الإجحاف بحق الرواية العراقية إلى متى؟
د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
يأتي هذا المقال ردّاً على مقال الدكتور حسن سرحان المعنون “الرواية العراقية إلى أين؟” المنشور في جريدة “القدس العربي” في الأول من هذا الشهر، الذي تزامن، بغير عمد، مع ظهور كتابي “فهرست الرواية العراقية”، ونشري لما أراها أهم مئة رواية عراقية في القرن العشرين. وكانت أول فكرة خطرت في بالي قبل قراءة المقال، هي أنه يأتي في ضوء ما استجد على الرواية العراقية من أحوال ومتغيرات. لكنّ غصةً أتت أسرع مما توقعت، حين كشفت بداية الفقرة الثانية عن وقوف المقال موقف المتحامل على هذه الرواية، ولا يكتفي بأن لا يعترف بها، بل ينسفها نسفاً. والواقع أني قرأت بألم مقال الصديق العزيز د. حسن سرحان، حين وجدت ما يقوله في الرواية العراقية، لا يمكن إلا أن يُبعد أي قارئ عراقي أو عربي، ممن يثقون به، عن التورط والإقدام على قراءة رواية عراقية. وهو، في أول إشعاله لفتيل النسف الشامل للرواية العراقية، يقول: ((الرواية في العراق اليوم ليست بخير، إلاّ إذا تصورنا الإسراف في الكتابة والمواظبة على نشر الغث والسمين دليلَ عافيةٍ وعلامةَ صحة. روايتنا الراهنة سائرة في طريق معتم مجهول.)) هكذا بكل بساطة وبسطرين يُلغي الكاتب تأريخاً كاملاً، بل يشطب على كلمة (رواية) في العراق، كما يُحرق ما يُقارب الألف وخمسمئة رواية لا ننكر أن فيها غثّاً وضعيفاً ومتواضعاً، كما أنّ فيها ما هو جيد ومتميز. والطريف أن الكاتب، وكأنه يعي مثل هذا، يقول: ((قد يرى بعض المتابعين في هذه الملاحظات شيئاً من قسوة وبعضاً من حدَة ليستا مني ولا في طبعي.)) وأنا أقول للصديق العزيز: أنا فعلاً لا أعرفك قاسياً، ولكن ماذا كان يمكن أن تقول عن الرواية العراقية غير الذي قلته، لتبدو قاسياً؟ وماذا يمكن أن تفعل غير هذا الإلغاء التام لها؟ فبمحبة الصديق الأمين والصادق أقول بكل صراحة: لا يمكن أن يوصف مقاله بغير التحامل على الرواية العراقية، ولكن لماذا؟ لا أدري. المهم أن هذه القسوة، التي لا أجد لها مبرراً، لا تنسجم مع ما يحمله الدكتور حسن من الحرص على عدم التعميم، وتفريقه بين القض والقضيض، كما أنه على اطلاع جيد على الرواية العراقية، ومن هنا يأتي مقالي هذا الذي أناقش فيه آراء الدكتور حسن وردودي وتعليقاتي عليها، لأنهيه بموقف.
( 2 )
في أول تشخيصاته، يقول الدكتور حسن: ((تنتظم الرواية العراقية داخل محددات تقنية شحيحة أصبحت معروفة ومتوقعة لكثرة تكرارها وإعادة تدويرها وتأهيلها. لعل أبرز تلك التقنيات وأقواها حضوراً هي التالية: التضاعف الحكائي، اليوميات والمذكرات…، المونولوغ بأنواعه، تيار الوعي، التداعي، والميتاسرد. هذه التقنيات، على قِدَمِ بعضها، ما زالت ثابتة الوجود في نصوص الكثير من الروائيين العراقيين، دون محاولة جادة من قبل هؤلاء للاجتراح والإضافة، أو حتى مجرد التعديل أو التحوير.)) هنا أتساءل: ماذا يريد الدكتور حسن من الرواية العراقية أن تستحضر أكثر من هذا، خصوصاً إذا ما أضفنا ما هو موجود فيها وفي غيرها، مثل الكرونولجيا التقليدية، وتعددية الرواة أو الساردين، والرواية من زوايا متعددة، والسيروية، والتشظية؟ بعبارة أخرى، ما الذي فعلته الرواية في أصقاع الدنيا مما لم تفعله الرواية العراقية في هذا السياق؟ والغريب المثير أن الكاتب يضيف على ذلك قوله: ((من وقتٍ لآخر، يطغى حضور تقنية معينة ويسود على حساب أخرى وفق تغير الزمن وتقلبات الموضة واتجاهات الرواية الأجنبية أو العربية.)) فإذا ما تجاوزنا تناقض هذا مع تشخيصه السابق لما سمّاه (محدّدات تقنية شحيحة)، نتساءل هنا أيضاً: وماذا تفعل الرواية غير العراقية غير هذا؟ أليس هذا هو الوجه الصحي لأي أدب؟ ماذا نريد من الرواية العراقية أن تفعله غير أن تبدّل من وقت لآخر بعض تقنياتها، وبالتالي تسير وتتقلب في سنن الكتابة الروائية؟
