الشغف بالماضي .. ميسلون هادي في رواية العيون السود
التاريخ: Wednesday, August 22
اسم الصفحة: المدى الثقافي
صالح زامل
الرواية أحد أكثر الفنون الإبداعية التصاقا بالتحولات الاجتماعية لذا يعدها(لوكاش) ملحمة العصر الحديث فهو عصر مفارق لما قبله، وهو يرى أن الرواية نتيجة فنية لوعي متميز للتاريخ وتأسيسا على ذلك فإنه لا يهتم كثيرا بتحليل النص الروائي وتبيان خصائصه بقدر ما يهتم بمتابعة الوعي التاريخي المنبعث منه. وهو ما سيعدله غولدمان فيوازن بين العنصرين العمل بذاته والوعي حوله، لذا يرى الأخير لكل عمل فني هناك بعدان؛ بعد اجتماعي ينطلق من الواقع المعيش، وبعد فردي ينطلق من خيال الفنان، وان البعد الأول يمثل الدور الذي يلعبه أفراد المجتمع في عمل إنما يقوم به الكاتب مثلا.
إن الرواية لا زالت في العالم العربي، وفي الكثير من الأعمال، لصيقة بالتحولات فهي(عالم متكامل من الظواهر الإنسانية والأخلاقية والسايكولوجية والتأملية والتاريخية والجمالية أيضا)، وإن الرواية في العالم العربي مثل أشكال السرد العربي الأخرى تهيمن عليها غائية تنظر للعالم خارج الرواية بحرص يستدعي الموازنة مع الجمالي.
وتنتمي رواية(العيون السود)، لـ(ميسلون هادي)، لهذا الانشغال، فقد كانت الروائية أمينة على نقل أحداث عراقية خالصة بأجوائها وهمومها ولصيقة بالإنسان، فهل وفقت الرواية عند الموازنة بين الجمالي والغائي، لقد آثرت الرواية خصيصة تعرض التحولات الاجتماعية التي دارت في مكان محدد هو العراق، وباجتزاء لفترة من سنوات الحصار في أقسى تحولاتها، وهي أواخر التسعينيات حيث كان ضغط الحصار على أشده، وهو يثقل كاهل العراقيين في أقسى صوره البشعة، وترجع الرواية عرضا في بعض أحداثها بإشارات متباعدة إلى الحرب العراقية الإيرانية، هذا الاجتزاء للزمان طال المكان أيضا، إذ ظلت الحركة مشدودة لحي سكني لا تستطيع أن تحدد ملامحه الهجينة بحسب الشخوص، إلا بأنه كان سابقا للطبقة المتوسطة أما لحظة السرد أو زمنه، فهو يكاد أن يكون العراق مصغرا؛ ففيه فضلا عن الطبقة السابقة، هناك تحسين الكاسب، والشرطي كاظم البغدادي، وابن الأطراف الذي يقتحم المدينة مثنى.
الأشخاص الثلاثة يظهر بوضوح حضورهم في المكان وإن كان بتفاوت ولعل مثنى يمثل الأكثر فاعلية فيهم، وكل منهم طارئ على المكان ومريب أيضا، فالأول يسرق (الحصة التموينية)، والثاني نافر من (التحولات الاشتراكية والعراق العظيم)، والثالث يتجرأ على وداعة المكان بالغرائبية التي أرادتها له الرواية، ويعد أخطرهم إذ سيستحوذ على صورة الوداعة التي تمثلها(يمامة).
إن الاجتزاء للمكان أفاد الرواية من جهة الشد وجنبها الإنهاك ومع ذلك يظهر الأخير في مواضع معينة بوضوح، عندما تخرج الرواية عن الإطار الحي إلى مكان أبعد قليلا هو الشورجة أو الشوارع الفرعية منها، أو حركتها إلى مكان مثل ساحة البكر في المنصور.
هناك زاوية نظر رويت من خلالها الأحداث لذا ظلت حركة الشخوص وأفعالهم تتبدى من خلال هذه الزاوية فـ(يمامة) بالصدفة أو بتكلف تقف على كل المشهد وأحداثه، وهي التي تحدد ملامح الشحصيات، أي بقدر صلتها بها تظهر فاعليتها في الرواية، فهل كانت عوالم الرواية نسوية، في الظاهر يتبدى ذلك حيث غلب عدد الشخصيات الإناث الفاعلات في الرواية(يمامة، وجنان، وهنوة، وحياة، والخالة) في مقابل الذكور الفاعلين(حازم ويستدعى من الذاكرة، ومثنى، وحسن) لقد قاربت الرواية في بعض المواضع أن تصور لنا عوالم نسوية خالصة.
تحمل أسماء أغلب الشخصيات الرئيسة في الرواية– فضلا عن الاسم كونه تعريفا- قصدية غائية تشي إلى حد ما بما تكون عليه الشخصية، لذا فإن الاسم (يمامة) يحمل أكثر من دلالة منها ما هو قريب(اليمامة، طائر وهو محلق بجناحين) ودلالة أنه غير أرضي، فيوحي بالسمو والارتفاع على دونية الأرضي، ثم الحمام رمز المسالمة والوداعة، كما أضفت لكل هذه الصفات التواشج مع الواقع كونها فنانة تشكيلية، وكل الدلالات السابقة مشحونة بالانكسار بمواجهة تقابل قسوة التحولات السريعة التي تميل للأرضي واليومي، لكن الأرضي سيفرض نمطه على هذا الكائن الوديع عندما يجعله في خيارات غير متوازنة، وهي بين نقيضين؛ الإخلاص للماضي، والقبول بالآن في نموذج(مثنى)، والاسم(مثنى) هنا يحمل أيضا دلالة تقف على ثنائية الآن والأمس، فهو ماض يقارب الصورة والذاكرة وحسب- أي ذاكرة يمامة- حيث يشبه من جهة الشكل فقط(حازم) الحب الذي ينتمي لزمن العيون السود، زمن الماضي و(مثنى) حاضر ينتمي بقوة كبيرة للحاضر في ماديته وأرضيته، فهو تلفيقي متصالح مع الآني، وهو في جانبه الأخر من الثنائية السابقة له ماض يختلف تماما إن لم يكن متناقضا مع الآن( آنه) كان وديعا ومثقفا وقنوعا- والآن هلوعا مشغولا بالسوق والدولار والتجارة والربح والغرائبية وكره للثقافة.
هذه الثنائية ظلت تسترجعها الرواية من خلال الحنين للماضي ومقابلته بالآن الذي لا يظهر إلا في صورة سخرية عابرة لرجل أشبه بأهوج، وهو(كاظم أبو عمر)، لأنه بمناسبة وغير مناسبة يتذمر من(الاشتراكية وأمريكا) وبأرضيته التي جل همومها الغاز والكهرباء والنفط.
الآن في الرواية يُستسلم له ويتكيف معه الإنسان بقدرية عالية، زمان الآن الذي تظهر أشياؤه الجميلة وتختفي خلفها صورة أخرى للقبح تتبدى عنه بشكل مفاجئ، كما في لقاء جنان– جمال، جنان المنتظرة للحب القديم، وجمال القادم من الأسر بغير صورة وملامح، تقول جنان( تخيلي يمامة بعد كل سنوات العذاب عندما حانت لحظة اللقاء شعرت بالخيبة بدلا من الفرح، جمال لا اعرفه ما به أنه يبدو لي رجلا آخر غير الذي عرفته وانتظرته طيلة(طوال) تلك السنين)، هذه أيضا رؤية للآن والماضي تقف على أن الماضي الذي ظللنا ننتظر غده لم يكن غير خيبة لا توازي الطموح، وإن كان الاسمان( جنان- جمال) يدل اختيارهما على رغبة بالكمال والمكافأة للانتظار، فإن هذين الكائنين من وجهة لا يمكن أن يكونا بغير هذا الكمال الذي يعطيه الاسم( فالاسم هبة أحيانا).
مثال آخر للزمنين هو هنوة وهي صورة للوداعة في الآن لكنها تفاجئنا بتاريخ سري مريب، يكون مثار لغط للقريبين منها وتفضحه الابنة حياة التي هي الأخرى صورة للغرابة.
إذن ظلت الرواية مأسورة للمقابلة بين زمنين هو نفسه زمن العيون السود الذي يحتفي بأغنية (وردة) التي تحيل للحب ويعزز في(بلدنا) كما نص الأغنية (العيون السود في بلدنا). وكان هذا الزمن (الماضي) جميلا ليس بالتشذيب الذي تتبناه عادة الذاكرة فتستعيد الأشياء بطريقتها، ولكن هناك اعتراف ضمني بأن الماضي كان أجمل والوفاء له هو الذي يجعل الشخوص يقبلون بالآن، رغم قسوته، فكل الأبطال إنما هم أوفياء للذاكرة، الذاكرة التي يحضر فيها سياسيا عبد الكريم قاسم إذ يعاد الاعتبار له رسميا عبر التلفاز، وعبر لوحة يمامة السريالية، بالرغم من رفضها في المسابقة التي جمعت عبدالسلام النابلسي وعبد الحليم حافظ جالسان يتوسطهما عبد الكريم قاسم واقفا، وعبر حديث خالتها وذاكرة العائلة لطريقة تصفيته في رمضان العراقيون يفطرون ويراقبون مشهد قتله- الذي نقل حينذاك عبر التلفاز- وهذا الماضي( في صورة عبد الكريم قاسم) يعاد لتزكية الحاضر(موضوعة الهجوم على الكويت التي ارتبط بها الحصار).
واجتماعيا فإن الحب ودفء العلاقات الاجتماعية، وكل قصص الحب في الرواية ليست بنت الآن وإنما تنتمي إلى زمن سابق؛ جمال- جنان، يمامة- حازم ويمامة-حسن، أما الآن، فإن نماذجه آثمة لا تمثله إلا (حياة) اللعوب مع (تحسين) و(مثنى)، أو (تحسين) وقريبته ثم وفاء (هنوة) له.
إن الاحتفاء بالماضي يأتي من جهة أخرى هي أن يكون الإنسان ذاتا ذات معنى، أما الآن فهو أما أن يستسلم للآتي ويتصالح معه فيتصالح ويقدم تنازلات للخواء كما صورته الرواية لفترة الحصار، فـ(حسن) كان ذاتا وانتهى إلى أخرى مستلبة، وحتى (مثنى) كان مثقفا كما تصوره الرواية ثم انتهى إلى صورة(الفهلوي) فأغلب الذوات لها في الماضي كيانات إلا أنهم الآن يتحولون إلى صورة من صور الخواء، التي تستعيد الماضي ولا تستطيع أن تتجاوز الحاضر ورتابته، وحدها(يمامة) ظلت تواجه تيار الآن بتحد، لكنها تبدت بوصفها امرأة بكل صورة المرأة التي لا تستطيع أن تطيل المواجهة، ولكن مع ذلك فقد واجهت ما لم يصمد أمامه الرجال ممن يفترض أن يكونوا أكثر قوة.
وحكاية حلم(يمامة) تقود لاعتقاد بأن الحياة في الآن تئد أولادها، بل لا تستطيع أن تحملهم إلى كمال الولادة فهم يموتون ما أن يتركوا ظلمة الأرحام ودفئها، بل حتى (يمامة) الأمينة كما قلنا لذات كانت منصهرة في الماضي لا يعدو أن يكون هذا الماضي في صورة أموات، كلوحتها(روزنامة الأحلام) بما تحمله من(رومانس) يمثله عبد الحليم حافظ، وسخرية يمثلها النابلسي، وبينهما عراقية متضخمة وئدت بقسوة ووحشية يمثلها الزعيم عبد الكريم قاسم، لقد اجتمع هؤلاء الشخوص على القماش، فإذا كان النابلسي مشاركا لعبد الحليم في الكثير من أفلامه فما هو وجه اجتماع عبد الكريم إليهما، هل تحتمل الرواية هذا التفسير السابق، وإلا ما المبرر لاجتماع هذا الهجين بين هذه النماذج.
لكن هذه الأمانة التي ظلت(يمامة) تحرص عليها تتجلى في مصالحة توفيقية تنتهي إليها، بقبول الزواج من(مثنى) مع معرفتها الكثير من عيوبه، وهي المصالحة بين الماضي والحاضر، وبين الأحياء والأموات في لوحتها(أعواد البخور) لكن هل كان الحي فعلا يمثل عطرا كامنا كما(عود البخور). هناك أكثر من إحالة في الرواية تشير إلى غير ذلك، ومنها النماذج الطارئة وسلوكها، فقط أبناء الحي القدماء كانوا عيدان البخور، ولعل موكب الاحتفاء بـ(جمال) العائد بعد سنوات من الأسر يمثل صورة من صور القيم الاجتماعية في المشاركة، ومشاركة(يمامة وجنان) في نقل وعلاج (كاظم أبو عمر) تمثل أيضا صورة من صور الألفة التي حرصت الرواية أن تقدمها.
الحال السياسية للبلاد تقود لمصير مشابه مجهول أيضا معلق بسماء تحلق فيها الطائرات الأمريكية، وعالم انتهى للأخيرة وهي فيه كما الإله كما يصرح(كاظم) الشرطي وهو يمثل مستوى وعي بهواجسه.
لقد تبدى عالم شخوص الرواية بانشغال عظيم باليومي، وهي صورة واقعية لسنوات الحصار في خوائها واستهلاكها، إن ثنائية الماضي الحاضر أو الآن ظلت تغذي الرواية، وهي ترصد التحولات وخصوصا في زاوية منها عنينا بها؛ وهي التنازع بين زمنين عاشهما الشخوص، منها استمرار الماضي عندها مقدسا إلى الحاضر، إلا أن هذا الاستمرار لم يكن إلا في جانب التوفيق والتلفيق، لكن ظل الآن يضغط على الآخرين بقوة، ومن الشخوص من أحدث قطيعة بين الماضي والآتي وتوجه للآن بقوة متمثلا له