العلاقة بالآخر.. تواصل أم انقطاع؟
في الرواية العربية
وليس بالأمر غير الممكن أن أحدهم فكّر، بهذه الصلة منذ قديم الزمان، ليس بالأمر غير الممكن أن يكون الكون بحاجة الى هذه الصلة.
بورخس
منشور
( 1 )
يكتسب السؤال عن العلاقة بالآخر الغربي واقعاً ومستقبلاً، الذي تمثله أو توحي به صور الغرب والغربيين، أهمية وقد مثّل لنا قسمٌ من الصورة واقعَ الغرب كما يعرفه الكثير منا واقعاً، ومن أمثلة ذلك بعض صور الغرب الاستعماري والعنصري. ومثل قسمٌ آخر منها ما يعتقد بعضنا أنه واقع وحقيقي، ومن أمثلة ذلك بعض صور الغرب الإنساني والصديق. ومثل قسمٌ ثالثٌ من الصور ما يقترب من الرموز التي يعبَّر بها في الأدب عن الوطن أو الأوطان وعن العلاقات، وكما تكاد تعني على أرض الوقع أو قد تُتمنّى أن تكون، ومن أمثلة ذلك الكثير من صور المرأة الغربية. والآن نعتقد أن تلك الصور عموماً تقدم لنا، وقد تقترح، وقد توحي بتنوّع من العلاقات التي تحكم ثنائية الشرق أو العرب والغرب. وعليه فبالرجوع إليها جميعاً ووضعها في فرشة شاملة قد تنفرز أمامنا العلاقة أو العلاقات ودلالاتها هذه بين الشرق والغرب أو بيننا وبين الآخر في مستويات متباينة وقد تكون متلاقية فيما بينها أحياناً أيضاً. وهي على أية حال مستويات عن علاقات قد تمثل حقيقة تاريخية، أو واقعاً معاشاً، أو احتمالاً مفترضاً، أو مشروعاً ضمنياً مقترحاً، كما سنرى في ما سيأتي من مباحث. وعلى أية حال، هذه المستويات لا تكاد تتعدى ثلاثة إلا بما يشبه التفرّع منها إلى ما قد يراها البعض مستويات أخرى، ونحن لا نراها كذلك، وعلى أية حال سنشير إليها. هذه المستويات هي:
المستوى الأول: فشل العلاقة بالآخر، ويعني رفض إقامة علاقة بالآخر الغربي وربما مقاومتها، أو عدم إمكانية إقامتها، وإخفاق محاولات ذلك معبَّراً عنه غالباً بفشل زواج عربي بغربية، انطلاقاً مما يبدو أنه معرفة الروائيين للغرب وربما تبنيهم للموقف المسبق منه أحياناً.
المستوى الثاني: تواضع العلاقة بالآخر، ويعني الريبة بالآخر والتحفظ من إقامة علاقة معه، ولكن دون رفضها أو مقاومتها، بل هو قد ينطوي على قبولها بحدود متواضعة أو بشروط يفرضها المنطق، أو تتوفر في سلوك الآخر، أو بتوفر أسباب تتعلق بنا.
المستوى الثالث: التحمس للعلاقة بالآخر، ويعني أحد أمرين، الأول الإعجاب بالآخر والدعوة أو ربما التحمس لإقامة العلاقة به بوصفه متفوقاً، والثاني النظرة الإيجابية إليه بما يعني إمكانية إقامة علاقة معه، في ظل النظرة الإنسانية للشخصية العربية المتخيلة إليه.
فيما يأتي نتناول هذه المستويات، بشيء من التفصيل، كما جسدتها نماذج من الروايات العربية المختارة.
( 2 )
المستوى الأول: فشل العلاقة بالآخر، ويعني رفض إقامة علاقة بالآخر الغربي وربما مقاومتها، أو عدم إمكانية إقامتها، وإخفاق محاولات ذلك معبَّراً عنه غالباً بفشل زواج عربي بغربية، انطلاقاً مما يبدو أنه معرفة الروائيين للغرب وربما تبنيهم للموقف المسبق منه أحياناً. وكل ذلك وفقاً للصور التي تقدمها بعض الروايات لنا عن الغرب والشخصية الغربية.
قد تعبر الروايات، وفق هذا المستوى، عن الاندفاع نحو الصدام بالآخر، لا بوصفه حكومات أو حكاماً، بل حضارات وقوىً ودولاً وامبراطوريات هي من موروث مرحلة الكولونيالية غالباً. وعادةً ما تعبر هذه الروايات، وهي من مرحلة ما بعد الكولونيالية بالطبع، عن هذا الصدام والاصطراع وربما وصولاً إلى الرد، جنسياً أو بما يقترب من الجنس حبّاً أو زواجاً. ومنها “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح، و”أصوات” لسليمان فياض، و”قصة حب مجوسية” لعبد الرحمن منيف، و”ليلة في القطار” لعيسى الناعوري، و”البرتقال المر” لسمى الحفار الكزبري، و”نيويرك 80″ لسهيل إدريس، و”نورا” لناجي التكريتي، و”الرحلة” لرضوى عاشور، و”الثلج الأسود” لمحمد أزوقة، و”قبو العباسيين” لهيفاء بيطار، و”صهيل المسافات” لليلى الأطرش، و”كم بدت السماء قريبة” لبتول الخضيري، و”رقص على الماء” لمحمود البياتي، و”التوأم المفقود” لسليم مطر، و”الحدود البرية” لميسلون هادي، و”واحة الغروب” لبهاء طاهر.
كتّاب هذه الروايات عادةً ما ينطلقون، في تعبيرهم عن الآخر وعن اللقاء والعلاقة به، من مواقف متصلبة أو معانية أو أيديولجية أو فكرية، وكثيراً ما تتعدى حدود الفردية من خلال ما فيها من موروث، إن لم تكن هي موروثة كلياً من تراكمات الهيمنة الكولونيالية على بلدانهم. ولعل ما يزيد من تصلب هذه المواقف هو أن هؤلاء الروائيين إنْ هم إلا بعض من العرب أو الشرقيين، وهم يعانون في زمنهم المعاصر من بعضِ مركبِ نقصٍ إزاء تفوق الغرب والحضارة الغربية. ومن هنا، ولأن التعبير عن اللقاء والعلاقة مع الشرق يأتي، كما قلنا، جنسياً أو عن طريق العلاقات الجنسية وتحديداً القائمة ما بين رجل/ ذكر عربي وامرأة /أنثى غربية، فقد كان منتظراً لهذا التعبير الجنسي يأتي، أحياناً ولكن ليس دائماً، قوياً وصاخباً وهادراً([1]). وإذا ما تجاوزنا، في هذا السياق، تناول جورج طرابيشي العميق والفريد لرواية الطيب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال”، التي هي على أية حال ليست من روايات المدة التي ندرسها، فإن العديد من روايات ما بعد رواية الطيب صالح، تلتقي، بشكل أو بآخر، معها، في هذا الذي نذهب إليه، وإن كانت قليلاً ما تصل إلى نهاية الشوط الذي وصلت إليه تلك الرواية، حسب تأويل طرابيشي.
بعض الروايات التي عبرت عن المستوى الأول من العلاقة، مستوى فشل العلاقة، لم تقل بالفشل تماماً، ببساطة لأنها لم تدفع بأبطالها وشخصياتها إليها، بمعنى أنْ ليست هناك علاقة أصلاً. وقاوم بعض آخر منها العلاقة وهي توشك أو تقوم، أو على الأقل لم تتحمس لها ولم تؤيدها ولم تمل إليها. أما أكثر هذه الروايات فهي التي قدمت علاقة، ولكنها غالباً ما تفشل أو تنتهي بالإخفاق في تحقيق ما يُفترض بها أن تحققه، وفي حالات أخرى يرافقها اضطراب وتشوُّش فيها هي ذاتها، أو في أحد طرفيها، ولاسيما العربي، ليعني ذلك كله، عندنا، الحكم على علاقة العربي بالآخر الغربي بالفشل أو الموت أو عدم الفلاح، وغالباً ما يكون ذلك لا على مطلق العلاقة مع هذا الآخر، بل عليه حين لا يتوفر على ما يُفترض أن يتوفر عليه، كما سنأتي إلى هذا تحديداً في مكان لاحق.
يتواصل موقف الصدمة أو الرفض المسبق، بموقف رفض لعلاقة شخصيات ما تقوم مع الآخر، كما تعبّر عن ذلك مثلاً رواية “وتشرق غرباً” لليلى الأطرش، فمع أننا لا نعرف عن (كاتي) التي يتزوجها عماد لا نعرف عنها شيئاً غير الاسم وأنها أمريكية، تعبر الرواية أو شخصياتها الفلسطينية عن موقف الرفض الذي تعبر عنه بشكل أو بآخر لأمريكا وللهجرة إليها وللزواج من أمريكية، كما نرى أنه يتضح في تأثيره حد الصدمة في العائلة وخاصة بطلتها الأخت (هند)، بل أن ذلك يشكل لطمة لأهله، خاصة للأم وللأخت، بسبب ما يعنيه ذلك لهم، حين تتلقى (هند) منه رسالة يلمح بها إلى ذلك:
“أدركت ما يريد أن يقول.. وما فهمتْه أكبر من أن تنقله لوالديها بلا سطور واضحة.. كيف أراد منها أن تبدأ تلك الزوبعة فتخبر والدها بما توجّس به ويخشاه ويتوقعه؟ وكيف أدرك شكري النجار بحسّه الأبوي أنّ عماداً لن يعود وسيتزوج؟! وتتدافع حكايات الجدة أم شكري عن هؤلاء الذين رحلوا فضاعوا في بحور الغربة ولم يعودوا.. وواضح في الذهن ذلك البكاء الطفولي الصامت المتساءل إذ يستعد للسفر (أنت راح ترجع يا عماد؟!) ويؤكد أنه سيعود”(وتشرق غرباً، ص125-126).
في رواية “التوأم المفقود” لسليم مطر، ينقل لنا البطل عملية اللقاء الجنسي الشبقي الصاخب بينه وبين السويسرية (باتريسا):
“يا إلهي.. مَن منا الرجل ومن المرأة، أنا أم (باتريسا)؟ إنها بعنفوان جبار وتغلي مثل قِدرٍ منسيّ على نار، تشبعني حرائق وأنا أطفي بها [كذا]. افترشنا أرض الحديقة ورحنا نتصارع ونتمرغ في الأطيان والحشائش. حتى الضفادع والهوام تقافز من حولنا وهي تنشد تراتيل لذة. لم أتوقع أن توجد امرأة هكذا مثل لبوة جامحة. لو لم أكن مهتاجاً ثائراً مثلها لربما قضت عليّ وهي تصهرني بطاقتها العربيدية”(التوأم المفقود، ص54)
فعندنا أن هذا اللقاء الجنسي ليس بلقاء حب واحتضان، بقدر ما هو لقاء صدام ورغبة مجنونة من الأنثى الغربية (الآخر) للاستحواذ، ورغبة واعية من الذكر العربي (نحن) للرد والنجاة، خصوصاً وهو لقاء لا يعبّر عن ديمومة علاقة. والواقع أن رفض (نحن) لـ(لآخر) الذي يعبر عنه فعلُ اللقاء الجنسي هذا في رواية “التوأم المفقود”، هو، كما لمّحنا، تعبير عن موقف جمعي أكثر منه فردياً. ولهذا فهو في دلالته، وربما رمزيته، حتى حين يأتي ضمن مسار الرواية فعلُ أفرادٍ، يلتقي مع التعبير الصريح الذي يأتي ضمن مسار روايات أخرى، نعني أنه في الحالين رفض جمعي من (نحن) للآخر، كما تواجهه واقعياً الأيرلندية (كاثرين) بطلة “واحة الغروب” من أهالي الواحة الصحراوية، فيقول لها المصري (إبراهيم) مفسراً الأمر، الذي سنعرف أنها في الواقع تعيه:
“-… بينهم عداوات لكنهم دائماً يد واحدة على الأغراب. وهم.. هم أيضاً لا يسمحون للأغراب بدخول بيوتهم.
“قالت كاثرين ضاحكة: ولاسيما الكفار، أليس كذلك؟
“بدا الارتباك في وجه إبراهيم وهو يغمغم: العفو يا هانم”(واحة الغروب، ص،45)([2]).
وستعي (كاترين) فيما بعد، مسترجعة وقائع سابقة، هذا الموقف:
“كان يجب أن أفهم ذلك دون مساعدة إبراهيم. منذ وصلت لم يكلمني أحد. حين أخرج من البيت وأتجول حوله بمفردي أو بصحبة محمود يبتعد الأولاد والبنات الذين يلعبون في الساحة الرملية. إذا اقتربت منهم وأنا أبتسم يفرّون في اتجاه البلد. لم أصادف هذا في أي مكان آخر”واحة الغروب، ص105).
أما زوجها المصري (محمود) فيعي حتمية فشل اللقاء بل إن الوعي بهذا ينبثق من أعماقه ولكن دون أن يستطيع فهم سببه.
“أقول لنفسي: خسرت نعمة فلأحافظ على كاثرين لكن منذ جئنا إلى هذه الواحة انكسر شيء لا أعرف ما هو. انتهى هنا نهار علاقتنا إلى غروب في هذه المحطة الأخيرة إلى الأفق الغربي كما وصفت كاثرين هذا المكان. تفتت زواجنا مثل الرمال ثم بددته كله عاصفة [بنت الواحة] مليكة”(واحة الغروب، ص267).
وليس بعيداً عن العلاقة الجنسية، تعبيراً عن علاقة الشرق والغرب، تعبر بعض الروايات عن عدم إمكانية إقامة علاقة مع الآخر الغربي، وإخفاق محاولات ذلك بعلاقة حب أو زواج عربي بغربية وفشل هذا الزواج بشكل أو لآخر، انطلاقاً مما يبدو معرفةً للشخصية العربية الروائية، ومن ورائها المؤلف للغرب والموقف– أحياناً المسبق– منه، كما تفعل هذا رواية سلمى الحفار الكزبري القصيرة “البرتقال المر”. و”الرواية تقع أحداثها في كليفلاند بالولايات المتحدة الأمريكية… وتتمركز حول قصة حب بين شاب سوري، مبتعث هناك لدراسة الطب، وممرضة سويدية… تنتهي قصة الحب بالتضحية بالحب في سبيل الوطن، فالبطل يرفض عرضاً لوظيفة مربحة في الولايات المتحدة ليعود إلى بلده الذي يحتاج إلى تخصصه”([3]). فكأن الرواية هنا تضع البطل أما خيار لا ثالث- اختيار الوطن والآخر- بينهما، إما الوطن أو الآخر. ونحن نعرف أن الواقع قد وضع اللآف من العرب، لاسيما الدارسين في الخارج، أمام هكذا خيار صعب، مع الفارق أن الخيار، بحدود علمنا، كان هنا للآخر غالباً، مع صحة ما يتبعه من معاناة وتمزق مشاعر وميول وانتماء.
واضح بعض عدم اللقاء ما بين الشرقي والغربي أو تعثره يكمن في عدم فهم الواحد منهما للآخر، ولاسيما الغربي، وفقاً لوجهة نظر الشخصية أو الراوي أو الرواية والروائي، كما تعبر عن بعض هذا رواية “خارطة الحب” لأهداف سويف. فمع انجذاب الواحد للآخر الذي يقود إلى اللقاء وربما محاولة الاندماج، المعبَّر عنه عادةً بالانجذاب فالحب ثم العلاقة، فالزواج ما بين العربي والغربية، يأتي الكشف عن عدم نجاح الاندماج وعدم الانسجام، في مرحلة ما من مراحل العلاقة، وكل ذلك بالطبع في مرحلة مبكرة من مراحل لقاء الشرق والغرب، كُتبت عنها الرواية، فتكتب إحدى شخصياتها:
“القاهرة في 26 أكتوبر 1911
“الموضوع ببساطة هو أن الشرق يجتذب أهل أوروبا لسببين:
“الأول اقتصادي، فأوروبا تحتاج إلى المواد الخام لصناعاتها، وإلى الأسواق لمتجاتها، وإلى فرص العمل لرجالها، وقد وُجدت الثلاثة في بلاد العرب. والثاني يمكن أن نطلق عليه سبباً رومانسياً، فهم ينجذبون انجذاباً دينياً وتارخياً لأرض الكتاب المقدس، بلاد القدماء ومسرح الأساطير.
“يبدأ هذا السحر ويولد هذا الانجذاب في نفس الأوروبي، وما زال في وطنه، وعندما يأتي إلى الشرق المنشود يكتشف في البلاد سكاناً لا يفهمهم وربما لا يرتاح لهم. ماذا يفعل؟ قد يبقى ويحاول أن يتجاهل أهل البلاد. قد يحاول تغييرهم وتغيير عاداتهم. قد يغادر البلاد، أو قد يحاول أن يفهمهم”(خارطة الحب، ص427).
