منها والعربية. ولهذا كان من الطبيعي أن نتجه إلى الأقرب إلى هذا المصطلح مما يمكن أن نجده أو نجد فيه ما يقترب منه أو يشير إليه من تعبيرات ومصطلحات ومفاهيم أخرى، ونعني بشكل خاص مفهوم (القصة) أو (القصة القصيرة). يقول جوزيف شبلي في “معجم المصطلحات الأدبية العالمية” في تعريف (القصة) Story:
“القصة: هي عادةً عرضٌ لصراع، يشتمل على قوتين متعارضتين في حالة نزاع، وغاية”(1). وبأخذ هذا المدلول لـ( القصة) بنظر الاعتبار فإن (القصة القصيرة) Short Story تكون قصة تتسم بالقصر وبما يعني اختلافها عن (الرواية) Novel في البعد الذي سماه أرسطو (الحجم)(2)، وهو، نعني الحجم، فرق يستتبع فروقاً وسمات أخرى سنأتي إليها. ولكن يجب أن نعرف ابتداءً أن القصر وحده ليس كافيا لتمييز القصة القصيرة عن الرواية، وإن كان ذلك- أعني القصر- عاملاً رئيساً وأولياً لتحديدها. بتعبير آخر “ليست القصة القصيرة مجرد قصة تقع في صفحات قلائل، بل هي لون من ألوان الأدب الحديث… له خصائص ومميزات شكلية معينة”(3)، منها القصر؛ وتناولها حدثاً أو جزءاً من حدث؛ والتركيز أو التكثيف.. الخ. ولا نبتعد في أدبيات النقد في مختلف الآداب ومنها العربية عن هذا المفهوم. وإذا كان هذا هو مفهوم (القصة القصيرة) Short Story من خلال سماتها الأساسية فإن (القصيرة) Short الثانية المترجمة في المصطلح العربي إلى (جداً) المضافة إليها في الـ(Short Short Story) إنما هي شكلية إلى حد كبير، وتعني زيادةً في القِصَر، ولا تضيف إليها ما يجعل منها نوعاً مستقلاً. والقِصَر الشديد هو فقط الذي كان، على ما يبدو لنا، وراء إطلاق إرنست همنغوي على إحدى قصصه عنوان “قصة قصيرة جداً” A Very Short Story في سنة 1925، والذي قد يكون أقدم استخدام لهذه التسمية، مع الاختلاف في استخدام المفردة الدالة على القصر الشديد(4).
ومن الإشارات والمعالجات القليلة التي تقودنا إلى هذا وإلى تحديد أكثر وضوحاً لمدلولها ما نجده في النقد الأمريكي والتجربة الإبداعية الأمريكية الذي لا يبعدنا عما نحن فيه، وهو ما يبدو أن يوسف الشاروني مثلاً في الأدب العربي قد كان واعياً له، حين كان يطلق تعبير “قصص في دقائق” على بعض كتاباته، بمعنى أخر كان يعرف أنها ليست فناً أو نوعاً مستقلاً بل قصصا أكثر قصراً من القصص القصيرة الاعتيادية، وبالتالي لا نحتاج إلاّ لمثل هذا الوقت القصير لقراءتها(5)، فذلك هو الهدف الذي عبر عنه الناقد الأمريكي وايت بالقول بأنه يريد ببعض ما كان يكتبه قصصاً تُقرأ أثناء انتظار سيارة الأجرة(6). وسعياً وراء تشخيصات أوضح وتحديدات أكثر مباشرة لسمات هذا النوع من الكتابات القصصية، اندفع البعض إلى تلمس أية معلومة قد تشير إليه أو إلى أصوله وجذوره في أقدم العصور. والواقع أن تجاوز العناصر والسمات الحاسمة التي تميز القصة القصيرة مثلاً عن سواها من الفنون القصصية الأخرى، والانطلاق من الدلالة اللغوية للمصطلح يقودانا إلى شيء منها فعلاً في ثنايا حضارات الأمم القديمة من عراقية ومصرية ويونانية وغيرها. ولكننا يجب أن نفرق هنا بين حديثنا عن (القصة) في دلالتها اللغوية وعنها مصطلحاً فنياً ونوعاً أدبياً؛ ولما كان هدفنا الفعلي يكمن في البحث عن دلالة المصطلح، دون الاستغناء عن الدلالة اللغوية بالطبع، فإننا نجد هذا الهدف لا يقودنا عملياً في التاريخ إلى أبعد كثيراً من القرن التاسع عشر، بل “إنه في القرن التاسع عشر بالتحديد ظهر الشكل القصصي الذي يعرف الآن بـ(Short Story ). وكان إدغار ألن بو أول من صاغ سنة 1842 بعض العناصر النقدية والفنية التي تميز القصص الأقصر من القصص الأطول”(7). ومع هذا بقيت القصة القصيرة بالذات غير محددة المعالم بشكل كاف حتى فترات متأخرة، حين حدد لها ذلك بعض أعلامها مثل موبسان وتشيخوف ومانسفيلد وهمنغوي.. وغيرهم.
