الصورة والكلمة والأدب

في ثقافة الصورة
الصورة والكلمة والأدب
نقد مقولات الموت([1])

أ د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
تأتي هذه الورقة، في ظل الموجة الهادرة من الكلام عما صار يُعرف بثقافة الصورة وغزوها، وبشكل أكثر تحديداً ما يُقال عن تأثيراتها المتحققة والمفترضة، في الكلمة عامة والأدب خاصة، لتناقش هذه الموضوعة، نعني تأثير الصورة وثقافة الصورة في الأدب والكلمة عموماً، وبشكل خاص فنونه السردية، الرواية والقصة، والكلمة. وستكون لنا عناية واهتمام خاصّان بمناقشة ما نسميها مقولات الموت الرائجة في هذا الإطار. ففي ظل فوضى هذه المقولات التي وصلت إلى مرحلة التسابق في الإعلان عن موت الكلمة والأدب والجنس الأدبي والقراءة والقارئ.. وما إلى ذلك، نجد من الضروري علمياً وأكاديمياً مناقشة هذه المقولات خاصةً والقضية، الصورة وثقافة الصورة وتأثيرها في الكلمة والأدب، عامة. فمعروف أن ثورة الاتصالات قد أحدثت تغييرات هائلة في المجتمعات البشرية في العصر الحديث، وربما على جميع مستويات حياة الإنسان الجمعية والفردية، ومنها مستوى الفعاليات والأنشطة الثقافية. وضمن ذلك لعبت الصورة بمختلف أشكالها ومراحل تطورها، دوراً فاعلاً، ولا سيما بفتحها مجال التأثير والتأثر بين ثقافات الشعوب وفي النتيجة الإسهام في التقريب ما بينها، ليقود ذلك إلى تداخل هذه الثقافات وتقارب خصائصها لتتشكل في النتيجة ما يشبه وحدة ثقافة، نعتقد أنها أعطت زخماً للدعوات إلى ما يسمى بالعولمة، وهذا ما يخرج عن حدود ورقتنا بالطبع. كما مارست الصورة ذاتها من جهة، وبوصفها عنصراً أو أداةً إعلامية أو اتصالية من جهة ثانية، تأثيراً وتأثراً وأخذاً وعطاءً مع ميادين الثقافة وأطرها الأخرى. ولقد قاد هذا كله إلى نتائج نظنها ظهرت في كل المجالات ذات العلاقة بهذا التأثير والتأثر، ومنها ميدان ثقافة الكلمة والأدب، ولا سيما الفنون السردية، خصوصاً- وكما قلنا- في ظل القول المكرّر بالتأثير السلبي، وموت ثقافة الكلمة والأدب.
ابتداءً ماذا نعني هنا بالصورة، وثقافة الصورة، وغزو ثقافة الصورة لثقافة الكلمة؟ سؤال قد يبدو بسيطاً، لبساطة الصورة أصلاً، إذ هو يستدعي بسهولة أجوبة ذهنية قبل أن يستدعيها لغويةً. ولكن لتعدد الصورة وقيام كل ورقة كهذه بتناولها، ولوضوحها كمفهوم عام، نكتفي بالقول إن الذي نقصده بها هنا الصورة بأنواعها بدءاً بالفوتوغرافية، ومروراً بالسينمائية، فالتلفزيون والفضائيات، وصولاً إلى الصور الرقمية والإنترنيت. وللأخيرة مكانة متقدمة في عنايتنا، كما نعتقد أنها صارت عند كل من يخوض هذا الموضوع. فإذا كان صحيحاً، وهو كذلك فعلاً، أنه كلما أحدثت وسائل الإعلام تطوراً في تقنياتها وكادرها ازدادت مصداقيتها وازداد عدد قرائها، فإن هذه الوسائل، أو بالأحرى العاملين فيها يعون هذا فتجدهم في سعي دائم لتحقيق هذا التطور وممارسته، في ظل الزخم الذي تبثّه فيهم طبيعتها التي تجعلها في سباق مع الزمن وفي منافسة مع الوسائل القرينة، وفي سعي نحو الأفضل والأكمل والأسرع والأكثر إقناعاً. وهكذا كانت ما حققته الصورة وتُحققه- ضمن ذلك- من ثورات تمثّلت في الأنواع المتتالية منها وفي ما فعلته في العالم، حين بدأت بصورة الفوتوغراف، التي عوّمتها أو كادت الصورة المتحركة- السينما الصامتة فالناطقة- ثم التلفزيون، الذي “أخذ من الصحافة قوة النص ومن السينما الإيقاع السريع ومن المسرح قدرات الأداء، وبدا الإعلام التلفزيوني بسبب ذلك كسَيْل متدفق بغزارة ليحقق التشويق والمتابعة الجماهيرية، فجرف في طريقه الوسائل الإعلامية المكتوبة”([2])، لتأتي بعد حين الصحون اللاقطة والقنوات الفضائية، وأخيراً الصورة الرقمية والإنترنيت. ولكن إذا كانت هذه الثورات الصورية قد أدت، كما يرى الكثيرون، إلى أزمات قراءة، ونحن نشك في أنها فعلت ذلك بالشكل الذي يعبرون عنه، فإننا لا نعتقد أنها قد وصلت في هذا إلى الأدب الذي نعرفه وقرّائه، وضمنه السرد، كما سنناقش ذلك بعد قليل، ويكفي للشك في هذا النظر، ابتداءً، إلى ضخامة الانتاج الأدبي، ولا سيما السردي، في الغرب الذي تضخم النتاج والممارسة الصورية فيه أضعاف ما لدينا.
وإذا كنا قد استخدمنا لفظة أو مصطلح (فن سردي) فإننا إنما نقصد به، كما هو واضح الأجناس السردية، وتحديداً (الرواية) و(القصة القصيرة) ولكن بسعة دلالاتهما التي قد تفرز مرونتها ما يتعدى ذلك. وإذا كان الجنس الأدبي هو ببساطة ودقة في الوقت نفسه “أحد القوالب التي تُصب فيها الآثار الأدبية”([3])، بخصائصها ومقوماتها ليختلف بذلك عن الأجناس الأخرى، وقد لا يتداخل معها، فإنه قد بدأ من مدة ليست بالقصيرة، كما هو معروف، يغادر الالتزام الصارم بمثل هذه الثوابت- الخصائص والمقومات- فلم يعد يُنظر إلى الأجناس، كما عبر بعضهم عنها في النصف الأول من القرن الماضي، على أنها “قد تُعتبر أوامر دستورية تُلزم الكاتب، وهي بدورها تلتزم به في وقت واحد”([4])، بل صارت، كما يقول بارت، عبارة عن “مجموعة من مقومات وقوانين أو شفرات يُتعارف عليها، تتبدل من عصر إلى عصر”([5](. وهذا يعني أن الجنس الأدبي ما عاد مُسلَّماً به كياناً ثابتاً، بل صار متغيراً ومتداخلاً مع غيره من الأجناس الأدبية. ولكن إزاء الاتجاه العلمي، وربما النقدي للتبويب والتقعيد ولتحديد المعالم والسياقات والخصائص المشتركة ما بين كل مجموعة من الكتابات أو الإبداعات، والرغبة في تحديد الهوية ومعرفتها من جهة، والنزعة نحو التجديد، فقد صار طبيعياً أن “يتألف استمتاع الناس بالعمل الأدبي من إحساسهم بالجدة وإحساسهم بالتعرف”([6])، على حد تعبير أوستن وارين. وبظننا أن هذه المعادلة تحديداً هي التي تزن الفعل والقول في حركة الإبداع، ولهذا علاقة بقضية أكبر من أن تكون خاصة بميدان الأجناس الأدبية. إنه متعلق بنزعة التجديد والمغايرة والتغيير التي تصاحب الإنسان عادة، بإزاء التقليد والتمسك به، وبالجمود ومقاومة التجديد أحياناً. ولكن هذه النزعة المشروعة والإيجابية في جوهرها، لأنها الوسيلة الطبيعية للتطور، كثيراً ما تحولت ذاتها إلى هدف، لتكون عند البعض سعياً مجرداً للمغايرة ومغادرة السائد أو الموجود. وهو قد يتحول حتى عن هذا إلى فعل شيء أو قوله لتحقيق سبق في فعله أو قوله، وفي أقصى تطرفه قد يصير نوعاً من الهوس، وهو ما ليس ببعيد عمّا نراه من هوس الميتات والإعلانات عنها في الأدب. هذا يعود في الواقع إلى منطق خاطئ عند أولئك الذين يتعاملون، في هذا السياق، مع الأدب والظاهرة والمنهج والأساليب بهذا الشكل، إذ هم يتعاملون معها كما يتعاملون مع الأشياء المادية مثل الأجهزة والأدوات ووسائل الحياة المختلفة، فيقعون هنا في خطأ مساواة الأدب والفن بتلك الماديات، وبالتالي في خطأ البناء على ذلك. هم ينسون أو يتناسون أن الجديد في الماديات، خصوصاً حين يتعلق ذلك بالوسائل والأجهزة والأدوات التي تستخدم لتسيير الحياة، إنما هو يحل طبيعياً محل القديم والسائد والسابق في مجاله أو على الأقل يقلّل أو يحدّ من استخدامه، لأن هذا المادي الجديد يقدم أكثر أو بشكل أفضل أو مغاير أو أبعد أو أكثر إتقاناً مما كان يقدمه القديم. فليس من فائدة في الأداة أو الجهاز ذاته بل في وظيفته، وعليه من الطبيعي أن يموت ويُلغَى حين يظهر ما يقدم وظيفته تلك بشكل أفضل. أما في الأدب والفن فإن القيمة تتمثل لا في ما يقدمه النص أو العمل من فائدة أو رسالة أو متعة، بل في النص ذاته.
وفي العودة إلى الأدب، يكون طبيعياً أنه يتقبّل هو عموماً، والإبداعي منه خصوصاً، تأثير العلوم والأفكار والفنون بخصائصها وآلياتها ووسائلها، ومنها وسائل الإعلام بكياناتها، وبأدواتها ومنها الصورة. فكيف كان هذا التأثير؟ في ذلك كلام كثير في الوسط الأدبي والثقافي قيل ويقال وسيقال. ولكنه تمركز غالباً، وكما أشرنا سابقاً، حول ما يُسمى بغزو وسائل الإعلام الحديثة والمتطورة والثورة المعلوماتية بشكل عام، والصورة وثقافة الصورة بشكل خاص، للكلمة والأدب وأجناسه، ومنها السردية: الرواية والقصة القصيرة. فقد حصر الكثيرون، مصيبين أحياناً، ومتوهمين غالباً، أسباب ما رأوه انحساراً في القراءة “في ذلك الانفجار الهائل في الثورة المعلوماتية والطفرة التقنية التي أصبحت قادرة على توفير الصورة وقت حدوثها فأغنت عن الكثير من الكلام”([7]). ولكن كم من هذا أصاب ويصيب الأدب والأجناس الأدبية؟ هذا ما يحتاج إلى مراجعات وتأملات موضوعية قائمة على ما هو واقع ومتحقق، وهو ما لم تفعله غالبية من قالوا في هذا الموضوع، لا على ما هو نظري ومفترض، كما هو شائع الآن ومعبَّر عنه، بشكل أو بآخر، بموت الأدب أو بعض منه. بتعبير آخر إن النزعة الطبيعية نحو التغيير والمغايرة والإتيان بالجديد كثيراً ما تخرج عن طبيعيتها ولتصير أحياناً هوساً، كما هو حال موجة الإعلانات عن الموت في الأدب، التي سنعرض لها فيما سيأتي من مباحث.
( 2 )
بداية من المفيد أن ننتبه إلى طبيعة المقولة المركزية الأولى، نعني الإعلان عن موت الكلمة والأدب، ضمن المقولات التي سترد في ورقتنا، لنجد أنها تأتي بصيغة التبشير أو الإعلان غير المبني على وقائع موثّقة وعلمية، بل ضمن موجة إعلانات الموت في الوسط الأدبي، وهي موجةٌ شملت في (قضائها وقدرها) المؤلف، والشعر، والرواية، والكلمة، والكتاب، وأخيراً النقد الأدبي والقارئ والنخبة، ولا نظن أن السلسلة ستتوقف قريباً. فإذا كنا قد سمعنا بها من عقود ثم صرنا نسمعها باطراد غير عادي من أكثر من عقدين، فإنها صارت في السنوات الأخيرة نوعاً من الهوس انجر إليه العشرات من الأدباء والنقاد والدارسين، بل أن بعض هؤلاء الأدباء والنقاد والدارسين من كبارهم، ومن أشهرهم الناقد الدكتور عبدالله الغذامي. فقد عرفنا الغذامي في السنوات الأخيرة مندفعاً بشغف غريب وغير مبرر وغير موضوعي بإعلانات الموت في الأدب، مع أن أصل هذا الشغف- حين لم يكن كذلك- قد بدأ لديه من مدة ليست بالقصيرة لا بالإعلان، بل بتبنّي أشهر مقولات الموت أو الإعلانات عنها في الأوساط الأدبية، على المستوى العالمي والعربي، نعني مقولة (موت المؤلف)، عبر مقال رولان بارت الشهير (موت المؤلف) سنة 1968، التي تراجع معلنها عن حدّتها قبل غيره من نقادنا، مع أنها بقيت تمتلك شيئاً من الصحة التي تتمثل في ما نسميه تغييب المؤلف أو تحييده في قراءة الأدب وتحليله ونقده واستنطاقه. واليوم تأتي مقولات موت الكلمة، والأدب، وثقافة الكلمة والأدب بفعل الصورة وثقافة الصورة. هذه المقولات أو فوضى المقولات تحتاج إلى مراجعات، ستكشف، برأينا، عن زيف غالبيتها، كما سنحاول هنا إثباته من خلال التوقف عند أشهرها. فهل هذه الميتات، أو بالأحرى الإعلانات عنها، سواء أكانت من الغذامي أم من غيره، حقيقية وصحيحة؟ نعتقد أنها ليست كذلك إلا في النادر جداً، وهي في هذا النادر جداً قد لا تكون موتاً متحققاً أو قريباً بقدر كونها ضعفاً يمكن علاجه، إن لم يعالَج فعلاً، كما سسنأتي إليها فيما سيأتي من سطور وفقرات.
إن الأقوال بالموت والنهاية ليست جديدة في عالم الأدباء والنقاد، ولن أقول عالم الأدب والنقد، بل هي هيمنت في الغرب على بعض المراحل والفترات خلال الخمسين السنة الأخيرة، قبل أن يجمع الغذامي الكثير مما قيل وأخذ يقدمه بأقساط، ولكنها ليست أقساطاً مريحة على طريقة الباعة، بل هي راحت تنهال علينا صباح مساء، وآخرها القول بموت قال به ألفين كيرنان في كتابه “موت الأدب” المنشور عام 1990 ، مما يبدو لنا أنه ينطوي على الكثير من المغالطات أو الادعاءات أو في أقلها تخيّلات وأوهام تقترب مما سيقوله الغذامي بعد ذلك بخمس عشرة سنة. وهكذا إذا كان الغذامي قد أخذ ما يقول به في هذا المجال من مقولات غربية قديمة وحديثة، فإن ما اختلف فيه عنه هؤلاء الغربيين أنه، إذ قال كل واحد منهم بموت شيء أو ظاهرة أو جنس أو ما إلى ذلك، ومعظمها جاءت خلال ثلاثة عقود أو أكثر قليلاً، فإنه أخذ يقول بالموت بالجملة وخلال سنوات قليلة، حتى أخذ بعضنا يتندر بالقول كلما ظهر علينا بتصريح أو مقابلة أو حوار: سيُعلن موتَ أحدٍ أو شيءٍ في الأدب. والواقع، وكما قلنا عن تجربة النص، في موضوع سابق، نقول عن مقولة أو مقولات الموت، إننا يجب أن نعترف بأن ما يقول به عبدالله الغذامي وآخرون قد تحقق أمثال له من قبل، وبما يعني أنه ليس أمراً غريباً، فلماذا إذن نتوقف عنده وقفتنا الرافضة هذه؟ في الحقيقة نحن نفعل هذا لأن الناقد والآخرين إذ يقولون بما يزيد على خمس ميتات خلال عقدين أو ثلاثة عقود، فإن هذه الميتات لم تزد على هذا العدد كثيراً ولكن خلال أكثر من ألفي سنة. ومن الطريف أن يعترف كيرنان نفسه بأن آخرين قد سبقوه بمدة ليست بالقصيرة في القول بالموت. ومع هذا فإن كيرنان يعود ليكرر القول فيه. يقول في كتابه السابق: “بدأ الكلام في الستينيات عن موت الأدب بمقارنة مقصودة مع إعلان نيتشه عن موت الإله، قبل أن يعلن ليزلي فيدلير عدم تأسفه على زوال أدب النخبة الثقافية، ويعنون بفرح كتاباً له “ماذا كان يعني الأدب” [بصيغة الفعل الماضي]… خارج هذا، هاجم ساسة متطرفون كبار وصغار، من هيربرت ماركوس إلى تيري إيغليتون، الأدب بوصفه نخبوياً ورجعياً. أما التلفزيون وأشكال الاتصال الإليكترونية الأخرى فقد صارت تحل وبشكل متزايد محل الكتاب المطبوع، خصوصاً في شكله المثالي، الأدب، بوصفه أكثر أشكال الثقافة تسلّطاً وأكثرها جذباً. إن الأدبية التي تعتمد عليها النصوص الأدبية قد تضاءلت وانحسرت إلى درجة أننا صرنا نتكلم بشكل عادي عن (أزمة أدبية)”([8]). ويضيف كيرنان بما لا نراه مقنعاً، على الأقل بأن يكون مسلّماً به: “لقد كانت الأصوات الأكثر صخباً في إعلانها موت الأدب القديم في السنوات الأخيرة، هي الظاهراتية والبنيوية والتفكيكية والفرويدية والماركسية والنسوية”([9])، كلٌّ بما أتت به ودعت إليه.
وإذا كان هذا عن الأدب أو الأدب القديم- على حد تعبير كيرنان وآخرين، فإن القول به وبغيره ربما سبق ذلك. ولكننا إذ لا نريد أن نفصل كثيراً في ما قد يكون موضوع دراسة خاصة، نكتفي بأشهر أمثلة ذلك على المستوى العالمي، وأولها ما قيل في الغرب ورُدّد عندنا، قبل أربعة عقود تقريباً، عن قرب نهاية الرواية أو موتها، في ظل ما شهدته من بعضِ ضعفٍ. بل هناك من مهد للقول بموت الرواية بالادعاء صحةً أو خطأً بأن الرواية في أزمة، فطرح جون ألدريج قبل ذلك بسنتين (حلاً) غير عادي لما رآها أزمة تمر بها الرواية عبّر عنه عنوان كتابه “وقت للقتل والخلق، الرواية المعاصرة في أزمة”، قائلاً في مقدمته: “إذا كان للرواية أن تبقى، فيجب أن تغتال اعتمادها على صيغ الماضي الأدبية الميتة، وتبتدع صيغاً جديداً للتعبير عن فهمها للحاضر الحيوي. فلأن الرواية تحيا من خلال علاقتها مع حياة زمنها، وأنها يجب أن تجدد علاقتها هذه باستمرار، أو أن تخاطر بأن تصبح شكلاً عتيقاً أو قديماً، ووثيقة تاريخية، بدلاً من أن تكون مشكلة أو مجسدة للتاريخ”([10]).
والطريف أن الرواية (المحتضرة) سرعان ما عادت لا إلى سابق عهدها بل عادت قوية صاخبة، وليصير ما افتُرض أنه عصر نهاية الرواية عصر الرواية. وقيل بعد ذلك، في الغرب تحديداً، عن قرب موت الشعر، وهو ما امتلك وقتها نسبةً من الصحة إلى حد ما، تمثلت في نكوص القارئ الغربي عن قراءته وانزواء الشعر عن الجمهور، بل حتى عن قرّاء الأدب واكتفائه لا بالنخبة، بل بما يمكن أن نسميه نخبة النخبة. ونعرف اليوم أن الشعر قد عادت إليه الحياة في ذلك الغرب، وإن لم يكن كما كان قبل عقود أو قرون. والواقع أن القول بالموت والضعف والانحسار وفقدان القراءة أكثر ما ارتبط بالرواية فعلاً، حتى بعد أزمتها المزعومة، وإلى حد ما الشعر، فوجدنا، ضمن أهم هذه الأقوال القديمة، كتاباً يصدر في الولايات المتحدة الأمريكية للويس روبين سنة 1969 تحت عنوان “الموت المثير للرواية”([11])، ويتوسع آخر، وهو فلويد واتكينس، فيقرر موتاً يتخطّى الرواية ليشمل دائرة أوسع حين يصدر سنة 1970 كتابه عن الرواية الأمريكية الجنوبية “موت الفن”([12]). وحتى هذا سيجد بعد حين من يقترب، وإنْ ليس صراحةً، من التحدي في تسجيل الأرقام القياسية في هذا الاتجاه فيبدأ في الثمانينيات بالتلميح أو على الأقل التمهيد بموت النقد حتى وإنْ كان بما هو مقنع وصحيح حين يقول: “النقد لم يعد يُعنى بتفسير الأعمال الأدبية”، بينما يصدر الألماني بيتر بيرغر سنة 1992 كتابه “انحدار الحداثة”([13]).
ومن أواخر مقولات الموت في الغرب، مقولة (موت علم السرد)، والطريف “أن علم السرد أُعلنت وفاته مراراً، خلال العقدين المنصرمين[العقد الأخير من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي]، يُظهر الآن نمواً حقيقياً كرد فعل في عدد من الدراسات الحديثة عن موضوعات علم السرد”([14]).

ووسط الشغف غير الموضوعي بمثل هذه المقولات سينسى عدد غير قليل من الكتاب والنقاد أن شيئاً مهماً وجوهرياً وراسخاً من الموت لم يتحقق تحققاً مادياً أو ملموساً، فيواصل بعض هؤلاء القول بالموت، كما هو حال ألفين كيرنان سنة 1990 في كتابه "موت الأدب"، بل يعود البعض الآخر غافلاً بعد زمن انحسرت خلاله الموجة، ليقول بها ويعبر عنها بما يوحي وكأنه غفل هذا تماماً متصوراً أنها كانت متحققة بما كانت تقول به لاسيما بما يتعلق بالرواية وبـ(موت الرواية)، فيُعَنوِن كيث ميللر مقالاً له ينشره في ملحق التايمس الأدبي بـ"الرواية تموت ثانيةً"([15])، وهذا لعمري قمة الوهم وانجراف تيار الأوهام. 
والواقع أن هذه الظاهرة سرعان ما تخطت الحدود المعروفة والمعقولة- إن كانت معقولة- لتكون ما يمكن أن نسميها (مودة) إذا جاز لنا التعبير، فتعدت موت المؤلف إلى ما ربما لم يسمع الكثيرون به. من ذلك (موت المؤلفة) الذي جاء عنوانَ فصلٍ في كتاب عن النقد الأنثوي للناقدة الشهيرة ميري أيغليتون([16])، و(موت المسرحي) عند آخر. وعلى أية حال هذا لم يحل دون ظهور خط مغاير بدأ يقول ضمناً برفض فكرة (موت المؤلف)، أو على الأقل بالقول بـ(عودة المؤلف)، كما فعل مثلاً شون بيرك في كتابه "موت المؤلف وعودته"([17]). ومع أنه مفهوم في ظل صعود مناهج القراءة والتلقي قبل ذلك التاريخ وخلاله وبعده، فإنه لمن الطريف أن يكون عنوان أحد فصول هذا الكتاب "ولادة القارئ". أما غراهام ألان فيعنون فصلاً من كتابه "التناص" Intertexuality بـ"عودة المؤلفة"([18])، بينما يصدر ميشيل واندر كتاباً تحت عنوان "المؤلف ليس ميتاً، ببساطة في مكان آخر"([19])، وكل هذا في وقت كان بعض نقادنا يعودون إلى مقولة أو مقولات الموت التي عفى عليها الزمن. 

( 3 )
بالانتقال إلى الأدب والنقد العربيين، يبدو أن القول بالموت يقترب عند أصحابه أدباءً ونقاداً من الشغف إن لم يكن هوساً غريباً تلبسهم.. وهو في أقلها رغبة غير عادية في رمي الحصى في ما يبدو لأصحابها بركة راكدة تتمثل في الواقع الأدبي أو الثقافي، من الحقائق كما يرونها هم أو على الأقل مؤشرات ما ستكون من وجهة نظرهم حقائق. نعتقد أن في منطقهم العام، ولكن بعيداً عن الواقع المتحقق، يمتلك شيئاً من المنطق والتبريرية التي يقال إنها وراء إطلاق طه حسين لكتابه “الشعر الجاهلي” وتشكيكه بالشعر العربي القديم ولاسيما الجاهلي، وقول صفاء خلوصي بعروبة شكسبير.. وغيرها من أمثلة محدودة. وانطلاقاً من هذا الهدف ومن حسن الظن نحن لا نلوم الناقد عبدالله الغذامي على القول بالموت نفسه، بل على محاكاة الآخرين فيه، ثم اجتيازه إياهم في القول فيه بكثرة. فالأقوال بالموت سابقة للغذامي بحوالي نصف قرن، كما رأينا، ومكررة بكثرة. لكن الطريف وما قد يفاجئ القارئ هو أولاً أنها في الغرب قد جاءت في كثرتها لا دفعة واحدة بل على مرات ودفعات وعلى امتداد عقود ليست قليلة، وثانياً أنّ ما من أحد قد قال وادّعى وتبنى، إلا في النادر جداً، القول بأكثر من موت أو بأكثر من ادعاء بموت أحد أو شيء، وثالثاً القليل من هؤلاء قد سعى إلى تسويق مقولته وادعائه والمبالغة في الحماسة لها، ورابعاً أن بعضهم، وكما رأينا، قد تراجع عن بعض المقولات وربما قال بما يعاكسها. بقي خامساً وأخيراً وأهم ما في ذلك كله مما قد يُفاجئ البعض بما في ذلك بعض نقادنا، الغذامي أو غيره، هو أن ما من موت قد وقع فعلاً، وإنْ وقع، وسيكون هذا نادراً، فإنه إما قد هُوٍّل فيه أو أنه قد اقترب بدرجة ما من الموت ليكون ضعفاً أكثر منه موتاً، أو أنه (مات) برأي البعض أو ضعف ثم عاد لينتعش ويحيى بل يزدهر. وهذا كله مما غفل عنه بعضنا فتحمس لما لا مجال للحماسة له، وقال بما بدا ظاهرياً حقيقةً وهو ما كان كذلك، أو، وهنا الطامة الكبرى، قد جمع كل ما قيل ليدّعي به وهو ما تمثّل، وبشكل ما تمثل عند أحد من قبل، عند ناقدنا الكبير عبدالله الغذامي، وأغرب ما فيه أن صاحبه لما يزل مستمراً في شغفه غير المبرر وغير العلمي وغير المقنع وغير المفهوم في موجة مقولاته في الموت في الأدب. فقد سمعنا مؤخراً منه، وقبل دخوله لغط غزو الصورة وثقافة الصورة وما تؤدي إليه، إعلانه موت النقد الأدبي وتبشيره بأسطورة غزوةٍ جديدة هي غزوة (النقد الثقافي)، ولم نفهم، مع كل محاولات التبرير والتنظير لماذا يعني حضور (النقد الثقافي) موتاً للـ(النقد الأدبي)؟ إن للـ(النقد الثقافي) لمن قد يكون غريباً عليه مصطلحاً أو ميداناً أو ممارسةً، مفاهيم ودلالات وهويات تختلف بشكل طبيعي كما هو حال الكثير من مفاهيم ومصطلحات ومعارف الأدب والنقد والثقافة عموماً، باختلاف متناوليه أو مزاوليه. وهو وفقاً لوجهات النظر المختلفة قد يكون ممارسةً أو حقلاً معرفياً أو نقدياً أو دراسياً مستقلاً، وهو ما لم نره متجسداً كثيراً في الغرب وجامعاته. وهو قد يرتبط بـ(الأدب المقارن) وسط دخول هذا الحقل في مرحلة التداخل المعرفي والحقلي ومرحلة عنايته بعلاقة الأدب بغيره من الحقول بشكل خاص وعلاقة الحقول عموماً بعضها ببعض، كما بشر به أو دعى إلى ترسيخه والاهتمام به تشارلس بيرنهايمر بداية التسعينيات سواء في كتابه “الأدب المقارن” أو في البيان الذي كان مسؤولاً عنه وأصدره قبل ذلك بقليل باسم “الجمعية الأمريكية للأدب المقارن”([20]). و(النقد الثقافي) قد يتبع أو على الأقل يرتبط، وإنْ بحدود، بالفولكور والثقافة الشعبية، وما قد يؤخذ على هذا الرأي أنه يحدد إمكانيات هذه الممارسة (الثقافية) ويحدّ من شموليتها. أما الرأي الآخر الذي نميل إليه شخصياً، فهو الذي يتعامل مع (النقد الثقافي) على أنه فرع أو تابع لما يُسمى Cultural Studies (الدراسات الثقافية) التي نعرف أنها صارت منذ ستينيات القرن الماضي حقلاً مهماً وربما مهيمناً في الدراسة الأكاديمية وغير الأكاديمية([21]). ومن الآراء الأخرى فهو الذي يجعله ممارسة نقدية، بل قد يتعامل أصحاب هذا الرأي معه على أنه أحد المناهج النقدية الأدبية، وإذا ما كنا نتردد في الحماسة لهذا الرأي، فإننا يجب أن نعترف بأنه يمتلك تبريراً ومشروعية الادعاء به. وعلى أية حال كل رأي من هذه الآراء يمتلك شيئاً من المشروعية، ولكننا إذا ما سمحنا لأنفسنا باستخدام معيار الصحة والخطأ، فإننا نقول كل من تلك الآراء صحيح بدرجة معينة. وإذا ما جاز لنا أن نقول إن هذا عموماً هو حقيقة، وعليه فمبرّر لأي منا، اتفقنا معه أم لم نتفق، أن يتبنى أيّاً من الآراء السابقة، فإن الحقيقة الثانية هي أن (النقد الثقافي) لم يكن ولن يكون أبداً بديلاً للنقد الأدبي، كما توهم أو حاول البعض، مثل عبدالله الغذامي، أن يقنع النقاد والقراء العرب بذلك، ببساطة لأنه إذا كانت هناك من تداخلات أو علاقات أو تكامل ما بين الاثنين، فليس هناك من تعارضات ما بينهما، وعليه يكون هذا الرأي هو الوحيد، بين كل الآراء السابقة، الذي لا يمتلك أي عنصر إقناع.
هذا على المستوى النظري، أما على المستوى العملي، فالواقع أن عبدالله الغذامي لم يقنع الكثيرين بأن ظهور (النقد الثقافي) ووجوده يعني نهاية (النقد الأدبي)، وعليه سرعان ما خفت بريق هذا الإعلان عند من رددوه وراءه، وهم على أية حال قليلون، ولم يبق شيء من المقولة و(أصدائها). وهنا وتحت تأثير الشغف غير الموضوعي بالميتات أو في الحقيقة بالإعلان عنها تحول الناقد أخيراً إلى إعلانه الجديد عن (موت النخبة) بتأثير (ثقافة الصورة) التي تهيمن اليوم على حياتنا في ظل غزو الصورة التي هي متاحة لكل فرد، وضعف الكلمة وربما ضعف بعض ما يُقدَّم بها أدباً وغير أدب أو موته. ولعل العودة إلى واحد من تصريحات الغذامي في هذا المجال وتحليله، يفيدنا في وضع اليد على الرؤية المركزية التي تقوده أو يقودها للوصول إلى النتيجة المحببة إليه، نعني الإعلان عن موت ما، لنصل في النتيجة إلى وضع اليد على طبيعة أطروحته في مجال ثقافة الصورة وتأثيرها وتسبيبها في موت الكلمة أو الأدب أو جنس منه. وعودتنا هنا ستكون إلى تصريحه بموت النقد الأدبي، وتعريجه على ما يُقال عن التحول من ثقافة الأدب إلى ثقافة الأدب، وهو ما ورد في واحد من أواخر الحوارات التي أجريت معه- بحدود علمنا. تسأله المحاورة أميرة القحطاني، منطلقةً مما يشبه المسلّمات، وما هي كذلك:
“ناديتَ في بداياتك لموت المؤلف حتى إذا تحقق لك ذلك [متى وكيف تحقق له ذلك؟ لا ندري] قفزتَ إلى موت النقد الأدبي، هل وجدت أن الأدب يضيق بمعرفتك، لذلك اخترت النقد الثقافي؟”
فيجيب الغذامي:
“أعتقد أن النقد الأدبي قد أدى وظيفته وأدى وظيفة عظمى وكبيرة جداً لكنه وصل إلى مرحلة التشبع وبدأ يكرر ذاته في ما يقول الآن وفي ما قد قاله على نصوص أو في مواقع أو في قضايا سابقة ووصل إلى حد الاختناق والتشبّع. أيضا حصل تغير ضخم على مستوى الثقافة البشرية، فالناس تحولوا فعلاً وعملياً من ثقافة الأدب إلى الثقافة العامة، ثقافة الصورة، مثلاً، ثقافة الدراما، ثقافة السينما.. إلى آخره، ثقافة متنوعة… وهذا يحتاج إلى أداة نقدية مختلفة، والنقد الثقافي هو مؤهل الآن لهذا الفعل. لذلك قلت مقولة موت النقد الأدبي بما أنه أدى وظيفته وانحسر الآن ليكون مجاله مجالاً أكاديمياً فحسب لكن ليس مجالاً جماهيرياً. في السابق كان الشاعر هو صوت الناس وهو المطلب الذي يطلبه الناس… الآن هذا انتهى مع عصر الصورة إلى مرحلة ثقافية وزمنية مختلفة تماماً”.([22])
فبتشريح كلام الغذامي هذا، وتحليله، نخرج بالملاحظات الآتية توصيفاً نقدياً له:
أولاً: إنه ينمّ عن تسليم بأن الميتات التي قيل فيها أو أُعلن عنها سابقاً قد تحققت وانتهت، وهو أمر مردود، لأن مراجعة لكل تلك التي قيل ما قيل في موتها تكشف عن أنها جميعاً لم تتحقق ولم يمت شيء، فهي في أكثرها مصداقية قد انتابها جزئياً ضعف، وغالباً فترات محدودة.
ثانياً: الإعلانات عن الميتات لا تنطلق من تحقُّقِها فعلاً، بل هي توقعات. وحتى عندما تكون موضوعية أو علمية، فإنها لا تُبنى على أشياء محسومة. وحين تنطلق مما يراه الغذامي قد تحقق فإنها تنبني في الحقيقة لا على إحصاءات ودراسات ميدانية، بل على رؤية شخصية قد لا تكون صحيحة. ولهذا سنجد في موقع آخر من هذه الورقة، كيف أنها، مرة أخرى، وكما هو أمر غيرها، لم تتحقق في الغالب الأعم.
ثالثاً: يُلاحَظ الاستسهال غير العلمي وغير الموضوعي في القول بموت من أو ما يُعتقد موته، أو انحساره وقرب انتهائه. فلنلاحظ كيف أن الغذامي في جواب واحد من فقرة واحدة، وكأنه أمام مجزرة، قد أعلن أو كرر الإعلان عن موت المؤلف، والنقد الأدبي، والأدب، والشعر، والشاعر، والنخبة!!. وهو في ذلك يتكلم أيضاً، عما قد لا يكون مسلمات، على أنه كذلك. فعدا مكانته ودوره في أزمان قديمة، ما كان الأدب أكثر تأثيراً، وما كان يشكل ثقافة الناس، ليتحولوا الآن منه إلى ثقافة الصورة.
رابعاً: وتعلقاً بالملاحظات السابقة، هيمن التكلف وافتعال التعليل العلمي غير الموجود، كما يتمثل ذلك بشكل خاص في ما يقوله عن “مرحلة الاختناق والتشبع” التي يدّعي أن النقد الأدبي قد وصل إليها، فلا ندري كيف يصل النقد إليها وهو قائم أساساً على علاقةٍ بالإبداع غير المنتهي؟ ولا ندري كيف بنى الناقد هكذا رأي بهكذا استسهال؟
خامساً: ينطوي الكلام على تجاوز غير موضوعي لطبيعة الميادين والمعارف، التي يتم تناولها، ومريديها وجمهورها، نعني ميادين الكلام وفنونه، ولا سيما الأدب وأجناسه. وبدلاً من ذلك، يخضع المتكلم، في التعامل مع الأدب، لثقافة ذات طبيعة ولغة مختلفتين عن طبيعته ولغته، تلك هي ثقافة الإعلام، مما يترتب على ذلك نتائج غير موضوعية وغير علمية.