الوعي بهذا ربما يقود إلى تعبير بعض الروائيين والروايات عن رفض العلاقة ممثلةً غالباً بعدم إقدام أبطالهم على مشروع الزواج بمن لهم علاقات بهم من الغربيات. لكن بعض الدارسين قد ينظرون إلى مثل هكذا علاقات ووقائع على ظاهرها، ومع أننا لا نذهب معهم في هذا غالباً، إلا إننا لا نستطيع أن نقول إنهم مخطئون. يقول محمد رياض وتار، مثلاً، في خضم تعليقه على عدم ارتباط بطل “الربيع والخريف” لحنا مينة بالمجرية (بيروشكا): “إن حال (كرم) تشبه حال (منصور عبد السلام) بطل رواية (الأشجار واغتيال مرزوق) لعبد الرحمن منيف، الذي رفض الزواج بـ(كاترين)، لا (لأنه يعترض عليها من حيث المبدأ، أو لأسباب اختلاف الحضارات والمفهومات… بل لأنه يشعر أنَّ مثل هذا الزواج لن يكون- في المستوى الشخصي على الأقل- زواجاً متكافئاً تماماً، مثلما لا يتكافأ المتقدم والمتخلف)”([4]).
وإذا ما كان لهذه الروايات- أو لمؤلفيها- أو لمن نفترض أنها تمثلهم من شعوب أو فئات اجتماعية، أن تتقبل الآخر الغربي في أدنى درجات القبول، فإنها في الغالب لا تقول بالاندماج به، وكأنها تنطلق من قول الآخر نفسه، ممثلاً بجوزيف روديارد كيبلنغ، “الشرق شرق والغرب غرب لا يلتقيان”. وعادةً ما يعبر عن هذا المستوى من المعنى والدلالة بأحد أمرين أو بكلاهما معاً. الأمر الأول حين تقدَّم الشخصية الغربية فاسدة، والمرأة بشكل خاص منفلتة أو خليعة أو على الأقل متحررة تحرراً لا ينسجم مع قيم الشرقيين أو الإسلام أو العرب وعاداتهم، إن لم ينسف هذه القيم، وكما رأينا ذلك في صورة (ماري) زوجة عم بطل “العزف في مكان صاخب” حين ينقلها لنا البطل الراوي، وفي سلوك الزوجة البريطانية ومواقفها في رواية “كم بدت السماء قريبة” لبتول الخضيري. الأمر الثاني الذي يعبَّر به عن هذا المستوى من العلاقة بالآخر، قد يؤدي إليه الأمر الأول. وهو يأتي في ضوء ما ساد الكثير من الدراسات من تجنيس للعلاقة بين الشرق والغرب([5]). ويتمثل هذا عادةً في إخفاق علاقة الحب أو الزواج أو الارتباط بين الشخصية العربية والمرأة الغربية في الرواية، كما في الأمثلة السابقة، وكما هو واضح في نهاية علاقة الزواج بالشكل الذي ينتهي به زواج العراقي البريطانية في رواية بتول الخضيري “كم بدت السماء قريبة” السابقة، وكما تفشل علاقة زواج (خالد) بطل رواية ميسلون هادي “الحدود البرية” من الأمريكية (أنستازيا)، “حين صادرته زوجته بتلبسها لبوس الممتلك له فتعرضه كشيء غريب من الشرق البعيد للرائح والغادي من أصدقائها حتى ملّت وكفّت عن الزهوّ بملكيتها لأثر من آثار الصحراء البعيدة”(الحدود البرية، ص125). ولذا ما كان لهذا الزواج إلا أن يثمر مسخاً أو موتاً، فكانت بنتاً بلا أرجل ولا أيدٍ. وهكذا هو يرفض كل هذا الدمج غير الطبيعي، فيطلّق زوجته ويعود إلى الوطن. ومسألة فشل الزواج حين يتحقق قد تبدو متوقعة دوماً وعادية، كما تعبر راوية سحر خليفة في “الميراث” مثلاً، حين تحكي مثل هكذا واقعة، وبكل اختصار، وكأن هذا مسلَّمة:
“ابتدأت القصة في نيويورك حين جاء الوالد من القرية وتزوج امرأة أميركية، طبعاً أمي، وحصل على البطاقة الخضراء، ثم الطلاق كالعادة”(الميراث، ص9).
ولكن، مرة أخرى، قد يأتي تعبير عدم القناعة بمثل هكذا علاقات، زواجاً أو حباً، حتى قبل فشلها. ولعل هذا يفسر تأثير فكرة زواج (عماد) بـ(كاتي) السلبي في عائلته، في رواية ليلى الأطرش “وتشرق غرباً”، بل هو نصل يغور عميقاً في أبويه صوابهما:
“ارتسم على وجه مريم النجار [الأم] ذلك الجزع الحائر في وجه أم أفلت طفلها يدها في الزحام فضاع… طلبت منهم أن لا يخبروا أحداً أيّاً كان بما يعرفون… كيف عرف شكري النجار[الأب]؟.. متى أخبرته زوجته وكيف؟ لا أحد يعرف.. ولكنه لم يثر صارخاً معربداً.. تجهمت تعابير وجهه المتعب، ولم يذهب للعمل بعد الظهر”(وتشرق غرباً، ص135-126)
فهو يعبر عندنا تعبيراً كثيراً ما قد يصل إلى قوة التعبير الصريح عن رفض علاقة العرب أو الشرقيين أو المسلمين بالآخر، الغرب والغربيين، على الأقل في ظل ما هو عليه مما يعبّر عنه الغربيون كما تمثّلهم في مساق دراستنا المرأة الغربية، ولكن دون يعني هذا بالطبع اقتصار مثل هذا التعبير عن هذا الرأي أو الموقف على المرأة.
وإذا كانت ليلى الأطرش قد أشارت إلى أمريكا والأمريكان بشكل عام ودون تقديم اتصال حقيقي بهم، فإن ميسلون هادي تصرح بذلك حين تقدم لنا شخصيات ضمن نفس الخانة تقريباً التي وضعنا فيها رواية الأطرش السابقة، نعني الخانة التي يصور فيها الكتّاب العربُ الغربَ والغربيين بأشكال تدعو إلى الريبة، ولكن قد تقترب من أن تكون موضع إدانة، إن لم تدن في النتيجة، سواء أكان ذلك بإدخالهم شخصيات فاعلة درامياً في العمل الروائي أم بدونه. وهكذا ترينا ميسلون هادي، في روايتها “الحدود البرية” الغربيين، وتحديداً الأمريكان مدانين وربما مرفوضين. فـرغم أن (خالد) ابتداءً لم يرفض الآخر تماماً، حتى وإن نظرنا إلى ذهابه إلى هذا الآخر اضطراراً، فتزوج من الأمريكية (أنستازيا) التي أغرته بالكارت الأخضر، فإن مثل هذا الرفض جاء في مكان آخر، بل نستطيع أن نقول هو جاء عبر تعبير الرواية عنه ضمن ما عبرت عنه. تعبر رواية ميسلون عن الأمر بشكل القبول باللقاء والارتباط ممثلاً في الرواية بزواج (خالد) من أمريكية، ولكنها تعبر في الوقت نفسه عن ارتيابها ورفضها للقاء والارتباط إن كان ارتباطَ تملك الواحد للاخر كما اكتشف أن زوجته الامريكية تفعله أو تريده، أو كان ارتباطَ تبعية كما رآه (خالد) يتمثل بالعسكري الأمريكي المحتل. يبقى أن الرواية قد عبرت بشكل أعمق عن رفض الاندماج بالآخر، وكان ذلك رمزياً ممثلاً بالمولود المشوه الميت الذي ينجبه (خالد) و(أنستازيا) من جهة، وبالخراب الذي يواجه البطل في بغداد حين يعود.
وقد يأتي فشل العلاقة بسبب من رفض الآخر بشكل أو بآخر، فرأينا سابقاً كيف أن الزوجة الإنكليزية، في رواية “كم بدت السماء قريبة” لبتول الخضيري، ترفض الاندماج بآخرها الذي هو العربي، وتحديداً الزوج العراقي في الرواية، وكل ذلك بعد مرور سنوات على زواجهما وإنجابهما ابنة حين تعرف أنها كانت في بيت صديقتها العراقية (خدوجة):
“ثارت كالمعتاد، انقلب سهواً إناء البندق بركلة من قدمها.
“- تقصدين مع الفتاة القذرة. ألم أحذرك من الاختلاط بحاملة البراغيث تلك؟
“- لكنها صديقتي يا مامي.
“- No! ليست صديقتك فهي ستنقل لك الأمراض”(كم بدت السماء قريبة، ص11).
وحتى بعد أن تطول السنوات بها في بيت الزوجية القائم على اللقاء ما بين الشرق والغرب، وتكبر ابنتهما، تقول بها بعد طلاقها وعودتها إلى وطنها إنكلترا:
“- لم أشعر في حياتي بالإخفاق مثلما أشعر به الآن… أنواع إخفاقي كثيرة. في الماضي حملتُ بك خطأ وأخفقت في إصلاح الخطأ… ثم تزوجتُ وأخفقت في إسعاد الزوج.. ثم تغرّبتُ وأخفقت في فهم بيئة زوجي.. ثم أحببت رجلاً آخر من بني جنسي من خلف ظهر الزوج، ومع ذلك أخفقت في الحفاظ على العشيق… لم أعد انتمي إلى هنا عندما غادرت إنكلترا حينها وقررت أن أحاول الانتماء إلى الشرق. لكن لم أنجح في انتمائي إلى الشرق رغم كل محاولاتي. والآن وقد عدت ثانيةً، أجدنيلا أستطيع الانتماء من جديد إلى موطني الأصلي. كل شيء مختلف”(كم بدت السماء قريبة، ص166).