(3)
يتضح لنا من الرجوع إلى تطور القصة مصطلحاً ومفهوماً ومنجزاً إبداعياً أنه قد كان هناك دائماً ما يمكن أن يسمى قصصاً قصيرة، ولكن شيئاً من هذا لا يعزز ما يسمى بسهولة (قصصاً قصيرة جدا) إلاّ بصورة ضيقة لا تمنحها حدوداً تستقل بها، بل غالباً ما كان ذلك هامشياً فقط، ومن خلال سمة أو اثنتين- القِصَر والتكثيف- هما في حقيقتهما ودلالاتيهما من سمات (القصة القصيرة) أصلاً. فهذا أبرامس يقول: “يجب أن نتذكر أن الاسم (القصة القصيرة)Short Story يغطّي تنوعاً كبيراً من القصص النثري وعبر امتداد، يبدأ بالقصة القصيرة جداً أو (القصة القصيرة القصيرة)Short Short Story ، والتي هي عبارة عن حكاية أو نادرة قليلة التفاصيل وربما مكونة من 500 كلمة، وينتهي بتلك الأشكال الطويلة أو المعقدة- مثل قصص “بيلي بود” Billy Budd لميلفيل، و”دورة اللولب” The Turn of the Screw لهنري جيمس، و”قلب الظلام” Heart of the Darkness لكونراد، و”ماريو الساحر” Mario the Magical لتوماس مان- والتي يشار أحياناً إلى منزلتها الوسطى بين تكثيف القصة القصيرة وسعة الرواية، وتُدعى أحياناً (رواية قصيرة) Novelette or Novella “(8). وإذا كانت غالبية هذه المفاهيم قد اعتمدت، إلى جانب الطول، عناصر أخرى تتوفر لهذا النوع كالقصة القصيرة، وأخرى لذاك كالرواية، فإن شيئاً من هذا لا ترد له إشارات واضحة لما يُسمى بـ(القصة القصيرة جداً). بل حتى حين يفرد باحثون كمؤلفي كتاب “مقدمة نورتون للأدب” عنوان فصل للقصة القصيرة جداً (Short short story)، فإنهم لا يغادرون في مادة هذا الفصل مدخل الطول أو القصر وهم يتعرضون لهذا الشكل القصصي، فيقولون: “القصة القصيرة جداً هي قصة في حوالي ألفي كلمة أو أقل”(9) ضاربين أمثلة عليها أسماء بضع قصص، منها قصة همنغوي السابق ذكرها. وحتى الإشارة إلى هذا الشكل القصصي في كتاب أبرامس السابق، وضمن الحديث عن (القصة القصيرة) تكاد تُبعد، في دلالتها، جل ما يكتب عندنا الآن على أنه قصص قصيرة جداً، لاسيما ما ينشر منها في الصحف، سواء أكان ذلك في طبيعتها وقصورها عن تقديم الخصائص الفنية للقصة، أم في قصرها. وهذا القصر، في الواقع الذي افترضه أبرامس يستبعد ضمناً من هذا الشكل القصصي حتى كتابات ساروت التي يتكئ عليها كتاّب القصة القصيرة العرب غالباً. وإذا كان كلام الناقد السابق قد دل مسبقاً على ذلك ، فإن ترنتول وايت، الذي أشرنا إلى آرائه ضمن النقد الأمريكي يشير إلى أن أطول القصص التي عناها والتي حاول بعض نقادنا وكتابنا محاكاتها- ” قد تتراوح… بين خمسمئة، وألف وخمسمئة كلمة، وأنسبها للنشر أن تكون في ألف ومئتي كلمة(10). ذلك يعني أن جُلّ ما يكتب عندنا من قصص قصيرة اعتيادية إنما هو- طولاً على الأقل- مما عناه وايت وبعض النقاد الغربيين بـ(Short Short Story) التي ترجمها البعض، ومنهم كاظم سعد الدين إلى “أقصوصة” وترجمَتْها الغالبية إلى (القصة القصيرة جداً)، هذا إذا كان سعد الدين قد عنى هذه التسمية الإنجليزية نفسها. أما القصة القصيرة العادية- طولاً أيضاً- فتتراوح حسب رأي الناقد وايت نفسه، بين خمسة آلاف وستة آلاف كلمة ، وقد تزيد ، برأي البعض ، على ذلك كثيراً ، لتكون في ثلاثين أو أربعين صفحة ، دون أن تصبح ، شرطاً رواية(11).
لكن هذا لا يعفينا هنا من الإشارة إلى الكتابات القصيرة جداً التي ظهرت في أدبنا العربي، خلال العقود الثلاثة الأخيرة بشكل خاص، وهي تنتمي كلياً أو جزئياً إلى الفن القصصي. وإذا كان بعض هذه النماذج قد حاكى كتابات ساروت، فإننا يجب أن نثبّت هنا أن كتابات ساروت هذه ، التي كانت قد ظهرت سنة 1938 في كتاب تُرجم إلى العربية سنة 1971، لم تتخذ لها هوية دقيقة وصريحة، بل من الطريف أن نشير إلى أن مجموعة- أو كتاب- “انفعالات”Tropismes هذا يُعد، حسب رأي بعض النقاد، بداية موجة الرواية الجديدة(12). ويبدو أن إضافة العنوان الثانوي “قصص قصيرة جدا” إلى العنوان الرئيس للكتاب قد جاء من المترجم، الذي لم يكن أمامه، مع هذا، إلا أن يقول: أما (الانفعالات) فيمكن إدراجها تحت بعض أنواع الخلق الأدبي المعروفة، كالقصة والشعر الحر… ولا يمكن في الوقت نفسه إدراجها تحت أي نوع من أنواع الخلق الأدبي المعروفة وغير المعروفة… حتى أن العنوان نفسه (انفعالات)Tropismes كلمة لا توجد لها ترجمة في غير اللغات اللاتينية، ولا يوجد لها تفسير في أي من هذه اللغات”(13).
وإذا لم يكن كلام العشري دقيقاً تماماً، وبالتحديد في إشارته إلى “الأنواع غير المعروفة”، وذلك لوجود احتمال ظهور هذه الأنواع التي قد تندرج هذه (الانفعالات) ضمنها، فإن مثل هذا الظهور لم يُسجَّل على أية حال في الآداب العالمية إلا بشكل محدود كالكتابات التي قصدها بعض النقاد الأمريكان الذين أشرنا إليهم، والتي لم تلتق مع هذا، إلاّ بشكل محدود، بكتابات ناتالي ساروت. إذن هل أن هذه الكتابات أو القصص أو الصور أو الانفعالات التي كتبتها ساروت نفسها في كتابها الرائد قصص؟ هذا ما يستدعي الكثير من التردد والتأني. فمراجعة لنماذج من المجموعة تكشف لنا عن كونها صوراً قد تبدو مقتطعة من مجرى حياة ما، وحياة مجموعة بشرية غالباً، ليس لها بدايات، بل أنك تحس وأنت تقرأ أول كلمة أو جملة فيها أنك قد بدأتها قبل ذلك، متى؟ لا يمكنك أن تعرف. وإذ لا تمتلك الواحدة منها بداية، فإنها لا تنتهي أيضاً مع آخر كلمة منها، كما لا يمكنك أن تقدّر لها نهاية. وربما يرجع ذلك، مرة أخرى، إلى كونها صوراً وليست حدثاً أو خطاً حدثياً، بمعنى أنها تفتقد أي صراع أو حبكة أو تطور درامي. وبذلك هي تنفصل عموماً عن (القصة) كما نعرفها اصطلاحاً ونماذج. يقول فتحي العشري، إضافة إلى ذلك: “والانفعالات في حقيقتها صور وليدة اللحظة ترجمتها الكاتبة إلى كلمات… هذه الكلمات مكثفة ومحددة تعبّر عن أحاسيس، هذه الأحاسيس عفوية صادقة ولصيقة بالأشياء، هذه الأشياء متطورة ومسموعة ووليدة ملاحظة ثاقبة ومراقبة شديدة. وعلى الرغم من أن الصوت في تلك القصص يبدو لا إنسانياً متحشرجاً وقادماً من بعيد، إلاّ أننا نرى فيه قصتنا وحياتنا وتاريخنا بكل ما ينطوي عليه من مخاوف”(14).
(4)
مع تواضع هذه الموجة من الكتابات انتشاراً ، ومع عدم استقرارها حول مصطلح واضح فإنها -كما قلنا – قد طالت الأدب العربي حين انجر كتّاب عرب إلى التجريب فيها ملتقين مع بعض نماذجها أحياناً ومنفصلين عنها في أحيان أخرى ، وفي كل الأحوال لم يكن واضحاً ما الذي كانوا يريدونه منها. وعموما يجب أن نشير هنا إلى أن الكثير من هذه النماذج ، وهي لأبرز الكتاب غالباً ، تشتمل على سمات فنية قد تشترك فيها مع ” قصص” ساروت وتجارب الكتاب الآخرين ، بينما تبدو نماذج أخرى بأشكال قصصية وغير قصصية غير مكتملة أو تفتقد مثل تلك السمات ، الأمر الذي يجعل من الصعوبة وضعها تحت مصطلح واضح ومستقل، أو ضمن خانة نوع أدبي بعينه. ولكن من الطريف ونحن ننحس بذلك ونسترجع إشارة العشري إلى إمكانية إدراج “انفعالات” ساروت تحت بعض الأنواع، مثل القصة والشعر الحر، أنْ نستحضر أو قول مؤلفي “مقدمة نورتن إلى الأدب” عن هذا الشكل من القصة القصيرة: “كانت جذورها دوماً هي حدود النادرة، والحكاية، والمثل، والقصة القصيرة، الأصلية، علاوة على أنها جميعاً تتنازعها”(15)، وهذا ما يمنح مشروعية، ولكن بدرجات مختلفة، للتجارب العربية المتنوعة، ولاسيما الجادة منها.
وأمام هذين الصنفين، أعني الكتابات الناجحة لأبرز الكتاب، والكتابات غير المكتملة، وأمام اضطراب فكرة إدراجها تحت مصطلح (القصة)، أو (القصة القصيرة)، أو (القصة القصيرة جداً)، يتكرر السؤال: هل هناك فعلاً نوع أدبي يسمى (القصة القصيرة جداً)؛ لنجد أنفسنا نعود مرة أخرى- مع تراكم أكثر في الأفكار والصور والنماذج والتجارب- إلى الأنواع أو الأجناس الأدبية، وصولاً إلى (القصة القصيرة) أيضاً. فإذا كانت الأنواع الأدبية يتميز كل منها بميزات تخضع نماذج معينه لها وتدفع بالكتاب إلى التقيّد بها حين يريدون الكتابة ضمن نوع منها، فإنها لا تكتّف هؤلاء الكتاب تكتيفاً حازماً، بل كثيراً ما تقود ما نراها قيوداً للكتاب إلى تمرد بعضهم عليها، والخروج في بعض ما يكتبون عن قوالب هذه الأنواع ليقودهم ذلك أحياناً إلى صياغة قوالب، أو أشكال أخرى تكتسب جدة أو تميزاً، وربما تأسيساً لما يمكن أن يكون نوعاً جديداً. وإذا كان ذلك يحدث مرات معدودة، بل نادرة، ضمن تواريخ الآداب وأنواعها، فإن الغالبية العظمى من هذه التجارب (المتمردة) لا تقود إلى مثل هذه (الولادة) أو (التأسيس)، بل تكون عادة تجارب فردية لا تسندها أسس قوية ومبررات موضوعية. صحيح أن بعضها قد يؤدي إلى بروز أنماط أو أشكال لها ما يميزها ، ولكنها تبقى عادة ضمن نوع أدبي أكبر، وهذا ما فات- برأينا- وعي بعض كتابنا في تجارب سموها (قصصاً قصيرة جداً)، وبعض نقادنا في تعاملهم مع هذه التجارب. وأمام مثل هذا التنوع والتشعب تتداخل المواقف النقدية وأشكال التنظير تبعاً لذلك، فلم تنفرز مواقف ولا مفاهيم محددة وواضحة بشأن تلك الكتابات وهُوياتها أو انتماءاتها. ويضاف إلى أسباب هذا التخبط في الكتابة تحت مظلة ( القصة القصيرة جداً) أو في تناولها بالنقد والنقاش سعيُ كتابها ونقادها لترسيخ ما يرونه نوعاً أدبياً مستقلاً، أو- في أقل تقدير- شكلاًَ فنياً له استقلالية بقدر أو بآخر، وهي استقلالية لا تتحقق، في الواقع، بهذه السهولة التي عكستها الكثير من تلك الكتابات، النقدية منها بشكل خاص. فأحدهم إذ ينفي محقاً أن يكون عدد الصفحات محدِّداً لنوع أو هوية العمل القصصي، يُهمل مخطئاً هذا الشرط أو هذه السمة إذ يقول: “يتفق الجميع على أن عدد الصفحات أو الأسطر لا يحدد النوع الأدبي. فالرواية يمكن أن تكون بعشر صفحات أو عشر مجلدات، كذلك القصة القصيرة يمكن أن تكون بمئة صفحة أو مئة سطر أو مئة كلمة(16). فلا يقف الجميع كما يظن صاحب هذا الرأي، بل ربما لا يقف أحد معه في هذا، إذ أن هذا الكلام إطلاق تنقصه الدقة، فلا يمكن لعشر صفحات أن تكون رواية، حتى وأن توفرت على جلّ الخصائص الأخرى للرواية، كما أن عشر مجلدات قد تخرج الرواية من هذه الدائرة. وكذلك الأمر مع صفحات القصة القصيرة. فعدد الصفحات أو الكلمات، أو لنقل طول العمل أو قصره، يبقى ركناً ضمن أركان أخرى تشترك في تحديد أشكال الأعمال القصصية، وضمنها (القصة القصيرة جداً)، إذا ما افترضنا لها استقلالاً. وكانت محاولات آخرين في السعي لمنح هذا الشكل أو (النوع) من الكتابة سماتٍ وحدوداً معينة تجعل منها كياناً مستقلاً عبارة عن لفّ ودوران في حلقات لم توصلهم إلى نتائج، بل حتى المحاولات الجادة لبعضهم، وهي محاولات قليلة- كتلك التي قام بها باسم عبد الحميد حمودي وفتحي العشري وضمناً كاظم سعد الدين- لم تصل بهم إلى مرفأ التحديد النقدي الدقيق، فكلّ الذي حددوه من سمات لهذه الكتابة إنما هي من سمات القصة القصيرة الاعتيادية. وهؤلاء جميعاً، ما فعلوا ذلك إلا واستحضروا، كما أشرنا، كتابات ساروت غافلين أن ساروت نفسها ما ادّعت أن ما كتبته هو (قصص قصيرة جداً)، ولا نعرف من النقاد الغربيين من ادعى أنها كذلك. وهكذا لا يمكن لهذا الشكل القصصي أن يقوم بنفسه؛ فجل ما بين أيدينا إنما ينطبق عليه مصطلح (القصة القصيرة)، كما أن نماذجها- وبحدود الجيد منها- لم تقدم شيئاً لم تقدمة القصة القصيرة، ولم تمتلك من السمات الخاصة ما يكفي لجعلها نوعاً أدبياً مستقلاً؛ ونقول هنا (الجيد) لأن هناك الكثير مما كُتب على أنه قصص قصيرة جداً يفتقد أصلاً أهم المقومات والعناصر التي تجعل منه قصصاً.
أما لماذا نكتب مثل هذه المحاولات، فلأن هناك، بلا شك، أسباباً تتوزع في اختلافها على هذه المحاولات وعلى كتابها. منها ما نراه من عجز بعض هؤلاء الكتاب أو عدم قدرتهم على استغلال اللقطات والمشاهد التي يلتقطونها بما يؤدي إلى بناء قصص اعتيادية؛ أو عدم امتلاك هذه اللقطات نفسها مقوّمات الامتداد اللازم لتصبح قصصاً وبمرونة ( نقدية) يمكن أن نقول أيضاً عدم قدرة الكتاب، ولكن ضمن ظروف أو أجواء معينة، على استثمار مثل هذه اللقطات أو الأفكار التي تبزغ في أذهانهم، ليجدوا أنفسهم، في ظل ذلك، أمام خيارين، فيهمل بعضهم الخيار الأول، وهو حفظ هذه الأفكار أو تسجيلها بانتظار أن تتبلور وتنضج فيما بعد لتصبح، في ظروف أكثر ملاءمة، قصصاً، ويختارون الخيار الثاني، وهو نشرها بوضعها الأولي غير الناضج مطلقين عليها أسماء خاصة منها (قصص قصيرة جداً). ولنا في الكثير مما نشرته الصحف والمجلات العربية، خاصة خلال العقدين الأخيرين، أمثله تقع ضمن هذا الباب. وغير هذا هناك أسباب أخرى، كعجز البعض عن كتابة قصة قصيرة، والاستعجال في الكتابة والتلهف على النشر، وربما استسهاله، والرغبة غير الموضوعية في تقديم مثل هذه الأشكال من الكتابة متوهمين أنهم أنما يقدمون أشكالاً جديدة منطلقين من الاعتقاد الخاطئ بأن كل ما يمتلك جدّة واختلافاً يمتلك بالضرورة تميزّاً وربما قدرة على تأسيس نوع أو شكل جديد، وهو الأمر الذي يذكرنا بما حدث مع ما يسمى بتجربة (النص) التي حاول البعض فيها كتابة نصوص أو التنظير لها في سعى صريح أو ضمني لإضفاء هوية خاصة على ذلك دون التوفيق عملياً في الوصول إلى نتيجة إيجابية ملموسة.
هذه الأسباب غير الموضوعية، يجب أن لا تنسينا الأسباب والدوافع الموضوعية والفنية لكتابة الأقصر من القصص القصيرة، والتي كانت وراء ظهور الجيد والمتميز منها. وأول هذه الأسباب والدوافع: السرعة التي وسمت عصرنا أمام عدم امتلاك القراء للوقت الكافي لقـراءة الأعمال والكتابات الطويلة(17)؛ وترحيب الصحافة بالكتابات القصيرة كونها تلائم صفحاتها وقراءها؛ والحاجة الموضوعية والفنية إلى التنويع في التعبير؛ وحاجة التعبير نفسه لهذا التنويع، ونحن نعرف أن الحاجة التعبيرية لا تحدها حدود، ولا تلبيها وسيلة جديدة واحدة ولذا فليس لنا أن ننتظر لهذا التجديد والتنويع نهاية، خصوصاً أن الرغبة الموجودة في دواخلنا في ذلك وفي الاطلاع عليه مرتبطة بالإنسان الطبيعي وبقائه واستمراره. وهذه كلها كانت وراء الكثير من (القصص) الجيدة التي ظهرت لدينا مما سنستحضر نماذج منها، لنحاول أن نخرج من التعرض بإيجاز لها- ما دمنا لسنا في صدد دراستها دراسة تطبيقية هنا- بأهم سمات هذا الشكل من الكتابة، وصولاً إلى تحديد الموقف من قضية شكله أو ( نوعه).
(5)
إذا كانت أسماء يوسف الشاروني وزكريا تامر وإبراهيم أحمد وخالد حبيب الراوي تتقدم الأسماء العربية، كون كل من هؤلاء قد أصدر مجموعة كاملة أو شبه كاملة من القصص القصيرة جداً، فإن آخرين يصطفون إلى جانبهم، ولا يقل بعض ما كتبوه مما نشروه ضمن مجاميعهم القصصية عن تلك التي كتبها الأولون، إنْ لم يبّزها أحياناً فناً ومعالجة، بينما توزع جُلّ ما كتب من نماذج أخرى لهم أو لقاصين آخرين على أنه قصص قصيرة جداً، بين أشكال أخرى من الكتابة، كما قلنا، كالخطرات والصور الصحفية، واللقطات التي تبدو مجتزأة أو مقتطعة من كتابات أطول، بل جاء بعض آخر منها أشبه بالأفكار أو الشذرات التي لا يضمها قالب أو لا تمتلك هوية. ويبدو لنا أن الكثير منها قد مر بإذهان أصحابها ولم يستطيعوا استتثمارها، أو ربما هي لم يكن لها- لسبب أو لآخر- أن تنمو ضمن ظرف معين خاص بموضوعاتها أو بكتابها، فلجأوا إلى تسجيلها وبصورتها الذهنية التي بزغت لديهم ليسموها (قصصاً قصيرة جداً). وهنا يجب أن نقر، ومن خلال الاطلاع على النماذج القصصية نفسها، بأن أياً من هؤلاء، وغيرهم من أمثال وليد إخلاصي وياسين رفاعية ومحمد المخزنجي وفؤاد حجازي وعبد الستار ناصر وعلي خيون، لا يكتسب التميز المطلق. بعبارة أخرى نستطيع أن نقول أن هناك قصصاً متميزة أكثر من وجود قصاصين متميزين. فنحن لا نكاد نجد في مجموعة زكريا تامر، وهو الكاتب الكبير، “النمور في اليوم العاشر” مثلاً ما هو متميز في جودته وفنيته وفي امتلاكه لمقومات القصة إلا ثلاثاً أو أربعاً فقط. فمع طرافة ولَسْع عدد غير قليل من النصوص التي قدمتها المجموعة، فإن أغليها لا يكاد يمتلك مقومات العمل القصصي، بل يقترب من أن يكون أفكاراً وربما خطرات لم تُصّب في قوالب قصصية، كما يمكن ملاحظة ذلك في “الأسرى” و”الخطر”، و”المجنون”، و”لا..”، و”الفريسة”(18). وإذ تمتلك قصة “الصغار يضحكون” ما لا تمتلكه هذه القصص من قدرة على الإيصال ومن تأثير المفردة والفكرة من إيحاءات يريدها الكاتب ولا يصرّح بها، فإنها تتميز عنها أيضاً في كونها تُبنى حول حدث له بداية وامتداد- مع تواضع طول هذا الامتداد طبعاً- ونهاية، مع حَمْلها لما هو أبعد من حدود القصة. وإذا لم تكن هذه القصة بالذات (حالة) كما هو شأن بعض النماذج الأخرى في المجموعة مما يمكن أن يُذكّرنا بانفعالات ناتالي ساروت، فإنها تنطلق في الحقيقة من (حالة) وتوحي بها، ولنا أن نعود إلى نصها لنحس بذلك بسهولة.
ولا يتميز من بين قصص مجموعة ياسين رفاعية مما يمكن أن نتعامل معها على أنها (قصص) غير ثلاث هي “الولد”، و”في المصعد”، والقصة السابعة من “العصافير”، خصوصاً في تميزها عموماً بامتلاك ما يشبه الصراع والنضال من أجل الحياة مقدماً بشكل صريح وشبه مباشر أحياناً، وبشكل ضمني أحياناً أخرى وهي السمة التي جعلتها أدخل في فن القصة من تلك التي قدمها زكريا تامر، وإن لم تكن في فنيتها الذاتية وفي أفكارها بمستوى تمكّن تامر في قصصه. وعموماً يشترك القاصان، في بعض نماذجهما المتميزة، في بناء القصة حول ما يشبه الحلم، ونظن أن ذلك هو أنسب إلى طبيعة هذا الشكل من الكتابة وطوله، وإلى ما يجب أن توصله وتتركه من أثر يمتد إلى نهاية القصة(19).
أما إبراهيم أحمد، فمع ريادته في تقديم مجموعة كاملة من القصص القصيرة جداً وفي صراحة استخدام هذا المصطلح عنواناً لمجموعة “20 قصة قصيرة جداً” فإننا لا نكاد نجد، مرة أخرى، ما هو متميز غير قصتين أو ثلاث. إن إيجابيات قصص مثل “دليل الهاتف”، و”بطاقة يانصيب”، و”الطير”، و”البصمات”، لا تُخفي حقيقة أن الأخيرة فقط تمتلك فنياً مقومات قصصية واضحة تجعلها تحتل مكانة بين أفضل القصص القصيرة جداً العربية. فإضافة إلى القصر والتكثيف اللذين تشترك فيها القصة مع بقية قصص المجموعة ومع عموم ما يندرج فنياً تحت مصطلح (القصص القصيرة جداً)، هي تقدّم في معناها ودلالاتها، ومن ثم تأثيرها، ما هو أبعد من كلماتها وعباراتها، وذلك خلال قدرة كاتبها على تضمينها الكثير من الرموز والدلالات والإيحاءات التي وجدنا أغلب قصص المجموعة تفتقدها(20).
ويبدو خالد حبيب الراوي، في مجموعته “العيون” التي ضمت قصتين طويلتين وقصصاً قصيرة جداً، أكثر توفيقاً من سابقه. ومع أن عموم هذه القصص كان غاية في القصر، وإلى حد أخرج بعضها من دائرة القصة، إذ خلت من جل ما يدخلها فيها من خصائص فنية، فإن المجموعة ضمت أيضاً قصصاً متميزة، لعل أبرزها قصة “السكة)”(21)، التي ربما هي- إذا جاز لنا استخدام أفعل التفضيل- أفضل قصة قصيرة جداً، إذ لم يحل قصرها بين الكاتب ومعالجة الموضوع الإنساني من داخل أعماق الإنسان وأحاسيسه، فاشتملت بذلك على ما نراه واحدة من أهم ما يجب أن يشتمل عليه هذا الشكل القصصي من سمات، نعني أن تكون مكثفة جداً وتقول- تعويضاً عن الطول- الكثير مما يتعدى سطورها المعدودة وكلماتها القليلة. ومما يسجل لهذه القصة أيضاً نهايتها التي، من الواضح، أنها واحدة من أجمل نهايات قصص الكاتب والآخرين. وإذا كانت “السكة” بهذا التميز غير الاعتيادي، فإننا يجب أن لا نستهين بقصص أخرى من المجموعة، وبالتحديد “شرفة في بيروت”، و”الرجل”، و”عزيزتي سميرة”، و”الوهج”، و”رجل الممرات”.
ونبقى ضمن الحديث عن القاصين فنقول في تقييم عموم تجاربهم، إن إبراهيم أحمد قد انحرف، برأينا، عن سردية العمل القصصي حين فهم (القصة القصيرة جداً)- على ما يبدو- على أنها طرفة، أو ربما لقطة صحفية، فاتسم معظم ما كتبه بضعف التماسك الفني وبالمباشرة وباللغة الصحفية والتسجيل. أما خالد الراوي فكان أكثر وعياً بفنية ما يكتب، بغض النظر عن هوية هذا الذي يكتبه؛ فهو يختار موضوعات خاصة ليعرضها بلغة مكثفة لا تلغي الصراع مع محدوديته، مركزاً بذلك على السمات المهمة لهذا الشكل من الكتابة القصصية، فلا نكاد نجد كلمة واحدة زائدة أو لا تحتاجها القصة فعلاً، كما ينعدم لديه عيب المباشرة الذي يقتل الكثير مما يكتب على أنه قصص قصيرة جداً، وهو ما ينطبق على بعض نماذج زكريا تامر الذي يبقى له تفرّده، ولقصصه نكهتا المتفردة، كما هو شأنه في كتاباته القصصية عموماً. يبقى أن نقول، عن التجربة العربية في الكتابة العربية في هذا الشكل القصصي، أنه إذا لم يبرز اسم آخر في كتابة (القصة القصيرة جداً) إلى جانب هذه الأسماء، فإن تصفح المجاميع القصصية لعموم الكتّاب تكشف لنا في ثناياها عن نماذج قصيرة جداً قد تصطف إلى جانب الجيد مما كتبه إبراهيم أحمد وياسين رفاعية وخالد الراوي وزكريا تامر، مع ملاحظة أن جل كتاب القصة القصيرة قد كتبوا ما يمكن أن يندرج تحت تسمية (القصة القصيرة جداً)(22).
(6)
وبعد، ما الذي تتميز به (القصة القصيرة جداً)، اعتماداً على الأطروحات والمناقشات السابقة وعلى تحليل وتأمل بعض أفضل نماذجها العربية؟ ونقول (العربية) لأننا وجدنا فيها من خلال النماذج التي تناولناها خصوصية واختلافاً، خاصة عن تلك التي ضمتها “انفعالات” ساروت، وكذلك في فهم كُتّابها ونقادهم لها، ليتعزز افتراقها عما يمكن أن تقارن بها من كتابات قصصية- وربما غير قصصية- في الآداب الغربية. أوضح الميزات أو السمات التي تتميز بها هي (القِصَر) الشديد، إذا كان عموم الجيد من نماذجها متراوحاً طولاً بين 200 و500 كلمة، مع أننا نرى تحديد النقد الغربي لا يصل بها إلى هذا القصر، وهو ما ذهب إليه أيضاً إبراهيم فتحي في معجمه، حين عرفها بأنها “قطعة مختصرة من النثر القصصي تكثيفاً من القصة القصيرة، ويتراوح طولها أحياناً بين 500 و1500 كلمة”(23). وتعلقاً بهذا تبرز السمة الثانية، نعني (التكثيف)، وهو إذا كان ضرورياً للقصة القصيرة بشكل عام، فإنه يبدو في هذا الشكل القصصي غاية في الأهمية، إذ تعوض فيه الكلمةُ أحياناً عن العبارة، والعبارةُ عن الفقرة ، دون إخلال بالموضوع وعرضه، ولا في فنية التعامل معه، وذلك بمنح هذه الكلمة أو تلك العبارة دلالات أبعد من دلالاتها المعروفة ليمتد تأثيرها إلى ما هو أبعد من حروفها. وربما لا تبدو حاجة القصة القصيرة جداً إلى الصراع- Conflict- بقدر حاجة الأشكال القصصية الأخرى إليه كون “المصطلح (صراع) يعني ببساطة أن القصة تجمع أو تشتمل على قوتين متعارضتين ندعوها بطلاً… وخصماً… ثم يُطوّر ويُنمّى ويُحلّ النزاع بين هاتين القوتين”(24). وهو أيضاً ” التصادم بين الشخصيات والنزعات الذي يؤدي إلى الحدث”(25). وعليه لم يكن للقصة القصيرة جداً أن تشتمل على هذا كله، ولكن لنكن دقيقين ونقر بأن عملاً، أياً كان شكله، لا يمكن أن يكتسب مشروعية تسميته بالقصة دون أن ينطوي بشكل أو بآخر على شيء من ذلك، مع أن القصر، والتكثيف المرتبط به “يجعل من الضروري معالجة الصراع والتشخيص والمشهد في حذق وتدبّر”(26). ولذا فإن تأمل الجيد من النماذج القصصية القصيرة جداً يكشف لنا عما يشبه البذرة أو المؤشر الذي يلمحّ إلى نوع من الصراع غير الصريح، ولكن دون أن يتطور في خط حدثي. وأمام هذه السمات، (القِصَر، والتكثيف، والصراع المحدود) لنا أن نتوقع محدودية (الشخصيات)؛ إذ تشتمل القصة القصيرة جداً عادة على شخصية واحدة وربما اثنتين وربما تشتمل على مجموعة ولكن بما يعني وحدة واحدة، وهذه الأخيرة هي في الواقع ما عكستها صور أو قصص ناتالي ساروت. ويبقى ما يمكن أن ينضوي تحت ذلك كله، نعني (الموضوع)؛ فالقصة القصيرة جداً تعالج أو تقدم عادة موضوعات خاصة، إنسانية وربما مألوفة وعميقة في دلالتها، ونابعة من دواخل الإنسان أكثر مما هي نابعة من الحدث العادي، حتى وإن بدت ظاهرياً كذلك، بل تتمكن الأسطر القليلة للقصة من أن توحي بالدلالات عليه لا أن تعرضه. وإذا كان لنا أن نضيف سمة أخرى فهي: أن عموم الإشارات أو المواقف والمفردات في القصة القصيرة جداً يجب أن تتجه نحو (تفجير) الموقف أو الحالة التي ترتكز عليها القصة، ولكن قد يكون هذا التفجير حقيقياً فيها، فتكون الضربة والنهاية الفعلية، وقد توحي به أيضاً حين لا تنتهي القصة بمثل هذه الضربة أو النهاية. وفي كلتا الحالتين يجب أن توحي القصة، خاصة عبر هذا (التفجير)، بما هو أبعد من النهاية الحرفية، وذلك لقصرها الشديد، وهو ما فعلته بعض قصص ساروت كما فعلته معظم القصص العربية التي أشرنا إليها.
(7)
ومع اتضاح موضوعنا أكثر، ومع ما اكتنفه من جدل وأطروحات مختلفة يتكرر السؤال: هل هناك إذن نوع أدبي أسمه (القصة القصيرة جداً) ؟ فنقول: هناك ما يمكن أن يكون شكلاً قصصياً بهذا الاسم، ولكن لا يمكن أن يكون نوعاً بقالب ذي مقومات يختلف بها عن الأنواع أو (القوالب) الأدبية الأخرى، مع ما لهذا الشكل من سمات تبدو خاصة ومستقلة، إذ أنها في حقيقتها تشديد وتركيز على سمات القصة القصيرة. فما القصر والتكثيف والصراع- مع محدوديتة- إلاّ سمات هذه القصة، كما عرفناها دوماً- ولكنها في (القصة القصيرة جداً) تأخذ بعداً وأهمية ودوراً أكبر وأوضح ما تأخذه في أشكال القصة الأخرى. وعليه، ولأننا لا نجد من مقومات وسمات (القصة القصيرة جداً) مما لا تنطوي عليه القصة القصيرة عموماً فأننا لا نجد هذا الشكل القصصي نوعاً، بل لا نجده شكلاً مستقلاً يستطيع أن يقف بنفسه من خلال مقومات خاصة به. وهنا نتفق مع معظم ما في رأي الناقد العراقي باسم عبد الحميد حمودي حين يقول: “إن القصة القصيرة جداً ليست جسداً مفصولاً عن فن القصة القصيرة، ولكنها تراعي التكثيف والجو الخاص وضربة النهاية، وتراعي التركيز والاقتصاد في الكلمات كذلك(27). ونحن برأينا هذا لا نلغي أهمية هذا الشكل من الكتابة القصصية، ولا نقلل من أهمية الجيد الذي كتب ضمنه، ولكننا لا نتفق، في الوقت ذاته، مع من يبالغ في عده نوعاً أدبياً أو شكلاُ قصصيا مستقلاً.
الهوامــش والمصادر:
(1) Joseph T. Shipley (Ed.): Dictionary of World Literary Terms, George Allen & UNWIN, USA, 1979, P. 312.
(2)M .H. Abrams: A Glossary of Literary Terms, Holt, Rinehart and Winston, USA, 1981, P. 176.
(3) مجدي وهبه: معجم مصطلحات الأدب، مكتبة لبنان، بيروت، 1974، ص518.
(4) See: Ernest Hemingway: In Our Time, Charles Scribner’s Sons, USA, 1953, p91.
(5) باسم عبد الحميد حمودي: “القصة العراقية القصيرة جداً.. عن المصطلح والصورة التاريخية”، مجلة (الأقلام)، بغداد ، ع10/11 ، ت 2/ك1 ، ص217.
(6) انظر: (ميكانيك الأقصوصة) في كتاب: فن كتابة الأقصوصة، مجموعة مؤلفين ترجمة كاظم سعد الدين، منشورات وزارة الثقافة والفنون، الموسوعة الصغيرة (16)، بغداد، 1978، ص5- 13.
(7) Shipley: op. cit, p 301.
(8) Abrams; op. cit., p177.
(9) Carl E. Bain, Jerome Beaty and J. Paul Hunter: The Norton Introduction to Literature, W.W. Norton & company, New York, London, 1995, p255.
(10) كاظم سعد الدين، مصدر سابق، ص7.
(11) Short Story Writing, a Conversation .In: American Writing Today, Ed. By Richard Kostelanetz . U.S.A, 1982, Vol.1, P288.
(12) انظر: ناتالي ساروت: انفعالات، ترجمة وتقديم فتحي العشري، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1971، ص12، وانظر أيضاً:
The Penguin Companion to Literature, 2: European literature, ed. by Anthony Throrlby , Penguin Books, Great Britain , 1969, p. 696-697.
(13) المصدر السابق، ص27.
(14) المصدر السابق، ص 29.
(15)Bain and Others: op.cit. p355.
(16) عبد عون الروضان: “القصة القصيرة جداً.. لماذا؟” جريدة (القادسية)، بغداد، ع 2339، 7/11/1987.
(17)Bain and Others: op.cit. p255.
(18)انظر: زكريا تامر: النمور في اليوم العاشر، دار الآداب، بيروت، 1978، ص6، 7، 59-61، 64-66، 120.
(19) انظر: ياسين رفاعية: العصافير، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1977 ( الطبعة الثانية)، علماً بأن طبعتها الأولى كانت عام 1974.
(20) انظر: إبراهيم أحمد: 20 قصة قصيرة جداً، دار الرواد، بغداد، 1977 ص7-48.
(21) انظر: خالد حبيب الراوي: العيون، منشورات وزارة الإعلام، بغداد، 1978.
(22) من طريف ما صدر متأخراً عن المجموعات السابقة، مجموعة للقاص الليبي علي مصطفى المصراتي عنوانها “الطائر الجريح.. ومضات قصصية”، وكأنه يحيلنا إلى ما يسمى بقصيدة الومضة القصيرة جداً. وهو لم يكتف بهذه الإشارة الخاصة، فثبّت الآتي تحت العنوان: مائة وخمسون قصة قصيرة جداً جداً جداً، مع أن غالبية قصص المجموعة أو ومضاتها لا تختلف عن جل ما كُتب عربياً من قصص قصيرة وقصيرة جداً.
انظر: علي المصراتي: الطائر الجريح، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، ليبيا، 1994.
(23) د. إبراهيم فتحي: معجم المصطلحات الأدبية، المؤسسة العربية للناشرين المتحدين، 1986، مادة (جنس).
(24)Virgil Scott and David Madden: Studies in the short story, Holt Rinehort and Winston, U. S. A, 1976, P 6.
(25) مجدي وهبة، مصدر سابق، ص85.
(26) د. إبراهيم فتحي: مصدر سابق، مادة (جنس).
(27) باسم عبد الحميد حمودي: مصدر سابق، ص274.