بقي أن الأدباء ونقاد الأدب، لا سيما ضمن حقول أدبية ونقدية معينة، قد وعوا هذا الزحف للصورة ولثقافة الصورة، بل لعموم وسائل الإعلام والاتصال وأشكاله، وكان لهم فيها آراء وثقة بقدرات على الاستيعاب والتكامل. فهذا تشارلس بيرهايمر في التقرير العقدي لـ(جمعية الأدب المقارن الأمريكية) لسنة 1993 يستشرف ويدعو إلى شيء من هذا حين يقول:
“يجب على الأدب المقارن أن يتضمن مقارنات بين وسائل الاتصال، من المخطوطات الأولى إلى التلفزيون، والهايبرتكست، والوقائع الافتراضية. إن الشكل المادي الأساسي الذي شكّل مادة دراستنا قروناً، نعني الكتاب، في طريقه ليتغير عبر تكنولوجيا الحاسب الآلي وثورة الاتصالات”([23]). لكن هذا لم يكن ليعني لهؤلاء، كما عنى خطأً أو على الأقل مبالغةً للكثيرين عندنا، نهاية الكتابة والكتاب. هو باختصار نهاية مرحلة وشكل معين للكتاب وبداية مرحلة وشكل آخر له، بتعبير آخر هو ليس قرب نهاية للكتاب بل للكتاب الورقي وبداية للكتاب الإلكتروني. والفرق واضح بين الادعاء بتحقّق الأول وحقيقة قدوم الثاني.
في نهاية توقفنا هذا عند الغذامي، وتعلقاً بالملاحظة الأخيرة، وإذا أردنا أن نتعامل مع مقولاته بلغة الإعلام ووسائله التي أخضع لها تعامله مع الأدب والأجناس الأدبية والوسط الأدبي، نقول: إن كثرة إعلانات الموت تُفقد كلامه مصداقيته. لكن المفارقة أن بعض الصحفيين والأدباء والمثقفين قد انساقوا في هذا، نعني الخضوع لثقافة الإعلام ولغته، في فهم غزو هذه الثقافة لميدان الثقافة العامة ولا سيما غزو ثقافة الصورة لثقافة الكلمة. وفي ظل ذلك هم أغرقونا بمقولات كثيرة سنعرض لأكثرها ترديداً فيما سيأتي.
( 4 )
من الأمور الرئيسة التي ركز عليها أولئك الذين رأوا في الصورة، لا سيما تلك التي ترد ضمن وسائل الإعلام، مؤثراً سلبياً في الأدب، مصادرة القراءة وسلب القراء، وهجرة المطبوع مما ينعكس على كمية المطبوع وسعة التوزيع. بل لعل هذه الفكرة كانت المنطلق لجلّ المقولات والآراء المتعلقة بغزو ثقافة الصورة لثقافة الكلمة، أو فكرتها المركزية التي قامت على ما يسمونه (انحسار الكلمة)، ونحن نشك في وجود مثل هذا الانحسار. هي، في الواقع، قلة قراءة، وهي موجودة فعلاً، ولكنها موجودة من قبل، ولا نظن أن في ذلك جديداً. وعلى أية حال يتفق أيضاً جل القائلين بذلك الذي يسمونه (انحساراً) جديداً في القراءة، ونسميه نحن (ضعفاً) قديماً فيها، على تحميل الثورة المعلوماتية، ودور الصورة تحديداً فيها، سبب العكوف عن القراءة، مع أننا لا نرى، أولاً، لهذا العكوف علاقة بالصورة إلا بوصفها سبباً غير رئيس من الأسباب، وهو، ثانياً، لا ينطبق إلا بشكل محدود على قراء الأدب، كما سنأتي إلى ذلك في مكان آخر. بعبارة أخرى، يغيب عن جل القائلين بانحسار القراءة أو قلتها، والمهوّلين فيها أن كل المؤثرات السلبية التي جاءت من المخترعات ووسائل الاتصال وما إلى ذلك من صورة فوتوغرافية وسينمائية إلى تلفزيون وصحون لاقطة، وانتهاءً بالإنترنيت والصورة الرقمية والإليكترونية، قد مارست هذا التأثير سلبياً، وفي الغالب الأعم، على من هم خارج إطار القراء الذين يعنونا، نعني قراء الأدب، في هذا تقول الشاعرة فاطمة ناعوت:
“طغيان ثقافة الصورة ساهم في خفوت بريق الكلمة المقروءة بوجه عام. لم تعد طاقة الكلمة تعمل بكامل قوتها كما كان حتى ستينيات القرن الماضي. ولو أضفنا إلى ذلك أن مجتمعاتنا العربية بشكل عام مجتمعات غير قارئة لعرفنا حجم المشكلة الإبداعية لدينا سيما الشعر. رغم هذا يظل الشعر تاج الكلمة إلى المنتهى حسب ظني، رغم النظريات النقدية التي تذهب إلى أننا نحيا زمن الرواية”([24]).
وإذا لم ينصّ آخرون على وجود هذا الخفوت في بريق الكلمة، ومع الاتفاق على أن العصر هو عصر الرواية، فإنهم استشعروا خوفاً أيضاً على فنون الكلام، وخصوصاً السرد، أو الرواية تحديداً، فقال الروائي المغربي بهاء الدين الطود:
“لقد بات متداولاً راهنياً أن الزمن المعاصر هو زمن الرواية، بحيث أصبحت الكتابة الروائية هي الشكل الإبداعي المهيمن في الثقافة الأدبية، وهو ما جعلها تسمو وترقى إلى أعلى مستويات التجريب، لكن لكل شيء، إذا ما تم، نقصان، فقد كان لا بد أن يكون هذا الرقي مؤشراً على النهاية والانقراض بعد أن برزت أشكال إبداعية أخرى تعتمد الصورة في عصر أصبحت فيه ثقافة الصورة مستحوذة على العقول والألباب والأذواق، شيء لا يصدقه العقل، عقل من لم يعش بعد في الألفية الثالثة من هذا القرن”([25]).
وواضح هنا أن خوف أمثال ناعوت والطود ليس من واقع متحقق فعلاً، بل مما يستشعرون أنه قادم، ليتساووا في ذلك مع من يرونه، مصيبين أو مخطئين، متحققاً. ويبقى تعليل أزمة القراءة، أياً كانت حقيقتها، اجتهاداً قد نتفق معه أو لا نتفق. فمرة أخرى يجب أن ننتبه، أولاً، إلى أن انحسار القراءة وما تؤدي إليه بالضرورة من انخفاض توزيع الكتاب وقراءته قد لا يكون حقيقياً؛ وثانياً، إلى أنه إذا كان هناك انخفاض في القراءة والتوزيع فعلاً فإن القول فيه يأتي مقروناً بمبالغات ليست قليلة؛ وثالثاً إلى أنه إن كان كذلك، فإنه في الغالب ليس بسبب الصورة، عكس ما يرى البعض، بل بسبب تبدلات العصر المختلفة وفي مختلف الميادين والسبل والوسائل والمجالات، وعليه يسقط القول بالميتات المفترض أنها ناتجة عن ذلك. بقي أن نقول ربما هو فعل قصدي أو غير قصدي لتحريك الوسط، ونحن نتذكر هنا، بعض أشهر أمثلة هذا الفعل، مقولةَ طه حسين في عدم صحة الشعر الجاهلي أو معظمه، ومقولة صفاء خلوصي بالأصل العربي لشكسبير وأن اسمه شيخ زبير، واعترافهما بعد حين بأنهما ما قالا الذي قالاه إلا لإحداث خضّة في الوسط الأدبي وتحريك الحركة الأدبية الراكدة. ولكن إذا كان ما يُقال الآن، عن ميتات الأشياء والأجناس والعناصر البشرية في الأدب، من هذا القبيل، فإنه يتجاوز المعقول في كثرته، وارتجاليته، واغتراف الجميع منه، مما يخرجه عن أية موضوعية. وعلى أية حال، هذا لا يعني خطأ تناول موضوع تأثير الصورة وثقافة الصورة في الكلمة والأدب وثقافة الكلمة والأدب، وهذا ما سيكون محط عناية المبحث الأخير من الورقة.
إذن بإزاء مثل هذه الآراء والمقولات المستندة على المفترض والمتوقع، من وجهات نظر معينة، لنناقش فيما سيأتي، وبمعزل عن المقول والمتحقق والمفترض، كيف يمكن للصورة وثقافة الصورة أن تؤثّرا في الأدب وثقافة الأدب عامةً، والأجناس السردية منها خاصة، ولكن انطلاقاً من المقارنة بينهما، ومن اللقاء والافتراق بين طبيعة كل منهما وخصائصه.
( 5 )
نعتقد أن تأثير الصورة في الأدب من الممكن أن يجيء ويتحقق على المستويات الآتية أو على بعضها: مستوى الكتابة وطبيعة الجنس المعنيّ؛ ومستوى إخراج الكتابة منشورةً وطرق هذا الإخراج وآلياته؛ ومستوى الوظيفة؛ وأخيراً والأهم، تعلقاً بقضية الميتات والإعلانات عنها، مستوى القراءة وحجم توزيع المنشور.
مستوى الكتابة: فمن ناحية تأثير الصورة في الكتابة وطبيعة المكتوب جنساً أدبياً أو غير ذلك، نجد من الطبيعي أن تتأثر هذه الكتابة بالتقدم التكنولوجي في وسائل الاتصال كلها، خصوصاً عبر ما أحدثه ويحدثه باستمرار هذا التقدم في الصورة وتنوعها ونقلها وتقديمها وحركيتها عبر الأقمار الصناعية، في الفضائيات والإنترنيت. فمن الطبيعي أن يدعم ذلك كله الكتابة الأدبية عامة والسردية خاصة، وهو ما تحقق فعلاً في مراحل سابقة من تطور الصورة. والواقع أن تأثير السينما تحديداً في الأدب والأدباء الذين انبهروا بها، وفي طرق كتابتهم معروفة في الغرب قبل أن تكون كذلك عندنا، ومن ذلك تأثّر روائيي فرنسا الجدد مثلاً، كما هو حال ساروت التي “جاءت كلماتها بمثابة (البوزيتيف) بالنسبة لـ(النيجاتيف)، بلا زيادة ولا نقصان، أو بلا رتوش، وكأن اللغة (كاميرا) تلتقط صور (الناس) و(الأشياء) في كل مكان وبنفس الطريقة”([26]). أما كلود سيمون فقد وظف كولاج- قص ولصق- الفن التشكيلي، بينما ظهر ما يُسمى “(الرواية السينمائية)، كما رأيناها عند روب- غرييه ومارغريت دورا”([27]). أما علاقة سارتر بالسينما التي ولع بها فهي مصرّح بها على لسانه([28]). وهكذا أدى عمل وليم فوكنر في السينما وفي كتابة السيناريو إلى تأثر ملحوظ في رسم بعض عوالمه، بينما أثّرت اللقطات السريعة المبهرة في همنغوي.. والسلسلة لا تنتهي. يبقى أمر تنوع هذا التأثير وامتداده إلى أوسع من ذلك مرهوناً بالمبدعين أنفسهم، حيث يمكن توظيف كل تطور في وسائط الاتصال لإفادة اللغة الأدبية، ولا سيما السردية، بل لترسيخ اللغة عموماً- على حد تعبير البعض- وذلك “من خلال الاعتماد على ما تقدمه هذه الثورة المعلوماتية من مصادر واسعة الانتشار لمختلف أنواع المعارف خاصة أمهات كتب التراث العربي التي باتت متوافرة اليوم على مواقع الانترنت العديدة، وهي وسيلة أكثر سهولة وتكلفة لإعادة التواصل مع اللغة الأدبية الرفيعة التي كتبت بها هذه المؤلفات العريقة، وبهذا تكون التكنولوجيا الحديثة قد أسهمت في ترسيخ جانب جمالي مهم من لغتنا الأدبية”([29]).
الملاحظ في هذا الخصوص أن أكثر المقولات في تأثير الصورة السلبي في القراءة وغزوها وحلها محل غيرها من أدب وغير أدب مما يعتمد الكلمة لا الصورة، إنما تركز على أنها أفضل من حيث إيصال المعلومة وتقديمها وإيفائها بما يراد لها أن توصله. وهنا لم ينتبه الكثيرون، في الوسط الأدبي، حين انساقوا مع من سار هذا المسار، إلى أمر هم يعرفونه، لكنهم نسوه وسط موجة هوس الكلام في الموضوع والمبالغة فيه، ذلك هو أن الأدب ليس وسيلة إيصال معلومة إلى متلقّ، بل طريقة تعبير جميل وتأثير.
وتعلقاً بهذا، يعلل البعض ما يرونه تحولاً تدريجياً من ثقافة الكلمة إلى ثقافة الصورة كبديل رئيس في توصيل التجربة أدى إلى تغيّرات جوهرية في علاقتنا مع الأدب، ومنه الشعر، لأن الصورة “تمتلك القدرة على الوصول إلى ذاكرتنا ومخيلتنا دون جهد ذاتي”([30]). وهذا أمر غريب، إذ ينطلق الرأي مرة أخرى من منطق الإعلام وتقديم المعلومات والصورة، في التعامل مع الأدب متمثلاً هنا بالشعر، وكأن قارئ الشعر يبحث عن التجربة ذاتها، كما يبحث عنها من خلال وسيلة الاتصال والصورة، وليس عن طريقة التعبير الجميلة والذاتية عنها. إن طريقة التعبير، التي بها نسمي الأدب أدباً، هي دوماً الأهم فيه بكل أشكاله، حتى تلك التي تقترب من التسجيل وما يسمى الفوتوغرفية. فالتسجيلية مثلاً، التي هي، طبيعةً وموضوعاً وأسلوباً، من أقرب مذاهب الكتابة الأدبية إلى الإعلام، تبقى أهمية النص فيها لا في ما تقدمه من معلومة وما تعالجه من ظواهر ووقائع وموضوعات، بل بالكيفية التي يُقدَّم بها ذلك، وبها “تحاول أن تؤثر في فكر الجمهور ومشاعرهم”([31])، وليس بعرض الحقائق والوقائع فقط، كما تفعل الصورة عبر وسائل الاتصال والإعلام عادةً.
مستوى الإخراج: أما تأثير الصورة من ناحية الإخراج وتسهيل الإصدار، فلا ندري لماذا يتباكى البعض على الكتاب إذ يرونه- متمثلاً بالكتاب الورقي التقليدي- ضحية الكتاب الإليكتروني، وكأن الكتاب الورقي هدف هو ذاته وليس شكلاً ووسيلة لتقديم الكتاب مؤلَّفاً. وعلى أية حال يمكن إجمال تأثير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات عموماً، والصورة خصوصاً، بما ينطوي عليه من إيجابية وسلبية، في ما يأتي:
أولاً: توظيف الصورة لتحويل القصة أو الرواية بوصفها سرداً، إلى قصة تستعيض عن ذلك بالصورة المتسلسلة، مع عدم الاستغناء كلياً، غالباً، عن ذلك السرد، الذي يؤدي هنا وظائف لا تتطابق بالضرورة مع تلك التي للسرد الأصلي. ومعروف أن هذا التأثير أو التوظيف للصورة متحقق من زمن طويل، ولكنه يُوظّف في الوقت الحاضر بشكل أكثر عملية على شبكة الإنترنيت.
ثانياً: توظيف تكنولوجيا الاتصالات وتناقل الصورة لتسهيل تصميم الغلاف أو إعداده. ولعل هذا يكتسب أهمية في الكتب السردية أكثر منها من في غيرها.
ثالثاً: ينسحب تأثير ما هيأته تكنولوجيا الطباعة، والاتصالات، والانترنيت من تسهيلات إلى إخراج المكتوب كتاباً منشوراً، أو غيره، وتنفيذ طباعته.
رابعاً: وأخيراً تسهيل وتسريع إعلام المتلقين بصدور هذا المنشور، وتعريفهم به، وربما إيصاله إليهم، ونقل ما قد يتعلق به من صور عبر شبكة الإنترنيت.
أما استخدام الصورة- وهنا يتداخل التأثير بين مستويي الإخراج، والقراءة- من أجل جذب أكبر، فهو بالتأكيد أمر فاعل، ولكننا حين نتعامل مع قراء الأدب فإن الكلمة تبقى، برأينا، هي الأكثر تأثيراً وجذباً لهكذا قرّاء، وتحديداً حين لا يتقدم هذا الجانب الخارجي أهميةً لديهم. ولعل أحلام مستغانمي، مثلاً، قد وعت أن الكلمة تبقى هي الأكثر تأثيراً، حين اختارت أسماء رواياتها، مثل “ذاكرة الجسد”، و”عابر سرير، فيبدو أن قارئ الأدب- وربما القارئ العادي أيضاً الباحث عن أشياء بعينها يجذبه عنوان “عابر سرير” أكثر مما تجذبه صورة امرأة جميلة في ملابس مثيرة تستلقي على سرير. وليس غريباً في ضوء ذلك أن نجد ضمن أكثر الكتب مبيعاً مؤخراً في بعض الأقطار العربية رواية “برهان العسل” للسورية سلوى نعيمي، وذلك كما يرى البعض “بسبب الحسية في تناول علاقة الرجل والمرأة”، مع أننا نفترض أن الذي يبحث عن هذه الحسية ذاتها مجردة من القالب والطريقة اللتين تُقدّمان بهما يمكن أن يجدها، في صراحتها، في أماكن أيسر غير الأدب، لكنه حب الأدب، وتأثيره وتأثير الكلمة الأعمق والأكثر إمتاعاً لقراء الأدب حتى في هذه الحسية.
مستوى الوظيفة: المستوى الآخر في مقارنتنا بين الصورة وثقافة الصورة من جهة، والأدب وثقافة الأدب والتأثير والتأثر بينهما، هو الوظيفة التي يؤديها كل منهما. هذا المستوى عندنا، إذ يتوقف عليه الكثير مما قد يقال عن تأثير الصورة في الأدب وموته بها، يطرح قبل ذلك سؤالاً جوهرياً لا يتعلق بموتٍ أو الإعلان عنه بالتحديد، بل بالفكرة أو الواقعة المفترض وقوعها: لماذا يموت أو يختفي أو ينتفي الواحد من هذه الأشياء أو العناصر؟ ببساطة إنه يموت أو يختفي أو يُهجَر أو ينتفي وجوده عندما يستجد أو يحضر ما يؤدي وظيفته بكيفية أفضل أو بإشباع أتمّ أو بوسائل أسرع أو بشكل أجمل أو أكثر جاذبية.. إلخ. ومن الواضح أن هذا ينطبق على كل شيء تقريباً، من أمثال حلول القطار محل الحصان، ونسف الطائرة، في سرعتها، لهيمنة السفينة.. إلى آخره مما نراه يحدث يومياُ، كما قلنا، وضمنه ما يحدث في مجال وسائل الاتصال والإعلام. وهكذا يقلّ الذهاب إلى الملعب حين تُنقل مباريات الكرة إلى بيوتنا، وتنحسر الصحف حين يحضر التلفزيون، وتقل مشاهدة القنوات التلفزيونية الأرضية حين تحضر القنوات الفضائية، وتنحسر الفضائيات حين يحضر الإنترنيت. لكن هذا كله بمنطقه ومبرراته لا ينطبق على الصورة والأدب، بما في ذلك الفنون السردية، إلا بشكل جزئي جداً. فليس للصورة أن تحل محل الشعر أو القصة أو الرواية، لأنها ببساطة لا تقدم ما تقدمه هذه الفنون لمتلقيها. ومن المعرفة، التي قد لا تكون واعية، بحقيقة أن يحل شيء محل آخر فقط حين يؤدي الجديد ما كان يؤديه القديم بشكل أفضل، تأتي آراء البعض، فيسأل أحدهم: في ظل ما شهده الإعلام من تطور، خصوصاً على مستوى الصورة، وإزاء التراجع الذي يراه في قدرة الكلمة المكتوبة: هل يقدم هذا الإعلام المعلومة والمتعة المفيدة في الوقت نفسه وبشكل أكفأ؟
نجيب بالقول: نعم، هو يقدم ذلك وبهذا الشكل على مستوى المعلومة وإيصال الأخبار وشؤون الدنيا والناس الحياتية والمادية. أما على مستوى أن يكون إيصال هذه المعلومة مقروناً بمتعة فالجواب بنعم غير مضمون، إذ يتوقف الأمر من جهة على طبيعة المعلومة ومصدرها والوسيلة التي تنقله ومتلقيها، والأهم العامل البشري الذي يقدم هذه المعلومة. بل الأصل هو أن لا يكون للمتعة مكانة مقصودة. وما يخرج عن ذلك فهو استثناء في عملية الإيصال هذه، بعكس الأدب الذي يستهدف الجمال والمتعة أساساً إن لم نقل هو الجمال عينه. أما غير ذلك فإنما يأتي عبره. ووفقاً لذلك لا يمكن أن يؤدي الإعلام ووسائل الاتصال، بما في ذلك الصورة، ما يؤديه الأدب، حتى حين يصح القول بوجود تحول بدرجة ما من ثقافة الكلمة إلى ثقافة الصورة. يقول أحد النقاد مصيباً: “نذكرُ كلّنا الانغماس الكلّي الذي يصيبنا أثناء مشاهدتنا لفيلم سينمائي شائق. ثمّ ماذا؟ ماذا يتبّقى لنا بعد ذلك في الذاكرة. قد نستذكرُ بعض الصور كخيالات بصرية بعيدة، ولكن العبارة الخالدة ما يجعلنا نتأثر ونتغيّر في الأعماق. تزول الكثافة الآنية ليبقى صدى الكلمة يتردّد في أصقاع وعْيِنا. الكلمة هي الوحيدة القادرة على ربطنا بماضينا الجميل والخالد، الوحيدة القادرة على حمل النبوءة إلى الأجيال القادمة، الوحيدة القادرة على تخليد التجربة الإنسانية وإنقاذها من موتها المحتم برصاصة النسيان البشري”([32]). يضاف إلى ذلك، أن هناك ظاهرة لم ينتبه إليها أحد، بحدود اطلاعي، إذ هي تنبّه إلى المبالغة في القول بهيمنة الصورة على الكلمة والكتابة والأدب، تُبقي على أهمية الكلمة والكتابة والأدب، تلك هي أن القليل والقليل جداً من الكم الهائل من الصور، ومن حركتها بيننا وأمامنا، هو الذي يستغني عن الكلمة، ربما اللهم إلا الصور الإباحية- وربما حتى هذه لا تستغني عنها بدليل انتعاش أدب البورنو على شبكة الإنترنيت وفي دور النشر في الغرب- ولكم شواهد على ذلك الفيلم السينمائي، والدراما التلفزيونية، والأخبار. فمهما عبّرت الصورة ومهما جسدت، فإنها تبقى غالباً تثير أسئلة أكثر مما تجيب، أو تهيّئ للإجابة: ما أو ماذا، لماذا، كيف، من…؟
مستوى القراءة: قد يكون مفارقةً، حين نتناول المستوى الرابع من مستويات المقارنة والتاثير بين الصورة وثقافتها من جهة، والأدب وثقافته من جهة ثانية، أنْ نجد التأثير على مستوى قراءة الأدب وتوزيع المطبوع الأدبي، وبخلاف جل من يناقش هذا الموضوع، إيجابياً غالباً. وهو قد كان كذلك منذ أن بدأ تأثير الصورة التقليدية، نعني تحديداً الصورة السينمائية والتلفزيونية، وهو إيجابي الآن مع الصورة العصرية، نعني صورة القنوات الفضائية والصورة الرقمية والإنترنيت. نستحضر هنا، وعلى سبيل المثال، رواية إريك سيغال (قصة حب) Love Story في أمريكا في السبعينيات، ورواية (عمارة يعقوبيان) عندنا مؤخراً دليلين على ذلك. فإذ تقدم أنطولوجيا (روايات وروائيون) الرواية الأولى على أنها “كانت واحدة من أكثر الكتب مبيعاً في السبعينات”، فإنها تضيف على ذلك القول تعليلاً: “وذلك إلى حد بعيد بسبب تقديمها في فيلم حقق نجاحاً هائلاً”([33]). أما الرواية الثانية، فلم يتسع توزيعها، بالرغم من بعض الكتابات النقدية والصحفية عنها، إلا بعد إعدادها سينمائياً([34])، لتتصدر نتيجةً لذلك بشكل أساس، قائمة المبيعات.
ومرة أخرى لا ندري لماذا، بتعامل البعض مع الإنتريت، لا يرى التأثير الإيجابي له، حين صار بإمكان قرّاء الثقافة والأدب قراءتهم لهما، شأنهم شأن غيرهم من القراء، بسهولة أكثر في كثير من الأحيان، إذ يتصفحون ما يريدون مما قد لا يتوفر في المكتبات، أو لا يمكنهم الحصول عليه مما يتوفر لهم على شبكة الإنترنيت، ولا سيما المقالات الأدبية والنقدية، والشعر، والقصة القصيرة والقصة القصيرة جداً، والخواطر، وبشكل أقل بالطبع الرواية وغيرها من فنون الأدب وفروعه. وتعلقاً بهذا لنتذكر الضربة التي وجهها الإنترنيت إلى الرقابة في بلدان الرقابة، وكيف صار بإمكان أي قارئ قراءة ما يريد رغماً عن الرقيب المزروع في بلداننا، وأحياناً في دواخلنا. لعل هؤلاء الذين يقولون بالتأثير السلبي هنا لا ينطلقون، كما قلنا سابقاً، من واقع المتحقق، بل من افتراضات وتوقعات يرونها
حقائق ووقائع، وقد فاتهم أن الغالبية العظمى للمستجيبين لـ(الصورة المهيمنة) والمهيَّئين للاكتفاء بها ليسوا أصلاً من قراء الأدب الذين يهمّونا في الغالب. في الواقع، وبعبارة أخرى، أن كل المؤثرات التي جاءت من المخترعات ووسائل الاتصال وما إلى ذلك من صورة فوتوغرافية وسينمائية إلى تلفزيون وصحون لاقطة، وصولاً إلى الإنترنيت والصورة الرقمية، قد مارست هذا التأثير سلبياً في من هم خارج إطار قراء الأدب، وهذا وحده يقلل كثيراً مما يُقال عن التأثير السلبي للإعلام والصورة في الكلمة والأدب.
( 6 )
وأخيراً، وفي ضوء هذه الفروق ما بين الصورة وثقافة الصورة من جهة، والأدب وثقافة الأدب من جهة ثانية، وما قد يكون بينهما من تأثير وتأثر، وبالعودة إلى ما قيل عن غزو الصورة وثقافتها ودورها في انحسار القراءة، والذي قاد إلى ظاهرة الميتات في الأدب والإعلانات عنها، نقول من الواضح أنْ ما من خطر قادم من الإعلام ووسائل الاتصال والصورة وثقافة الصورة على الأدب؟ فليس هناك ما يُرضي قارئ الرواية والقصة والشعر غير الرواية والقصة والشعر. وحتى حين نرى بعض تراجع للكلمة، أو بعض كساد، أو حتى موتاً، فإني لأزعم، كما حاولت أن أدلل على ذلك في هذه الورقة، أنها مرحلة مؤقتة أو ظاهرة طارئة، لا بد أن يتبعها استئناف. وإني لأجد هذا النَفَس المتفائل، العلمي وليس العاطفي، الذي تبناه حتى في بعض أولئك الذي يقرون بدرجة أو بأخرى بالظاهرة، كما هو حال الشاعرة فاطمة ناعوت مثلاً، إذ تقول بلغة شعرية لا تموت:
“أتفق معك أن الكلمة فقدت الكثير من (طاقتها) بتعبير العقاد. لكنها تظل المصباح الوحيد في يد ديوجين المعاصر، أي الكاتب. تغلّبت ثقافة الصورة على ثقافة الكلمة؟ نعم. مات القارئ ولا عزاء للكتّاب؟ نعم. طغت الرقميات وسياسة الاستهلاك السريع على الكتاب التقليدي ورائحة الحبر وجمال الورق الأصفر والتخطيط في هامش الكتب؟ نعم. لكنني أثق أن التاريخ ينتصر للأجمل أو للأقوى في أسوء تقدير. فلو أثبتت الكلمة أنها الأقوى والأجمل ستنتصر ويعود التاريخ إلى سيرته الأولى. وإن انهزمتْ سيفرز التاريخُ شيئا بالتأكيد أجمل أو على الأقل أكثر قوة، وسوف يفرز، من ثم، بشراً بوسعهم تعاطي تلك القيمة الجديدة التي لا أعلم كنهها الآن. دعنا لا نصادر على المستقبل. ربما حمل لنا شيئا سارًا عكس كل المقدمات الراهنة التي تراهن على مستقبل تعيس بالفعل”([35]).
وبعد، فالحياة للأدب شبه مضمونة لأنه مرتبط بوجدان الإنسان الأزلي في كل مكان وزمان. وكما تقول الناقدة المقارنة الكبيرة سوزان باسنيت: “لا يمكن للقراءة والكتابة أن تُجمَّدا أو تُحجّما. إنهما سائلان بلا حدود وفي حركة دائمة([36]). وإلا أي صورة أو صور يمكن أن تكون بديلاً لقارئ قصص مثل “كآبة” تشيخوف، أو “تحريات كلب” كافكا، أو “حادثة شرف” يوسف إدريس، أو “العيون الخضر” فؤاد التكرلي؟ ولقارئ روايات مثل “الجريمة والعقاب” دستويفسكي، و”الصخب والعنف” وليم فوكنر، و”شرق المتوسط” عبد الرحمن منيف، و”موسم الهجرة إلى الشمال” الطيب صالح؟ أو لقارئ أشعار شعراء من أمثال المتنبي، والسياب ودرويش، ورسول حمزاتوف حين يقول:
حبيبتي
إن كان هناك مئة مخلوق في العالم
يحبونك
فاعلمي أن حمزاتوف أحدهم
وإذا كان الذين يحبونك عشرة فقط
فتأكدي يقيناً
“أن رسول حمزاتوف
هو أحدهم أيضاً،
أما إذا كان لا يحبك في هذه الدنيا
سوى مخلوق واحد
فاعلمي أنه سيكون حتماً
رسول حمزاتوف،
أما إذا كنت حزينة ووحيدة
ولا أحد يحبك في هذا العالم
فاعلمي أن رسول حمزاتوف
قد مات”([37])
ومات رسول حمزاتوف فعلاً، ولكن شعره لن يموت.
واختم ورقتي، بعد قصيدة حمزاتوف الرائعة هذه، بعودة إلى الظاهرة الأهم التي يدّعي بوجودها أولئك الذين يقولون بالموت أو يعلنون عنه، نعني (انحسار القراءة) التي يبدو كأن الجميع يعاني منه، وتحديداً من خلال المحاورة الآتية بين أستاذ وأستاذة جامعيين:
يقول الأستاذ: “العلم، ولله الحمد، فات زمانه، انتهى أجله. نعم، وقد بدأت البشرية تشعر بالحاجة إلى أن تستبدل به شيئاً آخر”
فتوافقه الأستاذة: “نعم، صغرت نفوسهم [وتعني الطلبة الشباب] خبرّني، هل كان لديك في السنوات الخمس أو العشر الأخيرة طالب واحد بارز…
“- لا أدري كيف الحال عند الأساتذة الآخرين، ولكني لا أذكر أحداً عندي”([38])
من المؤكد أن الكثير من الأساتذة الجامعيين وغير الأساتذة سيتفقون مع هذين الأستاذين في إشارتهما إلى الوضع البائس للطلبة من ناحية القراءة والبروز، في العقد أو العقدين الأخيرين، مقارنةً بطلبة ما قبل ذلك. المفاجأة أن هذه المحاورة قد جرت قبل قرن وربع القرن من الزمان، وتحديداً بين شخصيتين من قصة لتشيخوف. والمفارقة الطريفة هنا أن عنوان القصة هو “حكاية مملّة”.


[1] ) هذه الورقة أُلقيت في مؤتمر (ثقافة الصورة) الذي عُقد في جامعة فيلادلفيا في 24-26/4/2007.
[2] ) بلا: افتتاحية، جريدة (الخليج)، أبو ظبي، 1 شباط 2007.
[3] ) مجدي وهبة: معجم مصطلحات الأدب، 1974، ص189.
[4] ) أوستن وارين ورينيه ويليك: نظرية الأدب، ترجمة محيي الدين صبحي، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، 1972، ص295.
[5]( M. H. Abrams: Glossary of Literary Terms, p71.
[6] ) أوستن وارين ورينيه ويليك، نظرية الأدب، ص308.
[7] ) رنا رفعت (تحقيق): لغتنا في معركة التطور والارتقاء.. هيمنة الصورة وتراجع الكلمة، موقع (الركن الأخضر) الإليكتروني، 21 كانون2 2005.
[8]) Alvin Kernan: The Death of the Literature, Yale University Press, 1990, p1-3.
[9]) Ibid, p7.
[10]) John W. Aldridge: Time to Murder and Create, The Contemporary Novel in Crises, David Mackay Company, INC, 1966, pxii-xiii.
[11]) Louis D. Rubin, JR: The Curious Death of the Novel, Louisana State University Press, 1969.
[12]) Floyd C. Watkins: The Death of Art, Black and White in the Recent Southern Novel, University of Georgia Press, 1970.
[13]) Peter Burger: The Decline of Modernism, Pennsylvania State University Press, 1992.
[14]) مونيكا فلودرنك: مدخل إلى علم السرد، ترجمة د. باسم صالح، ص34.
[15]) Keith Miller, The Novel Dies Again, On Reality Hunger, TLS, April, 2010, p3-4.
[16]) Mary Eagleton: Working with Feminist Criticism, USA, 1980.
[17]) Sean Burke: The Death and Return of the Author, Criticism and Subjetvity in Barthes, Faucault and Derrida, Edinburge University Press, 1992.
[18]) Graham Allen: Intertetuality, London, 2000, p154.
[19]) Michelene Wandor: The Author is Not Dead, Merely Somewhere Else, 2008.
[20]) Charles Bernheimer: Comparative Literature in the Age of Multiculturalism, 1995.
(هامش يُضاف: من الطريف أننا لا نكاد نجد في الغرب لهذا (النقد الثقافي) من وجود حقيقي، إزاء فرع (الدراسات الثقافية)، ولهذا ليس غريباً أن لانجد له أثراً في كتاب مصطلحات ومفاهيم مثل كتاب بينما تحتل (الدراسات الثقالفية) مكاناً متميزاً فيه. انظر:
Willfred L. Guerin, : A Handbook of Critical Approachثs to Literature, Earle Lbor, Lee Morgan, Jeanmi C. Reesman and John R. Willingham, Oxford University Press, 1992.
[21]) من الطريف أننا لا نكاد نجد في الغرب لهذا (النقد الثقافي) من وجود حقيقي، إزاء فرع (الدراسات الثقافية)، ولهذا ليس غريباً أن لانجد له أثراً في كتاب مصطلحات ومفاهيم مثل كتاب بينما تحتل (الدراسات الثقالفية) مكاناً متميزاً فيه. انظر:
Wilfred L. Guerin, : A Handbook of Critical Approaches to Literature, Earle Lbor, Lee Morgan, Jeannie C. Reesdman and John R. Willingham, Oxford University Press, 1992.
[22] ) عبدالله الغذامي: تغيرنا من ثقافة الأدب إلى ثقافة الصورة، حوار أجرته معه أميرة القحطاني، موقع إيلاف الإليكتروني، 5 أبريل 2006.
[23]) Charles Bernheimer: Comparative Literature in the Age of Multiculturalism, p45.
[24] ) فاطمة ناعوت: حوار أجراه معها علي المومني، مجلة (أفكار)، عمّان.
[25] ) الروائي المغربي بهاء الدين الطود: حوار أجراه معه حسن اليملاحي وعبد الاله المويسي، جريدة (الزمان)، لندن.
[26] ) ناتالي ساروت: انفعالات، ص34. والكلام للمترجم فتحي العشري.
[27] ) المصدر السابق، 1971، ص38. والكلام للمترجم.
[28] ) يُنظر سارتر بقلمه: فرنسيس جانسون، منشورات نزار قباني، بيروت، 1967، ص19، 22، 34، 38.
[29] ) موقع (الركن الأخضر) الإليكتروني.
[30]) د. معجب سعيد الزهراني: بحث في تعددية الشكل في الكتابة الشعرية الحديثة.. إنجاز قاسم حداد نموذجاً، موقع قاسم حداد الإليكتروني.
[31]) Willdam Scott: Documentery Expression and Therties America, Oxford University Press, 1973, p26.

[32] ) د. معجب سعيد الزهراني: بحث في تعددية الشكل في الكتابة الشعرية الحديثة.
[33]) Martin Seymour-Smith (ed.): Novels and Novelists, Great Britain, 1980, p214.
[34] ) ولا ننكر هنا بالطبع طبيعة موضوعها، والمحاذير التي تجاوزتها في دخول بعض التابوهات.
Susan Bassnett: Traveling through Translation, Comparative Critical Studies 6, 1, 2009, p17.
[35] ) فاطمة ناعوت، حوار، مصدر سابق.
[36]) Susan Bassnett: Traveling through Translation, Comparative Critical Studies 6, 1, 2009, p17.
[37] ) نقلاً عن غزاي درع الطائي: رسول حمزاتوف شاعر داغستان الذي أبدع قصائد حب للانسان، جريدة (الزمان)، بغداد، 4 آذار 2007.
[38] ) إنطون تشيخوف: مؤلفات مختارة، ترجمة د. أبو بكر يوسف، موسكو، 1987، مج2، ص160- 161.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *