الخصوصية الثقافية للمهاجر العربي
بين الصدام والاندماج مع الآخر
( 1 )
في محاضرة لي في جامعة أكستر بالمملكة المتحدة عام 2010، عن العربي والآخر، انتهيت إلى نتيجة مفادها “أن فهم بعض الغرب لاختلاف العرب والمسلمين أو عدم قناعتهم بثقافة الغرب على أنه عداء، أمر خاطئ حتى مع عدم إنكار أن بعض ذلك قد يتحول إلى عداء فعلاً. وأشهر من عبّر عن ذلك، كما هو معروف، جورج بوش الذي ترجم موقفه إلى عداء (أمريكي) غير مسبوق لكل مَن وما هو عربي أو مسلم، ورأينا إلى ماذا قاد فهمه وترجمة هذا الفهم عملياً مما لا زلنا نرى تبعاته على جميع المستويات وعلى امتداد العالم.
إن الأصل في عدم اقتناع عرب ومسلمين بثقافة الغرب أمر يتعلق بالاختلاف الطبيعي في الهوية الثقافية لا بكراهية الآخر ومعاداته، وتبعاً لذلك فإن الواعي باختلافه عن الآخرين وعياً نابعاً من فهمٍ لخصوصيته ومن اعتزازه بهذه الخصوصية لا بد أن يتفهّم خصوصية الآخر واعتزاز ذلك الآخر بالضرورة بها. وفي هذا أذكر أنني قلت، في نفس تلك المحاضرة، إنني لا أحب ولا أقتنع بالكثير من المظاهر والسلوكيات والأنساق الثقافية للآخر، ولا أتمنى أن تغزوني فرداً أو أمةً، ولكنني احترمها، وتبعاً لذلك فإن موقفي منها لا تجعلني أرفض ثقافة الآخر وفن الآخر وأدب الآخر. ولكننا يجب أن لا ننكر أن مثل هذا الوعي الصحي بالاختلاف الذي أزعم أنني أعبّر عنه هنا، سواء أكان صادراً عنّا أم عن الآخر، كثيراً ما يغيب ليتحول إلى عداء وربما صدام، خصوصاً حين يحس الإنسان، مصيبا كان أم مخطئاً، أن ثقافته أو هويته مهددة، وهو ما غزا وعي عرب ومسلمين مهاجرين إلى الغرب. تبعاً لذلك يكون صحيحاً القول: إن قضية الهوية باتت تشكل تحدّياً كبيراً بالنسبة للمسلمين المقيمين في بلاد الغرب، خصوصاً لدى الأجيال أو الجيل الأخير منهم، إذ يتمسك الكثير منهم بخصوصيات هذه الهوية. الواقع أن “هذا الجيل الجديد أصبح أكثر تشدداً في تصوّره للهوية، وأقل تسامحاً وتعايشاً واعترافا بحرية الآخر في الاعتقاد حتى في عقر دار هذا الآخر”، الأمر الذي صار يقوده أحياناً إلى الصدام معه، في ظل ازدياد معاداة الحركات اليمينية العنصرية الغربية للعرب والمسلمين منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، وتصريح إدارة بوش بالكراهية للعرب والمسلمين.
( 2 )
هنا يفرض نفسه السؤال الآتي: هل للمهاجر العربي أن يحافظ على هويته، وهل له الحق في أن يمارس عاداته وتقاليده كما يرغب فيها، بدون أن ينازعه في ذلك أحد؟” فنقول: بالتأكيد، ولكن على أن تنطوي على ما يتعارض مع هوية الآخر الذي يعيش معه وقوانين دولة الآخر وقيمه. ولكن لا يمكن لهذا أن يكون بدون مقابل من الآخر، يتمثل في احترامه للخصوصية المقبولة وغير المتناقضة مع هويته. ونحن في هذا نرى أنه “يحق لمن يستضيفك في بيته أن يفرض عليك الالتزام بحضارته وثقافته؟ وتعلقاً بالتساؤل: “هل يستقيم فرض ثقافة (الأنا) على ثقافة البلد المستضيف؟، نقول: نعم، ولكن، مرة أخرى، على أن لا تتعارض مع ثقافة الآخر، والاختلاف غير التعارض، فالأول ينطوي ضمناً، وكما هو عند جميع البشر الأسوياء، على تآلف يقود إلى قبول المختلف للمختلف معه، وهو مما موجود في أي بلد بدرجة أو بأخرى، بينما المتعارض يحمل في طياته، أو على الأقل يقود إلى رفض المختلف للمختلف معه، ومن ثم إلى التصادم معه، وأعتقد أننا نرى الآن بوضوح كلا الحالين في الغرب. وهذا يعيدني إلى الفهم الساذج لاختلاف العرب وربما المسلمين عن أمريكا والثقافة الأمريكية الذي عبر عنه بوش وإدارته، وهو، إلى جانب الرفض المسبق لبعض المتشددين والسلفيين المتطرفين دينياً وثقافياً وحضارياً من العرب والمسلمين، لثقافة الآخر حتى وهم يذهبون إليه مهاجرين أو دارسين أو لاجئين، أوصل الغرب من “ترويج مصطلح “رهاب الأجانب” (أو كره الأجانب(، إلى ترسيخ مصطلح جديد، تحت ما بات يعرف بـ(لإسلاموفوبيا) حيث أصبح هذا الأجنبي الذي يكرهه الغرب هو تحديدا المسلم؟”
( 3 )
والآن: كيف نتصور مستقبل العلاقة بين الشرق والغرب، في ظل اشتداد واحتدام الصراع حول (الهويات القاتلة)؟ وما هي المقترحات التي يمكنها أن تمد جسور التواصل بينهما، والتي بإمكانها إرساء ثقافة الحوار والمثاقفة والتواصل، بدل الكراهية والسخط والتنافر بين الطرفين؟
ابتداءً أنا شخصياً لا أتفق تماماً مع تسمية (الهويات القاتلة) كما أطلقها أمين المعلوف الذي فاته، برأيي، أن هذا الذي يصدر عن المهاجرين هو ليس من الهوية المتصادمة مع هوية الآخر، بدليل صدوره أصلاً عنهم ضد أبناء جلدتهم، وأكثر من ذلك ضد من يعيشون معهم في بلدهم من أثنيات مختلفة، انطلاقاً من رؤية دينية متطرفة ومتشددة وسلفية لا علاقة لها بالهوية، بل بتخلّف الرؤية (الإيمانية)- إذا جاز لي التعبير- التي هي طارئة مهما طال زمنها، وهي التي تقود صاحبها إلى رؤية كل من عداه، من جنسه أو قوميته أو دينه أو بلده، أم من آخرين، على أنه خارج عن الطريق القويم ويجب إصلاحه أو تقويمه، وهو ما ينسحب، بالضرورة، على الآخر الغربي حين يذهب إلى موطنه، وهو تماماً ما عبر عنه في المقابل جورج بوش، مثلاً، حين فهم عدم قناعة الاخر العربي والمسلم بثقافته على أنه كراهية وعداء له، وحين قال أيضاً “إن من ليس معنا، فهو ضدنا”. وهكذا لو كان انفصال العربي أو المسلم عن الآخر أو رفضه أو التصادم معه يأتي من اختلاف الهوية، لما مارس هذا الانفصال أو الرفض أو التصادم، مع مع يشتركون معه في الهوية وفي البلد، وهي الممارسة التي رايناها، بشكل محدود في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وبشكل كبير في العقدين أو الثلاثة الأخيرة، في بلدان المنطقة الممتدة من أفغانستان إلى المغرب.
وهكذا حين يدافع المعلوف عن (مفهوم الهويات القاتلة)، فنظنه يقع في الخطأ والتناقض. يقول إن هذا المفهوم “يختزل الهوية إلى انتماء واحد، يضع الرجال في موقف متحيز ومذهبي ومتعصب ومتسلط، وأحياناً انتحاري، ويحولهم في أغلب الأحيان إلى قتلة أو إلى أنصار للقتلة… ما يهم هو وجهة نظر جماعتنا فقط، التي غالبا ما تكون وجهة نظر أكثر الناس تشدداً في الجماعة وأكثرهم ديماغوجية وسخطاً”. فهو هنا يقع في الخطأ الذي شخصناه، لأن أكثر من وقعت عليهم تبعات ما سماها (الهويات القاتلة) هم أبناء من يلتقي معهم، كما قلنا، ومن يمارس الرفض والتصادم والعنف معهم، الأمر الذي ينفي أن ذلك يصدر عن الهوية واختلافها. وتبعاً لذلك، ولأن الرفض وعدم الاندماج والتصادم هي نتاج ذلك الذي يتمثل أصلاً في الوطن الأصلي، ولأنها ظاهرة لا يمكن إلا لها أن تهيمن إلا بشكل مؤقت مهما طال وقتها، فإني أرى أن مستقبل العرب المهاجرين، وكما المسلمين المهاجرين، في الغرب هو اندماجهم، بخصوصيتهم الثقافية، مع الآخر في حياة سوية سيسهم في ترسيخها القانون والديمقراطية واحترام الجميع للخصصيات الثقافية ونموّ المشتركات.
د. نجم عبدالله كاظم
أستاذ الأدب المقارن المتمرس
كلية الآداب – جامعة بغداد
العراق