والواقع أن “كم بدت السماء قريبة” تتخطى كل ما عبرت عنه الروايات الأخرى من خلال فشل زيجات العرب والغربيين، لتخطو إلى الجيل التالي الذي هو وليد مثل هذه الزيجات، حيث تنشأ بطلتها، كما رأينا، في بيت بأب عربي وأم إنكليزية غير منسجمين، فيصاحبها شيء من عدم التوافق هذا، الذي يعبّر عن نفسه حين تصل إلى إنجلترا، “وفي إنجلترا تجد بطلة الرواية نفسها محاصرة بين تكوينها الشرقي وبين تكوين المجتمع الغربي، بين والدتها المحاصرة في المشفى حيث يسري الداء العضال في جسدها وجسد زميلاتها اللواتي يتساقطن كضحايا على أعتاب هذا الداء الواحدة تلو الأخرى وبين رغباتها في الحياة، فتعشق (آرنو) الفرنسي، تحبل منه ثم تقرر الإجهاض عمداً، يتخلى عنها (آرنو)، ولكنها لا تأبه لذلك. فقد اكتشفت أنه لا يزيد عن كونه (سحلية أخذت تتقمص دور الخنزير). تتوفى والدتها في غير أوانها، وسرعان ما تظهر بطلة الرواية وهي ممسكة بالقرآن الذي لم يفارقها أبداً كما تخبرنا، وكأنها تتمسك بوالدها وبالشرق كله، وكأنها تريد أن تثبت لنا أنها وبالرغم من كونها ثمرة تجنيس فاشل، فهي مثل نخلة الطيب صالح في (موسم الهجرة إلى الشمال)، مخلوق له أصل وله جذور وله هدف؟”([6]).
ويقترب من (فشل) الزوجة الإنكليزية في هذه الرواية، وبشكل معاكس، فشل بطلة “الحفيدة الأمريكية” العراقية (زينة) في خطوتها المعاكسة. فالبطلة العراقية التي تصير أمريكية قبل أن تأتي بلدها الأصلي مترجمة عسكرية مع جيل الاحتلال تجد نفسها في مأزق أعمق من أن تجتازه وتواصل حياتها كما كانت من قبل. هي تأتي وطنها السابق، وتحديداً حين ترى المكان والناس، لتقع في هذا المأزق، حين لا تعرف هل تركض إلى ذلك المكان وأولئك الناس، لنهما كانا مكانها وأناسها- أم تركض منهما، لأنها تجيء واحدةَ من أولئك القادمين محتلين للمكان ومستعبدين للناس.
“تذكرت الترنيمة ونحن في الرتل [الأمريكي] الذي قطع بنا الطريق الممتدة من الموصل إلى القرى المحيطة بها. مررنا ببعشيقة فوقفتْ الفتيات أمام البيوت ينظرن إلينا… لم يكن على وجوههن ما يكشف عن نوع مشاعرهن. لكن أيّاً منهن لم تكن تبتسم أو تلوح بمنديلها، أو تتطابق مع ما كان في خيالي من مشاهد لأفلام أميركية عن الحرب العالمية الثانية، وعن فتيات باريس ونابولي وهنّ يلوّحن لأرتال الجيش الأمريكي، ويقفزن فوق ظهور المدرعات لكي يفزن بقبلة من فم جندي لوّحت الشمس وجهه الوسيم. قلت للأولاد [الزملاء الجنود] إن بعشيقة هي على الأرجح تمسية قديمة محوّرة تعني بيت العاشقة… صفقوا لهذه المعلومات، لكنهم سرعان ما عادوا إلى توجّسهم عندما ممرنا برجال ذوي شوارب كثيفة… وراحوا يرمقون رتلنا بنظرات من نار. وددت لو أقفز من العربة المدرعة وأصيح (الله يساعدهم)!… لكن كل ذلك كان مخالفاً للتعليمات. إن كلامي ثرثرة قد تعرّضني ورفاقي للخطر. والتعليمات تريدني خرساء. لذلك تضايقتُ للمرة الأولى من بزتي العكسرية التي تعزلني عن الناس، كأنني في خندق وهم في آخر، بل إنني، بالفعل، في خندق وهم في آخر. ولي، مثل الممثلين البارعين في التقليد، القدرة على التقمص وتغيير الشخصيات وعلى أن أكون ابنتهم وعدوّتهم في آن. وأن يكونوا هم، في الوقت عينه، أهلي وخصومي”(الحفيدة الأمريكية، ص14-15).
وهذا الذي تجد البطلة نفسها فيه، سيكون هو مأزقها طوال الرواية وهي تعاني من تجربة المواجهة ما بين الأمريكي والعراقي المتراوحة ما بين اللقاء والصدام، ولا تنتهي إلى حسم من البطلة بشأن أي الجهتين تننتمي أو تميل إلى. وكأن الروائية نفسها تعيش هذا المأزق الذي لا تستطع الحسم بشأنه، تعيد بطلتها من الوطن الأم- العراق- إلى الوطن المكتسب- أمريكا- ولكن مقروناً بفعل تأويله متروك للقارئ:
“وضعتُ بدلتي الخاكية في كيس ورميتها في برميل المطبخ، لن أزرع في الخوذة ريحاناً. العطر لا يعيش في الحديد… لم أجلب معي هدايا ولا تذكارات. لا أحتاج لما يذكّرني بها. أقول مثل أبي: شُلّت يميني إذا نسيتك يا بغداد”(الحفيدة الأمريكية، ص195).
هناك تعبير عن رفض الآخر، ونعني به حين يريد الآخر، وليس (نحن)، اللقاء والاندماج، ولكن باقتران هذه الرغبة برغبة في الهيمنة، بأية وسيلة. ولعل إحدى أكثر الروايات تعبيراً عن هذا وتمثّلاً له رواية “واحة الغروب” لبهاء طاهر. فمن الصفحات الأولى ينقل لنا بطلها (محمود) صورة المستشار العسكري الإنكليزي الذي يعرف، كما نعرف نحن، أنه محتل، وهو يحاول أن يكون من أهل البلاد معبّراً عن ذلك بوضع الطربوش على رأسه، ولكنه، من وجهة نظر محمود غير المباشرة، يفشل في إقناعه:
“هي المرة الأولى التي أدخل فيها مكتب المستشار الذي يمسك كل خيوط النظارة بينب يديه. وجدت دبلوماسيته في الحديث مفتعلة ووجدته نفسه مفتعلاً وهو يجلس بقامته القصيرة خلف مكتب ضخم وفوق رأسه طربوش غير مقنع يبرز شعره الأشقر”(واحة الغروب، ص10).
ومحمود ينقل لنا وجهة نظره هذه حتى وهو يعترف بهزيمته أمامه، التي تعني في الواقع-هزيمته أمام الإنكليز:
“قلت لنفسي وأنا أخرج من مكتبه إذن مرة أخرى هزمني الإنكليز! لكم أكرهكم جميعاً وأكره النظارة ولكن لا مفر”(واحة الغروب، ص15).
وعندنا أن غالبية رفض الآخر، أو فشل العلاقة به إنما يعود إلى هذا الآخر، بشكل مباشر أو غير مباشر.
( 3 )
المستوى الثاني: تواضع العلاقة بالآخر، ويعني الريبة بالآخر والتحفظ من إقامة علاقة معه، ولكن دون رفضها أو مقاومتها، بل هو قد ينطوي على قبولها بحدود متواضعة أو بشروط يفرضها المنطق، أو تتوفر في سلوك الآخر، أو بتوفر أسباب تتعلق بنا. وواضح أن هذا المستوى يكاد يكون درجة أخرى من المستوى السابق، ولكن لأهمية الفرق بينهما كما سيتّضح بعد قليل، رأينا أن نفصله في مستوى مستقل. ولعل هذا يعبر عن رؤية أنضج وأكثر اتزاناً تتجاوز (الرؤى) الانفعالية والمواقف المسبّقة أو حتى المواقف الفكرية العقائدية وغير الواقعية المسبّقة. هي بدلاً من ذلك قد ترفض الغربي حين يكون بصورة معينة أو يأتي بفعل معين، بينما تتقبله حين يكون على غير هذه الصورة ولا يأتي بهذا الفعل. وتعلقاً بهذا قد يأتي بعض الرفض في بعض الروايات لا رفضاً للغرب أو لبلد معين، كأن يكون بريطانيا أو فرنسا أو أكثر منهما الولايات المتحدة الأمريكية، بل لنظام أو حكومة بلد معينين، وربما حتى لحاكم أو شخص، كما يتمثل مثل هذا بشكل ملحوظ في ما يراهم الكثيرون أيقونات الكراهية والعداء للشرق والإسلام والعرب، نعني بوش الأب وبوش الابن وبلير. مثل هذا تجسد في روايات من أكثرها وضوحاً “طفل الـ CNN” لإبراهيم أحمد، و”نبوءة فرعون” لميسلون هادي، و”الحفيدة الأمريكية” لأنعام كجه جي، و”حليب المارينز” لعواد علي. وبينما تعبر صور الغرب والغربيين، حين تتمثل عبر تماس الشرق والشرقيين بهم في المستوى السابق، عن رفض عربي قاطع لهم، والحكم دائماً بالموت على أية علاقة قد تنشأ به من خلال علاقات جنس أو حب أو زواج ما بين عربي وغربية، تعبر صور هذا المستوى عن تحفظ أو تردد في إقامة العلاقة، مع تقبّل ضمني لإمكانية ذلك لو تهيأ غير ما يتهيأ فعلياً في واقع أحداث الروايات التي ترد فيها، ومنها: “السفينة” لجبرا إبراهيم جبرا، و”اللجنة” لصنع الله إبراهيم، و”الضفة الثالثة” لأسعد محمد علي، و”نورا” لناجي التكريتي، و”امرأة القارورة” لسليم مطر، و”خارطة الحب” لأهداف سويف، و”رقص على الماء” لمحمود البياتي، و”النقطة الأبعد” لدُنى غالي، و”بابا سارتر” لعلي بدر، و”الحدود البرية” و”شاي العروس، وكلاهما لميسلون هادي.
في بعض علاقات بطل رواية “الرقص على الماء” لمحمود البياتي:
“فاجأتني سارة بالمجيء وأنا أتهيأ للخروج. كانت سكرانة وبمزاج رائق. أبلغتها أنني ذاهب لإنجاز عمل ما. رفضت مرافقتي. قلت:
“- اخدمي نفسك إذن. تعرفين البيت”(الرقص على الماء، ص27).
أما هذا التحفظ من إقامة العلاقة فيأتي انطلاقاً من الريبة في الآخر، وهي الريبة التي رأيناها تنشأ نتيجة سلوكياته التي قد تكون شريرة أو رديئة أو معادية كما هي في المستوى الأول، أو– وهذا مهم جداً هنا- نتيجة عدم فهم العربي للغربي أو الشك فيه وبمواقفه، أو بالعكس عدم فهم الآخر الغربي للعربي، الأمر الذي يعني أن التقارب والعمل على فهم كلّ للآخر، ممكن إذا ما تهيأت له ظروف غير الظروف التي يفشل فيها إقامة علاقة معه. قد يقترب من هذا عدم التوافق ما بين العربي والغربية في رواية العماني سعود المظفر “عاطفة محبوسة”، حيث “من الواضح ان (السيدة جونسون) تريد ممارسة الجنس مع (سعيد)، بينما يريد منها (سعيد) ان تعرف ماهية شعوره”([7]). وتعلقاً بهذا قد تأتي صعوبة اللقاء أو فشله أو رفضه ونتيجةً عدم التوافق أو الاقتناع، من هذا الطرف أو ذاك، بسبب الطبائع أو الخلفيات أو التاريخ أو ما أشبه ذلك، كما يأتي شيء من هذا في رواية إميلي نصر الله “الإقلاع عكس الزمن”، “ذلك أن البطل (رضوان) من قرية لبنانية جنوبية يود السفر إلى كندا حيث يقيم أولاده. وفي سبيل ذلك يسعى إلى إتمام أوراقه القانونية في القنصلية الكندية في بيروت. وإذا كانت العاصمة البنانية منفتحة على المنجزات العلمية، ثمرةَ التقدم الغربي، فإن (رضوان) يشعر بالغربة والهلع حيال كل جديد لم يتعوده… والحق أن بطل الرواية مَلكٌ في قريته صعلوك ضئيل في المدينة أو في بلاد المهجر. لقد انتمى إلى الأرض وعرف أسرارها، ولكنه عاجز عن الانتماء إلى سواها. ويتضح ذلك عندما كان ينتظر مقابلة القنصل الكندي. فلقد بدأ قلبه يدق دقات غير مألوفة”([8]). وعليه لم يكن ليستطيع أن تحمل الغربة وبلاد الغرب.
وقد يكون، ضمن هذا المستوى، موقف الراغب في التواصل ولكن مع عدم ضمان النجاح فيه، كما يعبر يوسف إدريس، من خلال تجربة بطل قصته الطويلة “السيدة فيينا”، التي نعود إليها وقد صدرت قبل رواية “الإقلاع عكس التيار” بعشرين عاماً لفرادتها. فعدم النجاح أو عدم ضمانه، يكون فيها لأسباب غريبة ومختلفة تماماً. فبينما يكون سبب فشل مشاريع العلاقات في جميع الروايات الأخرى تقريباً هو اختلافات ما بين الطرفين، من الطريف أن يكون السبب هنا هو التشابه وعدم الاختلاف، وتبرير هذا هو عدم امتلاك الآخر ما يجعلني أذهب إليه. لكننا هنا لا نريد أن نجزم بتحميل هذا للدلالة التي نعرضها هنا، من خلال (درش) بطل الرواية:
“لم يأتِ إلى أمستردام أو لأوروبا لمهمة رسمية ولا حتى للتفرج أو الفسحة، ولكنه جاء بهدف واحد فقط، للنساء، رغبته الدفينة كانت أن يجرب تلك المرأة الأوربية ذات الشخصية… كان درش، إذن، قد انتهى من النساء في مصر وذهب وفي نيته أن يغزو أوروبا المرأة. ومن لحظة وضع قدمه عىل سلم الباخرة بدأت عيونه تزوغ هنا وهناك. كمن فقد لتوه شيئاً راح يفتش عنه في وجه كل امرأة يراها أو يلمحها”(السيدة فيينا، مجموعة العسكري الأسود، ص64-65).
وحين يجد ضالته أمرأةً أوروبية تأخذه إلى شقتها حيث زوجها غائب، يجد نفسه يدخل تدريجياً في عالم حياتها البيتية اليومية ومعالمها التي سرعان ما يكتشف إنها، بشكل ما، هي عينها تلك التي لحياة للمرأة الشرقية، امرأته، خصوصاً حين يدخل الحمام:
“… غير أن ما استرعى انتباهه حقيقة هو أنه وجد الحبل يزدحم بعدد لا يحصى من الملابس الداخلية للأطفال أكثر من عشرين قطعة معلّقة على حبل لا يتعدى المترين، وكلها ملابس صغيرة في حجم الكف، وكأنها صُنعت لترتديها عرائس أطفال: لا بد أن هذه المرأة نظيفة ونشطة. كيف يا ترى تجد الوقت الذي توفّق بين عملها في الصباح والمساء وبين بيتها وهذه العناية التي توليها أولادها؟.
“غير أن إعجابه بالمرأة لم يستمر طويلاً فقد لسعه شيء ما. في هذه اللحظة فقط أدرك أن المرأة التي استمحنته [كذا] إلى منزلها حقيقةً أم… هي أم إذن ولها بيت وزوج وأولاد، والأعجب من هذا أنه، ربما للمرة الأولى في حياته أيضاً يدرك، في تلك اللحظة بالذات أنه هو الآخر أب، له بيت وزوجة وابنة لها ملابس داخلية مثل تلك الملابس التي تلاصق وجهه والتي تنفذ منها رائحة الصابون الذي غُسلت به إلى خياشيمه”(السيدة فيينا، مجموعة العسكري الأسود، ص108).
من الصور أو التعبيرات التي تعبر ضمناً عن مثل هذا الموقف تلك التي تتناول تأثيرات الغرب غير المرغوب فيها. في رواية “اللجنة” لصنع الله إبراهيم، “يتم التعرض للثقافة الأمريكية وتأثيرها في العالم وفي الوطن والسلطة والناس، وللعولمة قبل انطلاقتها الصريحة كما هي اليوم، وللعلاقات الأمريكية العربية: الكوكا كولا، وتأسيس بنك عربي أمريكي جديد، والاستعانة بمكتبة السفارة الأمريكية وغيرها”([9]). وقد يكون التعبير أكثر صراحة، حين يكون هناك، مثلاً، رفضٌ للعطايا الأمريكية المذلة للعرب أو المصريين:
“واستطردتْ [المجلة في أرشيفها] تقول إن الأمر لا يخلو من بعض القصص الطريفة، مثل قصة المليون بدلة من مخلفات الحرب الفيتنامية التي تبرع بها الجيش الأمريكي للفلاحين المعدمين في مصر، فوجدت طريقها إلى مخازنه [الدكتور المصري] حيث باعها بدوره لعدد من التجار مقابل ستة ملايين من الجنيهات”(اللجنة، ص51).
ويعقد إبراهيم أحمد في روايته “طفل الـ CNN” علاقة زواج بين بطله العراقي المكتسب للجنسية الأمريكية (جميل صابر) أو (جيمي) وزوجته الأمريكية (جوديث)، ومع أن ما أراده للعلاقة من تخلخل يفتقد الموضوعية لأنها تشتمل على خلافات لا يمكن أن يهيمن مثلها على زوجين بعد أكثر من عشرين سنة من الزواج، ولا سيما حين يكون عند الزوجة من (الأفكار السلبية القاسية) عن زوجها، كونه عراقياً، وعن العراق والعرب والشرقيين ما تفصح عنه، فإن العلاقة بهذا الشكل تعبر عن عدم القناعة بالشكل الذي هي عليه العلاقات العربية الغربية أو على الأقل العربية الأمريكية. فحتى ما نستطيع ان نشخصه في أفكار وملاحظات الزوجة (الأمريكية) عن الزوج (العراقي) على أنه مفتعل، خصوصاً حين يكون مهيناً له وللعرب والعراقيين، إنما يُراد به التعبير فعلاً عما يراه العربي، الذي هو هنا الروائي إبراهيم أحمد، من الغربي والأمريكي النمطي تحديداً عن الشرقي النمطي، وهي وجهة النظر التي يعتقد هذا العربي أنها تجعل من غير الملائم أو المقبول، إن لم نقل غير الممكن إقامة علاقة صحية بين الاثنين. وكل هذا، مرة ثانية، بعد عشرين سنة زواج من هذا الغربي/ الأمريكية، وكأني بالبطل، أو لنقل صراحة بالروائي، يحاول أن يعبر عن تأنيب الضمير إزاء الخدر الذي لا شك أنه، شأنه شأن الكثيرين من المهاجرين العرب المقيمين في أوربا وأمريكا، يعيشه بعيداً عن الوطن، بأزماته وعموم معاناته، وفي أحضان الأوطان البديلة وربما زوجات الأوطان البديلة. ففجأة وبعد عشرين سنة زواجٍ يكشف لنا عن أنه لا يرضى عن زوجته ولا عن أفكارها وتعاليها على كل ما هو غير أمريكي بما في ذلك تبعيته هو زوجها للشرق الأوسط أو العرب أو العراق، ولا حتى عن العالم من حوله في أمريكا. ولأن هذا يفتقد الإقناع تماماً، فإن رضا (جيمي)، ومن ورائه المؤلف، عن الآخر/ أمريكا وطناً بديلاً، إنما هو عندنا مما سميناه، ضمن هذا المستوى، قبولاً له، ولكن بحدود أو شروط تتوفر في الآخر وفي سلوكه معه، أو نتيجة أسباب تتعلق بـ(نحن)، نعني الوطن والأهل والحكومات والناس. بقي أننا من الممكن أن نفهم أن الرواية، هنا، تقدم لنا هذه العلاقة وقد مرّ عليها عشرون سنة، وعليه فهي تقدم لنا ما يشبه الاستقراء لمستقبل مثل العلاقة ما بين الشرق والغرب حين يحاول أصحابها، من خلالها، تحقق أو تحاول تحقيق الاندماج. وها هو بطل الرواية يقدم لنا ما صارت عليه العلاقة الزوجية:
“أصبح حديثي مع جوديث بالسياسة مؤلماً وقاسياً وتقلّصَ إلى كلمات قليلة نقولها مضطرين، كأنما يريد بها كل منا أن يتأكد من منطقة إبحار الآخر. قلّت نقاشاتنا منذ أن تبيّنتُ استعلاءها العنصري والذي اختفى طويلاً عني لغفلتي الطويلة واستغراقنا معاً بمظاهر حياة هانئة. لم يعد يجذبني تهذيبها الذي كانت تجهد لتجعله عفوياً. جوديث تعتقد أن السياسة من حق دولتها وأنصارها فقط. وكل من له رأي مختلف هو من أولئك المتوحشين الخارجين على القانون المسببين لحروب واضطرابات العالم… فهي تعتقد أن جبروتها يخوّلها ترتيب كل شيء في الوجود من الخلية الحية إلى مصائر البشر ونظام الكون. وقد تخطئ الكرة الأرضية في دورانها لكن دولتها لا تُخطئ”(طفل الـCNN ، ص10).([10])
ولأنه واضح هنا أن صورة الآخر ممثلاً بالشخصية الأمريكية هي ليست بالضرورة الآخر حقيقةً، بل الآخر مرسوماً بريشة عربية، وبما يعني أنها تمثل وجهة نظر هذا العربي به، فإن الرواية هنا تعبر، إذن، عن وجهة نظر عربية بالعلاقات مع الآخر، وهي وجهة نظر لا ترى من مستقبل لها. وإزاء العمر الطويل لهذه الزيجة مما قد لا يتسق مع هذا الحكم أو وجهة النظر عليها، ومن ثم إسقاطاً على علاقة الشرق والغرب، يحاول الكاتب من خلال بطله أن يخرّج هذا باسترجاع بداية العلاقة، وتفجر أول خلاف بينهما، وكان حول تسمية مولودهما، بما لذلك من دلالة واضحة، كما نرى في النص الآتي:
“إن جوديث حملتْ وقد طغت نشوة انتظار الوليد على كل شيء، ثم شُغلنا بالطفل وملأ حياتنا، رغم أن خلافاً تفجّر بيننا أيام مولده قبل أربعة عشر عاماً. أردتُ أن أسمّيه (هانئ)، لكن جوديث أصرّت أن تسميه (هنري). بقيت أناديه (هانئ) لكن هذا أخذ يثير أعصابها. قررت أن أتوقف عن هذا التسابق اليائس، خشية أن تشظر شخصية الطفل وذهنه، كما سيبدو مضحكاً أن أستمر في الاعتراض بينما اسمي (جميل صابر) قد تحول عندها ولدى زملاء العمل إلى (جيمي). وقد كدت أنسى اسمي القديم وأتقبل على مضض مناداتي بهذا الاسم رغم أنه يشعرني بشخصية غريبة تتململ تحت جلدي”(طفل الـCNN ، ص13).
( 4 )
المستوى الثالث: التحمس للعلاقة بالآخر، ويعني أحد أمرين، الأول الإعجاب بالآخر والدعوة أو ربما التحمس لإقامة العلاقة به بوصفه متفوقاً، والثاني النظرة الإيجابية إليه بما يعني إمكانية إقامة علاقة معه، في ظل النظرة الإنسانية للشخصية العربية المتخيلة إليه. وفي هذا المستوى الأخير من مستويات العلاقة مع الآخر وقبلها الموقف منه، تبرز مفارقة طريفة، ولكنها قد تعني الكثير في موضوعنا، خصوصاً إذا ما أردنا أن نربط التعبير الروائي المتخيّل ببعض ما نراها مرجعياته على أرض الواقع. هذه المفارقة تتمثل في أن هذا المستوى هو أكثر المستويات حضوراً من حيث عدد الأمثلة التي تعبر عنه، ولكنه أقلها حضوراً ضمن أحداث روائية رئيسة وشخصيات رئيسة. وهذا يعني، عندنا، أن الغالبية العظمى من الروايات أو الروائيين الذي كتبوا عن الآخر عبروا عن مواقف متشددة أو رافضة أو غير إيجابية من الآخر، وواضح أنهم إنما يفعلون ذلك انطلاقاً من واقع يحيط بهم ويرون فيه ما يفعله الغرب وما يتخذه من مواقف سلبية أو غير ودية من الشرقي والمسلم والعربي، فلا يكون أمام هذا الشرقي أو العربي أو المسلم، إزاء ذلك، إلا أن يعبر بالشكل أو الأشكال التي رأينا الروايات تعبر عنها في المستويين السابقين. ولكنه، انطلاقاً من الرؤية الإنسانية التي يحملها أي أديب أو فنان، ولعلنا نفترض كل إنسان طبيعي أو عادي، لا يكون متحمساً أو راغباً عادةً بالمواقف السوداوية أو السلبية، أو علاقات الكراهية والعداء، ولذا فإنه يحاول أن يوصل مثل هذه المعاني عبر شخصيات ثانوية أو حوادث جانبية، لعل خلاصتها القول: مع كل ما عليه الغرب والغربيون فإن اللقاء ممكن فيما لو…! ولكل رواية أن تكمل ما بعد (لو) كما يرى كاتبها. ولعل هذه هي نزعة العربي الإنسانية ونظرته العقلانية للآخر الغربي التي تدفعه للتواصل معه، ولكن في حال تغيّر مواقف هذا الآخر وسلوكياته، في حال أنْ لم تكن كما يجب أن تكون. ووفقاً لذلك لا يعود غريباً أن يلتقي الشرق والغرب عبر الشخصية الغربية، ولا سيما النسوية في المتخيّل العربي، حين تكون هذه الشخصية بموصفات معينة، وهي موجودة بلا شك في بعض الروايات. ومن الطريف الملفت أيضاً أن غالبية هذه التعبيرات المحدودة حجماً والهامشية ظاهرياً، في غالبية الروايات، تأتي إنسانية وجميلة وقوية وعميقة في دلالاتها ونعتقد في تأثيرها في القارئ. من ذلك مثلا الإشارة الصغيرة، لكن الجميلة والمعبرة، التي ترد في رواية سحر خليفة “مذكرات امرأة غير واقعية”، والتي مرت بنا في مكان سابق، حين تلتقي بطلتها على طائرة بامرأة أيرلندية فتنقل لنا، على لسان البطلة التي تكون حينها في أزمة، هذا اللقاء بنفَس إنساني جميل، تقول فيه:
“ورأتني ساهمة أفكر فربتت على كتفي وابتسمت:
“لشعبينا قصتان متشابهتان. وأنا وأنت متشابهتان.
“صدمتني المقارنة فتلعثمتُ. تمتمتُ ويدي على صدري:
“- أنا… أنا.. لا أعرف.
“وعدت أحلم من جديد بالأجنحة والطيران وانفتاح الشرنقة”(مذكرات امرأة غير واقعية، ص82-83).
ولا تبتعد كثيراً، عن هذه اللقطة بموقفها ودلالتها، تلك التي ترد في رواية “الشاهدة والزنجي” لمهدي عيسى الصقر، وفيها تكتسب لقطتها دلالة أعمق لأنها ترد وسط قباحة الآخر الذي تدينه الرواية، وتكون فيه إحدى أكثر الروايات تعبيراً عن قباحة الآخر وإدانته متمثلاً تحديداً بالأمريكي. فوسط قسوة تعامل الكلونيل الأمريكي مع الفتاة العراقية (نجاة)، ومعاناتها الإنسانية، وما هي إلا شاهدة على جريمة، تأتي اللقطة الجميلة التي بطلها ضابط أمريكي يدخل إحدى غرف المعكسر الإمريكي الذي تكون بانتظار السائق فيه مع الكولونيل، فيراها تبكي في أعقاب إحدى المواجهات المتعبة:
“يُلقي نظرة متسائلة على وجهها المحتقن وعينيها المخضلتين… يتحرك الضابط صوب المكتب. تسمع صوت أحد الأدراج يُفتح ثم يُغلق. ويعود الضابط نحوها يحوها يحمل شيئاً في يده. عنما يصبح أمامها، يمد إليها يده الضخمة بقطعة كبيرة من (الشيكولاته) بغلافها الملون اللماع، ويقول لها بلطف: ذس.. فور يو”(الشاهدة والزنجي، ص121-122).
ليعني هذا أن التواصل الإنساني يمكن أن يكون موجوداً في أصعب الأوقات وأكثرها توتراً وضعفَ علاقات.
أما الفرنسية (فرانسواز)، في “عابر سرير”، فتتمثل الإنسانية في أحد أكثر أوجهها فيها، التي تعني عندنا انفتاحها على العلاقات بالآخرين، وربما تلك إحدى صفاتها التي تدفع بعلاقة البطل العربي بها:
“ذلك أن فرانسواز مهووسة بالمبادرات الخيرية، وكأنها نذرت نفسها لمساعدة بؤساء البشرية، الذين يتناوبون على قلبها وعلى سريرها حسب مستجدات المآسي في العالم، حتى كان يبدو لي أن معاشرتها زيّان تدخل ضمن نشاطاتها الخيرية”(عابر سرير، ص241).
ولعل شخصية السويسرية المسؤولة عن القضايا الإنسانية في مطار جنيف في رواية “امرأة القارورة” لسليم مطر، تلتقي مع بعض هذه الشخصيات ولاسيما أيرلندية سحر خليفة، حين يجد بطلها (غريب)، في ضياعه واغترابه، تعاطفاً إنسانياً منها، ليتطور هذا اللقاء، وفي تجربة متخيّلة نادرة في الرواية العربية، إلى زواج يُرزقا منه وليداً وكأن ذلك يعبر عن نجاح اللقاء بين الشرق والغرب، على الأقل بحدود الامتداد الحدثي للرواية، وإلا فإن هذه الزيجة ستتطور، جزئياً، إلى ما هو غير ذلك في رواية تالية ستصدر للكاتب نفسه بعد الرواية الأولى بعقد من الزمن وتشكل معها ثنائية.
تبقى الرواية التي كادت تصل إلى قمة وصف (الغربي الإنساني) الصريح والضمني، وبما يعني انفتاح الأبواب للعلاقات ما بين الشرق والغرب، هي رواية “المحبوبات” لعالية ممدوح، التي مرت بنا أكثر من مرة من قبل، والتي نجد حتى حضور الغربي المعادي أو العنصري أو، على الأقل، غير الصديق، إنما يصب في صالح وصف الإنساني، إذ يمنحه موضوعية ومصداقية وإقناعاً لنا. فالبطلة (سهيلة)، وهي في وضع صحي صعب في المستشفى، تحاط بحب وتعاطف وعناية مجموعة متنوعة من الصديقات ذوات الهويات والجنسيات والخلفيات الثقافية المختلفة. تقول (أنجليك) لـ(نادر) ابن (سهيلة)، مثلاً مستذكرة:
“- أثناء الحرب، كان بلدكم يُضرب من الجميع، حتى من فرنسا. نزلتُ إليها فجراً، وشاهدتها تبكي بصمت، عانقتها وبكينا معاً في الممر. كانت أمك أكثر خجلاً مني… عرضتُ عليها الإقامة في قريتي في الجنوب، في البيت الريفي، لكنّها أشاحت برأسها عني لكي تمسح دموعها. أجابتني: لا عليك يا أنجليك، هذا قدرنا”(المحبوبات، ص129).
فواضح أن النزعة الإنسانية تحكم العلاقة تماماً، لتعني تمثُّلها في الطرفين، ولعلنا نقول الأطراف، جميعاً وبالضرورة نجاحها، وهذا بوضوح ما أرادت الرواية أن تقوله، وربما لا شيء آخر.
هذه النزعة الإنسانية لهذه الرواية وللروايات الأخرى تحكم، إلى جانب الحضور الإيجابي، علاقات العربي بالآخر، في رواية “عمارة يعقوبيان” لعلاء الأسواني. ففي هذه الرواية، “نعتقد أن وجود (كريستين)، شخصيةً أجنبية أولاً، ولذيذة وقريبة إلى القارئ ثانياً، ومتفردة في أشياء كثيرة ثالثاً، والأهم مصنوعة بشكل جميل رابعاً، تثير أول ما تثير الانتباه إلى وجود الأجنبي أو الغرب تحديداً في الرواية، لتنبهنا في النتيجة إلى أكثر من وجود لهذا الأجنبي. فإضافةً إليها، هناك أبو (حاتم)، الدكتور (حسن رشيد) وأمه الأجنبية (جانيت)، وإن لم يظهرا عملياً في مسار الأحداث، لأنهما ميتان، وكان الدكتور حسن قد درس في باريس وعاد إلى مصر متأثّراً بالثقافة الغربية إلى حد التشبّع بها ليكون بالضرورة من المؤثرين، في ثقافتهم الغربية وفي إيمانهم بها، في مجتمعهم، بعد أن صار من أعلام القانون في مصر والعالم العربي، ومثقفيهما الكبار في الأربعينيات”([11]). ولا يغير من استقرائنا كثيراً، أن الغرب لم يتمثّل في الرواية بشكل موضوعي تماماً:
“وبالنسبة لهؤلاء كان (التقدم) و(الغرب) كلمتين بمعنى واحد تقريباً، بكل ما يعني ذلك من سلوك إيجابي وسلبي. كان لديهم جميعاً ذلك التقديس للقيم الغربية العظيمة: الديمقراطية والحرية والعدل والعمل الجاد والمساواة. وكان لديهم، أيضاً، ذلك التجاهل لتراث الأمة والاحتقار لعاداتها وتقاليدها باعتبارها قيوداً تشدنا إلى التخلف، وواجبنا أن نتخلص منها حتى تتحقق النهضة”(عمارة يعقوبيان، ص104- 105).
وعليه يجب الحرص على إقامة العلاقة معهم، يعزّز هذا قبلاً وبعداً، في رواية الأسواني، خصوصية الآخر ممثلاً في شخصية (كريستين).
ويقترب إنسانيّ أنعام كجه جي وتواصله مع الآخر- بالنسبة له- في رواية “الحفيدة الأمريكية” من صديقات بطلة (المحبوبات)، ومن (كريستين) “عمارة يعقوبيان”، حين لا يكون لبطلتها الأمريكية العراقية الأصل من صديق ثقة بين من يحيطون بها في أمريكا غير فنان صعلوك أمريكي. كما تعبر رواية أهداف سويف، ولا ندري إن كان من قصدية المؤلفة، عن الزيجات الناجحة، أو على الأقل الطبيعية وغير المحكوم عليها مقدماً بالفشل، ما بين العرب ممثلين فيها بالمصريين، والغربيين ممثلين فيها بشكل خاص بالإنكليز أو البريطانيين وأحياناً بغيرهم، كما هو حال (حسني العمراوي) و(آنا ونتربورن)، و(نور) وزوجها الفرنسي، و(ياسمين) ابنة (نور) وزوجها الأمريكي، وغيرها.
بقي أن هناك حالة هي، وإن كانت ضمن هذا المستوى الثالث من علاقة الشرق والغرب، قد تعبر عن شيء من الخصوصية، وتتمثل في تهيؤ الرغبة الصادقة وربما الحماسية، أيّاً كانت أسبابها الفعلية، للعربي أو الشرقي لا في العلاقة بالآخر بل الاندماج به، ولكن مسار الأمور توصله إلى النتيجة ذاتها التي تقود الرافضين لها، أو غير المؤمنين بها أو حتى المعادين لها، إلى نتيجة قد تبدو مختلفة ولكنها في دلالتها تعني ذلك الذي يعنيه العداء وعدم الإيمان والرفض. من ذلك ما تعبر عنه تماماً رواية “التوأم المفقود” لسليم مطر. فبداية نعرف أن بطلها عراقي مهاجر وهو متزوج من السويسرية (مارلين) التي سرعان ما تلد له ولادة ناجحة، لتكون عندنا ابتداءً من الزيجات العربية/ الغربية القليلة التي ينتج عنها مولود سليم، ولكننا سرعان ما نعرف، كما مر بنا سابقاً، أن ذلك يأتي متوائماً مع شخصية البطل العربي المهاجر الذي يترك بلده العراق وهو يحمل حقداً شديداً وغير عادي له، بحيث يتمنى لو ينساه، بل ينسى ماضيه ما قبل الوصول إلى الغرب:
“أهم سبب لقدرتي على النجاح في كفاحي هذا… رحت أغصب نفس على أن يكون تفكيري يجري باللغة الفرنسية. بلغ نجاحي ذروته عندما استيقظت ذات صباح واكتشفت بأني قد حلمت باللغة الفرنسية!”( التوأم المفقود، ص16).
ولكن سرعان ما تبدأ تتكشف للبطل، منه ومن بلده ومن انتمائه، ومن الآخر على حد سواء، زيف ما يطمح إليه أو استحالته أو على الأقل صعوبته التي تجعل من الانصهار بالآخر أو الاندماج به مهمة معذّبة:
“إن الأجنبي المقبول هو الأجنبي الذي يوافق على التخلي عن كل طموحاته الشخصية المشروعة ويرتضي بالمستوى الأدني من الحياة الثقافية والمعاشية والاجتماعية. إذا كان رساماً يصبح صباغاً، وإذا كان أستاذاً جامعياً يصبح حاضناً للأطفال.. لكن لحسن الحظ هنالك دائماً أقلية صغيرة تنجح ببلوغ بعض من طموحاته من خلال الإصرار الجنوني والكفاح الوحشي الذي بكل يقين قد تخللته الكثير من التنازلات والأكاذيب وعمليات الاحتيال والإذلال”(التوأم المفقود، ص20).
مقابل هذا كله، لم ينفع الكثير من الشخصيات المتخيّلة في روايات عربية أن يكون هناك حب أو زواج مقرونَيْن برغبات صادقة من العربي والغربي أو من أحدهما، في أن نجاح مشاريعها في إقامة علاقات وإنجاحها. فتفشل الإيطالية (إميليا)، في حبها الصادق وشبه العنيف لـ(الدكتور فالح) العراقي في رواية جبرا إبراهيم جبرا “السفينة”، في تخليصه من اليأس الذي هو فيه فيُقدم على الانتحار. فمع أن ظروف المكان والماحول، ولاسيما وجود زوجته (لمى) هي التي تمنع (إميليا) منه، فإننا نحس في ما تنقله لنا هي عن الأمر ما هو أبعد من هذا، فتقول:
“لم أكن أتصور أن الأمر سيكون بمثل هذه الصعوبة. فالح على مقربة مني، وكأنه على بعد ألف ميل عني. إذا جالسَ أصدقاءه فإنه أميل إلى الصمت، وإذا تحدث فإنه أميَل إلى السخرية والغضب، مصمماً بعناد على عزلته النفسية. ما أصعب الاتصال به والهركيوليز [السفينية التي هم على ظهرها] على هذا الصغر”(السفينة، ص183).
أخيراً، وفي ضوء كل ما مر من مستويات العلاقات المتحققة، هل لنا أن نتساءل عن طبيعة مستقبل هذه العلاقات، أو لنقل مجمل العلاقة بين العرب والغرب؟ نعم لنا أن نتساءل، ولكنْ لا نعتقد أن بإمكاننا الإجابة على هذا إلا عبر دراسة أخرى مكمّلة، نأمل أن نقدمها.
[1]) لأننا لا نريد أن نخرج، في متن التحليل، عن نصية هذا التحليل إلا بما هو نوع من التنظير النقدي، فإننا نعبّر، في هذا الهامش، عن وجهة نظر خاصة تقترب من النقد ولكنها، نعترف، ليست نقدية تماماً، فنقول إننا لا نستبعد أيضاً أن يكون الفعل الجنسي، الذي يرد في العديد من هذه الروايات، تعبيراً عما يشكله الجنس للفرد العربي، ولا نستبعد الأديب والروائي من هذا، من إشكالية عصية على الحل، ويسببه من عُقد وأزمات، وما يثيره فيه من رغبات غير عادية إزاء عدم قدرة هذا العربي عن التنفيس عنه بشكل طبيعي، ليقود من يمتلك الموهبة أو القدرة أو الحرفية إلى التعبير عنه بشكل غير طبيعي ولكن من خلال الحلم، والتخيل الفردي، والكلمة الأدبية، واللوحة الفنية، والأغنية، وغير ذلك.
[2]) وينظر، تعبيراً عن رفض الأهالي أيضاً، ص105.
[3]) Rasheed El-Enany: Arab Representations of the Occident, P. 183.
[4]) محمد رياض وتار: شخصية المثقف في الرواية العربية السورية، ص38.
[5]) وعلى رأس من تعامل مع هذه الموضوعة، انطلاقاً من هذا التجنيس، كما قلنا، جورج طرابيشي، إذ أن العلاقات بالآخر الغربي عنده “تنزع وتلتبس بطابع جنسي صريح وذلك في إطار لعبة تجنيس العلاقات الحضارية. ومن وجهة نظر طرابيشي أن رواية الأنتروبولوجيا الحضارية، وذلك انطلاقاً من أن الرواية هي بالتعريف (فن الآخر)، قد أعطت ثمارها في كل حين… عادة ما يكون بطل رواية الأنتروبولوجيا الحضارية ذكراً شرقيا، بينما تكون الأنثى “(لأخرى) غربية، وذلك مع استثناءات خاصة. إذ تتحدث بعض الروايات عن اتجاه معاكس، فقد كان بطل (عصفور من الشرق) يحلم بمصاحبة (سوزي) ورؤيتها من وراء شباك التذاكر في باريس، فإذا بها تصل بغتة إلى الشرق كما يحدثنا سليمان فياض في روايته (أصوات) لتصبح موضع اشتهاء الجميع ومركز مؤامراتهم. فالنَيْل من المرأة الغربية هو نيل من الغرب بأسره كما يحدثنا طرابيشي”. تركي علي الربيعو: في التجنيس الفاشل بين الشرق والغرب: “كم بدت السماء قريبة.
[6]) المصدر السابق.
[7]) غالية آل سعيد: مراجعة نقدية لرواية سعود المظفر “عاطفة محبوسة”، مجلة (نزوى)، سلطنة عمان، ع32.
[8]) جان نعوم طنوس: صورة الغرب في الأدب العربي المعاصر، ص373. [9]) د. نجم عبدالله كاظم: هذا الجانب من مكان آخر، عالم الكتب الحديث، إربد- الأردن، 2010، ص19.
[10]) لا نجد ما يفسر هذا في الرواية، وبالنسبة لنا انطلاقاً من قصدية الروائي، إلا ما فسرنا به بعض ما رصدناه في رواية “شوفوني شوفوني” لسميرة المانع، في دراسة أخرى لنا، ونعني به تأنيب الضمير الذي يستيقظ في داخل الروائي المتخلي عن الوطن من سنين. بغير ذلك لا يمكن، عندنا، تفسير أن يحس بطل الرواية بما يحس به بعد عشرين سنة من العلاقة الزوجية.
[11]) د. نجم عبدالله كاظم: هذا الجانب من مكان صاخب، ص205.