ويقترب من موقف الكاتب من التقنيات، موقفُه من البواعث، فيقول: ((أما من ناحية البواعث السردية المحرِّضة لعالم الرواية العراقية المعاصرة، فهي لا تتعدى: الماضي الخاص أو العام، البحث عن الغائب، التنقيب عن الهوية الفرعية أو الفردية، الزمن والذاكرة.))، لنعلّق نحن بالتساؤل: وماذا لدينا غير هذا، من بواعث رئيسة، ونحن نعرف أن كل واحد منها يشتمل بالطبع على بواعث فرعية عديدة، مثل التأريخ، واستحضار المسكوت عنه في التأريخ، وعودة الغائب، وصراع الهويات، والعنف والتطرف.. وغيرها؟
( 3 )
وضمن القتل المتسلسل لكل ما له علاقة بالرواية العراقية، ينتقل د. حسن إلى قمة قسوته، وهذه المرة على كُتّاب الرواية لا على الرواية، ليقول: ((أغلب كُتّابها إما بلا موهبة حقيقية أو كسالى يُؤثِرون الركون إلى المتوفر والجاهز، ويقدمون الراحة الفكرية على التعب والبحث، ويستخسرون بذل الجهد في سبيل اختراع الجديد.)) وهذا أمر غريب آخر، كنّا سنتقبله لو أن الدكتور حسن قال إنه ينطبق على بعض الكُتّاب، ولكن أن يكون على أغلبهم، فهذا لعمري تجنِّ صريح على الروائيين، ولا أدري من أين أتى بهذه الفكرة الغريبة، ومعروف جداً أن الكاتب العراقي بشكل عام هو أحد أكثر الكتاب العرب، بل بشكل عام، ثقافةً وبذلاً، الأمر الذي قادني شخصياً، في بعض دراساتي وكتاباتي، إلى أنْ أرى ضخامة ثقافة الروائي تصير أحياناً عبءاً على الرواية التي يكتبونها، ويجب أن لا ننسى هنا أن الروائي العراقي، كما العربي إلى حد كبير، إذ يجمع ويبحث ويتدارس ويحرر وينتقي ويحرر ويقود سفينته، فإنه يعتمد، في ذلك كله، على نفسه تماماً، بغياب الناشر المتبني والمحرر والوكيل الأدبي مما ينجو به الروائيون في العالم من الخطأ غير المنظور أو الغرق.
وبعد كل التكسير بالرواية العراقية هذا، يقول الدكتور حسن: “أعلم أن رأيي بخصوص الرواية العراقية لا يروق لكثيرين قد يرون فيها ما لا أرى لهم، كما لي بالطبع، حقُّ الاختلاف وعليهم، كما فعلت أثناء هذا المقال وسأفعل في مرات لاحقة، تقديم الدليل وبسط الحجة ونشر البرهان.” وجميل أن يقول هذا، فهذا ما سننتظره منه فعلاً، فيُرينا بالدليل ما يذهب إليه، مما أشكك شخصياً بوجوه فعلاً، كما يصوره، على أن لا يذهب إلى الهابط والغث، الموجود في كل أدب، بل إلى كتابات الروائيين أصحاب التجارب القارة والمتطورة في الوقت نفسه. وله أن يذهب، مثلاً، إلى الروايات التي فازت مؤخراً بجوائز، خصوصاً التي لا يعترف بأنها دليل على توفر العافية للرواية العراقية، ليكون ذلك، حين (ينجح) في أن يرينا إياه، متوافقاً مع قوله: ((واقع روايتنا، يا سادة يا كرام، بائس ومستقبلها المنظور محبط ولن ينفع المتحمسين لها وفق دواعٍ مختلفة، التحججُ بفوز رواية هنا وترشح أخرى إلى جائزة هناك. مهما علت قيمتها وكيفما كان مدى الثقة في نوعية لجانها. ليست الجوائز، في نهاية الأمر، عنوانَ نجاحٍ لمسيرة رواية بأكملها ولا دليل حيوية لكتابات أجيال برمتها.)) فلا ندري وفق أي حجة علمية يرى الدكتور حسن أن الجوائز ليست عنوان نجاح؟ ما المطلوب من الرواية العراقية ليكون دليلاً على عافيتها، إذن؟ أليس من يحكّم في هذه الجوائز نقاداً وأكاديميين؟ لماذا هذه الاستهانة بها وبهم، إذن؟
هنا أعتقد أن الدكتور حسن وجد نفسه في ورطة إذ إن ما يقوله في الرواية العراقية بقسوة، والأهم بدون تبرير، يأتي في وقت تصعد فيه أربع روايات عراقية إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر، وتصعد واحدة إلى القائمة القصيرة للجائزة، وتفوز أخرى بجائزة كتارا، واثنتان بجائزتين محليتين ألمانيتين، وكل ذلك في الأِشهر الأربعة الأخيرة فقط. نعم أعتقد أن الدكتور حسن وجد نفسه في ورطة القول بما لا يتسق مع واقع الحال، فلجأ إلى تسفيه الجوائز، ولا أدري استناداً على ماذا؟ في الحقيقة كنت أتمنى لو أن هذه الورطة قادته إلى التراجع وتعديل مواقفه، أو حتى إلغاء هذا المقال الذي سيبقى محفوراً في ذهني بوصفه أحد أكثر ما كُتب عن الرواية العراقية حدة وبطشاً.
