الرعب الكافكوي في قصص يحيى جواد، النسخة الطويلة

الرعب الكافكوي في قصص يحيى جواد
قراءة لمجموعة “الرعب والرجال” في ضوء المنهج النفسي

أ د. نجم عبدالله كاظم
أستاذ النقد والأدب المقارن والحديث
كلية الآداب – جامعة بغداد
مقدمة:
بداية نزعم هنا أننا إزاء مبدع كبير تنوع إبداعه ليشمل النحت، والرسم، والخط، والقصة، والشعر الذي يُسمي ما يكتبه فيه (حالات ومواقف نفسية)، “مع أنها شعر حقيقي، منثورة وموزونة مقفاة، شعر يسجل دقائق رحلته في مجاهل أعماقه”([1])، كما يصفها قريبه وأحد أصدقائه الدكتور عبد المطلب محمود. وربما جاز لنا أن نضيف إلى هذه الاهتمامات ما نسميها (الكتابة النثرية الذاتية) والتي تقترب من أن تكون تداعيات، وتمثلت في يومياته ومذكراته وما أسماها- وهي كذلك- أحلاماً اتسمت بالرعب والألم والقلق. هنا من الملفت للنظر، ونحن إزاء هكذا مبدع كبير، أننا ربما نكون أول من كتب عنه قاصاً، وربما لا نزال الوحيد الذي وقف عند قصص مجموعته المتميزة “الرعب والرجال” وقفة نقدية تحليلية نشرناها في مجلة (الطليعة الأدبية) عام 1979، ولا نعرف لم يظهر عن المبدع شيء قبل الملف الذي أصدرته مجلة (الأقلام) بعد دراستنا بأكثر من عشر سنوات([2]). واليوم نعود إلى درساتنا تلك ونحن نعيد وقفتنا عند المبدع قاصاً، ولكن مع التركيز على واحدة من قصص المجموعة، وهي التي اتخذت المجموعة عنوانها عنواناً لها “الرعب والرجال” التي تكاد تكون، طولاً على الأقل رواية قصيرة([3])، أو لنقل هي قصة قصية طويلة. وفوق هذا رأينا أن يكون دخولنا إلى المجموعة عموماً والقصة المعنية خصوصاً، مدخلاً نفسياً فرضه علينا أمران: الأول المعطى الإبداعي نعني القصص ذاتها بموضوعاتها ومعالجاتها، والثاني هو شخصية المبدع، ونحن نعرف أن المنهج النفسي بمقترباته المختلفة يتيح لنا ذلك، كما يعلم القارئ. وتعلقاً بالأمر الأخير هذا وانطلاقاً من أهمية شخصية المبدع في دراسة إبداعه وفق المنهج النفسي، ومن ضعف الاهتمام النقدي والدراسي بيحيى جواد قاصاً، كما نظن، ستكون وقفتنا الأولى، بعد هذه المقدمة، عند شخصية المبدع قبل إبداعها.
يحيى جواد:
ولد القاص يحيى جواد في باب السيف ببغداد سنة 1928، ومع أنه بدأ النشر مبكراً حين نشر أول قصة قصيرة وهو في الثامنة عشرة من عمره، فإنه كان وبقي مقلاً جداً نشراً لا كتابةً. وقد أُصيب مبكراً أيضاً، وتحديداً وهو دون الأربعين من عمره، بمرض أقعده مشلولاً لا يحرك إلا واحدة من يديه وبصعوبة، وأحياناً ثلاثة أصابع منها فقط، ليستمر هكذا أكثر من عشرين سنة، من سنة 1967 حتى وفاته سنة 1988. ومع هذا الوضع غير الطبيعي والمهول في صعوبته وتأثيره في أي إنسان، كانت مقاومة الفنان كبيرة تعززها إرادة غير طبيعية. فهو حين بقيت يده اليسرى فقط هي التي تتحرك علّم نفسه على استخدمها ليصل بها إلى حركة ومهارة اليد اليمنى في الكتابة والنحت، بل لم يصرع هذا هذه الإرادة حتى انحسار حركة أطرافه، مدة طويلة، لتقتصر على ثلاثة أصابع فقط من هذه اليد، فبقي يبدع وينتج بها. وتعلقاً بالوضع النفسي للكاتب الذي عمل وضعه الصحي، وتحديداً حالة الشلل الطويلة هذه عمله فيه، وإذا ما اتفقنا مع ما يذهب إليه الدكتور عبد المطلب محمود في رصد وتشخيص ما يسميه “الإحساس بالتفوق والمكابرة.. وتصاعد حالة الشعور العميق بالقدرة والقوة والتحدي”([4])، في شخصية المبدع جواد، وكما عرفه من جهة وكما استقرأه هو في بعض نتاجات المبدع، ولاسيما نصوص (حالات ومواقف نفسية)، واستقرأناه نحن معه في بعض آخر من نتاجاته، وتخصوصاً قصصه، فإن هذا لا ينفي توغّل ما يعاكس ذلك أيضاً في نفسيته، نعني الإحساس بالمعاناة واليأس والكآبة والعجز. وهذا مما يمكن ملاحظة شيء ليس بالقليل منه في ما سماه من كتاباته بـ(الأحلام)، والتي تشير صراحةً إلى حضور هذا الشعور في شخصية الفنان، خصوصاً إذا ما عرفنا أن هذه الأحلام هي أحلام أخذ يحيى جواد يراها فعلاً في بعض مراحل حياته، بل حتى في بعض (الحالات) الشعرية، وفي بعض قصصه، ليتصارع هذان الشعوران أو الإحساسان في شخصيته وفي النتيجة في نتاجاته الفنية والأدبية.
يؤيد امتلاك الفنان يحيى الجواد للشخصية القوية وذات الإرادة هذه، وعدم تأثرها كثيراً سلبياً بالمؤثرات الاخارجية ما يراه صديقه الشاعر رشدي العامل الذي يقول فيه: “أزعم أن يحى جواد كان من هذا النمط العالي من البشر. ففي حدود معرفتي به، وأظنها معرفة طيبة تتيح لي الحكم عبرها، أن يحيى لم يدخل منافسة أبداً مع أي كان، لم يفكر بشهرة ولا مال ولا منصب، كان عالمه هو موهبته”([5])، وبما يعني أن ما كان يفعل فعله فيه، وينشغل هو به إنما إبداعه النابع من أعماق شخصيته، ولكن دون أن يكون هذا الإبداع، بالطبع، بمنأى عن المؤثرات المختلفة. وهكذا تراه، وهو في قمة معاناته الصحية والنفسية يكتب قبل سنتين من وفاته، تحديداً في 23/5/1986، قائلاً: “أتأمل أحياناً (أعمالي الفنية) التي ضيّعتُ من أجلها عمري وأحرقت أعصابي وأتلفت بصري.. أتأملها أحياناً فأفكر وأتساءل: كيف سيكون مصيرها من بعدي؟ ولو كان فيها بعض القيمة فمن سيدرك قيمتها؟.. ومن يحافظ عليها..؟ ومن يصونها من التلف والتشتت والضياع؟”([6]). فأي فنان مبدع وإنسان هذا؟ نظن أن أعماله الفنية هو أحد مكامن الجواب على هذا.
والآن لا نظننا قادرين، في نتناولنا لقصص يحيى جواد واسترجاع بعض ما قلناه فيما سبق، أن نحرر أنفسنا، إلا بشكل نسبي، من التأثيرات الشخصية التي يمكن للقاص أن يسقطها علينا، لطبيعة واقعه وحياته التي اختطته أكثر مما اختطّها، لما لمثل هذا الواقع وللنفس المجروحة، وللمعاناة القاسية التي تشكلتْ فيه، وللإحساس السلبي بالحياة الذي ما كان له إلا أن يستشعره من تأثيرات في ما يكتبه.
المداخل والمقتربات النفسية إلى الفن والأدب:
ترجع نظرية التحليل النفسي وتطبيقها نقدياً إلى عالِم التحليل النفسي الشهير سيجموند فرويد، الذي هو رائدها قبل أن يلحق به آخرون اتفقوا معه أو اختلفوا جزئياً أو كلياً لعل أشهرهم يونغ، وأدلر، وبودوان. فقد قسّم فرويد الذهن البشري أو جهازه النفسي على ثلاثة مستويات هي: الشعور أو الوعي، وما قبل الشعور أو ما قبل الوعي، واللاشعور أو اللاوعي. والأخير هو الميدان الرئيس للتحليل النفسي، وهو يشتغل اعتماداً على صراع ثلاث قوى رآها فرويد في ذهن الإنسان أو جهازه النفسي هي([7]):
الأنا Ego: هي مركز الشُّعور والإدراك الحسي الخارجي، والإدراك الحسي الداخلي، والعمليَّات العقليَّة. وتتكفَّل (الأنا) بالدِّفاع عن الشخصيَّة، وتعمل على توافقها مع البيئة، وإحداث التكامُل وتحقيق التوازن، وحلِّ الصِّراع بين مطالب (الهو) ومطالب (الأنا العليا)، وعليه إذا استطاع أن يوازن بين (الهو) و(الأنا العليا) والواقع عاش الفرد متوافقاً، أما إذا تغلب (الهو) أو (الأنا العليا) على الشخصية أدى ذلك إلى اضطرابها. وتنمو الأنا عن طريق الخبرات التربويَّة التي يتعرض لها الفرد من الطفولة إلى الرُّشد، وهي تمثل شخصية الفرد في أوضاعه الطبيعية والسوية.
الهو Id: ويمثل اللاشعور، وهو مستودع الغرائز الفطريه، وهو المكان الذي يحوي جمله هائله من الأفكار والعمليات العقلية المكبوتة التي يمنعها (الأنا)- الشعور- من الظهور لأن المجتمع يرفضها. و(الهو) يمثل الإنسان الخام قبل ان بتطبع بعادات وتقاليد مجتمعه. وهو الجزء الأساسي الذي ينشأ عنه فيما بعد (الأنا)، و(الأنا العليا). ولعل من الأمور التي نبه عليها فرويد بوصفها مهمة جداً هنا قوله “
الأنا العليا Super-ego: هي تمثل شخصية المرء في صورتها الأكثر تحفظاً وعقلانية، حيث لا تتحكم في أفعاله سوى القيم الأخلاقية والمجتمعية والمبادئ، مع البعد الكامل عن جميع الأفعال الشهوانية أو الغرائزية. وهذا الجانب يعتبر الجانب المثالي من الشخصية. ويشتمل على رقابة زاجرة تُعرف عادة باسم الضمير. و(الأنا العليا) لا شعورية في الأساس، ولكنها ترتفع إلى مستوى الشعور في المواقف الحرجة وتقوم بدور الشرطي الرادع، أو الحارس اليقظ.
وجود هذه القوى، والعلاقات فيما بينها، وربما الصراع أحياناً، داخل الإنسان، هو الذي يفرز سلوكه، طبيعياً أو غير طبيعي أو سوياً أو غير سوي، ومن خلاله تتمثل الممنوعات بين الدفع للظهور وخرق القوانين والعوائق، والكبت وضبط الإنسان لها. والفن أدباً وغير أدب يترجم ذلك حين يمر الفنان، أثناء العملية الإبداعية، بما يشبه الحالة العصابية، لتكون النتيجة أن هذه الممارسة، نعني الفن أو الإبداع، تترجم أوضاع الفنان الطبيعية وغير الطبيعية، ولاسيما النفسية بما فيها من تأزمات وعقد وأمراض ومكبوتات. وعليه ووفق التحليل النفسي، الإبداع ليس إلا حالة خاصة قابلة للتحليل، لأن كل عمل فني ينتج عن سبب نفسي. فيرى فرويد أن “الفنان كالمريض العصبي [لحظة الخلق الفني] ينسحب من ذلك الواقع الذي لا يبعث على الرضا إلى ذلك العالم الخيالي، لكنه يبقى وطيد العزم، بخلاف المريض العصبي، على سلوك طريق العودة ليرسخ موطئ قدميه في الواقع”([8]). وانطلاقاً من هذا الربط عُني النقد النفسي تطبيقياً بثلاثة مجالات أو حقول فرعية، هي شخصية المبدع، وعملية الإبداع، وتحليل العمل الأدبي. أما مقالنا هذا فيصب في الحقل الثالث. إذ أن منهج التحليل النفسي يربط بين العمل الفني ونفسية صاحبه، وعليه فالعمل يدل على شخصية صاحبه. ولأن كل عمل فني، من منطلق التحليل النفسي، هو ناتج عن مسبب نفسي في مبدعه، فهو صالح لأن يكون محلَّ تحليلٍ نفسيّ، وكما نعتقد أنه يتجسد في نتاج القاص العراقي الراحل يحيى جواد، ولاسيما في قصته القصيرة الطويلة “الرعب والرجال” التي سنركز عليها فيما يأتي من تناولنا لمجموعته التي تحمل العنوان نفسه([9]).
الرعب والرجال:
يقول محمد خضير عن القاص يحيى جواد: “كان كائناً اجتماعياً مقبلاً على الفن والحياة، فحوّله المرض والعزلة إلى خبير في محاربة الطواطم، ومخترع لتيار الشعور المقطع بالنقاط، ورائد لمتاهات الرعب”([10]). والواقع أننا، لا نستطيع لا شخصياً ولا ونحن نتناول قصص مجموعته “الرعب والرجال”، أن نحرر أنفسنا، إلا بحدود وصعوبة، من التأثيرات التي تسقطها علينا شخصيته بوضعه الجسدي والنفسي الخاص، وبطبيعة واقعه وحياته التي اختطته ولم يختطّها، وتحديداً إصابته بشلل حصره في زاوية لم يتحرر منها إلا بالإبداع. وحتى في هذا هو لم يحقق التحرر، الذي هو في كل الأحوال محدود، فقد وقع هذا الإبداع تحت تأثير واقعه المأساوي، ولاسيما عبر الإحساس السلبي بالحياة الذي انعكس في قصصه المكتوبة بين سنتي 1969 و1977 وضمتها مجموعته “الرعب والرجال”([11]) التي ستكون وقفتنا القصيرة هذه عندها، مستلهمين منطلقات النقد النفسي، وانطلاقاً من استحقاق للنقد لم يتحقق للكاتب وقصصه بشكل تام، ونأمل هنا أن نسهم في تحقيقه.
لعل التجربة الخاصة، المتجسدة أمامنا في قسوة المعاناة الذاتية التي أشرنا إليها، والظروف الحياتية الصعبة المرافقة، ولاسيما في ما فعلته في القاص رجولياً- إن صح التعبير- وفي النتيجة الحتمية نفسياً، هي العامل الأول والأساس في أن جاءت القصص الخمس التي ضمتها المجموعة مرتبطة ببعضها بخط تستطيع أن تحسه بسهولة، ولعلنا نستطيع أن نعبر عنه بـ(الحساسية المفرطة والدقيقة) تجاه كل شيء، والتي من الواضح أنها كانت وراء أن كان الكاتب في هذه القصص راصداً لك ما هو محسوس وغير محسوس بنفس مرهفة. وهو، في ذلك، يستدرجك إلى عالم قصته بسهولة تكاد معها لا تشعر به إلا وأنت قد صرت داخل هذا العالم. بعبارة أخرى، وأنت تقرأ أيّاً من قصصه لا تستطيع إلا أن تكون معه أو مع أبطاله في عوالمهم ومعاناتهم، فتشعر بالضجر حين يضجرون، والحب حين يحبون، وبسعادة الحب حين يحسونها- وعلى أية حال نادراً ما تتحقق مثل هذه السعادة لهم- وبالخوف أو التوتر أو الراحة حين يخافون أو يتوترون أو يرتاحون. كل ذلك يكشف عن أن يحيى جواد حين يتعامل مع الكتابة، فإنه ينطلق من تلك النفس المتحسسة والمعانية التي تتفاعل داخلياً، وبمعزل عن العالم من حولها غالباً، بشكل يدفع بكل خوالجه لتتجسد هي نفسها عملاً فنياً، يقدمها من خلال أساليب فنية تبدو وكأنها تفرض نفسها على كتابته متناسبةً مع الموضوع والأحاسيس، سرداً ومونتاجاً وحواراً وتقنيات مختلفة. وهكذا ليس غريباً، رجوعاً إلى الحالة النفسية والجسدية للكاتب وما ينفرز منها من حس وألم ومعاناة، أنْ نتحسس في قصصه الأثر الذاتي له واضحاً، ولكن مما يجعله إحساسنا نحن وإحساساً عاماً إلى حد كبير، بحيث لا يبقى ضمن حدود ذاته بل يجعل منا نحن هو. وهنا تتجسد الحِرَفية والقدرة الفنية غير العادية له.
وتعلقاً بطبيعة القاص النفسية التي تكلمنا عنها وتأثيرها الحتمي في أكثر مناطق المكون البايولوجي والوجودي والنفسي لأي رجل، كانت المرأة غالباً محوراً رئيساً وفعالاً لقصة يحيى جواد، حتى حين يكون بطل القصة رجلاً، ومرة أخرى من خلال إحساسه هو، أو، وفق المنظور المحسوس مباشرةً، إحساس هذا البطل. فبطل يحيى جواد يرى المرأة، ويحبها ويشعر تجاهها بالميل الغريزي.. وأمام ميله وتطلعاته لممارسة ما يتطلبه هذا الميل أو يفرضه ذكورياً بوصفه حقاً طبيعياً، وممارسة اعتيادية، يبرز جدار العجز، ليكون الإحباط وتبدأ المعاناة التي يكابدها وربما نكابدها معه، وهو يذوق مراراتها، لتعبر قصته، في النتيجة، عنها:
“أليس من المضحك أن تملك كل ما يملكه الرجال من قشرة براقة مزوّقة، ولا تملك اللب ولا الفعل؟”- المجموعة، ص123.
فأنْ تمتلك كل شيء- إذا ما امتلكت فعلاً- من جسم ومال وجاه وعقل، عدا ذلك الذي يجعل الرجل رجلاً ابتداءً، وليس انتهاءً، وضمن منظور معين بايولوجي أو اجتماعي أو ثقافي بعينه، نعني القدرة الجنسية، فإنك عندئذ لا تمتلك حقيقةً، ووفق هذه المنظورات، شيئاً. وهذا هو، إلى حد ما، ما نرى أن الكاتب يعبر عنه انطلاقاً من إحساس واقع، من خلال بطله.
في القصة الأولى “الرعب والرجال”، وهي قصة قصيرة طويلة، تبهت العلاقة بين الرجل والمرأة نسبياً أمام محورها الرئيس. فبالرغم من تصاعد الرغبة المتضخمة تجاه المرأة وتجاه الممارسة الذكورية في الأجزاء الأولى من القصة، تبرز قضية ثانية هي أهم وأدعى لأن نربطها لا بالرجل بل بالإنسان، وهي التي ستكون هذا المحور الرئيس. خمسة رجال مشلولين يتطلعون ويتحرقون لأقل حركة مهما كانت تافهة هي بالنسبة لهم أمل بعيد المنال. هو قد يقترب- ولو تخيلّاً وحلمياً- ليلاعب شغاف قلوبهم، ولكن دون أن يتحول ولو بشكل عابر إلى واقع يخبرونه فيعيشون حلاوته، حتى وإن كان مؤلماً، لأن الألم دليل إنساني وعلامة حياتية:
“قل لي يا دكتور.. متى أتألم..؟ متى يشعر جلدي بالألم”- المجموعة، ص19.
هي أمنية، لو تحققت ستشعرهم بحقيقة وجودهم وحياتهم، في وقتٍ وواقعٍ كل شيء فيهما يموت فيهم، إلا (الرعب) الذي تجلعه القصة، إلى جانب واقع شللهم المشترك، الخيط الرابط فيما بينهم. وإذ يتلاشى كل ما عداه مما يمتّ بصلات إلى خصوصياتهم: الطبيعة والشخصية الخاصة، المنصب أو الوظيفة، الذوق والميول والرغبات الخاصة، السلوك الشخصي، ولا يبقى غير شعور الإنسان المجرد المتطلع إلى أمر واحد هو الحركة وحس أجسامهم بالأشياء، ولكن خلفها تطلع إلى تلك الممارسات الإنسانية جنسيةً وغير جنسة التي من الطبيعي أن يفتقدونها، ربما أكثر من غيرها، حتى وإن لم يُعبروا أو تعبر القصة عنها، لا لينتفي وجودها وفاعليتنا، بل لتكون من المسكوت عنه الذي تعبر عنها لمحات وتلميحات وشفرات.
ولأن القاص ينطلق في الكتابة من الإحساس الذاتي، ولأنه يمتلك أدواته الفنية كاملةً، فإنه يقدم قصة تغور في أعماق النفس الإنسانية المتمثلة في دواخل أبطاله لتتجسد لنا بفنية عالية قد تأخذنا إلى هذه الدواخل بدلاً من أن تأتي إلينا. وعندي أن الكثير من هذا بتنفس ديستويفسكي وأسلوبه، كما أن أفكارها تتنفس أنفاس سارتر وكامو.
يبدأ الخط الدرامي للقصة بالتصاعد تدرجياً، بعد البداية الهادئة لها، حتى يصل، وبدون أي افتعال كثيراً ما وقع فيه قاصون آخرون، إلى البؤرة التي تتمثل في اقتحام حشرةٍ لغرفة المشلولين يصل القاص معه قمة تألقه الفني. كيف؟ إنه يستثمر هذا الحدث الصغير، بل التافه في حد ذاته، استثماراً ذكياً، حين يترجم لا الأوضاع الجسمية أو الجسيدة للشخصيات، كما قد يبدو الأمر ظاهرياً، بل الأوضاع النفسية المتولدة من تلك والمتمثلة أحاسيس غير عادية، وربما عقداً والأهم معاناة. فدخول هذا (المخلوق)، الذي لم يكن ليسبب وقوعُه في أي مكان أو زمان ولأي إنسان آخر ما يسببه لأناس الغرفة المشلولين، يشكل مأزقاً غير عادي لهم، إذ لا يستطيعون- إزاء هذا (الاقتحام)، وهم يتوقعون أن يتلوه هجوم على أيٍّ منهم، غير الخوف حد الرعب. ولكن هل هو يهدد بهذا الهجوم المباشر والظاهري فقط أم هو يرمز إلى ما معرض له أكثر مكوّنات الرجل سرية وحساسية؟ لعلنا لا نستطيع أن نحسم أمر هذا فنفرضه على القارئ، ولكن الشيء شبه الظاهر المؤكد هو أننا نفهم كما يمكن لكل قارئ أن يفهم ما يمكن لهذه الحشرة أن تفعله إزعاجاً وإثارةً وحتى إيلاماً لمن لا يستطيع أن يتحرك أو هو يتألم لمسّ أي جزء من جسده، وعليه فهو رعب حقيقي هذا الذي يشكله هذا الاقتحام مهما كان مستوى تلقينا للقصة ولهذه الثيمة. وهنا يأخذ الرعب، في وعينا هذه المرة، مداه ليصطبغ بصبغة كافكوية تذكرنا بعوالم كافكا وبخوف أبطاله ومعاناتهم وبحشرته في “المسخ”، مع فارق طبعاً في أن المضمون وما تريده قصة يحيى جواد هما غير مضمون قصص كافكا ورواياته وما تريده. وفي كل الحوال، تنفرز كل خصوصيات الحالة النفسية وأحاسيس الداخل المثلومة للشخصيات في شكل رعب تجسده كلمات وتعابير ووصوفات خاصة لم يكن لغير قاص في وضع غير طبيعي جسدياً ونفسياً أن يستحضرها أو يصوغها:
“وظهرت الحشرة.. ظهرت جاثمة تحت وهج ضوء القمر، وكأنها مجموعة ثآليل عملاقة يكسو رؤوسها شعر خشن غليظ كامد اللون.. بدت وكأنها محاطة بخيوط وزوائد تتشعب من كل جانب من جوانبها. ومن جزء واطئ من جسدها الطويل تمتد ذؤبتان مخروطيتان حادتان، شبيهتان بنابَي أفعى أو بساقَي فرجال منفرجتين… بدت وكأنها تتحسس وتتربص وتدرس مواقعها بحذر وحيطة… ثم اختلجت وأخذت ترتفع عن سطح الجدار شيئاً فشيئاً، ومع ارتفاعها كانت الظلال العميقة من تحتها تمتد وتنتشر وتتطاول”- المجموعة، ص51.
وفي المقابل كانت الأنفاس تُكتم والخوف يتنامى في الرجال:
“وكنا نكتم أنفاسنا ونغلق أفواهنا ونغمض عيوننا، كلما اكتسحت وجوهَنا موجةٌ هوائية حانقة أو أزيز قريب حاد.. كنا مختنقين بالتوقع والانتظار.. انتظار سري غامض، يحمل في طياته مصيراً غامضاً وأسلوبَ موتٍ غامض”- المجموعة، ص60.
رَجُلُ يحيى جواد والمرأة والجنس:
مع انزواء المرأة تجسّداً وصورةً وتخيّلاً ودوراً في القصة الأولى، “الرعب والرجال”، فإنها في حقيقة الأمر حاضرة فيها من خلال حضور الجنس فكرةً والعجز الجنسي واقعاً، كما هي حاضرة في قصص المجموعة عموماً. بل هي في القصة الثانية، “الخفاش ينام متدلياً”، تبرز محوراً مهماً، حين ينطلق القاص من حدث أو موقف معها، إن بدا غير واقعي في حقيقته، فإنه لا يبدو كذلك في القصة. وإنْ كان هذا المحور- المرأة والجنس ومعاناة العجز- يُقطع في القصة الأولى بمحور الحشرة والرعب، فإنها هنا- وأعني المرأة- تبقى العقدة الرئيسة التي تتولد بتفجر معاناة البطل من الصدمة القوية التي يتلقاها. فالحدث البسيط والطريف في هذه القصة يتعلق بالمرأة، ويتمثّل تحديداً في (مراقبة الفتاة) من خلال الصوت، حين ترتدي ملابسها أو تخلعها، أو حين تتأوه.. أو تكتب.. أو تنام، ثم إحساس البطل في لمحة الاننتشاء القصيرة هذه بالمصيبة تدبّ إليه لتشكل عجزه. بعبارة أخرى تكون المرأة حاضرة في عدم حضورها، إن صح التعبير، وذلك من خلال العجز الذي تُشعر البطل به وما ينتج عنه من صدمة عدم القدرة على ممارسة الجنس معها:
“- يا سيد رشاد.. إني آسف.. فلا أمل هناك”- المجموعة، ص117.
ففي ظل هذا الواقع المأساوي للرجل، وربما للمرأة حين تكون مرتبطة به، تتشكل البؤرة التي تتمحور حولها هذه القصة، حتى وإن لم يصعّدها القاص كما فعل مع القصة الأولى. فهو يكتفي بحالة مراقبة الرجل العاجر لفتاة، ولكن دون توظيف لهذا العجز وهذه المراقبة، كما فعل مرة أخرى مع مراقبة الحشرة في القصة الأولى.
تمتلك القصة الثالثة، “الطوطم”، خصوصية تُخرجها تقريباً عن سياقات وطبيعة ونسيج القصص الأخرى. فبرمزية، ومن خلال المنلوج الداخلي الممتد على طولها، تطرح القصة نفسها. ولكنها، مع كل ذلك، كان من الطبيعي أن لا تغادر يحيى جواد. وهكذا يحضر الشعور السلبي بالحياة الذي يعبر بطلها عنه بسخطه على الحياة وعلى مجيئه إليها، الأمر الذي يذكرنا مرة ثانية بفرانز كافكا، ولكننا لا نريد أن نقول يلتقي به، الذي يلعن وجوده وتحديداً في كونه يهودياً. وكان من الطبيعي أن ينفرز من هذا شعور بالملل والضياع الذي يعزز الانتماء إلى كتابات يحيى جواد:
“ثم جئت أنا- البصقة السادسة، كتعويض متهافت عن العينات الست التي قضتْ.. الجراح الست”- المجموعة، ص255.
ونعود لمحورية المرأة في واقع عجزٍ أو نقصٍ حقيقةً أو إحساساً لدى الرجل في قصص أخرى. فبعد انحسار شيء منها، لاسيما من ناحية الفن والتوظيف، في قصة “الطوطم”، تعود في القصة الرابعة، “الأرق ومرايا الوهم”، لنجد ولعل مثل هذا ما نتحسسه في القصة الرابعة “الأرق ومرايا الوهم”:
“إن للوحشة مذاقاً ساماً، إذا ما تظافرت على رجل معزول في بقعة بدائية فجّة.. رجل معزول بخطوط تطلعاته ومدار حياته، يصارع- غريزياً- ليضمن خطّاً ثابتاً يستقر عليه، ثم يمضي مع التيار، كالآخرين من الناس، كل حسب طاقته، بلا ضجيج ولا غضب”- المجموعة، ص209.
ومثل هذا، نعني المرأة وتأثيرها، النابع أصلاً من دواخل الشخصيات ومن طبيعة جنسها- وهي على أية حال شخصيات رجالية- من جهة، ومن الحدث الطارئ الذي يقع لهم أو الوقائع التي يعيشونها، يتمثل بدرجة أو بأخرى في القصص الأخرى، خصوصاً في ظل تأثيرات نفسية ونتائجها. ومن هذه النتائج بشكل أساس، ولطبيعة ما عليه شخصياتها الرجالية، (الشعور بالنقص) الذي كثيراً ما نتلمسه متغلغلاً في أبطال يحيى جواد، مع ديمومة تجاربهم التراجيدية، كما يتمثل في القصة الخامسة/ الأخيرة، “الطوطم”، التي يحضر فيها الشعور السلبي بالحياة، متجسداً هذه المرة في سخط الرجل على الحياة في ظل الشعور بالملل والضياع:
“ثم جئت أنا- البصقة السادسة- كتعويض متهافت عن العينات الست التي قضت.. الجراح الست”- المجموعة- ص255.
يبقى أن نقول إن الروابط ما بين عموم القصص، حتى وإن وجدنا تفاوتاً في الإنجاز الفني فيما بينها، هي أكثر من أن تجعلنا نميز، في التوقف عند كل واحدة عن الأخريات، باستثناء القصة الأولى “الرعب والرجال”، التي نظن أن ما قدمناه من قراءة لها يوضح السبب.([12])
خاتمة:
حين نسمح لأنفسنا، أخيراً، أن نكون معياريين في قراءتنا لمجموعة يحيى جواد، مما هو موجود ضمناً في ما فات من هذه القراءة، فإننا سنجد أنفسنا بعد التألق غير العادي للكاتب في قصته الأولى “الرعب والرجال”، نتواصل مع الانبهار، وإنْ بدرجات أقل، مع قصص “الخفاش ينام متدلياً” و”الأرق ومرايا الوهم”، ولكن مع شيء من الانكفاء في قصتي “حكاية الأبله” و”الطوطم”. وإذ نستحضر هنا تنبيه أحد النقاد الغربيين إلى ما يشبه الخطأ الذي يقع فيه النقاد والدارسون والقراء عموماً حين يقارنون معيارياً أعمال كاتبٍ ما بأفضلها مما يقود إلى ظلم بعضها، بينما من الطبيعي أن لا نتوقع أن تكون أعمال أي كاتب كلها في مستوى واحد، ولاسيما مستوى العمل المتميز منها. ومع هذا، ونحن نضع هذا في البال، نحاول أن نبحث عن أسباب ما قد يُشخَّص على أنه تذبذب واضطراب في مستويات قصص يحيى جواد الفنية، فنراها تعود إلى أن إجادة القاص تنبعث من صدقٍ فني ومعاناة ومعايشة حقيقيتين لأحداث قصصه وشخصياته التي واضح أنه أحدها. ولكن كان من الطبيعي أن ينعكس، على كتابتة، تذبذب مسيرة حياته وتبعاً لذلك وضعه النفسي، لاسيما حين يخترقه بشكل إحساس سلبي بالحياة مرة، وحين يثير فيه ردة فعل مقاوِمة تصير مكابرة واندفاعاً وإصراراً على المواصلة مرة أخرى. ولعل مما يؤيد هذا في قصصه، مثلاً، تذبذبها ما بين الإيقاع القصير وقد يكون المكثف للقصة القصيرة، والنَفَس الطويل، وقد يكون التفصيلي للرواية. ولعل يؤيد ما ذهبنا إليه، وتعلقاً بهذه الظاهرة أيضاً، أن مثل هذا التذبذب قد يتمثل حتى في العمل القصصي الواحد. وفي كل الأحوال هو يبقى أمراً طارئاً مقارنة بالإنجاز الفني المتحقق.
ملحق/ نماذج من كتابات يحيى جواد:
نختم دراستنا، بنماذج من كتابات يحيى جواد، أولها أحد النماذج التي سماها (أحلام)، وهي، كما يقول قريبه الدكتور عبد المطلب محمود، “الأحلام التي أخذت تراوده في بعض الأحيان”([13])، وغالباً ما تقترب من الكوابيس، التي نختار هنا واحداً منها وهو “الحلم رقم (1)”، وثانيها أحد الكتابات التي سماها (حالات)، وهي كما أشرنا أشعار، وثالثها مقتطع من أبرز قصصه “الرعب والرجال”.
حلم رقم (2)
من دفتر مذكرات القاص، مؤرخة في 9 و10 كانون الثاني 1985([14])
كنت أسير مع والدتي في محلة (بستان حسون أغا) القديمة، متجهين إلى بيتنا الكبير الجديد الذي سنقيم فيه، قالت والدتي:
“إذا كنا نريد أن نذهب إلى هناك فدعنا نذهب إلى بيتنا القديم القريب منا”.
وقفنا أمام البيت الذي كنت أعرفه جيداً. كانت بابه مفتوحة على مصراعيها، وحين نظرت إلى داخله وجدت ساحته مليئة بالنفايات والأنقاض التي خلّفها ساكنوه بعد انتقالهم منه. كان البيت كما كنت أعرفه تماماً.. في بدايته مرحاض على جهة اليمين.. وعلى اليسار جدار الغرفة الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها المترين ونصف طولاً في مترين عرضاً.. (يليها باحة الدار المكشوفة التي تضم الدرج الحجري الذي يقود إلى السطح. بعد الباحة توجد (طارمة) تمتد على عرض الدار وعمقها متران.. ثم تاتي الغرفة الكبيرة وراء الطارمة. كانت تلك هي كل مرافق البيت القديم التي بُنيت من طابوق (اللبن) على قطعة أرض لا تتجاوز الستين متراً مربعاً.
جلست مع والدتي في باحة البيت وسط الأنقاض والأتربة. كنا نواجه بعضنا.. ظهري نحو الطارمة وظهرها نحو مدخل البيت. تحدثنا في أمور عامة لا أذكرها تماماً.. ثم فجأة ظهرت من ورائي سحلية ضخمة يزيد طولها على (30) سم.. عريضة سمينة ذات رأس كبير وملامح شبيهة بملامح القط. التفتُّ نحوها بسرعة ثم ضربتها بعصاي الحديدة فانقطع ذيلها، ثم عالجتها بضربات أخرى متعددة على ظهرها فقطعتها من الوسط وأخمدت أنفاسها.
قالت والدتي: “الذيل ما زال حياً يتحرك”.
قلت: “لا بأس.. هكذا هي ذيول السحالي.. سيموت بعد قليل”.
بقيت أحملق بالسحلية متعجباً من ضخامتها وطولها وغرابة رأسها الكبير.. ثم رأيت الرأس وقد أخذ يكبر ويكبر حتى أصبح بحجم رأس الهر.. كان سليماً لم تنلْه ضربة، لذلك كانت جميع جوارحه تتحرك وكأنها تريد أن تنقضّ عليّ ثانية.
أخذت أكيل الضربات بعصاي مرة تلو مرة، وكنت أشعر بضعف الضربات رغم الجهد العنيف الذي أبذله، ورغم ذلك داومت على الضربات بأقصى قوتي إلى أن قتلته.. مات دون أن يتهشم رأسه أو يناله أي خدش طفيف. ألقيت بعصاي بعيداً وأنا أنظر إلى الجثة، فرأيت والدتي تنهض من مكانها ثم تأخذ جثة السحلية وتبدأ بتنظيف أحشائها ورميها بعيداً.. سألتها بدهشة عما تفعل، فقالت: “أريد أن أحنّطه”.
واستيقظت من النوم.

حالة (28)
مؤرخة في 3/11/1974([15])
يمتدُّ بي ليلي… يطول..
ويطول بي أرقي… يطول..
زعمتْ لي الأسحار،
أنك من خبايا الغابرين
أوَ تعلمين السرَ،
في ما يُحزن الليلَ المسربلَ بالطلاسم؟!
من أين يتفجر المساءُ..
فتزحفين مع السكون؟!
وتكبرين مع اللواعج.. والشجون؟..
لترددي أسطورة الصبير والمطر القتيل؟..

طافت حكايتك المجامرَ والمواقدْ…
رحلتْ مع الوسن المدجّج بالتهاويل البوائد…
ثم ارتمت،
مقروحة الجنين،
في حمم الكوابيس الأوابدْ.
قال (المسافر).. وهو ينكث في الرمادْ…
يعصاه.. والجمرات تلهب مقلتيه..
لتبيح دفء النار للسمارِ في الليل البهيم،
كتبوا:
بأن مرارةَ الصبير تصطاد الصلالْ…
وبأنه صنمُ الهجيرة والسواقي والنصالْ..
وأنه ملك المهاوي والجبالْ..
وُلد الهلاك بقلبه زهراً،
فجافته البراعمْ والغصون..
لكنه.. يا سادتي:
قهر الجحيم بصبره..
أسرَ الزمان بصمته…
فغدتْ تغازله الفراحُ…
وتسجير بقلبه الشوكي لو غاب المساءْ

يغتالني أرقُ مديدْ…
لا الوحشة الخرساءْ تصرعُه،
ولا الصمتُ العنيدْ
ها قد مضتْ حقبٌ ثقال
وأنتِ تقتاتين أسرارَ السباتْ..
لن يُزهرَ الصُّبيرُ في شوكي،
ولن تعلو شموس..
فلا كسوفَ.. ولا خسوف…
لكنه المطرُ الذي عشق الصخورْ…
فذاب.. في حمم الصخورْ.

مقتطع من قصة “الرعب والرجال”
[اقتحام حشرة طائرة لردهةَ تضمّ خمسة مرضى مشلولين، فيُصابون بالرعب]
تموز/ 1973([16])
وظهرت الحشرة.. ظهرت جاثمة تحت وهج ضوء القمر، وكأنها مجموعة ثآليل عملاقة يكسو رؤوسها شعر خشن غليظ كامد اللون.. بدت وكأنها محاطة بخيوط وزوائد تتشعب من كل جانب من جوانبها.. ومن جزء واطئ في جسدها الطويل، تمتد ذؤابتان مخروطيتنان حادتان، شبيهتان بنابي أفعى أو بساقي فرجال منفرجتين.. لم يظهر على اللطخة السوداء المعلقة على الجدار أي حس أو حركة. بدت وكأنها تتحسس وتتربص وتدرس مواقعها بحذر وحيطة، وما أن مرت فترة سكون أخرى، حتى تململت فومضت في ظهرها قشور وحراشف، ثم اختلجت واخذت ترتفع عن سطح الجدار شيئاً فشيئاً، ومع ارتفاعها، كانت الظلال العميقة من تحتها تمتد وتنتشر وتتطاول.
انتفضت الحشرة فجأة وانتصبت على أطراف حزمة شائكة من الأرجل الإبرية الطويلة، حيث رسمت بعيداً عنها شبكة معتمة ملتحمة من الظلال، يتصدرها خرطومان مديدان أخذا يهتزان بثقل وتوجس.. ثم، وبحذر شديد راحت تزحف بهدوء وتجوب مربع الضوء بخطوات جانبية عرجاء كخطوات السرطان إلى أن اقتربت من الحد المظلم للجدار.. توقفت مترددة بضع لحظات ثم نكصت على أعقابها بسرعة واستقرت في وسط الضوء ثانيةً.. جمدت برهة ثم بدأت تدور حول نفسها دورات سريعة خاطفة، فانتشرت فوق أكتافها المقرنة طبقات من الأرجحة المزدوجة الشفافة ذات اللمعان الخاطف والحفيف الأجش.
لم تصدر عن الشيخ أو المهندس أو الجندي أية همسة أو نأمة، كان فزعهم مضاعفاً. فقد كانوا ينامون في مواقع وزوايا جعلت مربع الضوء بعيداً عن متناول أبصارهم.. كانوا يسمعون ويحدسون فقط..
-“.. السمع وحده، رهيب وقاتل.. لست أدري، ما الذي يجري ورائي؟.. لو كان عنقي اللعين يتحرك.. لو كنت أرى قليلاً..”
كان الشيخ يهمس لنفسه ويحرص على أنْ لا يخرج الصوت من بين شفتيه. فقد تحولت أسنانه إلى سلاح.. تماماً.. كما تحولت عيون الآخرين وأسنانهم إلى آلات رصد وكشف وقتال. أما عناد الصمت والاعتصام وراء الجلد، والاكتفاء بجغرافية السرير وفردية الرؤى والأحلام، فقد شارفت على الانهيار.

لم نكن نعرف كم مضى علينا من الوقت ونحن تحت رحمة الحشرة التي ما انفكت منطلقة في صراع جنوني حاقد تجلت مظاهر شراسته وهمجيته ووحشيته، في تلك الصدمات والضربات الضارية التي شملت السقف والأرض والجدران وزجاج النافذة والشبكة السلكية والباب المغلق.. وكنا نكتم أنفاسنا نغلق أفواهنا ونغمض عيوننا كلما اكتسحت وجوهنا موجة هوائية حانقة أو أزيز قريب حاد.. كنا مختنقين بالتوقع والانتظار.. انتظار سري غامض، يحمل في طياته مصيراً غامضاً وأسلوبَ موت غامض.. وأخيراً تعبت الحشرة وانطفأت شرارة غضبها، ثم سقطت فجأة في مكان ما.. وخمدت.
انبعث من المهندس- بُعيْد سقوط الحشرة- أنين غامض مشوب بالتوجس والريبة، فصاح الجندي بنبرة مرتعدة:
-“.. هل سقطت على ظهري؟”
-“.. إش.. شش.. كلا، إنها ليست على ظهرك.. إنها تكمن في مكان ما لتستريح.. لا تعطس مرة أخرى.. لو عطستَ ثانية فستحلق فوق وجوهنا من جديد..”
دمدم الشيخ بمرارة وغضب..
-“.. تهددك حشرة.. وتقتلك حشرة.. تموت ولا تعرف لموتك وجهاً ولا سحنة ولا ملامح..”
لعق الطبيب شفتيه الجافتين وهمس:
-“.. لماذا تأخرت الممرضة؟.. هل نامت؟”
أخذت حواسنا تستعد لجولة تحلبق عدواني آخر، عندما فُتح الباب فجأة ودخلت الممرضة، ثم أضاءت الغرفة وهي تنظر إلى ساعتها:
-“.. لم اتأخر كثيراً، أليس كذلك..؟ أردتُ أن أعطيك وقتاً كافياً تتخلص فيه من كل شيء بسهولة وراحة.. هل شعربت بألم..؟”
حملق المهندس في وجهها الجميل الناعس، ثم أغمض عينيه دون أن يتفوه بكلمة.. إنها لحظة التعرية والكشف، التي يلتهب فيها وجهه حياءً وخجلا..
أشارت الممرضة بعينيها إشارة خاصة، فتقدمت المُعينة وأزاحت الأغطية والوسائد عن جسد المهندس، ولما أرادت أن تمد يدها لتفع الصفيحة المدورة، تراجعت إلى الوراء صارخة:
-“.. انظري.. ما هذه؟.. ما هذه؟..”
وكانت الحشرة الضخمة الرهيبة جاثمة بين فخذي المهندس.

المصادر والمراجع:
عبد المطلب صالح (اختيار وتقديم): حالات من يحيى جواد، الأقلام، ع12، ك2 1984.
فرويد، سيجموند: حياتي والتحليل النفسي، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1981.
مجموعة: “ملف يحيى جواد 1928-1988″، ع7/ تموز 1988، ص115-135. وقام بالمشاركة فيه كل من: عبد المطلب محمود، ورشدي العامل، وحسين جليل.
محمد خضير: الرعب والرجال، المدى، 16/9/2009.
ويلك، رينيه: مفاهيم نقدية، ترجمة، د. محمد عصفور، عالم المعرفة، المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1987.
يحيى جواد: الرعب والرجال، منشورات وزارة الثقافة والفنون، بغداد، 1978.
Julie Rivkin and Michael Ryan (Ed.): Literary Theory, an Anthology, Blackwell Publishing, USK&UK, 2008.


[1] ) عبد المطلب صالح (اختيار وتقديم): حالات من يحيى جواد، الأقلام، ع12، ك2 1984، ص51. وفي توصيف هذه الكتابات الشعرية، يضيف الشاعر الدكتور عبد المطلب محمود بالقول: “وبرغم تباين هذه الحالات والمواقف في الشكل أو في أجزاء معينة من المضمون، فإن ثمة خيطاً سرياً يجمعها كلها… خيط استشراف ما كان وما هو كائن، إلى ما سيكون، وما سيحصل لاحقاً، وما سيعانيه الفنان الشاعر يحيى جواد، وتلك رؤيا عجيبة فعلاً، تؤكد صدق المعاناة وصدق الرصد والتسجيل”.
[2] ) لا بد أن نشير، ونحن نستحضر هنا الملف المتميز الذي ظهر في مجلة (الأقلام) تحت عنوان “ملف يحيى جواد 1928- 1988) في العدد (7)/ تموز 1988، إلى أن هذا الملف كان ملفاً استذكارياً واحتفائياً بالمبدع، بعد رحيله ببضعة أشهر، وقام بالمشاركة فيه كل من: عبد المطلب محمود، ورشدي العامل، وحسين جليل.
[3] ) الواقع أن جميع قصص المجموعة تقترب، طولاً على الأقل، من أن تكون روايات قصيرة. فتقريباً تقع القصة الأولى في (10) آلاف كلمة، والثانية في (15) ألف، والثالثة في (10) آلاف، والرابعة في (10) آلاف.
[4] ) عبد المطلب محمود: حالات من يحيى جواد، (الأقلام)، ص52.
[5] ) ملف يحيى جواد، الأقلام، ص118.
[6] ) المصدر السابق. هنا ليعذرني القارئ إذ أتخيل نفسي الآن أمامه وأنا أقول له: سأحاول أن أفعل شيئاً في هذا المجال من خلال الكتابة عن بعض أعماله، وتحديداً قصصه.
[7] ) See: Literary Theory, an Anthology: Julie Rivkin and Michael Ryan, USK&UK, 2008, P. 382-296.
[8] ) سيجموند فرويد: حياتي والتحليل النفسي، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1981، ص87.
[9] ) نريد أن ننبه هنا إلى أن غالبية المناهج والمقتربات النقدية عموماً، والسياقية التقليدية خصوصاً، ومنها المنهج النفسي، كثيراً ما تغادر عند مطبقيها الأدب والنقد لتتجول إلى حقل أ شيء آخر، فيتحول التاريخي إلى تاريخ، والاجتماعي إلى اجتماع، البنيوي إلى طلاسم، والسيميائي إلى رسوم وأشكال مبهمة.. وهكذا قد يتحول النفسي، ولا سيما الفرويدي إلى علم نفس أو دراسة نفسية أو تحليل نفسي. لكن هذا يجب أن لا يحجب عنا ما تقدمه هذه المناهج بمنطقاتها المتنوعة إلى الأدب والنقد والقراءة النقدية للأدب. في دراستنا سنسعى إلى تجنب المأخذ ونعزز الإسهام، مستحضرين قول رينيه ويلك مثلاً حين يقول: “ومن عادة النقد الأدبي الفرويدي المعتاد أن ينغمس في بحث مُمل عن الرموز الجنسية، وغالباً ما يتجنى على معنى العمل الفني وعلى وحدته. ولكن هذا النقد، مثله مثل النقد الماركسي، أسهم في تزويد العديد من النقاد المعاصرين بوسائل نقدية رغم أنهم ليسوا فرويديين”. رينيه ويلك: مفاهيم نقدية، ترجمة، د. محمد عصفور، عالم المعرفة، المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1987.ص 471.
[10] ) محمد خضير: الرعب والرجال، المدى، 16/9/2009.
[11]) يحيى جواد: الرعب والرجال، منشورات وزارة الثقافة والفنون، بغداد، 1978.
[12] ) هذه الدراسة قامت على قراءة نقدية لمجموعة “الرعب والرجال” لنا، وهي منشورة في مجلة “الطليعة الأدبية” العراقية، ع9، أيلول 1979، وقد تكون الأولى إن لم تكن الوحيدة المنشورة عن المبدع قاصاً، مع تغيير وتركيز هنا على قصة “الرعب والرجال”.
[13] ) ملف يحيى جواد، الأقلام، ص135.
[14] ) عن المصدر السابق، ص136.
[15] ) عن: حالات من يحيى جواد، الأقلام، ص57-58.
[16]) الرعب والرجال، ص51-62.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *