الركض على خط الأفق
ميسلون هادي
ذات يوم عندما وقع في يـدي كتاب الرياضيات للصف الثاني الابتدائي.. خفق قلبي إليه بتوق كما لو كان شخصاً أعرفه.. كائناً حيـا ربطتني به ألفـة ومحبة، أوصديقا قضيت معه زمناً جميلاً ثم أخفتـه الأيام عني لا أدري في أي واد.
وعندما حملته بين يدي ورحت أقلب صفحاته لم أصدق أنه يمكن للكتاب الذي أحببتـه قبـل ربع قرن أن يخترق كل هذه السنين ليستقر بين يدي مرة أخرى، ويعيد إلي طفولة كأنها حدثت بالأمس أو حدثت قبل لحظات معدودة.
نظرتُ الى الكتاب بحنـو ثم رحتُ أقلب صفحاته.. صفحة صفحة.. وكل صفحة أقرؤهـا تعيدني إلى لحظة زمن غير ممكن: نقـود وتفاحات وكرات ملونة وبالونات وأكياس حلوی وزائـد ونـاقص وقسمة وضرب حتى إذا ما استقرت عيني على الصفحة التي فيها صورة مجموعة من الساعات تشير عقاربها إلى اوقات مختلفة استرجعت، على التو، انبهاري حين كنت في الصف الثـاني الابتدائي بتلك الـدائـرة الكارتونيـة البيضاء المعلقـة عـلى السبورة وصوت المعلمة يأتي خافتاً من مكان بعيد جداً، ثم يقوى شيئاً فشيئاً في أرجاء الغرفة (السـاعـة الواحدةـ الساعة الثانية. الساعة الثالثة) وهي تحرك بيديها السهمين الـورقيين لتـدلنا على كيفية قراءة الوقت.. كنت ألمس بخيـالي العقربين المصبوغين بالأسود، وأسمع صوت دورانها عـلى وجـه الـدائـرة الأبيض… بينما المعلمة تردد علينـا الأرقام بانفعال (الرابعة.. الخامسة.. السادسة.)، فيأتي صوتها من الصف العتيق المطل على باحة المدرسة وينصب في أذني وكأنه يتردد تواً.
أغلقت کتاب الرياضيات، وقلت لنفسي: يا ترى لو أن الساعـات الالكترونية – التي تعطي الوقت بطريقة الرقم المباشر – انتشرت في العالم حد الاستغناء عن الساعات الكلاسيكية ذات العقارب، فهـل تكف المدارس عن طريقة تعليم الوقت بالعقارب للصغار؟.
أنا لا أتمنى ذلك.. فهل هناك من ينضم إلي في هذه الأمنية.. على أن يتجاهل، معي، لسان الزمن الممدود إلينا بسخرية قاتلة.
مجلة كل العرب. الثمانينات
شاهد أيضاً
الأحلام لا تتقاعد
لو أنَّ حدّاداً تعب وهجر مهنته أو نجّاراً شاخ فتوقف عن العمل أو محاسباً بارعاً …