( 4 )
أنتقل إلى أمر لم ينفرد به الدكتور حسن، بل يشاركه به آخرون، وهو الشكوى من كثرة الكتابة الروائية ووجود الغث وما إلى ذلك، فنتساءل: ما المشكلة في كثرة الكتابة؟ وما المشكلة في كثرة الكتّاب؟ وما المشكلة في وجود غث وضعيف؟ هذه من سنة الأشياء في كل مكان في العالم، ولسنا منفردين بها، لا في الرواية فقط، بل في الشعر والقصة والأغنية والسينما والموسيقى والمسرح، بل في النقد والبحث والصناعة وكل شيء. وهنا أسأل الدكتور حسن: وأنت المتخصص بالأدب الفرنسي، كم رواية فرنسية يمكن أن تستحضر أو يسستحضر غيرك، من أكثر من 650 رواية تصدر في فرنسا خلال عام واحد، ليُهمل الكثير غيرها؟ بالتأكيد ليس أكثر من عشربن أو ثلاثين أو خمسين رواية؟ ثم من قال إن ما يصدر في العراق كثير كثرة غير طبيعية؟ وهل، بعد أن كنا نجد ما يصدر من كتب في العراق وفي الوطن محدوداً، صرنا نضجر من صدور 60 رواية في عام؟ ثم إذا ما رأينا أن إصدار بلد، بثلاثين مليون نسمة، حوال 60 رواية في العام كثيراً ، فماذا نقول، إذن، في إصدار بلد مثل فرنسا، هو بضعف عدد سكان العراق تماماً، عشرة أضعاف عدد ما يصدره العراق من روايات؟
والآن لماذا نقسو هكذا على أي إبداع محلي، ونطير ونهوّس لكل إبداع أجنبي؟ هل هي من بقايا ثقافة الخواجة؟ كنت سأقول نعم، لو كان الذي أتكلم عنه هنا غير د. حسن سرحان الذي أعرفه بعيداً عن هذا، وأعرف مدى حذره من التشاؤم في الرأي، ولكن واقع الحال على الساحة هو هذا، وآخر مثال مرّ أمامي مؤخراً، يتعلق برواية أجنبية هي “قواعد العشق الأربعون” للتركية إليف شافاق، التي هوّسوا لها، لا في تركيا فقط، بل في العالم، ولم يكن لنا إلا أن نهوّس لها مع الآخرين، فلا أظنكم ستصدقون بسهولة حين أقول لكم إنني وجدت في هذه الرواية عشرات الأخطاء التأريخية والجغرافية والمعلوماتية، بل التقنية الكبيرة. فهل نتقبل رواية عراقية إذا وجدنا فيها بضعة أخطاء كبيرة وليست عشرات، كما وُجدت في رواية شافاق؟ ثم هل نتقبل رواية عراقية تغرق بوصف الأشياء كما فعل آلان روب غرييه في “المماحي” مثلاً؟ وهل نتقبل من روائي عراقي أن يغرقنا في وصف راويه أو بطله لتوافه الأشياء التي يراها أو يحسها كما فعل بوتور في رواية “التحول”؟ وهل نتقبل رواية عراقية لو جاء همها التلاعب باللغة واللغة الوصفية والكتابة وما يصاحبها من علامات ترقيم كما هو حال رواية كلود سيمون “الدعوة”؟ وهل نتقبل رواية عراقية تقدم من اللغو، نعم اللغو، الموجود في أفضل روايات دوريس ليسنغ “المفكرة الذهبية” مما يمكن لك أن تقتطع منه ما تريد وترميه لتنهي الرواية بوقت أقصر دون أن يؤثر ذلك فيها؟
أخيراً عزيزي د. حسن: رفقاً بأحد أجمل ما يشهده العراق في السنوات الأخيرة، وسط الدمار والموت والتخلف، رفقاً بالرواية العراقية، لقد كنا نتمنى الكتابة النقدية الباحثة عن التميّز فيها، بل حتى المحتفية بها، ليس لإن الروائي العراقي يستحق، وفقاً لما حققه خلال الأشهر الأربعة الأخيرة، مثل هذا فقط، بل لأنه ليس عيباً أن يحب الروائي العراقي الاستحسان حين يستحقه. فالإنسان، مهما كان عمره أو مكانته، يحتاج إلى ما نسميه بالعراق الطبطبة على الظهر أحياناً.
najmaldyni@yahoo.com
شاهد أيضاً
دراسة عن دروب وحشية
تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …