العرش والجدول للروائية العراقية ميسلون هادي
تراجيديا بهوية عراقية
إبراهيم الحجري- ناقد وروائي من المغرب
مجلة الدوحة
إن الروائي، حينما يصمم عوالمه التخييلية، لا يصدر عن فراغ، ولا ينبثق عن غير تجربة، بل يكاد يكون جزءا لا يتجزأ من هذا العالم، وآهة غميسة ينفث نارها مع كل حرف أو كلمة أو مشهد أو متتالية سردية أو توصيف لشخصية أو مكان أو زمان. فكلما كان الكاتب، ورواته فيما بعد، تأسيسا على منظور الترهينات السردية، قريبين من هاته العوالم، بشكل من الأشكال، حريصين على أن يشهدوا وقائعها، ويتفاعلون معها بأحاسيس مضمرة وأخرى معلنة في سياق جواني أو براني، تأتى لهذا العمل أن يكون أخاذا، وملفتا، وطاعنا في الإنسانية، بما يحمله من الصدق والحرارة والحميمة ودفق المشاعر الملتهبة التي لا يمكن أن تصدر إلا عن إنسان عاش التجربة الإنسانية وقاسى مرارتها، وعايش وقائعها بصورة ما، جعلته يكون في قلب العالم، لا خارجا عنه، وإن كان الكاتب، أيُّ كاتب، يريد لعالمه أن يكون برانيا عنه، ويطمح، ما أمكن، في أن يكون محايدا، محتفظا بمسافة فنية تفصله عن عوالمه التخييلية.
- قصة حب عراقية:
يُلحم نسيجَ محكيّ النصّ حكايةُ حبّ صوفيّة تنازعتها رياح القهر والفراق مدة طويلة من الزمن دون أن تنال من أصالتها، حكاية عشق توثقت بين قمر وجميل، فيما يشبه الرباط المحكم الذي سطره قدر رحيم قبل أن تجهز عليه عاديات الزمن، لتكتب عليه مصيرا قاتما ضدا على كل الرغبات.
وتمّ إجهاض هاته الحكاية عبر مجموعة من القيود والعوائق؛ أولها رفض والديْ قمر تزويجها بجميل لاعتبارات سياسية وإيديولوجية واجتماعية، بالرغم من إصرار أسرة جميل على مصاهرة أسرة قمر، وبالرغم من صمود قمر في وجه أسرتها وحرصها على أن يتم هذا الارتباط، وثانيها الحصار الشديد الذي ضرب حول معراضي نظام صدام، ومن بينهم جميل طرف هاته الحكاية، ومطاردتهم من قبل المخابرات، الشيء الذي جعلهم يغادرون البلد سرا حرصا على أرواحهم، وثالثا الاختلاف على مستوى الرؤية بين جميل وقمر، الأول رأى في الزواج والهروب من الوطن والإقامة في لبنان حلا، بينما رفضت قمر هذا الخيار رفضا تاما، وظلت ملتصقة بـ”أرض السواد” بالرغم من الحصار والحروب والموت المتربص كل حين.
لقد وظف الزواج والحب بذكاء في النص، للتدليل على التفكك الذي طال الأسرة العراقية، والروابط القدسية التي كانت توثق الدفق الإنساني وتلحم نسيجه، وتهتك القيم البشرية التي تحقق الأنس والسعادة والوجود والطمأنينة والاستقرار للفرد. فقد انعدمت أهم العوامل ضامن لأسباب استقرار الإنسان وحفظ كرامته، وتكاثره، في ظل سيادة الخوف والرعب، وانعدام الديمقراطية، المسلطين على الشعب من طرف نظام مستبد قاهر، تبعا لما تصوره الرواية.
- مخاض سياسي:
تختصر الرواية مشهدا سياسيا حافلا؛ عرفه العراق على مدى ما يقارب أربعين سنة من التوتر والصّراعات وعدم الاستقرار على عهد نظام الراحل صدام حسين، وما بعده من حماية أمريكية، ثم عهد الفوضى بعد انسحاب القوات المحتلة، وما عرفته هذه المرحلة العاصفة من ارتجاج عميق بفعل الحروب المتتالية التي أقحم فيها الشعب العراقي ضد إيران طيلة عشر سنوات، ثم بعدها الحملة على الكويت، والحرب مع التحالف الدولي، وبعدها الحصار الفظيع، ثم الحرب مع أمريكا وحلفائها التي انتهت بالاحتلال، وما صاحبه من حروب شارع مفتوحة على الفوضى والخراب.
وقد نجحت الرواية في تقريب الصورة التي عاشها الشعب العراقي إبان هاته الفترة العاصفة التي أتت على الأخضر واليابس، وانعكست على المشاعر والاحاسيس، فراكمت خيبات وأحزان، وكبتت مطامح ومواهب ورغبات، وأقبرت نفوسا وحيوات، وعمقت جراح الجسد والروح معا، فنطق السرد بما لهجت به روح الإنسان العراقي من آلام، ونزفت به أجساد العراقيين من جراح وندوب، عبر أربعة عقود من الزمن وما يزيد عليها.
- شتات قاهر:
يجسد المحكي الروائي صورة الشتات التي آل إليها الشعب العراقي عقب الحملة المسعورة التي شنها النظام العراقي السابق بقيادة الراحل صدام حسين على معارضيه من السياسيين، خاصة المنتمين للحزبين الشيوعي والإسلامي (الدعوة) ومن لهم علاقة بهم من بعيد أو قريب، والأحكام القاسية التي باتت تتخذ في حقهم من إعدام وتصفيات. الشيء الذي قاد الكثيرين، ممن يشتبه في تورطهم بالعمل السياسي المعارض أو ممن انكشفت علاقاتهم بمعارضي النظام، إلى الفرار خارج أرض الوطن، وتفضيل وضعية الشتات على البقاء بين فكي الحية عرضة للموت والخوف والقهر أو في أقل الحالات السجن لمدد غير محددة قد تتحول بين عشية وضحاها إلى إعدام.
ولم تقتصر ظاهرة الهجرة على السياسيين أو المثقفين الذي أبدوا آراء مخالفة لرأي النظام الحاكم أمثال جميل وحيدر سلام، بل انتقلت العدوى إلى كل من وجد إلى ذلك سبيلا مثل سمر وزوجها محمد آدم الرحال وغيرهما؛ بفعل سيادة الفوضى، والتوتر، والغلاء، والتقتيل المجاني، حيث ما عاد الوطن قادرا على توفير الاستقرار والأمن للأفراد والجماعات في ظل الغليان السياسي، والهيمنة الأيدولوجية العمياء، والتناحر بين المذاهب والتيارات الدينية والسياسية.
- فوضى من الأحاسيس:
تشخص الرواية الأوضاع البشرية في حالاتها وتحولاتها ضمن التاريخ العراقي المعاصر عبر ما يزيد على أربعين سنة، وترسم الصورة القاتمة التي اكتنفت المشاعر الإنسانية لدى الفرد والجماعات؛ نظرا لهيمنة المشوشات التي تجعل أمر الطمأنينة مستحيلا في وطن اختير له أن يكون واجهة لحرب مفتوحة مع العالم من حوله، ومع المعرضين من أبنائه، مما نجم عنه غرق الفرد في وحل القلق، والخوف، والحزن…
وتعد هيمنة هاته المشاعر المتضاربة نتيجة طبيعية لعدد من الظواهر الاجتماعية والاقتصادية التي شاعت خلال هذه العقود المشتعلة؛ ومنها: الهجرة إلى المنافي الاختيارية هربا من جحيم المطاردة والحروب، التمزق الأسري والتفكك الاجتماعي بفعل موت الأزواج في الحرب وهروب بعضهم الآخر إلى وجهات متعددة، الفقر والفاقة الناجمان عن الحصار الاقتصادي المضروب على العراق لمدة طويلة، حالة النكوص السائدة بفعل التفرقة والتناحر والموت الجماعي، والأسر المتواصل، والاختطافات المفاجئة، والمنافي الاختيارية…
لقد انعكست كل هاته الأوضاع سلبيا على سلوكيات الشخصيات، ونفسياتهم، فغابت مظاهر الفرح، وعوضها الحزن والألم، وانتكست أسباب السعادة والهناء، وغابت الطمأنينة عن الأفراد والجماعات، وانقلبت الأجواء الاجتماعية إلى ما يشبه المأتم الجماعي المتواصل، ولم تكتف الرواية بتصوير أثر هذه الوقائع الكابوسية على الأشخاص فحسب، بل تفننت كذلك، في رسم معالم تأثيرها على الأمكنة والمعمار والبيوتات التي سادها الخراب، وأصبحت مقفرة، وعلى الطقوس التي انقلبت ملامحها من مظاهر البشر والغبطة إلى ألوان من الحداد والضياع والتوتر.