الغابة الضائعة

الغابة الضائعة لروفائيل ألبرتي
شاهد عصر
ميسلون هادي
لا تكاد تخلو صفحة من صفحات هذا الكتاب من أسماء ثلاثة أو أربعة أو خمسة من مشاهير هذا العصر كتاباً وفنانين ورسامين وشعراء وموسيقيين ونحاتين ومسرحيين ومصورين فوتوغرافيين وممثلين ومؤلفين ممن سمعنا بهم أو قرأنا لهم وأعجبنا بهم، حتى لا نملك ونحن نقلب مذكرات رافائيل البرتي إلا أن نغبط هذا الشاعر الكبير على هذه الحياة الحافلة التي عاشها وهو ينتقل من غصن لآخر من أغصان غابته الشاسعة هذه .
يقول الشاعر:
“كلما أزحت الأغصان والأوراق المتساقطة من هذه الغابة ومضيت إلى أمام شعرت أن الأشياء تختلط كلها فتلتبس علي بل تتجاوزني أحياناً مخلفة أجزاء متناثرة تضيء على نحو متفاوت كما لو أن حياتي لم يكن لها قط مسار متسلسل أو نمو متجانس وأنه لمن العسير علي الآن وأنا في هذه السن المتقدمة أن أحتفظ بذاكرتي متيقظة دقيقة تتيح لي ترتيب ما حدث بربطه بغيره من الأحداث ليؤلف قصة يمثل كل فصل فيها حدثاً متكاملاُ من أوله حتى آخره”.
إن هذا الجزء من الغابة الضائعة (كان الجزء الأول قد صدر عام 1959 ويتناول حياة الشاعر من 1902 – 1931) يمتد ليشمل مرحلتين من حياته الأولى (بين عامي 1931 – 1977) وتحدث فيها عن أعوام النفي مع زوجته خارج إسبانيا متنقلاً بين الأرجنتين والأورغواي وباريس وروما وعواصم أخرى من أوربا والأمريكيتيين والمرحلة الثانية (بين عامي 1977 – 1987) ويتحدث فيها عن حياته في إسبانيا أثر عودته من المنفى.
وقد احتلت الفترة الأولى الممتدة من 1931 – 1977 المساحة الأكبر من الكتاب – ومن ذاكرة الشاعر أيضاً إذ يبدو لنا متعلقاً برموزها وأحداثها وشبابها أما الفترة الثانية الممتدة من 1977 – 1988 فهي في حقيقتها لا تعدو أن تكون ذكريات عن تلك الفترة الأولى تثيرها في نفسه الأماكن التي يراها من جديد في إسبانيا بعد عودته من المنفى.
إن الشاعر يتذكر (قدر تعلقه بها وقدر ما تسمح به الشيخوخة) شظايا تلتمع هنا وهناك من مسيرة حياته دون ترتيب زمني حتى يخيل لي أن صورة ما من الماضي تنبثق فجأة في ذاكرته فتستدعي هذه الصورة معها أشخاصها وتفاصيلها ومكملاتها الزمانية والمكانية ، فيقدمهم لنا ألبرتي بدوره كما رأى هو تلك الصورة أو كما يحلو له أن يراها بشكل واقعي أحياناً ، وبشكل فانتازي متناغم مع مخيلته المشاكسة في أحيان أخرى.
ولعل أجمل فصول الكتاب هو ذلك الذي يأخذنا فيه الشاعر إلى قلب تجربته النضالية مع رفاقه في مقر تحالف المثقفين المناهضين للفاشيين حيث يصف ذلك التحالف بأنه كرنفال من الرسامين والممثلين والصحفيين والشعراء والكتاب والسياسيين من الأسبان والأجانب ثم يستذكر الشاعر المواقف النبيلة لرفاقه الذين قاتلوا أو استشهدوا أو ماتوا في السجون أو خارجها أو عاشوا مثله في المنفى أو أولئك الذين عقد معهم الصداقات الحميمة خلال تجواله المستمر في مدن العالم ويحط عند كل واحد منهم بما يستحقه من تبجيل ومحبة :
ميفيل ايرناديت وانطونيو ماتشادو وشاغال وهنري ميشو وسلفادور دالي وبيكاسو ولوركا وبابلو نيرودا وصديقتيه الرسامتين ماروخا مايو وديليا ديل كاريل وعشرات بل مئات الأسماء التي يخص بها الكتاب لشخصيات ومدن وجزر وأديرة وأحياء وقاعات عرض ومسارح وأكاديميات واتليهات وكأنما هذا الشاعر الجوال المتمرد أراد حقاً امتلاك البحر بوثبة واحدة :
“أيتها الريح : جرديني من ثيابي
وارمها يا ريح إلى البحر
بوثبة واحدة
أروم امتلاك البحر”
ويقول الشاعر عن هذا الحشر الكبير من الأسماء :
“ذاكرتي فهرس لا ينتهي ، دليل أسماء كبير .. مفكرة لا آخر لها عمرها نحو خمسة وثمانين عاماً شطبت أيامها يوماً فيوماً بعلاقات بمخلوقات وأشخاص .. أغزو أماكن ثم أغادرها محملاً بعناوين كثيرة مع يقيني أني لن أعود ثانية لألتقيها”.
والحق يقال أن مترجمة الكتاب الدكتورة باهرة محمد قد بذلت جهداً كبيراً وواضحاً في إكمال الصورة للقارئ العربي ووضع اللمسات الضرورية عليها فجاءت هوامشها كتاباً آخر من المعلومات والتوضيحات المهمة لكل شاردة وواردة يذكرها الشاعر .. ونزعم أنها في ذلك قد بذلت إخلاصاً في البحث لا يقل أهمية عن إخلاصها في ترجمة هذا الكتاب الممتع والمهم ..

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

النصف الآخر للقمر

ميسلون هادي القادم من المستقبل قد يرى أعمارنا قصيرة، وعقولنا صغيرة، لأنها انشغلت بالصور المتلاحقة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *