الذين يحلّقون بغير أجنحتهم

الذين يُحلّقون بغير أجنحتهم

د. نجم عبدالله كاظم
يفرحنا أن نقرأ في القصة والشعر وبقية أشكال الإبداع لشباب لما يزالوا في مرحلة التكوّن الأدبي والثقافي والفكري، ويفرحنا أكثر أن نرى شباباً، أكبر عمراً وأكثر تكوّناً وأعلى تحصيلاً دراسياً وأطول تجربة وممارسةً، يقدمون على النقد. فلا بأس أن يجتهد المجتهدون من هؤلاء في ما يكتبون، فذلك كله دليل خير وصحة في الوسط الثقافي، ولكننا يجب ان نقر أيضا أن الكتابة أنواع، وليس لأيٍّ أن يقتحم أياًّ قبل التسلح بما يؤهله ويمكنه من الكتابة فيه، كما أن التمكن من نوع ما لا يعني تمكّناً من آخر. أوليست حاجة القصة والشعر ومتطلباتها مثلاً غير حاجة النقد والبحث ومتطلباتهما؟.. وأليست حاجة النقد التطبيقي غير حاجة التنظير؟ نعتقد ذلك. تعلّقاً بهذا، إذا كان للموهبة والاستعداد الموروث الدور الأول في التمكن من الشعر والقصة والرواية وسائر فنون الإبداع، فالأمر غير ذلك مع النقد. فنعرف كم من الوقت والجهد والتثقيف يحتاج النقد قبل أن يمكن لمن يريد أن يمارسه. ولذا ما كان لأحد ممن عرفنا من أساتذة النقد- بالتخصيص- أن اقدم على شيء من هذا دون أن يكون قد امتلك زمامه، فما عرفنا من الطاهر تقييماً وتوصيفاً لمعطيات الأدب العراقي قبل أن يقضي مع هذا الأدب سنين طوالاً من عمره قارئا ومتأملا، قبل تأهله أكاديمياً وخلال ذلك، ثم مبدياً راياً ومحللاً وناقداً. وما عرفنا لجبرا ولؤلؤة آراء في المصطلح قبل ان يتعمقا في مادة المصطلح، وما عرفنا للموسوي وعبد الجبار عباس وإحسان عباس وسهيل إدريس ومحمد يوسف نجم وغيرهم آراءً في المدارس النقدية الغربية أو الآداب الاجنبية قبل القراءة الطويلة في ذلك، وربما قضاء سنوات في بلدان تلك المدارس وآدابها والقراءة والدراسة فيها. وما عرفنا لفاضل ثامر وفخري صالح وجابر عصفور إقداما على التنظير قبل أن يؤهلوا أنفسهم لذلك خلال عقود من السنين ملأوها دراسةً لمعطيات النقد الحديث غربيّه ونقديّه مقرونة بممارسات تطبيقية أهلتهم لسبر غور ما سيقولون فيه لاحقاً رأياً مستقلاً.
نريد من هذه المقدمة الطويلة أن توصلنا إلى القول إننا إذ عرفنا التزام مثل هؤلاء النقاد الكبار، فإننا بتنا نرى من شباب النقاد العجب العجاب، فاختفى عندهم التمهل والروية والحرص، وتجاوزوا التردد الإيجابي، وأقدموا على ما لم يقدم عليه أساتذتهم من قبل إلا بعد طول دراسة وتأمل، فراحوا يبيحون لأنفسهم تخطي الحدود وحرث أراضٍ غير أراضيهم. فهذا ينظّر في الإبداع والخلق والسرد والبناء، وذاك يغرف من المصادر الأجنبية ما لا نعرف كيف أهلته حروف الـ(أي بي سي) التي تعلمها في المدرسة، لذلك، وثالث يعطي آراءه في أحدث المدارس والاتجاهات الأدبية والنقدية، من بنيوية وتفكيكية وسيميائية.. وغيرها، ويعرف أفضل المتكلمين باللغات الأجنبية أن أياًّ من المصادر الأجنبية لا تقدم ما لا يتردد الواحد من هؤلاء الأدعياء في الادعاء بأنها عندياته.
أتذكر ونحن في الجامعة أننا كنا نتعب أنفسنا ونبذل كل ما في وسعنا من جهد ووقت لاستيعاب ما تهيّئه لنا الجامعة عبر مناهجها ومصادرها، مهتدين بهدى أساتذتنا، ولكننا ما وجدنا في أنفسنا من الجرأة بعد التخرج للإقدام على أكثر من المحاولات الكتابية في هذه المجالات التي لم تتطور إلى مستوى النشر إلا بعد سنوات أخرى من الاستزادة والمران. وحين كان بعضنا يشخص قصورا هنا أو نقصاً هناك أو عدم اكتمال في مكان آخر في عدّته فإنه كان يتجشم عناء الغرق أكثر في بطون الكتب، أو العودة إلى مقاعد الدراسة ليمكمل دراسته العليا، بل منا من رحل إلى بلاد الله البعيدة، ليمتح من ينابيع الإبداع والنقد التي وجدناها فجأةً بين يدي كُتّاب ما عرفناهم قبل سنة أو اثنتين إلا كُتّاب محاولات. فبتنا نرى منهم من يقدم على التنظير في كل شيء، مع أن عمره النقدي أو الكتابي لا يؤهله، باي حال من الاحوال، لذلك.
نحن لا نكره، كما لا يجب على أي ناقد أو مبدع أن يكره أن يكون لنا نقاد بارعون، وأن تكون لنا نظريتنا في النقد. ولكن أليس من الضروري أن تكون هذه النظريات من بنات مكونات ثقافية واسعة، وخبرات طويلة ثرة، ومهارات فردية غبر عادية؟ بلى بالتاكيد. أما أن تمتد الأيدي للسطو على المصادر والنتف منها، فهذا برايي تحليق بأجنحة سرعان ما تخذل أصحابها لا لأنها ليست أجنحتهم فحسب، بل لأنهم ما تدربوا على الطيران بها.
جريدة (القادسية)- بغداد، 5/ 1989

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *